الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وبعد: فكل من انحرف عن هذا الخط المستقيم وانخرط في سلك شهواته ونزواته، فقد انحرف عن طريق الجادة وانصاع لأهوائه وأمانيه واستوحى منهما ضوابط سلوكه في حياته، وعندها سيسقط في مهاوي الهلكة تمزقه الأهواء وتورثه الشهوات الحيرة والفزع والخلل والاضطراب، ويضل سعيه في الحياة الدنيا ويحشر يوم القيامة أعمى، وبهذا يكون قد ظلم نفسه، ولم يجن في الحياتين إلا الذل والشقاء والضياع والهوان. نسأل الله تعالى أن يرزقنا إيمانا صادقا وأن يلهمنا عملا صالحا متقبلا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
ثانيا: الإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم وأنه خاتم الأنبياء والمرسلين:
لقد من الله على عباده ورحمهم بإرسال رسله إليهم، حتى يكونوا على بينة من أمرهم، وحتى لا يقولوا ما ندري ما أراده الله منا، وما جاءنا من بشير ولا نذير فقطع الله المعذرة وأقام الحجة بإرسال الرسل وإنزال الكتب؛ لبيان حكم الله تعالى فيما اختلف فيه خلق الله، وإيضاح شرعه فيما جهلوه، وأمرهم بالتزام حكمه تعالى والوقوف عند حدوده والبعد عما يضرهم في العاجل والآجل. قال تعالى:{رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} (1).
واختار الله عز وجل رسله من بين خلفه؛ ليكونوا نموذجا للكمال وعنوانا للفضل وحملة لمشعل النور والضياء، وقادة لركب الحضارة الإنسانية على
(1) سورة النساء الآية 165
مدى الأزمان والدهور واصطفاهم المولى- جلت حكمته- ليكونوا دعاة الحق وهداة الخلق، فاختارهم من بين خلقه وصنعهم على عينه وشرفهم بأكمل الأوصاف، فجعلهم أئمة الدنيا والدين ورزقهم قوة العقل واليقين؛ ليكونوا وسطاء بينه وبين خلقه في تبليغ أوامره والتحذير من غضبه وعقابه، والإرشاد إلى ما فيه سعادة البشر في الدنيا والآخرة، قال تعالى:{وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} (1).
وكان ختام المسك محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه أفضلهم وإمامهم وخاتمهم، آمن بما آمنوا به، ودعا إلى ما دعوا إليه. قال تعالى:{قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ} (2) فكان صلوات ربي وسلامه عليه أعلى ما يكون هداية وإرشادا، وكان ما جاء به أسمى ما يكون تشريعا وتبصيرا، ختم الله به الرسالة وأتم به النعمة وجعله للعالمين بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا. قال تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} (3){وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} (4) وجعل دينه دين القوة والرحمة، ودين الحياة، ودين الكفاح والجهاد ودين التمكين والعزة والنظافة والطهارة والإخاء والمساواة والهناء والرخاء قال تعالى:{مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} (5) قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية:. . . فهذه الآية
(1) سورة الأنبياء الآية 73
(2)
سورة الأحقاف الآية 9
(3)
سورة الأحزاب الآية 45
(4)
سورة الأحزاب الآية 46
(5)
سورة الأحزاب الآية 40
نص في أنه لا نبي بعده وإذا كان لا نبي بعده، فلا رسول بعده بالطريق الأولى والأحرى؛ لأن مقام الرسالة أخص من مقام النبوة فكل رسول نبي ولا ينعكس، وبذلك وردت الأحاديث المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن حديث جماعة من الصحابة رضي الله عنهم اهـ (1) أخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي وسيكون خلفاء فيكثرون، قالوا: فما تأمرنا؟ قال فوا ببيعة الأول فالأول أعطوهم حقهم، فإن الله سائلهم عما استرعاهم (2)» وأخرج الحاكم في مستدركه عن العرباض بن سارية قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إني عند الله في أول الكتاب لخاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته وسأنبئكم بتأويل ذلك دعوة أبي إبراهيم وبشارة عيسى قومه، ورؤيا أمي التي رأت أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام (3)» .
وأخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له، ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة؟ قال فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين (4)» ففي هذا الحديث وما سبقه إشارة إلى فضل النبي صلى الله عليه وسلم على سائر النبيين وأن الله ختم به المرسلين وأكمل به شرائع الدين وأن حملة
(1) تفسير القرآن العظيم لابن كثير ج 3/ 493.
(2)
صحيح البخاري ج 4/ 143 باب 50 كتاب 60.
(3)
المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري ج2/ 600.
(4)
صحيح البخاري ج 4/ 162، 163 كتاب 61 باب 18.
