الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مصرف المؤلفة قلوبهم
بقلم الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع عضو هيئة كبار العلماء بالمملكة
الحمد لله وصلى الله وسلم على رسول الله محمد وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه وبعد:
المؤلفة قلوبهم جمع مؤلف اسم مفعول من ألف على وزن فعل وهو من ثلاثي ألف يألف إلفا على وزن علم يعلم قال في الصحاح: وفلان قد ألف هذا الموضع بالكسر يألفه إلفا. . . اهـ.
والمؤلفة قلوبهم هم الصنف الرابع من أهل الزكاة الوارد حصرها فيهم في قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (1).
وهم السادة المطاعون في عشائرهم أو مجتمعاتهم أو مراكز انتمائهم، ممن يرجى بعطائه إسلامه، أو كف شره، أو يرجى بعطيته قوة إيمانه، أو إسلام نظيره، أو يسر جباية الزكاة ممن يمنعها، أو يرجى بعطائه دفعه عن المسلمين الشر أو نحو ذلك، مما يعود على الإسلام والمسلمين بالمصلحة، سواء كان من يعطى
(1) سورة التوبة الآية 60
لتأليف قلبه مسلما، أو كان كافرا، فقد ألف صلى الله عليه وسلم قلوب كفار بالعطاء فأسلموا. قال الطبري في تفسيره عن قتادة: إن المؤلفة قلوبهم أناس من الأعراب، ومن غيرهم، كان النبي صلى الله عليه وسلم يتألفهم بالعطية كيما يؤمنوا. اهـ (1).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية:
والمؤلفة قلوبهم نوعان كافر ومسلم، فالكافر إما أن يرجى بعطيته منفعة كإسلامه أو دفع مضرته إذا لم يندفع إلا بذلك، والمسلم المطاع يرجى بعطيته المنفعة أيضا؛ لحسن إسلامه أو إسلام نظيره، أو جباية المال ممن لا يعطيه إلا لخوف أو لنكاية في العدو، أو كف ضرره عن المسلمين إذا لم ينكف إلا بذلك (2).
وقد ذكر فضيلة الدكتور يوسف القرضاوي متعه الله بحياته مجموعة من المؤلفة قلوبهم ما بين مسلم وكافر ويحسن بنا إيراد ما ذكره فضيلته قال: والمؤلفة قلوبهم أقسام ما بين كفار ومسلمين:
(أ) فمنهم من يرجى بعطيته إسلامه أو إسلام قومه وعشيرته، كصفوان بن أمية الذي وهب له النبي صلى الله عليه وسلم الأمان يوم فتح مكة، وأمهله أربعة أشهر؛ لينظر في أمره بطلبه، وكان غائبا فحضر وشهد مع المسلمين غزوة حنين قبل أن يسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم استعار سلاحه منه لما خرج إلى حنين، وقد أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم إبلا كثيرة محملة، كانت في واد. فقال هذا عطاء من لا يخشى الفقر.
وروى مسلم والترمذي عن طريق سعيد بن المسيب عنه قال: والله لقد أعطاني النبي صلى الله عليه وسلم
(1) تفسير الطبري ج14 ص314.
(2)
فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ج28 ص290.
وإنه لأبغض الناس إلي فما زال يعطيني حتى إنه لأحب الناس إلي. وقد أسلم وحسن إسلامه. ومن هذا القسم ما رواه أحمد بإسناد صحيح عن أنس «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يسأل شيئا على الإسلام إلا أعطاه، قال فأتاه رجل فسأله فأمر له بشاء كثيرة بين جبلين من شاء الصدقة، قال فرجع إلى قومه، فقال: يا قوم أسلموا، فإن محمدا يعطي عطاء من لا يخشى الفاقة (1)» .
