الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثانيها: إن النسخ ممتنع عقلا وسمعا وهو ما جنح إليه نصارى هذا العصر وتقول به أيضا الشمعونية، وهم طائفة ثانية من طوائف اليهود.
ثالثها: إن النسخ جائز عقلا ممتنع سمعا وبه تقول العنانية وهي الطائفة الثالثة من طوائف اليهود. كما يعزى هذا الرأي إلى أبي مسلم الأصفهاني من المسلمين، ولكن على اضطراب في النقل عنه وعلى تأويل يجعل خلافه لجمهور المسلمين أشبه بالخلاف اللفظي إن لم يكن كذلك فعلا (1).
كما يتبين أيضا أن النسخ مجمع على جوازه عقلا ولم يخرج عن هذا الإجماع إلا " الشمعونية " إحدى فرق اليهود وبعض نصارى هذا الزمان، ولا شك أن مذهب هؤلاء المنكرين هو أخطر المذاهب وأشنعها في هذا الباب وأبعدها عن الحق وأكثرها مجانبة للصواب وولوغا في الباطل. إذ إن مجرد إنكار الجواز العقلي إنكار للوقوع الشرعي بالضرورة؛ إذ لا يمكن أن يقع في الوجود ما أحاله العقل.
(1) مناهل العرفان ج2 ص 186 - 187.
شبهات المنكرين للجواز العقلي وإبطالها
وسنستعرض فيما يلي أبرز شبهات أولئك المنكرين مع تفنيدها وإبطالها فنقول وبالله التوفيق:
1 -
الشبهة الأولى التي يسوقونها لتمسكهم بمنع النسخ أن النسخ إما لحكمة ظهرت بعد أن لم تكن فيكون بداء، وإما أن يكون لغير حكمة فيكون عبثا، وكلا البداء والعبث على الله تعالى مستحيل. والرد عليهم إنما هو من خلال ما أثبتناه في بداية هذا المبحث من أدلة عقلية وسمعية على جواز النسخ عقلا، وأنه لا يترتب على النسخ محال عقلي؛ إذ هو فعل من أفعال الله الذي يفعل ما يشاء سبحانه، وليس النسخ من قبيل البداء، بل الفرق بينهما ظاهر، فالبداء تبديل في العلم بينما النسخ تبديل في المعلوم (1).
(1) انظر دراسات في الإحكام والنسخ في القرآن الكريم ص 76 - 77.
وبعد أن أورد الشيخ محمد حمزة في كتابه (دراسات في الإحكام والنسخ في القرآن الكريم) رأي كل من اليهود والمعتزلة والماتريدية أصحاب أبي منصور الماتريدي ومن أخذ برأيه من جمهور الأحناف ومن تبعهم، قال: وبعد ما تقدم نجيب بجواب محكم على فرية اليهود وشبهة المستشبهين فنقول: إنما يكون كل من العبث والبداء من لوازم النسخ إن ورد النسخ على حسن لا يقبل حسنه القبح، أو قبيح لا يقبل قبحه الحسن، كالإيمان والكفر، أما في الأفعال التي حسنها وقبحها باعتبار ما يترتب عليها من المصالح المختلفة باختلاف الأزمان والأمم، فإن الله تعالى يبدل ما شاء من الأحكام؛ رعاية لتلك المصالح التي يعلمها، ولا يلزم من ذلك بداء ولا عبث، وعلى ضوء ما تقدم أيضا يبطل قول المنكرين أن ما طلبه الله لحسنه، فلو نهى عنه لأدى إلى أن ينقلب الحسن قبيحا وهو محال، فنقول: إن الإحالة إنما تكون إذا اجتمع الأمر والنهي في فعل واحد من مأمور واحد في زمن واحد، وفرض المسألة غير ذلك فإن المصالح تختلف باختلاف الأوقات، كشرب الدواء فإنه قد يكون نافعا في وقت دون وقت، فيختلف حسن الشيء وقبحه باختلاف الأوقات، وباختلاف الأشخاص أيضا، فالشرع للأديان كالطب للأبدان (1).
