الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ما استحق عليها عقاب أو وعيد، يدل على مثل هذه الدلالة الآيات الكريمات:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ} (1) وقوله تعالى: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} (2) وقوله سبحانه: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} (3) وقوله: {إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} (4) وقوله جل وعلا: {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا} (5).
(1) سورة الفرقان الآية 31
(2)
سورة الزخرف الآية 74
(3)
سورة القلم الآية 35
(4)
سورة السجدة الآية 22
(5)
سورة طه الآية 74
الجناية:
جمعها جنايات وهي مصدر جنى يجني جناية، والقياس في اللغة العربية أن المصادر لا تجمع، وإنما ساغ جمع الجناية هنا على جنايات على النفس، ومنها ما هو غير قتل، أي جناية على ما دون النفس من الأطراف وغيرها، كالشجاج والجراحات، وغير ذلك، بل إن الجناية على النفس تختلف فقد تكون عمدا موجبة للقود، وقد تكون شبه عمد أو خطأ أو ما في معناه (1).
قال الزبيدي في تاج العروس: جنى الذنب عليه يجنيه جناية بكسر الجيم: جره إليه. قال أبو حية النميري:
وإن دما لو تعلمين جنيته
…
على الحي جان مثله غير سالم
ثم ظاهر سياق صاحب اللسان (ابن منظور) أنه حقيقة، وصرح الراغب بأنه مستعار من جنى الثمرة، كما استعير اجترم، وفي الحديث:«لا يجني جان إلا على نفسه (2)» . الجناية الذنب، والجرم ما يفعله الإنسان مما
(1) فقه عمر للدكتور رويعي بن راجح 2: 6.
(2)
سنن الترمذي الفتن (2159)، سنن ابن ماجه المناسك (3055).
يوجب عليه العقاب، أو القصاص في الدنيا والآخرة، والمعنى أنه لا يطالب بجناية غيره من أقاربه وأباعده، فإذا جنى أحدهم جناية لا يطالب بها الآخر، قال أبو عبيدة: قولهم: جانيك من يجني عليك، يضرب مثلا للرجل يعاقب بجناية، ولا يؤخذ غيره بذنبه، وإنما يجنيك من جنايته راجعة إليك، وذلك أن الأخوة يجنون على الرجل.
ويقال للرطب جنى، والكمأة تجنى، والذهب جنى، وتجنى فلان على فلان ذنبا: إذا ادعى ذنبا لم يفعله (1) وملخص الرأي اللغوي: التعدي على بدن أو مال أو عرض، وفي العرف مخصوصة بما يحصل فيه التعدي على الأبدان (2)، يقال: جنى فلان ثمرة عمله الصالح، فالأول في الخير والثاني في الشر.
أما التعريف الشرعي، فيرى بعض الفقهاء أنها - أي الجناية - اسم لفعل محرم حل بمال أو نفس، كما قال بذلك ابن عابدين في حاشيته (3)، ووافقه على هذا التعريف ابن خطاب من المالكية فإنه قال: الجناية ما يحدثه الرجل على نفسه أو غيره، مما يضر حالا أو مآلا (4).
فالتعريف هنا عام في كل محرم حل بمال، كالسرقة والنصب ونحوهما، وفي كل محرم حل بالنفس كالزنا والقذف والشرب، وغير ذلك من المحرمات. والبهوتي من الحنابلة عرف الجناية: بأنها التعدي على البدن بما يوجب قصاصا أو مالا (5)، ويعبر كثير من الفقهاء الشافعية عن الجناية بأنها الجراحات، فيقولون في كتبهم: كتاب الجراح، ويذكرون تحت ذلك بحث كل
(1) راجع تاج العروس 10: 77 - 78، ولسان العرب 18: 167 - 170.
(2)
حاشية الروض المربع لابن قاسم 7: 164.
(3)
6: 527.
(4)
راجع مواهب الجليل 6: 277.
(5)
انظر كشاف القناع 5: 585.