(ب) ومنهم من يخشى شره ويرجى بإعطائه كف شره وشر غيره معه، كما جاء عن ابن عباس:«أن قوما كانوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم، فإن أعطاهم من الصدقات مدحوا الإسلام، وقالوا: هذا دين حسن، وإن منعهم ذموا وعابوا» .
(ج) ومنهم من دخل في الإسلام حديثا فيعطى إعانة له على الثبات على الإسلام. سئل الزهري عن المؤلفة قلوبهم، فقال: من أسلم من يهودي أو نصراني، وإن كان غنيا. قال: وإن كان غنيا. وكذلك قال الحسن: هم الذين يدخلون في الإسلام، وذلك أن الداخل حديثا في الإسلام قد هجر دينه القديم، وضحى بما له عند أبويه وأسرته، وكثيرا ما يحارب من عشيرته، ويهدد في رزقه، ولا شك أن هذا الذي باع نفسه، وترك دنياه لله تعالى جدير بالتشجيع والتثبيت والمعونة.
(د) ومنهم قوم من سادات المسلمين وزعمائهم، لهم نظراء من الكفار، إذا أعطوا رجي إسلام نظرائهم، واستشهد لذلك بإعطاء أبي بكر رضي الله عنه لعدي بن حاتم والزبرقان بن بدر، مع حسن إسلامهما؛ لمكانتهما في أقوامهما.
(هـ) ومنهم زعماء ضعفاء الإيمان من المسلمين، مطاعون في أقوامهم، ويرجى بإعطائهم تثبيتهم وقوة إيمانهم، ومناصحتهم في الجهاد وغيره، كالذين أعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم العطايا الوافرة من غنائم هوازن، وهم بعض الطلقاء من أهل مكة، الذين أسلموا، فكان منهم المنافق، ومنهم ضعيف الإيمان
(1) صحيح مسلم كتاب الفضائل (2312)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 284).
وقد ثبت أكثرهم بعد ذلك وحسن إسلامهم.
(و) ومنهم قوم من المسلمين في الثغور وحدود بلاد الأعداء، يعطون؛ لما يرجى من دفاعهم عمن وراءهم من المسلمين إذا هاجمهم العدو.
(ز) ومنهم قوم من المسلمين يحتاج إليهم لجباية الزكاة ممن لا يعطيها إلا بنفوذهم وتأثيرهم، إلا أن يقاتلوا فيختاروا بتأليفهم وقيامهم بهذه المساعدة للحكومة أخف الضررين وأرجح المصلحتين.
وهذا سبب جزئي قاصر فمثله ما يشبهه من المصالح العامة.
وكل هذه الأنواع تدخل تحت عموم لفظ المؤلفة قلوبهم، سواء كانوا كفارا أو مسلمين. اهـ (1)
(1) فقه الزكاة ج2 ص 595 - 596.
وقد اختلف العلماء رحمهم الله تعالى في بقاء هذا الصنف من أهل الزكاة، فذهب محققوهم إلى أن حكمهم باق متى وجدت الحاجة إلى العطاء من الزكاة للتأليف، وأن منع عمر بن الخطاب رضي الله عنه إعطاءهم لم يكن على سبيل انتفاء الحكم عنهم بالنسخ، وإنما كان لانتفاء الحاجة إلى إعطائهم للتأليف، حيث أعز الله الإسلام والمسلمين، ودخل الناس في دين الله أفواجا، قانعين مقتنعين وتتابعت الفتوحات الإسلامية حتى صارت الدولة الإسلامية هي الدولة الأولى في المعمورة مهيبة الجانب مرفوعة الأعلام. قال في الروض المربع:
ويعطي ما يحصل من التأليف عند الحاجة فقط، فترك عمر وعثمان وعلي إعطاءهم؛ لعدم الحاجة إليه في خلافتهم، لا بسقوط سهمهم. اهـ (1)
(1) الروض المربع ج3 ص 315.