2 -
ويثيرون شبهة أخرى فيقولون لو جاز على الله تعالى أن ينسخ حكما بحكم للزم على ذلك أحد باطلين: جهله جل وعلا، وتحصيل الحاصل.
وبيان ذلك أن الله تعالى إما أن يكون قد علم الحكم الأول المنسوخ على أنه مؤبد، وإما يكون قد علمه على أنه مؤقت. فإن كان قد علمه على أنه مستمر إلى الأبد ثم نسخه وصيره غير مستمر انقلب علمه جهلا والجهل عليه تعالى محال، وإن كان علمه على أنه مؤقت بوقت معين ثم نسخه عند ذلك الوقت، ورد عليه أن المؤقت ينتهي بمجرد انتهاء وقته فإنهاؤه بالنسخ تحصيل للحاصل وهو باطل، وتدفع هذه الشبهة بأن الله تعالى قد سبق في علمه أن الحكم
(1) دراسات في الإحكام والنسخ ص80.
المنسوخ مؤقت لا مؤبد، ولكنه علم بجانب ذلك أن توقيته إنما هو بورود الناسخ، لا بشيء آخر كالتقييد بغاية في دليل الحكم الأول، وإذن فعلمه بانتهائه بالناسخ لا يمنع النسخ بل يوجبه. وورود الناسخ محقق لما في علمه لا مخالف له شأنه تعالى في الأسباب ومسبباتها، وقد تعلق علمه بها كلها مع ملاحظة أن النسخ بيان بالنسبة إلى الله تعالى ورفع بالنسبة إلينا (1).
3 -
والشبهة الثالثة التي يثيرونها هي قولهم لو جاز النسخ للزم أحد باطلين وما هو في معناه.
وبيان ذلك أن الحكم المنسوخ إما أن يكون دليله قد غياه بغاية ينتهي عندها أو يكون قد أبد نصا، فإن كان قد غياه بغاية، فإنه ينتهي بمجرد وجود هذه الغاية، وإذن لا سبيل إلى إنهائه بالنسخ وإلا لزم تحصيل الحاصل. وإن كان دليل الحكم الأول قد نص على تأبيده، ثم جاء الناسخ على رغم هذا التأبيد لزم المحال من وجوه ثلاثة:
أ- التناقض؛ لأن التأبيد يقتضي بقاء الحكم ولا ريب أن النسخ ينافيه.
ب- تعذر إفادة التأبيد من الله للناس؛ لأن كل نص يمكن أن يفيده تبطل إفادته باحتمال نسخه، وذلك يفضي إلى القول بعجز الله وعيه عن بيان التأبيد لعباده فيما أبده لهم تعالى الله عن ذلك.
ج- استلزام ذلك لجواز نسخ الشريعة الإسلامية مع أنها باقية إلى يوم القيامة عند القائلين بالنسخ ويمكن دفع هذه الشبهة بما يلي:
أولا: بأن حصر الحكم المنسوخ في هذين الوجهين اللذين ذكرهما المانع غير صحيح؛ لأن الحكم المنسوخ يجوز ألا يكون مؤقتا ولا مؤبدا، بل يجيء مطلقا عن التوقيت والتأبيد كليهما، وعليه فلا يستلزم طروء النسخ عليه شيئا من المحالات التي ذكروها، وإطلاق هذا الحكم كاف في صحة نسخه؛ لأنه يدل على الاستمرار بحسب الظاهر وإن لم يعرض له النص.
(1) مناهل العرفان ج2 ص199.
