الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإيمان بالله وبكتبه وبملائكته وبرسله، وباليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره، ترسيخ هذا الإيمان يعطي الأبناء سلاحا قويا يدفعهم للعمل، وينمي عندهم بغض الشر، وإدراك خطره، ويحبب إليهم الخير، ويرغبهم في البحث عن مداخله، والاستئناس بأهله؛ لأن من شب على شيء شاب عليه، وبذلك يسلم الأحداث- بتوفيق من الله- من الجنوح في صغرهم، ومن ثم الابتعاد عن الجريمة في كبرهم؛ لأنها لم تجد في قلوبهم بابا مفتوحا، ولا ارتياحا يدفعها للاستقرار.
ومعلوم أن من يركب مخاطر اليم، إذا لم يكن قادرا على السباحة، فإنه يعرض حياته للموت، ونفسه للخطر، بل أبسط ما يقال عنه: إنه قد ألقى بنفسه إلى التهلكة؛ لأنه لم يستعد من قبل بما يعينه على مصارعة الأخطار، والقدرة على توقي أضرارها.
رقابة المجتمع:
ثم يتبع ذلك رقابة أوسع، ونظرة أشمل، هي عين المجتمع الفاحصة، وانتقاداته لكل أمر خارج عن المألوف في البيئة الإسلامية، حيث إن البيئة الإسلامية يجب ألا يؤلف فيها إلا ما يتمشى مع منهج دين الإسلام، كما جاء في الأثر: ما رآه المؤمنون حسنا فهو حسن، وما رآه المؤمنون قبيحا فهو قبيح (1). فإيمانهم القوي يردعهم عن تغيير النظرة للأمور الحسنة أو القبيحة، فالحسن عندهم ما أباحه شرع الله والقبيح في نظرهم ما حذر منه الشرع وحرمته تعاليم الإسلام.
وأهمية الجار والمحافظة عليه سمعة ونصحا من أساسيات دين الإسلام، حيث وردت أحاديث تدل على أن الجار يتعلق بعنق جاره يوم القيامة؛ ليحاجه أمام خالقه جل وعلا؛ لأنه رآه يعمل المنكر فلم ينهه، واستحق بنو إسرائيل اللعن في كتاب الله على ألسنة أنبيائهم؛ لتركهم التناصح والأمر
(1) يروى موقوفا على ابن مسعود.
بالمعروف، كما قال جل وعلا:{لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} (1){كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (2) فحق عليهم - بعدم التناصح، وراحة النفس بالجريمة التي يعملها الآخرون - أن وجب عليهم لعن الله، وهو الطرد من رحمته جل وعلا.
والعصيان والاعتداء جريمة؛ لأن في ذلك مجاوزة لحدود الله التي حد لعباده، وأعظم الجرائم عصيان الله في أمره، والاستكبار على شرعه، كما فعل إبليس- لعنه الله- حيث أخرجه ذلك من رحمة الله واستحق مقته وغضبه إلى الأبد، فأعظم بها من خسارة، قال ابن كثير في تفسيره: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي، نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا، فجالسوهم في مجالسهم (3)» قال يزيد، وأحسبه قال:«في أسواقهم، وواكلوهم وشاربوهم، فضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئا فجلس فقال: لا والذي نفسي بيده، حتى تأطروهم على الحق أطرا (5)» وفي رواية ابن مسعود رضي الله عنه: «كلا والله لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطرا، أو تقصرنه على الحق قصرا (6)» .
فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الأسس المتينة، التي تقي المجتمعات من الجريمة، وبهيمنة الرجال العارفين لما يدعون إليه المدركين حقيقة ما ينهون عنه بحكمة وموعظة حسنة يمكن بتوفيق من الله، وبالنية المخلصة، والصدق في القول والعمل - حماية للأمة من تسلط فئة نبت الشر في قلوبهم، وفقدوا هيمنة الرقابة الذاتية لنقص إيمانهم، والرقابة الأسرية
(1) سورة المائدة الآية 78
(2)
سورة المائدة الآية 79
(3)
سنن الترمذي تفسير القرآن (3047)، سنن أبو داود الملاحم (4336)، سنن ابن ماجه الفتن (4006).
(4)
سنن الترمذي تفسير القرآن (3047)، سنن أبو داود الملاحم (4336)، سنن ابن ماجه الفتن (4006).
