الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مع الوعيد الشديد بعقاب دنيوي، وجزاء أخروي لمن في قلبه وازع إيماني حتى لا يقدم، ولمن لم يبق محافظا على حرمة الآخرين، أما من مات وازعه الديني، فإن السلطة التي جعلها الله للولي بواسطة الحاكم الشرعي القائم على حدود الله - قوة دافعة للعمل، وحجاب يحمي عن التطاول والانتهاك حيث يبرز أثرها الرادع لمن يفكر بالإقدام على مثل ذلك العمل.
هذه الأمور الثلاثة، هي في الغالب أقوى الركائز المحركة للإجرام، والتي من أجلها يكثر التنازع بين الناس، وتتكالب الفتن في المجتمعات، مستشرية بين صفوفهم.
فكان للتشريع الجنائي في الإسلام طرق في التضييق على الجريمة، ومكافحتها إذا وقعت، تتمثل في مثل:
- تهذيب النفوس، وتهيئتها للاستعداد قبولا وإدراكا.
- إبانة الحق من الباطل بعلاماتها ومميزاتها، وتحريك ملكة العقل لاتباع الحق بمنافعه، والابتعاد عن الباطل لمساوئه.
- وضع المعالم الزجرية كحواجز تكبح جماح النفوس، وتردها عن غيها.
- تطبيق الحدود، وتنفيذ القصاص.
وغير هذا من أمور يمكن إجمالها في منهجين فقط:
1 -
الطرق الوقائية
.
2 -
الطرق الزجرية.
وكل رادع نفسي أو اجتماعي، أو مؤثر بيئي أو سلطوي، استجابة أو قناعة أو خوفا، فإنه داخل تحت هذين المنهجين مهما كان سببه أو أثره.
فالعقاب في الشريعة الإسلامية بطريقيه: الوقائي والزجري، مبعثه المحافظة على الضرورات الخمس:
النفس والعقل والدين والعرض والمال.
وهذه الأمور الخمسة هي دعائم حياة الجنس البشري على الأرض، فمتى اختل واحد منها اضطرب ميزان الأمن والاستقرار.
الطرق الوقائية:
طرق الوقاية من الإضرار بالمجتمع وأهله، أنفسا أو أموالا أو أعراضا، أو وقاية اجتماعية، مما تحرص الأديان كلها عليه، وقد أبان الله في كتابه الكريم، وسنة رسوله المصطفى عليه الصلاة والسلام أن الفساد في الأمم السابقة، ما جاء إلا من إخلالهم بالنصوص، وتحايلهم على ما بين أيديهم من تشريع، ومفاضلتهم في الأحكام بين الشريف القوي وبين الضعيف الوضيع، ممن لا سند له من جاه أو مال أو عشيرة.
فالأول: يعفى من الإيقاع أو التشهير، أما الثاني: فيضاعف الجزاء عليه ويذل. كما أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم بقوله: «إنما أهلك من كان قبلكم أنه إذا سرق فيهم القوي تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها (1)» حيث قال ذلك لأسامة بن زيد عندما جاء ليشفع في أمر المخزومية التي سرقت، وأهم الناس أمرها (2).
وإذا كان الناس يلمسون الأثر الوقائي في الأمور الصحية، ودوره المحسوس في المحافظة على الأجسام عن كثير من الأوبئة، حيث اختفت بعض الأمراض التي كانت تفتك بالناس، وخاصة الأطفال كالجدري والسعال الديكي، والدفتريا والحصباء، والدرن وغيرها، إيمانا بالهدف القائل: الوقاية خير من العلاج، فكانت اللقاحات في وقت معين، وبمقدار معين، مفيدة في إعطاء الجسم مناعة - وبتوفيق من الله - عن كل مرض يلقح
(1) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3475)، صحيح مسلم الحدود (1688)، سنن الترمذي الحدود (1430)، سنن النسائي قطع السارق (4903)، سنن أبو داود الحدود (4373)، سنن ابن ماجه الحدود (2547)، مسند أحمد بن حنبل (6/ 162)، سنن الدارمي الحدود (2302).
(2)
رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وأبو داود جامع الأصول 3: 561.
الجسم عنه، ذلك أن الأمراض أوبئة يحتاج الجسم إلى أن يحافظ صاحبه عليه، ويهتم به، ويراعي الجو المحيط به، ويقسر القادرون الناس - الذين لا يدركون البعد الصحي لأنفسهم - على ضرورة المحافظة على أجسامهم وأولادهم، الذين هم أمانة في أعناقهم؛ لأن الولاية والمسئولية في مناحي الحياة، لا تقل أهمية عن الناحية الصحية، وذلك باتباع أساليب السلامة التي تعين في الوقاية من المخاطر.
وأساليب السلامة كثيرة ومتنوعة، منها الصحي والمروري ومخاطر الطريق والحريق، وحماية الأطفال من الأمور الضارة التي لا يدركون خطرها كالأدوية والغازات والسموم؛ ولذا أنشئت لها في كثير من دول العالم مؤسسات، وعقدت الندوات، واهتم المختصون بتنظيمها، ووضع جزاءات رادعة لمن لم يبد اهتماما ومتابعة.
والجريمة آفة اجتماعية أكثر خطرا من الآفة الجسمانية، فكان اهتمام الإسلام بالوقاية منها أكثر من الأساليب الزجرية؛ لأن الزجر جزاء يوقع على من فسد ضميره، وعمي قلبه، فكان بمثابة تكثيف الدواء للجسم، أو إجراء العملية، بعدما استفحل المرض، فقد تكون النتائج إيجابية أو سلبية، وقد تكون بعض النتائج استرشادات يأخذ بها الأصحاء في تلافي أسباب المرض.
أما الوقاية فهي اهتمام فردي لمعرفة الأثر السيئ، وما يترتب عليه، ثم تهذيب النفس، ومدافعة نوازعها عن الانجذاب إلى الشر، وهذا الاهتمام الفردي يأتي من تفهم النصوص الشرعية لمن أعطاه الله قدرة وعلما، واستفادة من مجالس العلماء وحلقات الذكر، حيث أمر الله بالسؤال في قوله تعالى:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (1). وبالاستجابة
(1) سورة النحل الآية 43