الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقال بعد أن ساق أمثلة أخرى لهذا الوجه (وقد ذهب بعض المؤلفين للناسخ والمنسوخ إلى أنه لا يجوز أن ينسخ الأخف بالأثقل وتأول فيما ذكرنا تأويلات تخرجه من النسخ، والعمل عند أكثرهم على ما بيناه)(1) كما عد الإمام العلامة أبو منصور عبد القاهر بن طاهر البغدادي في كتابه (الناسخ والمنسوخ) من شرط الناسخ والمنسوخ أن يكونا شرعيين يجوز في العقل ورود الأمر بكل واحد منهما على البدل، فأما الذي لا يجوز ورود الشرع بخلافه؛ كاعتقاد توحيد الصانع واعتقاد صفاته وعدله وحكمته، واعتقاد فساد الكفر فلا يجري في هذا النوع نسخ ولا تبديل، وكذلك كل ما دل العقل على كونه على وجه مخصوص، فلا يجوز أن يكون الناسخ والمنسوخ كلاهما منصوصا عليه أو مدلولا عليه بدليل الخطاب أو مفهومه، فأما الذي ثبت بالإجماع فلا يجوز نسخه؛ لأن الإجماع إنما يستقر بعد انقضاء زمان النسخ، فإذا اجتمعت الأمة على حكم ووجد خبر بخلافه استدللنا بالإجماع على سقوط الخبر أو نسخه، أو تأويله على غير ظاهره (2).
(1) انظر الإيضاح ص110، 111.
(2)
الناسخ والمنسوخ ص 45.
الفصل الرابع
الآراء في حكم النسخ ومناقشتها
هنالك إجماع من علماء المسلمين بل أجمعت الأمة كلها على جواز النسخ عقلا ووقوعه سمعا، كما أن جميع الملل تكاد تتفق على ذلك، إلا من بعض الطوائف التي أنكرت ذلك وأوردت شبها كثيرة لمنعه، واستدلت بأدلة لا تقوى على الصمود عند مناقشتها، وسنفصل القول في بيان ذلك في ثنايا هذا الفصل إن شاء الله تعالى، وقد عني كثير من العلماء ببيان وجه الحق في
ذلك وقرروا إمكان وقوع النسخ في شريعة الإسلام، وكذلك في الشرائع السابقة، وقاموا بتفنيد شبه المنكرين للنسخ والرد عليها وإبطالها.
فقد استدلوا على جواز وقوع النسخ في القرآن بقوله تعالى {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} (1) قال ابن عباس وغيره: معناه يمحو ما يشاء من أحكام كتابه، فينسخه ببدل أو بغير بدل، ويثبت ما يشاء فلا يمحوه ولا ينسخه، ثم قال:{وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} (2) قال ابن عباس: معناه عنده ما ينسخ ويبدل من الآية والأحكام، وعنده ما لا ينسخ ولا يبدل، كل في أم الكتاب، وهو اللوح المحفوظ، ومثل هذا المعنى قال قتادة وابن زيد وابن جريج وغيرهم في هذه الآية، وقد قيل غير ذلك. فهذا يدل على جواز النسخ بنص القرآن (3).
وقد اعترض مكي بن أبي طالب على استدلال جماعة على جواز النسخ في القرآن بقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ} (4) قائلا: إن هذا إنما يدل على جواز النسخ فيما يزيد الشيطان في تلاوة النبي أو الرسول من الباطل، خاصة وليس يدل علي جواز النسخ فيما ينزله الله ويأمر به، فلا حجة فيه لمن استدل به على جواز نسخ ما هو من عند الله من الحق (5).
ومضى مكي يستعرض الأدلة القرآنية على جواز النسخ في القرآن فقال:
(ويدل على جواز النسخ للقرآن أيضا قوله تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ} (6)(101) النحل فهذا نص ظاهر في جواز زوال حكم آية ووضع أخرى موضعها. إلى أن قال:
(1) سورة الرعد الآية 39
(2)
سورة الرعد الآية 39
(3)
الإيضاح ص 60.