الجنايات وأحكامها. . . وهذا اصطلاح، والبلاغيون قالوا: لا مشاحة في الاصطلاح، لكن الشيخ زكريا الأنصاري منهم قال: والتعبير بالجنايات أولى ليشمل التعدي بغير المحدد (1).
وأكثر الفقهاء يقسم الجناية إلى ثلاثة أضرب:
- عمد يختص القود فيه، بشرط أن يقصد الجاني الجناية.
- شبه العمد، ويسمى بخطأ العمد، وعمد الخطأ.
- الخطأ. . . وقد اتفق على هذا التقسيم جمهور الفقهاء، وبإثباته قال عمر وعثمان وعلي وغيرهم، ولا مخالف لهم من الصحابة (2).
ولم ترد مادة جنى في كتاب الله جل وعلا إلا مرتين بمعنى الثمر، وهو من المعاني اللغوية.
الحدود: جمع حد وهو في اللغة المنع، ومنه يقال للبواب حدادا؛ لأنه يمنع الناس من الدخول، فكل ما يحجز بين شيئين، ويمنع اختلاطهما يسمى حدا، ومثله في المحسوسات حدود الأرض، وحدود الحرم، وفي المعنويات: العقوبات. فإنها تمنع مرتكب الجريمة من العود لمثل عمله، وتمنع غيره عن طريق الخوف أو الاعتبار كذلك فهي مانعة زاجرة، والحد تأديب المذنب كالسارق والزاني وغيرهما بما يمنعهما عن المعاودة (3).
وفي الاصطلاح الشرعي: عقوبة مقدرة شرعا في معصية، كالزنا والقذف وقطع الطريق والسرقة. لتمنع من الوقوع في مثلها (4).
(1) انظر مغني المحتاج 4: 2.
(2)
حاشية الروض المربع لابن قاسم 7: 165 - 166.
(3)
راجع تاج العروس 2: 331.
(4)
راجع التنقيح المشبع في تحرير أحكام المقنع ص 369.
وقد أوجبها الله سبحانه على مرتكبي الجرائم التي تتقاضاها الطباع، وليس عليها وازع طبيعي، فهي من أعظم مصالح العباد في المعاش والمعاد. بل لا تتم معايشة ملك من ملوك الأرض إلا بزواجر وعقوبات لأرباب الجرائم، حيث يزع الله (1).
وللفقهاء رحمهم الله اصطلاحات في تخصيص الحدود بالعقوبات:
- فالحنفية: عرفوا الحدود بالعقوبات المقدرة حقا لله عز وجل (2) فأخرجوا عقوبة التعزير؛ لأنها غير مقدرة. وأخرجوا عقوبة القصاص ونحوها؛ لأنها ليست حقا لله غالبا، بل حق لله وللعبد؛ إذ تسقط بعفو العبد.
- والحنابلة: عرفوا الحدود بالعقوبات المقدرة شرعا في معصية من الوقوع في مثلها (3)، فأخرجوا عقوبة التعزير كالحنفية، لكنهم أدخلوا عقوبات القصاص ونحوها في مسمى الحدود؛ لأنها وإن لم تكن حقا لله خاصة، فهي مقدرة شرعا (4).
وقد وردت الكلمة: بالحدود والمحادة في كتاب الله جل وعلا ثماني عشرة مرة، وفي ذلك أمر للفئة المسلمة عقيدة، والمؤمنة بربها سلوكا ومنهج عمل، بالتزام حدود الله، والوقوف عند شرعه الذي شرع لعباده؛ لتستقيم أحوال الناس، وينتظم معاشهم. وحدود الله هي محارمه.
- الوقاية من الجريمة:
يقول ابن تيمية رحمه الله: لولا العقوبة التي فرضها الله على الجناة والمفسدين لأهلك الناس بعضهم بعضا، وبذلك يفسد نظام العالم، وهي لا تتم إلا بمؤلم يردعهم، ويجعل الجاني نكالا وعظة لمن يريد أن يفعل مثل فعله (5) ولذا تهتم الدراسات الأمنية بالجريمة، ومعرفة المداخل التي أوصلت
(1) حاشية ابن قاسم على الروض المربع 7: 300.