وقال في الحاشية لابن قاسم:
فإن حكمهم باق لإعطاء النبي صلى الله عليه وسلم المؤلفة من المسلمين والمشركين، وكذلك أبو بكر رضي الله عنه، وخير الهدي هديه صلى الله عليه وسلم، وأعدل السياسة سياسته صلى الله عليه وسلم، ومنع وجود الحاجة على ممر الزمان، واختلاف أحوال النفوس في القوة والضعف لا يخفى فساده، واتباع سيرته صلى الله عليه وسلم أحق.
قال الشيخ: ويجوز بل يجب الإعطاء لتأليف من يحتاج إلى تأليف قلبه، وإن كان لا يحل له أخذ ذلك، كما في القرآن العزيز، وكما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي المؤلفة من الفيء. اهـ (1).
وقال ابن قدامة في كتابه المغني في معرض ذكره الخلاف بين أهل العلم في سقوط سهم المؤلفة قلوبهم أو بقاء حكم وجوده عند الحاجة ورده على القائلين بسقوط سهمهم على سبيل النسخ بالإجماع فقال:
وأحكامهم كلها باقية، وبهذا قال الحسن والزهري وأبو جعفر محمد بن علي. وقال الشعبي ومالك والشافعي وأصحاب الرأي: انقطع سهم المؤلفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أعز الله الإسلام وأغناه عن أن يتألف عليه رجال، فلا يعطى مشرك تألفا بحال. قالوا: وقد روي هذا عن عمر رضي الله عنه، ولنا كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن الله تعالى سمى المؤلفة في الأصناف الذين سمى الصدقة لهم والنبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله تعالى حكم فيها فجزأها ثمانية أجزاء، وكان يعطي المؤلفة قلوبهم كثيرا في أخبار مشهورة، ولم يزل كذلك حتى مات، ولا يجوز ترك كتاب الله ولا سنة رسوله إلا بنسخ، والنسخ لا يثبت بالاحتمال، ثم إن النسخ إنما يكون في حياة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن النسخ إنما يكون بنص، ولا يكون النص بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم وانقراض زمن الوحي ثم إن القرآن
(1) حاشية ابن قاسم على الروض المربع ج3 ص315.
لا ينسخ إلا بقرآن، وليس في القرآن نسخ كذلك ولا في السنة، فكيف يترك الكتاب والسنة بمجرد الآراء والتحكم أو بقول صحابي أو غيره؟! على أنهم لا يرون قول الصحابي حجة يترك لها قياس، فكيف يتركون به القرآن والسنة؟!. قال الزهري: لا أعلم شيئا نسخ حكم المؤلفة، على أن ما ذكروه من المعنى لا خلاف بينه وبين الكتاب والسنة، فإن الغنى عنهم لا يوجب رفع حكمهم، وإنما يمنع عطيتهم حال الغنى عنهم، فمتى دعت الحاجة إلى إعطائهم أعطوا، وكذلك جميع الأصناف، إذا عدم منهم صنف في بعض الزمان سقط حكمه في ذلك الزمن خاصة، فإذا وجد عاد حكمه كذا هنا. اهـ (1).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ردا على القائلين بسقوط سهم المؤلفة قلوبهم على سبيل النسخ قال:
وما شرعه النبي صلى الله عله وسلم شرعا معلقا بسبب، إنما يكون مشروعا عند وجود السبب، كإعطاء المؤلفة قلوبهم، فإنه ثابت بالكتاب والسنة، وبعض الناس ظن أن هذا نسخ؛ لما روي عن عمر أنه ذكر أن الله أغنى عن التأليف، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، وهذا الظن غلط، ولكن عمر استغنى في زمنه عن إعطاء المؤلفة قلوبهم، فترك ذلك؛ لعدم الحاجة إليه، لا لنسخه، كما لو فرض أنه عدم في بعض الأوقات ابن السبيل والغارم ونحو ذلك. اهـ (2).