(5)
سورة البقرة الآية 61 (4){ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ}
(6)
تفسير ابن كثير 2: 83.
لعدم توجيههم وقت التهيؤ الذهني، والاستعداد العقلي للقبول؛ لأن أمثال هؤلاء في المنزلة الثالثة، بحيث تردعهم السلطة، وتؤثر فيهم التوجيهات، وتخوفهم الجزاءات الملائمة معهم، ذلك أن سلطة الآمرين بالمعروف، والناهين عن المنكر يجب أن تكون مستندة إلى قاعدة صلبة من الإيمان، الذي يملأ النفس بحرارة اليقين، ويمدها بالشحنات الدافعة إلى العمل، كما يجب أن تدعم بالسلطة الشرعية، لينزجر المعاندون، ويقمع المكابرون، ويجازى المتجاوزون المصرون؛ لأن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن (1)، والرفق ما كان في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه.
لقد جعل الله جل وعلا في شرائع دين الإسلام، وفي كل أمر ونهي حكمة بالغة، تنصلح بها الحياة في كل زمان ومكان، فالزواجر والحدود التي شرعها الله، ونظمتها تعاليم الإسلام، ليست إلا وقاية للمجتمع من تسلط فئة على فئة، وحماية لأفراده وأمنه من أصحاب النزعات الشريرة، أو الإغراءات المادية.
ولما كان الدين النصيحة والتوجيه، فإن الفرد مسئول بأن يكون عينا تراقب الأضرار؛ للتنبيه عليها والتساند مع الجهات المعينة في إنكار المنكر، والترغيب في المعروف، كما جاء في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة. قيل: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم (2)» . رواه مسلم.
فنصح العامة يتم بالتوعية والتنبيه على الأخطاء برفق ولين؛ لأن الثمرة لا تتم إلا بهما. أما إذا خيف اتساع النطاق، واستمراء الباطل، فيجب على الجهة المعنية أخذهم على الحق بالقوة، كما جاء في الحديث الذي ساقه ابن كثير في تفسيره، ومر بنا آنفا. ذلك أن رجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهم الذين عرفوا في تاريخ دولة الإسلام برجال الحسبة،
(1) من كلمات عثمان بن عفان رضي الله عنه.
(2)
صحيح مسلم الإيمان (55)، سنن النسائي البيعة (4197)، سنن أبو داود الأدب (4944)، مسند أحمد بن حنبل (4/ 102).
وأخذ فكرتهم وجزءا من مهماتهم رجال الغرب، وسموهم برجال الآداب، أو بوليس الآداب، وعنهم أخذت هذه الفكرة بعض الدول العربية والإسلامية، لكن ذلك سار في درب يختلف عما عهد عن المسلمين في أعمال الحسبة، حيث عرف عنهم أعمال كثيرة منها:
- الحرص على متابعة صغائر الشر حتى لا يستفحل خطرها.
- مراقبة المكاييل والموازين، والاهتمام بالأسعار ومنع الغش.
- المحافظة على الأمن، وذلك بمتابعة الجانحين من الشباب، وتتبع أصحاب الجرائم الأخلاقية.
- منع النساء من مخالطة الرجال في الأماكن العامة، ومزاحمتهم في الأسواق.
- الاهتمام بمداخل الفتنة، والنصح والتوجيه لكل من يتجرأ على حدود ومحارم الله.
- الاهتمام بتأمين الطرق، والقضاء على شتى صور التعدي فيها على الفرد أو الجماعة (1).
- منع الجار من الاعتداء على جاره، وردع القوي من التسلط على الضعيف.
وغير هذا من أعمال، كلها تدعو إلى الاهتمام بما يصلح المجتمع الإسلامي، وإغلاق منافذ الشر فيه، والمفضية إلى الجريمة؛ لأن في متابعة تلك الأمور حصرا للشرور قبل حدوثها، وحجزا بالحدود، حتى يمتنع الناس من التحايل على بعضهم، وحتى يشعر من لديه ريبة بأن هناك أعينا يقظة، ترصد أحوال الشرور، وتتابع المنتمين إليها؛ لتقضي عليها قبل بروزها، مما
(1) راجع كتاب الحسبة لابن تيمية. نشر دار الكاتب العربي ص8 - 43.