(2)
فتح القدير 4: 112.
(3)
كشاف القناع 6: 63.
(4)
فقه عمر للدكتور رويعي 1: 73.
(5)
حاشية ابن قاسم على الروض المربع 5: 164.
إليها، والأسباب أو المسببات التي تدفع المجرم إلى الجريمة، وهل وراء الانسياق إلى ارتكاب الجريمة دوافع شخصية، أو مؤثرات اجتماعية، وعلى ضوء ما يسفر من نتائج تتضح المقترحات التي تبرز أمام الدارسين لذلك ليروها حلا معينا في تلافي الجريمة، ومن ثم محاولة حصرها في أضيق السبل والمختصون في الدراسات الأمنية، وحسبما يظهر أمامهم من ملابسات للجريمة، ومجريات للأمور، يدركون أن الغالبية العظمى من المجرمين، يمتازون بالذكاء، وسعة الحيلة، والمكر والمراوغة، ولكن هؤلاء يستخدمون هذه الصفات في أمور تضر بالمجتمع، وتثير القلق لدى المواطنين.
وما يرسمه المخططون للوقاية من الجريمة، من أساليب يقصد بها مكافحتها، والحد من تزايدها واتساع دائرتها في المجتمع، لا تعطي نتائج مرضية في الغالب، وليس ذلك لقصور في أفكار وتوجيهات ودراسات المهتمين بمحاصرة الجريمة، أو نقص في استعداداتهم؛ ولكن لأن ما يضعونه من حلول توجد عليه مداخل كثيرة من حيث:
- الرأفة بالمجرم.
- إعادة الجريمة لعوامل نفسية أو اجتماعية.
- تخفيف الحكم على المجرم إذا لمس منه السلوك الحسن.
- تحديد الجزاء بغرامة مالية، أو مدة زمنية قد يوقف تنفيذها.
- إتاحة الفرصة لكل مجرم أن يشتري مدة الحكم أو نوع الجزاء بمبلغ مالي.
- عدم إحصاء الجرائم السابقة التي لم يضبط متلبسا بها، وبالتالي قد لا يعطى عليها حكما ولا جزاء.
إلى غير ذلك من أسباب ومؤثرات جعلت الإجرام في بعض مناطق المعمورة يأخذ شكلا تنظيميا، يخيف المجتمعات، ويزعج رجال الأمن،
ويؤثر على النمو الاقتصادي؛ لأن المال كما يقال: لا ينمو إلا في الجو الآمن، ولا يتسع نطاقه مع الخوف.
ولو تتبعنا بأرقام إحصائية ما تدفعه دول العالم صغيرها وكبيرها على الأمن من جهود وأموال، وما ينجم من خسارة يوقعها المجرمون يوميا على الأنفس والأموال، وسائر الممتلكات، لوجدنا أرقاما خيالية، كفيلة بتنظيم حياة الناس، وتوفير العيش الرغيد لهم براحة واطمئنان وهدوء نفس.
ولكن الضعف النفسي الذي سببه الضعف الإيماني الذي يدفع أناسا للتسلط على الآخرين، والتعدي على نفوسهم وأعراضهم وأموالهم بالحيلة أو القوة؛ ليصبح هؤلاء المجرمون عالة على المجتمع، مفسدين بين أفراد الأمة متسلطين على حقوق غيرهم، حاقدين على الناس عموما، كما حرص علماء النفس على تسميتهم بمصطلحات عديدة ذات دلالة في المعني: كالنرجسية والسادية والأنانية. . . صفات تنبئ عن حقيقة العمل، واتجاه صاحبه.
وفي نظري أن أهم الثغرات في دراسات وتخطيطات المهتمين بمكافحة الجريمة إغفالهم الجانب الروحاني، وإبعادهم التدين الذي يخاطب القلوب بما يؤثر فيها، وليس كل مؤثر روحاني يعطي نتيجة في هذا، ولا كل تدين يعتبر تدينا؛ لأن كل ما يرسمه البشر من سماته الخطأ والقصور، وما جاء من عند الله فهو الكامل الذي لا نقص، ولا مدخل فيه لتأويل.
