الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الطريقة الزجرية:
والمرتبة الرابعة التي تستنتج من استقراء التوجيه الشرعي، للوقاية من الجريمة، هي القوة التي تحد من استشراء الجريمة، وتغلبها على فئة من المجتمع لتفسده، وتدك دعائمه التي يقوم عليها بنيانه، تلك هي الطريقة الزجرية التي يلجأ إليها ولي الأمر عند استنفاد فرص الإصلاح، فالقلب له حالة الانطماس، والذهن له مرتبة في الانغلاق. فمن انطمس قلبه فإنه لا يفيد فيه نصح ولا توجيه؛ لأنه أصبح كالصخرة الصماء التي لا تمسك ماء، ولا تنبت كلأ. والذهن إذا انغلق أصبح كالباب الموصد، لا يدخل معه أحد، ولا يخرج منه أحد، والمعاندون لشرع الله المتجاوزون لحدوده سبحانه، ممن طبع الله على قلوبهم، فلا يفيد فيهم توجيه، ولا يردعهم نصح، كهذا الباب لا يتحقق النفع إلا بكسره، أو كالجسم المريض بمرض خبيث لا يرجى برء الجسم منه إلا بقطع العضو الموبوء، ولو أنه جزء من الجسم، إلا أن الإبقاء على الجسم لا يتم إلا بذلك، ومن أجل المحافظة على الجسم يحرص الطبيب على المبادرة باستئصال العضو المصاب الذي لا يرجى شفاؤه؛ لأن نزعه من الجسم، فيه مطمع بسلامة باقي الجسم، والإبقاء على صاحبه ممتعا بصحة وسلامة ليعيش ما شاء الله له.
وقد شبه بعض العلماء حوزة الإسلام بدائرة، تحيط بها من جوانبها الحدود، التي بالمحافظة عليها تسلم للإسلام نقاوته، وبتجاوزها يتخلل أمن المجتمع، ويدب الفساد في أرجائه.
ولأهمية أمن المجتمع في البيئة الإسلامية، فإنه قد جاء ذكر هذه المادة ومشتقاتها في كتاب الله أكثر من أربعمائة مرة، واشتق الإيمان منها، الذي هو راحة النفس، بصدق العقيدة؛ ولذا جاء الحديث:«لا إيمان لمن لا أمانة له (1)» . ومن الأمانة معرفة واجبات شرع الله، والوقوف عند حدود
(1) مسند أحمد بن حنبل (3/ 135).
الله، وذلك بالفقه في الدين، الذي هو العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسبة من أدلته التفصيلية (1).
ذلك أن العلم بالأحكام الشرعية، يستوجب إدراك كنهها، سواء أخذت من الشرع تصريحا أو استنباطا؛ وذلك من أجل الوقوف عند حدودها، وزجر من يتجاوز هذه الأحكام الشرعية، بما يمكن السلطة، ويؤمن المجتمع، ومن أجل ذلك جاءت الأحكام الزاجرة المانعة، لكي تردع المجرمين عن الاسترسال في الجريمة، وحددت عقوبات كل جرم بما يتناسب مع مكانة ونوعية ذلك الجرم، والأثر الذي يتركه في البيئة الإسلامية، من قتل وقطع، إلى سجن وجلد، أو غرامة في الجناية، أو قصاص لعضو بدل عضو، أو تغريب عن البلد الذي أوقع فيه الجرم، إلى غير ذلك مما بسط في كتب الفقه، في أبواب الحدود والجنايات والقصاص، ومن النصوص الشرعية التي ورد فيها القول الثابت، ندرك أن فساد الأمم السابقة جاء من تركهم حدود الله ورغبتهم عن حكمه إلى أحكام البشر، كما حكى الله عن بني إسرائيل بقوله جل وعلا:{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} (2).
وهذا في معرض التبكيت لهم، ومجانبتهم للمنهج الذي رسمه لهم شرع الله، ثم ابتغوا عنه بديلا، يتفق مع الأهواء البشرية، وتركوا حكم الله الذي أبانه لهم في التوراة التي أنزلها الله جل وعلا على موسى عليه السلام، فغيروا فيها، وبدلوا ورغبوا عن حكم الله إلى أحكام أخرى، من وضع البشر زادت مجتمعاتهم جريمة وتطاولا، فوصفهم الله بعدم الإيمان، وبالكفر والظلم والفسوق.
(1) راجع في هذا التعريف شرح مراقي السعود. ص 10 - 11.