يجعل للمجتمع شخصية آمرة، ولرجال الحسبة الذين هم عين المجتمع مهابة وردعا لما يجب أن يتصفوا به من علم وحسن سيرة وسلوك، ويقظة التشريع الإسلامي، حتى يكون الآمر والناهي عالما بما يأمر به، عالما فيما ينهى عنه، حليما فيما يأمر به، حليما فيما ينهى عنه، وأن تهيأ لذلك البيئة الصالحة، والظروف الطيبة؛ لأن رجال الحسبة عليهم دور مهم في الاضطلاع بالمحافظة على الدين، الذي هو قوام المجتمع، والمصلح لما فيه من اعوجاج، حفاظا عن التعدي على الحرمات، لما في ذلك من حصانة للإسلام، وسلامة لأهله.
وهذا من حماية المجتمع عن كل عمل يجر إلى الجريمة؛ لأن معظم النار من مستصغر الشرر، والسكوت عن الصغائر يجعلها تستشري وتكبر، وسد الذرائع مما يوصي به كثير من الفقهاء رحمهم الله، مخافة اتساع النطاق، والإفضاء إلى ما هو أشمل وأكبر حيث يرى الأصوليون بأن دفع المفاسد مقدم على جلب المصالح.
والمجتمع بالتكافل والتعاطف، والراحة النفسية والهدوء والاستقرار، فإنه بإذن الله، سيقضي على الجريمة، بالقضاء على أسبابها، وحصر المؤثر فيها، وبكبت صغائرها قبل التفاقم، ما دام فيه من يمثل رجال الحسبة بالأمر والنهي، والنصح والتبيين، ورجال في المجتمع يتقبلون منهم التوجيه، ويستجيبون للنصح، ويمتثلون بالتطبيق، وهذا يمثل الأخذ والعطاء، أو
السالب والموجب، اللذين بهما يتكامل المجتمع، ويتراحم أبناؤه، ويردع قادرهم المعتدي، وقد وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم المجتمع المؤمن بالترابط والمحافظة على مداخل الشر فيه من أن تنتهك، حيث جعله بمثابة الجسد الذي يتألم من أي طارئ يحس أي عضو فيه فقال صلى الله عليه وسلم:«مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد، إذا اشتكى منه شيء، تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر (1)» رواه البخاري وأحمد في مسنده.
وقد رسم صلى الله عليه وسلم في أصول تربيته للمجتمع المسلم، وتوجيهاته لأبناء الأمة المسلمة، طرقا يستنير بها أبناء المجتمع في التوجيه والعمل، وتعينهم في رسم المنهج لبيئة الإسلام، من حيث الحصانة الفردية، والوقاية الجماعية، حيث أبان صلى الله عليه وسلم في حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه أن المرء في توقيه الشبهات والمحارم كالراعي يرعى حول الحمى، يوشك أن يرتع فيه وأن حمى الله محارمه، ولكي يستبرئ المرء لدينه وعرضه، ويتجنب المحارم التي نهى التشريع الإسلامي عنها، فإن عليه أن يتقي الشبهات وأن يقف عند حدود الله، وبذلك يقي نفسه مسارب الجريمة، ويقوده القلب السليم إلى العمل الحسن، حيث إنه ملك الجوارح، وهو الموجه للخير إن صلح، وللشر إذا هو فسد، كما قال صلى الله عليه وسلم:«ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب (2)» . وكان الدعاء المأثور: «اللهم أصلح لي قلبي الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي إليها معادي، واجعل الحياة زيادة لي في كل خير، والموت راحة لي من كل شر (3)» . وفي البعض: ديني بدل قلبي.
وروي الدارقطني وغيره من حديث أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدودا فلا تعتدوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة لكم من غير نسيان فلا تبحثوا عنها» .
(1) صحيح البخاري الأدب (6011)، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2586)، مسند أحمد بن حنبل (4/ 270).
(2)
صحيح البخاري الإيمان (52)، صحيح مسلم المساقاة (1599)، سنن الترمذي البيوع (1205)، سنن النسائي البيوع (4453)، سنن أبو داود البيوع (3329)، سنن ابن ماجه الفتن (3984)، مسند أحمد بن حنبل (4/ 270)، سنن الدارمي البيوع (2531).
(3)
صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2720).