وذهب بعض أهل العلم إلى القول بانتهاء سهم المؤلفة قلوبهم إلى الانقطاع على سبيل النسخ؛ لعزة الإسلام ومنعته وقوة المسلمين وانتفاء العلة الموجبة لإعطائهم، وهذا هو المشهور في المذاهب الثلاثة الحنفي والمالكي والشافعي، وننقل نصا من بدائع الصنائع للكاساني يمثل وجهة نظر القائلين بذلك، قال في البدائع:
(1) المغني ج4 ص124 - 125 مطبعة هجر للطباعة والنشر، القاهرة.
(2)
مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ج33 ص94.
وهو الصحيح لإجماع الصحابة على ذلك، فإن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما ما أعطيا المؤلفة قلوبهم شيئا من الصدقات، ولم ينكر أحد من الصحابة رضي الله عنهم، فإنه روي أنه لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءوا أبا بكر وسألوه أن يكتب لهم خطا كتابة رسمية بسهامهم، فأعطاهم ما سألوه، ثم جاءوا إلى عمر، وأخبروه بذلك، فأخذ الخط من أيديهم ومزقه، وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعطيكم ليؤلفكم على الإسلام، فأما اليوم فقد أعز الله دينه، فإن ثبتم على الإسلام، وإلا فليس بيننا وبينكم إلا السيف، فانصرفوا إلى أبي بكر فأخبروه بما صنع عمر رضي الله عنه، وقالوا: أنت الخليفة أم عمر؟ قال: هو إن شاء الله، ولم ينكر أبو بكر قوله وفعله، وبلغ ذلك عامة الصحابة، فلم ينكروا؛ فيكون ذلك إجماعا على ذلك؛ ولأنه ثبت باتفاق الأمة أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان يعطيهم ليتألفهم على الإسلام؛ ولهذا أسماهم الله المؤلفة قلوبهم. والإسلام يومئذ في ضعف وأهله في قلة. وأولئك كثر ذوو قوة وعدد، واليوم بحمد الله عز الله الإسلام وكثر أهله، واشتدت دعائمه ورسخ بنيانه، وصار أهل الشرك أذلاء، والحكم متى ثبت منقولا بمعنى خاص ينتهي بذهاب ذلك المعنى اهـ (1).
ويظهر مما تقدم أن حجة القائلين بانقضاء حكم سهم المؤلفة قلوبهم وسقوطه هو نسخ ذلك الحكم بإجماع الصحابة، وبانتفاء معنى حكم ذلك حيث إن حكم التأليف ثبت لمعنى معقول هو الحاجة إلى تأليف القلوب إلى الإسلام، وقد زالت الحاجة إلى ذلك بقوة الإسلام وعزته وتمكين المسلمين من إظهار دينهم والدعوة إليه والثبات عليه والأخذ بمقتضياته.
ولئن اتفق عامة أهل العلم على جواز النسخ من حيث الجملة، وعلى أن القرآن ينسخه قرآن مثله، واختلفوا في جواز نسخ القرآن بالسنة، فقد اتجه عامة أهل العلم ومحققوهم إلى منع نسخ القرآن بإجماع على فرض حصوله.
(1) نقلا عن فقه الزكاة بدائع الصنائع ج2 ص45.
ولشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كلام في رد القول بنسخ القرآن لغيره حتى لو كان الناسخ سنة، يحسن بنا إيراده قال رحمه الله:
ومما يدل على المسألة أن الصحابة والتابعين الذين أخذ عنهم علم الناسخ والمنسوخ، إنما يذكرون نسخ القرآن بقرآن، لا يذكرون نسخه بلا قرآن بل بسنة، وهذه كتب الناسخ والمنسوخ المأخوذة عنهم، إنما تتضمن هذا، وكذلك قول علي رضي الله عنه للقاضي: هل تعرف الناسخ من المنسوخ في القرآن؟
فلو كان ناسخ القرآن غير القرآن لوجب أن يذكر ذلك أيضا. وأيضا الذين جوزوا نسخ القرآن بلا قرآن من أهل الرأي والكلام، إنما عمدتهم أنه ليس في العقل ما يحيل ذلك، وعدم المانع الذي يعلم بالعقل لا يقتضي الجواز الشرعي، فإن الشرع قد يعلم بخبره ما لا يعلم بالعقل وقد يعلم من حكمة الشارع التي علمت بالشرع ما لا يعلم بمجرد العقل؛ ولهذا كان الذين جوزوا ذلك عقلا مختلفين في وقوعه شرعا.