(4)
سورة الحج الآية 52
(5)
الإيضاح ص 61.
(6)
سورة النحل الآية 101
ويدل على جواز النسخ للقرآن أيضا قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} (1)(106) البقرة. فهذا نص ظاهر في جواز النسخ للقرآن بالقرآن. إلى أن قال: ويدل على جواز النسخ أيضا قوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} (2)(48) المائدة. فمعلوم أن شريعة كل رسول نسخت شريعة من كان قبله.
ورد مكي كذلك استدلال من استدل بقوله تعالى: {وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} (3)(86) الإسراء على جواز النسخ بقوله: فهذا إنما يراد به إذهاب ما لا يجوز نسخه من الأخبار وغيرها. وما لا يجوز نسخه لو شاء الله لأذهب حفظه كله من القلوب بغير عوض (4) وما تقدم واقع في دائرة الاستدلال القرآني بيد أن هناك استدلالات عقلية أوردها المثبتون للنسخ القائلون بجوازه وقد أجملها صاحب (مناهل العرفان) في الأدلة الأربعة التالية:
أولا: إن النسخ لا محظور فيه عقلا وكل ما كان كذلك جائز عقلا. أما الكبرى فمسلمة وأما الصغرى فيختلف دليلها عند أهل السنة عن دليلها عند المعتزلة تبعا لاختلاف الفرقتين في أن أحكام الله تعالى يجب أن تتبع المصلحة لعباده أو لا يجب أن تتبعها، فأهل السنة يقولون: إنه لا يجب على الله تعالى لعباده شيء بل هو سبحانه الفاعل المختار والكبير المتعال، وله بناء على اختياره ومشيئته وكبريائه وعظمته أن يأمر عباده بما شاء وينهاهم عما شاء، وأن يبقي من أحكامه على ما شاء وأن ينسخ منها ما شاء لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه، ولا ملزم يلزمه برعاية مصالح عباده، ولكن ليس معنى هذا أنه عابث أو مستبد أو ظالم، بل إن أحكامه وأفعاله كلها جل جلاله لا تخلو عن حكمة بالغة وعلم واسع وتنزه عن البغي والظلم {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} (5)(46 فصلت). {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} (6)(49) الكهف.
(1) سورة البقرة الآية 106
(2)
سورة المائدة الآية 48
(3)
سورة الإسراء الآية 86
(4)
الإيضاح ص 62 - 64.
(5)
سورة فصلت الآية 46
(6)
سورة الكهف الآية 49
{إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} (1)(83) و (128) الأنعام. والمعتزلة يقولون: إنه تعالى يجب أن يتبع في أحكامه مصالح عباده فما كان فيه مصلحة لهم أمرهم به وما كان فيه مضرة عليهم نهاهم عنه. وما دار بين المصلحة تارة والمفسدة تارة أمرهم به تارة، ونهاهم عنه أخرى. وإذا تقرر هذا فإن صغرى ذلك الدليل نستدل عليها من مذهب أهل السنة هكذا: النسخ تصرف في التشريع من الفاعل المختار الكبير المتعال، الذي لا يجب عليه رعاية مصالح عباده في تشريعه، وإن كان تشريعه لا يخلو من حكمه، وكل ما كان كذلك لا محظور فيه عقلا.
وأما على مذهب الاعتزال فننظم الدليل هكذا: النسخ مبني على أن الله تعالى يعلم مصلحة عباده في نوع من أفعالهم وقتا ما، فيأمرهم به في ذلك الوقت ويعلم ضرر عباده في هذا النوع نفسه من أفعالهم ولكن في وقت آخر، فينهاهم عنه في ذلك الوقت الآخر، وكل ما كان كذلك لا محظور فيه عقلا. وكيف يكون محظورا عقلا ونحن نشاهد أن المصالح تختلف باختلاف الأشخاص والأزمان والأحوال. إلى أن قال: وإلى هذا الدليل تشير الآية الكريمة {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} (2)(106) البقرة. . . إلخ.