(2)
سورة المائدة الآية 45
والقرآن الكريم الذي هو المصدر الأول في شريعة الإسلام، قد مكن هذه الأحكام بما يخيف المجرمين؛ لأن في القصاص حياة لأولي الألباب ورغب رسول الله صلى الله عليه وسلم في إقامة الحدود، حتى تحرص الفئة المؤمنة على التطبيق والملاحقة، فقال عليه الصلاة والسلام:«إقامة حد من حدود الله، خير من أن تمطروا أربعين سنة (1)» . لأن هذا الحد يمثل الغيرة لله، والاهتمام بشرعه الذي شرع لعباده، ومن قصة المخزومية التي سرقت، حيث غضب الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام عندما جاء إليه من يتشفع فيها. وقال:«أتشفع في حد من حدود الله؟ ثم قام خطيبا فقال: إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها (2)» .
ومن هنا تشدد علماء المسلمين رحمهم الله في تحريم الشفاعة في الحدود، إذا وصلت القضية إلى السلطان، وفي تعظيم أمر المحاباة للأشراف في حقوق الله تعالى، وأن الشفاعة الجائزة فيما يمكن إصلاحه قبل الوصول إلى الحاكم الشرعي، أو من يمثل ولي الأمر.
والحدود الزاجرة أهمها:
- الزنا وله حكمان إذا ثبت بالبينة الشرعية إقرارا أو شهودا: الجلد والتغريب سنة لغير المحصن، والرجم للمحصن. ويقام الحد في مشهد طائفة من المسلمين؛ ليكون لذلك صدى في النفوس، وتشهير بالفاعلين، وهذا من خزي الدنيا.
- وحد القذف يتم بعبارات صريحة أو كنايات دالة على المقصود، ليحدد الحاكم الشرعي نوعية القذف، وما يستوجب من التعزير. وللمقذوف
(1) سنن ابن ماجه الحدود (2537).
(2)
إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام 2: 266.
التنازل وإسقاط الحق؛ لأن هذا حق فردي، يدخل في ترويع المسلم، والإضرار به، وهو صاحب الحق في المطالبة أو عدمها.
- وحد السكر عند ثبوت ذلك بالبينة القطعية كالإقرار أو شهادة عدلين، من الروادع عن استشراء هذه الآفة الاجتماعية وقد يكون من القياس في هذا وغيره، إقامة الحدود في أمور جدت على الفقهاء الأوائل وما مر عليهم، كالمخدرات بأنواعها، وقياسها هي أو غيرها على ما يلائمها من الجرائم والحرابة، ونتائج الأضرار. . . كما في قرار هيئة كبار العلماء بالمملكة رقم 138 تاريخ 20/ 6 / 1407 هـ حول المخدرات.
- وقد «ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه جلد في الخمر أربعين جلدة (1)» ، وقال في حديث صحيح:«من شرب الخمر فاجلدوه (2)» . إلى أن قال الثالثة أو الرابعة: «ثم إن شرب الخمر فاقتلوه (3)» وجلد أبو بكر رضي الله عنه. وفي عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه كثر شرب الخمر بسبب كثرة الفتوحات فتشاور الصحابة في ذلك. فاجتهدوا بالجلد ثمانين؛ لأن المرء إذا سكر هذى، وإذا هذى قذف، فقاسوا الحكم على أثر القذف وحكمه.
- حد السرقة وذكر ما يتم القطع به، بعد معرفة ملابسات السرقة، والدوافع إليها، وهل المسروق في حرز مثله، حيث يشترط الفقهاء في القطع للسرقة شروطا بسطت في كتب الفقه (4) وقد روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه تساهل في حد السرقة عام الرمادة؛ لأن الدافع إليها المجاعة التي حصلت للناس.
وعندما استهزأ المتقولون على الإسلام بحد السرقة، كما قال شاعرهم:
يد بخمس مئين عسجد وديت
…
ما بالها قطعت في ربع دينار
(1) صحيح البخاري الحدود (6773)، صحيح مسلم الحدود (1706)، سنن الترمذي الحدود (1443)، سنن أبو داود الحدود (4479)، سنن ابن ماجه الحدود (2570)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 247)، سنن الدارمي الحدود (2311).
(2)
سنن أبو داود الحدود (4485).
(3)
رواه أبو داود 4: 4485.
(4)
انظر على سبيل المثال حاشية ابن قاسم على الروض المربع 7: 353 - 376.
وهو الحد الأدنى للقطع كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين بذلك، فرد عليه ابن القيم رحمه الله:
عز الأمانة أغلاها وأرخصها
…
ذل الخيانة فافهم حكمة الباري
فالحدود والتجرؤ عليها، وعدم الوقوف عند شرع الله الذي شرع لعباده، هذه الأمور هي التي تذل صاحبها، فيستوجب الحد الذي يزجره، ويخيف غيره مما قد تسول له نفسه، بعد ما يعرف المصير.
- حد القتل عمدا، وتوضيح حقيقة العمد، حيث أفاض المفسرون والفقهاء في ملابسات القتل، ومعرفة الدوافع إليه، والتمييز بين القتل عمدا، والقتل خطأ، وما يدخل في عمد الخطأ، وخطأ العمد، وما يستوجب قصاصا، أو يفادى عنه بدية، إلى غير ذلك من تفاصيل أوضحها الفقهاء أحكاما تزجر النفوس عن العدوان، وتشفي غيظ المجني عليه، وتحفظ النفوس والأطراف، وطهرة للمقتول، وحياة للنوع الإنساني، كما قال تعالى:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ} (1).