ودين الإسلام الذي رضيه الله لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، عقيدة في القلوب، ومنهج عمل للنفس يقومها، وللمجتمع يحميه من الآفات، ويسير نظام أبنائه، هو الذي ينبعث من المؤثر الروحاني، ويتعمق مفهوم التدين، وما ذلك إلا أن تعاليمه المستقاة من كلام الله جل وعلا، تخاطب الوجدان، وتنفذ إلى القلب وتمتلك نتائجها المشاعر إحساسا ظاهرا، ونتيجة ملموسة؛ لأنه دين رضيه الله سبحانه: عقيدة ومنهج سلوك لخير أمة على وجه الأرض، بنعمة منه سبحانه وتعالى وفضل، وشيء رضيه الله، لا بد أن يكون كاملا في توجيهه، متناسقا في تنظيمه، شاملا في حمايته لأبنائه،
ورعاية مصالحهم، كما ندرك هذا من النص الكريم:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (1).
فالبشر يعتريهم القصور، وتكثر المداخل عليهم وعلى أعمالهم، وينقصهم بعد النظرة، أما ما يشرعه الله - وهو سبحانه أرأف بعباده من الأم بولدها - فلا اختلاف فيه ولا تباين مع الأزمنة والأشخاص، ولا مع اختلاف البيئات والمتطلبات كما قال تعالى:{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} (2).
وهذا سر من أسرار عالمية الإسلام، إذ رغم أن أنظمة البشر ووجهات نظرهم في كثير من الأمور قد تبدلت باختلاف الأمم، وتعاقب العصور، إلا أن ما شرعه الله من حدود وزواجر، وما نظمته الشريعة من جزاءات وعقوبات، فإنها قد ثبتت سلامتها في تقويم النفوس، حيث تتلاءم مع الطباع السليمة، ونجحت في حماية المجتمعات من الفوضى، فلم تكن وقتية تتلاءم مع أمة دون أمة، أو تصلح لبلد دون بلد.
ذلك أن التركيب الغريزي للنفس البشرية واحد: طبعا وتهذيبا، وتأثيرا واستجابة، كما أن الماء منذ أن خلقه الله واحد في تركيبه، وفائدته، وحاجة الجسم إليه.
والله سبحانه وتعالى هو الخالق للبشر، العالم بطبائعهم، وهو جل وعلا الذي شرع لهم الواجبات ليتبعوها، ويتعبدوه بها، وحد الحدود لئلا ينتهكوها، ويعصوه باقترافها، وبين سبحانه المحرمات حتى لا يقعوا فيها وسكت عن أشياء رحمة بعباده غير نسيان، فيجب عدم الإلحاف بالسؤال عنها؛ حتى لا يقع التشديد على الأمة، حسبما حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك أمته؛ لئلا يحل بها ما حل بالأمم السابقة.