الشرائع السماوية بناة بيت واحد يؤسس سابقهم للاحقهم ويشيد لاحقهم على أساس سابقهم يصور ذلك: «مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتا. فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين (1)» وهكذا كان صلوات الله وسلامه عليه برسالة الإسلام اللبنة المتممة لهذا البناء الشامخ، وكانت رسالته آخر لبنة وضعت فيه، واحتاج إليها هذا البناء الشامخ من لدن آدم عليه الصلاة والسلام إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: فلا بد في الإيمان من أن تؤمن أن محمدا صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين لا نبي بعده. وأن الله أرسله إلى جميع الثقلين الجن والإنس، فكل من لم يؤمن بما جاء به فليس بمؤمن، فضلا عن أن يكون من أولياء الله المتقين ومن آمن ببعض ما جاء به وكفر ببعض فهو كافر ليس بمؤمن. كما قال الله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} (2){أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} (3){وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (4) ومن الإيمان به الإيمان بأنه الواسطة بين الله وخلقه في تبليغ أمره ونهيه، ووعده ووعيده، وحلاله وحرامه، فالحلال ما أحله الله ورسوله، والدين ما شرعه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فمن اعتقد أن لأحد من الأولياء طريقا إلى الله غير متابعة محمد صلى الله عليه وسلم فهو كافر من أولياء الشيطان (5) وقال تعالى:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (6) الآية
(1) صحيح البخاري المناقب (3535)، صحيح مسلم الفضائل (2286)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 312).
(2)
سورة النساء الآية 150
(3)
سورة النساء الآية 151
(4)
سورة النساء الآية 152
(5)
مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ج 11/ 170.
(6)
سورة الحشر الآية 7
وغير ذلك من الآيات الدالة على وجوب طاعة الرسول مقترنة بطاعة رب العزة والجلال في أكثر من أربعين موضعا من القرآن الكريم.
إذن فماذا يجب علينا نحن المسلمين نحو من أرسله ربه رحمة للعالمين؟ يجدر بنا ونحن في هذا المقام أن ننقل ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، ترغيبا في اتباع الرسول وتحذيرا من مخالفته وعصيان أمره قال رحمه الله تعالى: أما بعد: فإنه لا سعادة للعباد، ولا نجاة في المعاد إلا باتباع رسوله. قال تعالى {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (1){وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} (2).
فطاعة الله ورسوله قطب السعادة الذي عليه تدور، ومستقر النجاة الذي عنه لا تحور. وقد ذكر الله طاعة الرسول واتباعه في نحو أربعين موضعا من القرآن الكريم - كقوله تعالى:{مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (3) وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (4) محبة العبد لربه موجبة لاتباع الرسول وجعل متابعة الرسول سببا لمحبة الله.
فجعل عبده. . فبمحمد صلى الله عليه وسلم تبين الكفر من الإيمان والربح من الخسران والهدى من الضلال والنجاة من الوبال والغي من الرشاد والزيغ من السداد، وأهل الجنة من أهل النار، والمتقون من الفجار وإيثار سبيل من أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين من سبيل المغضوب عليهم والضالين، فالنفوس أحوج إلى معرفة ما جاء به واتباعه منها إلى الطعام والشراب، فإن هذا إذا فات حصل الموت في الدنيا، وذاك إذا فات حصل العذاب في الآخرة فحق على كل أحد بذل جهده واستطاعته في
(1) سورة النساء الآية 13
(2)
سورة النساء الآية 14
(3)
سورة النساء الآية 80
(4)
سورة آل عمران الآية 31
معرفة ما جاء به وطاعته إذ هذا هو طريق النجاة من العذاب الأليم والسعادة في دار النعيم (1) نعم: إن من الأسس التي يقوم عليها التحاكم إلى شرع الله في الأرض أن يبذل المسلم وسعه في معرفة ما جاء به صلى الله عليه وسلم والعمل به وتقديمه على غيره ورد كل ما سواه. قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: أجمع المسلمون على أن من استبان له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحل له أن يدعها لقول أحد (2) وقال ابن عبد البر وابن تيمية رحمهما الله تعالى: لا قول لأحد مع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق بالأخذ والعمل بها، وهذا شأن كل مسلم ومن هنا تتبين مكانة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدين ومنزلته بين المرسلين، وعظم ما جاء به عن رب العالمين، فطاعته والانقياد لما جاء به حتم على جميع العالمين بل على الثقلين الجن والإنس أجمعين.
والمسلم حقا هو الذي يقتفي أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتمثل أمره ويتجنب نهيه ويهتدي بسنته. {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ} (3) إذا تقرر هذا فإن محمدا صلى الله عليه وسلم ليس قصة تتلى في يوم ميلاده كما يفعل الناس اليوم إلا من رحم الله، وليس التنويه به يكون في
(1) انظر فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ج 1 ص 4، 260.
(2)
هدية السلطان إلى مسلمي بلاد جابان ص 20.
(3)
سورة آل عمران الآية 101