كما أوضح الله سبحانه وتعالى في سورة النساء قيمة النفس البشرية، وحرمتها وجزاء الاعتداء عليها: جزاء دنيويا وجزاء أخرويا، فقال جل وعلا:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} (2) إلى آخر الآية، ثم يقول سبحانه في الآية بعدها مشددا في عقوبات القاتل المتعمد:{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} (3).
(1) سورة البقرة الآية 179
(2)
سورة النساء الآية 92
(3)
سورة النساء الآية 93
- أما الجنايات المختلفة التي يتسبب عنها أضرار وجروح، ففي بعضها أرش عن الجناية، وفي بعضها قصاص، وفي بعضها مبادلة شيء من الأعضاء تالف بالجناية، بمقابله من أعضاء الجاني، وقد يصطلح الطرفان على الدية التي حددها الشارع، بحسب العضو المجني عليه، والضرر الذي أصابه، أو أعاقه عن العمل، والديات والأرش تتفاوت بحسب نوعية الجناية، وباختلاف الزمان والمكان، وحال المجني عليه. ذكرا كان أو أنثى، مسلما أو كافرا، جنينا أو صبيا متكاملا (1).
- وقطاع الطرق المحاربون لله ولشرعه، المخيفون للناس الآمنين على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، وقد أوضح الله في سورة المائدة حكمهم، ونوعية العقاب الشديد الذي يجب أن يحل بهم، جزاء وفاقا؛ لتماديهم في الجريمة، وإخافة لمن تسول له نفسه أن يعمل عملهم، ويستهين بالسلطة الحاكمة، ويتجرأ على حدود الله وشرعه، حيث حرم صلى الله عليه وسلم على المسلمين دماء بعضهم البعض، وأموالهم وأعراضهم فقال في حجة الوداع، مؤكدا ذلك الحكم:«أي يوم هذا؟ قالوا: يوم النحر العيد الأكبر، فقال: أي شهر هذا؟ قالوا: شهر الله الحرام، قال: أي بلد هذا؟ قالوا بلد الله الحرام، فقال صلى الله عليه وسلم: إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا، اللهم بلغت اللهم فاشهد (2)» . ويقول صلى الله عليه وسلم: «بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه، كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه (3)» رواه مسلم.
وقد أعطى جل وعلا في التشريع الإسلامي لولي الأمر سلطة تنفيذية؛ لإقامة حكم الله في الفئات المخالفة، إذا لم تتب من عملها قبل أن يقدر عليهم، فقال سبحانه:{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (4).
(1) انظر المعنى والشرح الكبير ج 12 الجنايات والحدود.
(2)
صحيح البخاري الحج (1739)، سنن الترمذي الفتن (2193)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 230).
(3)
صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2564)، سنن الترمذي النكاح (1134).
(4)
سورة المائدة الآية 33
قال كثير من أهل العلم: يطبق الجزاء الوارد في الآية، كحد من حدود الله الرادعة والمريحة، حتى يستتب الأمن في المجتمع الإسلامي، بحسب نوعية الحرابة، من سطو وقتل وسرقة، أو شهر سلاح، أو تعد على السلطة، أو إخافة للآمنين، فهي جزاءات خمسة للولي الشرعي أن ينفذ منها ما يزجر ويؤمن المجتمع بدون مثلة أو تعذيب، ولكل جريمة ما يماثلها من الجزاء.
- ومقاتلة البغاة الخارجين على السلطة أو إخافة للآمنين من الروادع ذات الأثر؛ لأن منهج الإسلام الالتفاف حول قيادة موحدة، وهو من يرتضيه المسلمون إماما لهم، حيث يحرم الخروج عليه؛ لما في ذلك من فتح باب الإجرام والفوضى والقتل والهتك، وقد توعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من خرج على بيعة الإمام، أو من جاء ينازع من في أعناق الناس له بيعة.
ومن حرص الإسلام على الإمامة يؤكد المصطفى صلى الله عليه وسلم على أهميتها حتى في السفر، بضرورة تنصيب أمير من المسافرين، حتى ولو كان عددهم ثلاثة؛ إذ عليهم أن يؤمروا أحدهم والصدور عن أمره، كما جاء في الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم (1)» «وأن من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية (2)» ؛ وذلك لأهمية الجماعة في الإسلام، وضرورة السمع والطاعة للإمام، وتمثل ذلك الصلاة الركن الثاني من أركان الإسلام، بانقياد المصلين للإمام، وسيرهم خلفه.
(1) أخرجه أبو داود عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(2)
رواه مسلم من حديث عبد الله بن عمر.