(1) سورة المائدة الآية 3
(2)
سورة النساء الآية 82
والدارسون لأثر الشريعة الإسلامية في مكافحة الجريمة، من أبناء الغرب أدركوا ما اشتملت عليه أوامر الإسلام ونواهيه، من حواجز تحمي النفوس من المصائب، وتحيطها به عن التردي إلى أوحال الجريمة، وما ينجم عن ذلك من الإضرار بالأفراد والمجتمعات، فقال أحدهم في مؤتمرات الاستشراق: لو طبق المسلمون تعاليم دينهم، وحرصوا عليها عملا، فإن دور الشرطة والمحاكم والسجون ستغلق؛ لأنه لن يبقى لها عمل، وبذلك يوجد المجتمع الصالح الذي رسم الإسلام معالمه، وتتشوق لمثله شعوب الأرض، وسوف تنساق أوروبا بأكملها للإسلام، وبمثل هذا المفهوم قال الشاعر العربي:
لو أنصف الناس استراح القاضي
…
وجنح الجميع للتراضي
وما ذلك إلا أن تعاليم الإسلام قد جاءت لمداخل الجريمة بتعليمات تسد منافذها، فالأموال والأعراض والنفوس هي وسائل يطمع بواسطتها بعض الناس للتعدي على بعض، والتسلط عدوانا وبغيا، رغبة في الاستئثار أو التكبر أو الظلم، فجاء تنظيم مداخلها ومخارجها في شرع الله الذي شرع لعباده، ورسم المنهج الذي يجب أن تلتزم به النفس المعتدلة، حتى لا يبغي أحد على أحد، وحتى لا يتسلط قوي على ضعيف، رحمة من الله بعباده، وإحسانا منه إليهم. ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: الحدود صادرة عن رحمة الخلق، وإرادة الإحسان إليهم، وينبغي لمن يعاقب الناس على ذنوبهم أن يقصد بذلك الإحسان إليهم. . . والرحمة بهم، كما يقصد الوالد لتأديب ولده، وكما يقصد الطبيب معالجة المريض (1)، فالقسوة هنا ليست ظلما، ولكنها عدل ورأفة؛ لأن الأصل في مشروعيتها الكتاب والسنة والإجماع.
ذلك أن الأموال التي هي محك النفوس، ومنزلة الترابط والتآخي في المجتمع، قد تولى الله جل وعلا تقسيمها بين الناس، وأبان مداخلها
(1) حاشية ابن قاسم على الروض المربع 5: 300.
الشرعية: من ميراث وغنيمة ومصرف زكاة، وبيع وشراء، ومداينة وصداق للنساء، وهبات وغير ذلك. فكان الحق واضحا، ومداخل الاعتداء فيها بينة، وعليها تشفق النفوس: طمعا وخوفا، وزكاة للنفوس تبرز بالحرص عليها أداء، وتنقية من أمانات وحقوق، ووقاية النفس منها تعديا واستضعافا، فكان الحلال منها بينا وواضحا أثره في العمل، والعلامات عليه في الأعمال التعبدية متميزة بالدليل العقلي والنقلي.
والحرام منها فيه علامات تميزه أيضا، وتوضيحات تقطع الحجة على كل متقول، كما نجد في مثل هذا النص الكريم الذي قاله المصطفى صلى الله عليه وسلم لمن سأله بأن يدعو الله له بأن يكون مستجاب الدعوة:«أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة» رواه الترمذي. وقوله صلى الله عليه وسلم: «لحم نبت من السحت فالنار أولى به (1)» رواه الدرامي في مسنده.
وبعد المال يهتم الإنسان بعرضه دفاعا ومحافظة؛ لأن التطاول على الأعراض، مما يهدد كيان الأسرة، وينخر في سوس المجتمع، فالعرض هو السمعة وهو الكرامة؛ لذا حرصت تعاليم الإسلام على حمايته وصيانته عن التطاول والاعتداء. ولحرص العرب على حماية الأعراض كانت الحروب تدور من أجله، وكانت الدماء تراق، والغارات تتتابع من أجل كلمة، ووقاية من مسبة، خوفا من العار، وتوجسا من فضيحة اجتماعية صحيحة أو مفتعلة. فجاءت تعاليم هذا الدين تضع الحواجز، وتردع المعتدي، وتحمي الضعيف، حيث يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:«كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه (2)» متفق عليه. . . وأكد هذه الدلالة صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، وفي خطبته صلى الله عليه وسلم البليغة، والتي تعتبر من أسس الأمور التشريعية في كثير من القضايا الإسلامية.
والعرض والمال عند الإنسان يعادلان النفس التي قد يتجرأ بعض الناس بالتطاول عليها بالقتل أو الإعاقة، أو الإضرار بأي نوع من الجروح، فأحاطها التشريع الإسلامي بسياج من الحماية والمدافعة لتبقى في مأمن من التسلط،
(1) سنن الترمذي الجمعة (614).
(2)
صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2564)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 277).