وأيضا فإن الناسخ مهيمن على المنسوخ قاض عليه مقدم عليه، فينبغي أن يكون مثله أو خيرا منه كما أخبر بذلك القرآن؛ ولهذا لما كان القرآن مهيمنا على ما بين يديه من الكتاب بتصديق ما فيه من حق وإقرار ما أقره ونسخ ما نسخه، كان أفضل منه، فلو كانت السنة ناسخة للكتاب لزم أن تكون مثله أو أفضل منه.
وأيضا فلا يعرف في شيء من آيات القرآن أنه نسخه إلا قرآن، والوصية للوالدين والأقربين منسوخة بآية المواريث كما اتفق على ذلك السلف. اهـ (1).
وذكر مكي بن أبي طالب في كتابه "الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه" أقسام النسخ التي ذكرها أهل العلم ومنها نسخ القرآن بالإجماع. فقال:
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ج17 ص197 - 198.
الرابع نسخ القرآن بالإجماع وعلى منعه أكثر أهل العلم وأجازه بعضهم ومثله نسخ القرآن بالقياس. اهـ (1).
وفي رسالة جامعية للدكتور مصطفى زيد بعنوان (النسخ في القرآن الكريم) قال بعد أن استعرض مجموعة من وقائع جرى نسخها في القرآن ما نصه:
من هذه الوقائع الثابتة للنسخ في القرآن، وهي كل ما صح لدينا، نستطيع أن نستخلص حقيقة هامة هي أن القرآن لا ينسخه إلا قرآن مثله، كما هو مذهب الإمامين الشافعي وأحمد. إلى أن قال: وأما نسخ القرآن بالسنة فلم نجد له واقعة واحدة فيما أسلفنا، ومن هنا نرى أن الخلاف الذي قام حول جوازه خلاف نظري يحسم الواقع الحكم عليه؛ إذ يرفضه بجملته وتفصيله. اهـ (2).
وبما ذكرنا من نصوص لأهل العلم والتحقيق يتضح بطلان القول بنسخ حكم سهم المؤلفة قلوبهم من كتاب الله بالإجماع، فما دام أهل التحقيق من العلماء منعوا نسخ القرآن بالسنة، وكلاهما وحي من الله تعالى. قال تعالى في حق نبيه صلى الله عليه وسلم وما ينطق به من سنة قال:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} (3){إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (4) مع ملاحظة الفارق بينهما إلا أنها المصدر الثاني للتشريع فلا يأتي قبلها غير كتاب الله.
وما دام أهل التحقيق منعوا نسخ القرآن بالسنة، فإن منع نسخ القرآن بغيرها من إجماع أو قياس أولى بالمنع وعدم الاعتبار.
وقد أجاب عن المعنى الآخر لسقوط حكم سهم المؤلفة قلوبهم من كتاب
(1) الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه ص70 نشر جامعة الإمام محمد بن سعود.
(2)
النسخ في القرآن الكريم ج2 ص838.