ثانيا: إن ما ذكروه من امتناع نسخ الحكم المؤبد غير صحيح أيضا وما استندوا إليه منقوض لوجوه ثلاثة:
الأول منها: إن استدلالهم بأنه يؤدي إلى التناقض مدفوع بأن الخطابات الشرعية مقيدة من أول الأمر بألا يرد ناسخ، كما أنها مقيدة بأهلية المكلف للتكليف، وألا يطرأ عليه جنون أو غفلة أو موت، وإذن فمجيء الناسخ لا يفضي إلى تناقض بينه وبين المنسوخ بحال.
والثاني: إن استدلالهم بأنه يؤدي إلى أن يتعذر على الله بيان التأبيد لعباده مدفوع بأن التأبيد يفهمه الناس بسهولة من مجرد خطابات الله الشرعية المشتملة على التأبيد، وهو ما يشعر به كل واحد منا؛ ذلك لأن الأصل بقاء الحكم الأول وما اتصل به من توقيت أو تأبيد، وطرد الناسخ احتمال مرجوح، واستصحاب الأصل أمر يميل إليه الطبع كما يؤيده العقل والشرع.
والثالث: إن جواز نسخ الشريعة الإسلامية إن لزمنا معاشر القائلين بالنسخ، فإنه يلزمنا على اعتبار أنه احتمال عقلي لا شرعي بدليل أننا نتكلم في الجواز العقلي لا الشرعي. أما نسخ الشريعة الإسلامية بغيرها من الشرائع فهو من المحالات الظاهرة بتضافر الأدلة على أن الإسلام دين خالد عام، ولا يضير المحال في حكم الشرع أن يكون من قبيل الجائز في حكم العقل (1).
4 -
وشبهتهم الرابعة هي قولهم:
إن النسخ يستلزم اجتماع الضدين واجتماعهما محال، وبيان ذلك أن الأمر بالشيء يقتضي أنه حسن وطاعة ومحبوب لله، والنهي عنه يقتضي أنه قبيح ومعصية ومكروه له تعالى فلو أمر الله بالشيء ثم نهى عنه، أو نهى عن الشيء ثم أمر به لاجتمعت هذه الصفات المتضادة في الفعل الواحد الذي تعلق به الأمر والنهي.
وندفع هذه الشبهة بأن الحسن والقبح وما اتصل بهما ليست من صفات الفعل الذاتية حتى تكون ثابتة فيها لا تتغير بل هي تابعة لتعلق أمر الله
(1) مناهل العرفان ج2 ص199 - 201.
ونهيه بالفعل وعلى هذا يكون الفعل حسنا وطاعة ومحبوبا لله ما دام مأمورا به من الله، ثم يكون هذا الفعل نفسه قبيحا ومعصية ومكروها له تعالى ما دام منهيا عنه منه سبحانه، وحتى القائلون بالحسن والقبح العقليين من المعتزلة يقرون بأنهما يختلفان باختلاف الأشخاص والأوقات والأحوال، وبهذا التوجيه ينتفي اجتماع الضدين لاختلاف الوقت الذي يكون فيه الفعل حسنا عن الوقت الذي يكون فيه الفعل نفسه قبيحا، فلم يجتمع الحسن والقبح في وقت واحد على فعل واحد (1).
وقريب من هذا ما نقلناه فيما تقدم من كلام الشيخ محمد حمزة في كتابه (دراسات في الإحكام والنسخ) من جوابه المحكم على فرية اليهود وشبهة المستشبهين وما انتهى إليه من أن قول المنكرين: إن ما طلبه الله لحسنه، فلو نهى عنه لأدى ذلك إلى أن ينقلب الحسن قبحا، وهو محال مردود - بأن الإحالة إنما تكون إذا اجتمع الأمر والنهي في فعل واحد من مأمور واحد في زمن واحد، وفرض المسألة غير ذلك، فإن المصالح تختلف باختلاف الأوقات. . . إلخ (2).
(1) مناهل العرفان ج2 ص199 - 201.
(2)
راجع ص18 - 19 من هذا البحث.