(3)
سورة النجم الآية 3
(4)
سورة النجم الآية 4
الله بانتفاء الحاجة إليهم بقوة الإسلام وبعزته، وتمكن أهله من إظهار دينهم، والتقيد بمقتضياته ومستلزماته والدعوة إليه، وبتطبيق هذا الواقع في خلافة عمر رضي الله عنه، وما تلاها من ولايات عزيزة، وبإجماع الصحابة على سلامة ما فعله عمر من منع العطاء للتأليف، أجاب عن هذا المعنى فضيلة الدكتور يوسف القرضاوي في كتابه فقه الزكاة فقال:
فإن عمر إنما حرم قوما من الزكاة كانوا يتألفون في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، ورأى أنه لم يعد هناك حاجة لتأليفهم، وقد أعز الله الإسلام، وأغنى عنهم، ولم يجاوز الفاروق الصواب فيما صنع، فإن التأليف ليس وصفا ثابتا دائما، ولا كل من كان مؤلفا في عصر يظل مؤلفا في غيره من العصور، وإن تحديد الحاجة إلى التأليف وتحديد أشخاص المؤلفين أمر يرجع إلى أولي الأمر وتقديرهم لما فيه خير الإسلام ومصلحة المسلمين، ولقد قرر علماء الأصول أن تعليق الحكم بوصف مشتق يؤذن بعلية ما كان منه الاشتقاق، وهنا علق صرف الصدقة بالمؤلفة قلوبهم، فدل على أن تأليف القلوب هو علة صرف الصدقات إليهم، فإذا وجدت هذه العلة وهي تأليف قلوبهم أعطوا، وإن لم توجد لم يعطوا. اهـ (1).
كما أجاب عن ذلك الدكتور محمد يوسف موسى فقال:
أما مسألة المؤلفة قلوبهم فلنا أن نفهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعطيهم في حياته من الصدقات بقصد إعزاز الإسلام لضعفه حينذاك، فجاء عمر ورأى في الدفع إليهم إشعارا بأن الإسلام في حاجة إليهم، وفي هذا ما قد يضعف من حمية المسلمين واعتزازهم بأنفسهم دون من في قلوبهم دخل، فكان إعزاز الإسلام حينئذ في عدم إعطائهم شيئا من الصدقات، إذ لم يكن الأمر نسخا من عمر لنص قرآني، وإنما هو تقرير لما كان يقصده الرسول صلى الله عليه وسلم، وإن كان على وجه آخر يتفق مع ما صار إليه الإسلام
(1) فقه الزكاة ج2 ص601.
والمسلمون من القوة والعزة. اهـ (1).
وبناء على أن حكم سهم المؤلفة قلوبهم محكم لم يتناوله نسخ ألبتة، وحيث إن المعنى المقتضي للتأليف هو حاجة الإسلام والمسلمين إلى الوقوف بجانبهم والتضامن معهم وشد أزر من أسلم حديثا أو لم يسلم، إلا أنه مطاع في قومه ومجتمعه، فمتى وجدت هذه الحاجة، كان الحكم في إعطاء المؤلفة قلوبهم من الزكاة حكما قائما ومقتضيا، ومتى انتفت الحاجة إلى ذلك كما حصل في عهد عمر رضي الله عنه ومن جاء بعده من الخلفاء والملوك، انتفى وجود من يستحق التأليف، أشبه انتفاء وجود فقراء أو مساكين أو ابن سبيل أو غيرهم ممن نصت آية الصدقة على حصرها فيهم، ولم يكن ذلك الانتفاء منهيا لأحكام استحقاقهم في الزكاة، متى وجد الوصف المقتضي للاستحقاق.
ونظرا إلى أن المسلمين الآن متفرقون في أنحاء المعمورة، وهم يختلفون في بلدانهم قوة وضعفا، وقد تمثل كل فئة منهم مجتمعا إسلاميا مستقلا، له خصائصه ومزاياه قوة وضعفا وسيادة وتسيدا، فإن القول بقيام مقتضى تأليف القلوب بصرف جزء من الزكاة لذلك المعنى قول تقتضيه مصلحة المسلمين وواقع معايشهم، لا سيما فيما بين كل مجتمع من المجتمعات الإسلامية.
ولهذا فإن حكم سهم المؤلفة قلوبهم من أهل الزكاة باق بقاء شريعة الله في أرضه، يرتفع بارتفاع مقتضيه، وهو انتفاء الحاجة إلى التأليف؛ لقوة المسلمين وعزتهم وسمو مقامهم، ويبقى ذلك الحكم ببقاء مقتضيه وموجبه، وهو الحاجة إلى إعزاز المسلمين؛ لوجود جوانب ضعف فيهم، في أي بقعة من أرض الله عليها مسلمون.
ولا شك أن أحوال المسلمين في كافة أنحاء المعمورة تقتضي النظر فيما فيه تمكينهم واحترامهم وتقوية كيانهم، والأخذ بأسباب اعتبارهم مجتمعا إنسانيا، تهدف قواعد وجوده إلى احترام الإنسان، واحترام وسائل تمتعه بما هيأ الله له من أسباب المعيشة بهناء، والتعايش بإخاء، والتعاون على البر والتقوى. .
(1) البيوع والمعاملات المالية المعاصرة ص20.
فإذا وجدنا أفرادا لهم مقامهم المحترم في المجتمع، سواء كان ذلك من حيث مكانتهم الاجتماعية، أو من حيث ثقافتهم التخصصية، أو من حيث وضعهم الاقتصادي، أو السياسي، وكان هناك أمل في إسلامهم بعد تأليف قلوبهم بالعطاء، فيعطون من الزكاة من سهم المؤلفة قلوبهم ما يحببهم في الإسلام، ويرغبهم في الانضواء مع المسلمين، كما فعل صلى الله عليه وسلم مع صفوان بن أمية وغيره، فقد أعطاهم صلى الله عليه وسلم عطاء جزلا طمعا في إسلامهم، ثم أسلموا بعد ذلك.
ففي الصحيح عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: «بعث علي وهو باليمن بذهيبة في تربتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أربعة: الأقرع بن حابس الحنظلي، وعيينة بن حصن الفزاري، وعلقمة العامري سيد بني كلاب، وزيد الخير الطائي سيد بني نبهان. قال: فغضبت قريش والأنصار، فقالوا: يعطي صناديد نجد ويدعنا! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني إنما فعلت ذلك لتأليفهم (1)» .
وفي صحيح مسلم عن رافع بن خديج رضي الله عنه قال: «أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان بن حرب، وصفوان بن أمية، وعيينة بن حصن، والأقرع بن حابس، كل إنسان منهم مائة من الإبل، وأعطى عباس بن مرداس دون ذلك، فقال عباس بن مرداس:
أتجعل نهبي ونهب العبيد
…
بين عيينة والأقرع (2)
وما كان حصن ولا حابس
…
يفوقان مرداس في المجمع
وما كنت دون امرئ منهما
…
ومن يخفض اليوم لا يرفع
قال فأتم له رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة». والعبيد اسم فرس له، ففي هذه الآثار دلالة صريحة على مشروعية إعطاء من يتألف للإسلام ممن هو مطاع في عشيرته وقومه.
(1) صحيح البخاري التوحيد (7432)، صحيح مسلم الزكاة (1064)، سنن النسائي تحريم الدم (4101)، سنن أبو داود السنة (4764)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 68).
(2)
صحيح مسلم الزكاة (1060).
وإذا وجد أن الحاجة تقتضي إيجاد مؤسسات اجتماعية تقوم برعاية حديثي العهد بالإسلام، من حيث التأهيل الاجتماعي والعلمي، وكف الأذى عنهم، وتعويضهم عما فقدوه من أهلهم ومجتمعهم بعد انتقالهم من دينهم إلى الإسلام، فلا شك أن هؤلاء يعتبرون من المؤلفة قلوبهم، والإسهام في تغطية نفقات هذه المؤسسات من سهم المؤلفة قلوبهم وجيه ومشروع فيعطون من سهم المؤلفة قلوبهم، كما يعطون من سهم سبيل الله، فإن سبيل الله عام في كل وجه من وجوه الخير والبر، كما هو اختيار مجموعة من أهل العلم، ولكن بعد توافر القناعة التامة باستقامة هذه المؤسسات، وتقييدها باختصاصها وصلاح وتقى القائمين عليها، وألا يكون هناك إسراف في المصروفات الإدارية على هذه المؤسسات؛ لأن الزكاة حق الله تعالى في أموال عباده، وهي أمانة في أيدي من وجبت عليهم في أموالهم، فحينما يدفعون جزءا من الزكاة إلى القائمين على هذه المؤسسات، فهم يدفعونها إليهم على اعتبارهم وكلاء عنهم في دفع ما دفعوه من الزكاة إلى مستحقيه، فلا تبرأ ذممهم منها حتى تصرف في مصارفها الشرعية.
وإذا وجدت أقليات إسلامية في بلد غير إسلامي تحكمه حكومة غير مسلمة، وظهر أن هذه الأقليات في وضع مقتض تأليف هذه الحكومة على العناية بوضعهم، والحفاظ على حقوقهم وحرياتهم، فإن مساعدة هذه الحكومة من سهم المؤلفة قلوبهم من الزكاة، بما يحقق لهذه الأقليات المسلمة عونا واحتراما واعتبارا وتمكينا متجه ومستمد جوازه من تحقيق المصلحة العامة لهذه المجتمعات الإسلامية، فإن المال وسيلة لا غاية، والغاية وجود مجتمع إسلامي متكامل متعاطف متلاحم، يتمتع بالعزة والرفعة والكرامة والحرية المتفقة مع المقتضى الشرعي وفقا لأحكام الله ورسوله.
فكل وسيلة لا تتعارض مع القواعد العامة للأخلاق وحكمة الوجود، وهي طريق لتحقيق الغاية من وجود مجتمع إسلامي عزيز، فهي وسيلة مشروعة ومعتبرة، وبهذا نستطيع القول بجواز صرف جزء من الزكاة للحكومات المذكورة بشرطه، ومن ذلك المشاركة في جمع التبرعات والإسهام في تحصيلها لمنكوبي الزلازل
والفيضانات والمجاعات وخلفيات الفتن والقلاقل والاضطرابات واختلال الأمن؛ وذلك لإظهار الدين الإسلامي بأنه دين المحبة والمودة والرحمة والتعاون على الخير، ولإظهار المجتمع الإسلامي بالمظهر الذي هو أهله من حيث التعاطف والتراحم والتآلف والتعاون على البر والتقوى، والإسهام في إصلاح المجتمعات الإنسانية والعناية بالحقوق الإنسانية واحترامها، والبعد عن ظلم أهلها بالاعتداء عليها، سواء كانت أموالا أو أعراضا أو نفوسا.
وبالجملة فإن تأليف القلوب على الإسلام، وعلى العناية بالمسلمين، والوقوف معهم في الحفاظ على كيانهم ومقامهم - يعتبر مطلبا شرعيا يبذل في سبيل تحصيله وتأمين مستلزماته ومقتضياته الثمن الغالي، سواء كان من الصدقات، أو من الزكوات، أو من الفيء على المسلمين، أو كان من غنائم غنموها في جهادهم مع أهل الكفر والشرك والضلال، وفيما تقدم من الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يكفي للقناعة التامة بصحة ذلك ووجاهته، واعتباره مقصدا شرعيا يجب الأخذ به في كل حال تقتضي ذلك وتستلزمه، وأحسن الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي رسول الله، والله المستعان وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
كتبه القاضي بمحكمة التمييز بمكة المكرمة وعضو هيئة كبار العلماء
عبد الله بن سليمان بن منيع
مكة المكرمة 4/ 3 / 1410هـ.