ثانيا وهو دليل إلزامي للمنكرين: إن النسخ لو لم يكن جائزا عقلا وواقعا سمعا لما جوزوا أن يأمر الشارع عباده بأمر مؤقت ينتهي بانتهاء وقته، لكنهم يجوزون هذا عقلا، ويقولون بوقوعه سمعا، فليجوزوا هذا؛ لأنه لا معنى للنسخ إلا انتهاء الحكم الأول لميقات معلوم عند الله، بيد أنه لم يكن معلوما لنا من قبل ثم أعلمنا الله إياه بالنسخ، وهذا ليس بفارق مؤثر، فقول الشارع مثلا أول يوم من رمضان:(صوموا إلى نهاية هذا الشهر) مساو لأن يقول أول يوم من رمضان: (صوموا) من غير تقييد بغاية حتى إذا ما انتهى شهر رمضان، قال أول يوم شوال:(أفطروا)، وهذا الأخير نسخ لا ريب فيه وقد جوز منكروه المثال الأول فليجوزوا هذا المثال الثاني لأنه مساويه
(1) سورة الأنعام الآية 83
(2)
سورة البقرة الآية 106
والمتساويان يجب أن يتحد حكمهما وإلا لما كانا متساويين.
ثالثا: إن النسخ لو لم يكن جائزا عقلا وواقعا سمعا لما ثبتت رسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة، لكن رسالته العامة للناس ثابتة بالأدلة القاطعة والبراهين الساطعة التي يطول شرحها. إذن فالشرائع السابقة ليست باقية بل هي منسوخة بهذه الشريعة الختامية. وإذن فالنسخ جائز وواقع. أما ملازمة هذا الدليل فنبرهن عليها بأن النسخ لو لم يكن جائزا وواقعا، لكانت الشرائع الأولى باقية، ولو كانت باقية ما ثبتت رسالته صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة.
رابعا: ما يأتي من أدلة الوقوع السمعي؛ لأن الوقوع يستلزم الجواز وزيادة، والأدلة السمعية على وقوع النسخ نوعان: أحدهما: تقوم به الحجة على منكري النسخ من اليهود والنصارى من غير توقف على إثبات نبوة الرسول لهم. والثاني: تقوم به الحجة على من آمن بنبوته صلى الله عليه وسلم كأبي مسلم الأصفهاني من المسلمين، وكالعيسوية من اليهود، فإنهم يعترفون برسالته عليه الصلاة والسلام، ولكن يقولون: إلى العرب خاصة، وهؤلاء تلزمهم بأنهم متى سلموا برسالته وجب أن يصدقوه في كل ما جاء به، ومن ذلك عموم دعوته، والنسخ الوارد في الكتاب والسنة.
فأمثلة النوع الأول كثيرة منها:
1 -
ما جاء في السفر الأول من التوراة أن الله تعالى قال لنوح عند خروجه من السفينة: (إني جعلت كل دابة حية مأكلا لك ولذريتك وأطلقت ذلك لكم كنبات العشب ما خلا الدم فلا تأكلوه) ثم اعترفوا بعد ذلك بأن الله حرم كثيرا من الدواب على أصحاب الشرائع من بعد نوح ومنهم موسى نفسه كما جاء في السفر الثالث من توراتهم.
2 -
جاء في التوراة أن الله تعالى أمر آدم أن يزوج بناته من بنيه وورد أنه كان يولد في كل بطن من البطون ذكر وأنثى فكان يزوج توأمة هذا للآخر
ويزوج توأمة الآخر لهذا، وهكذا إقامة لاختلاف البطون مقام اختلاف الآباء والأمهات والأنساب، ثم حرم الله ذلك بإجماع المتدينين من المسلمين واليهود والنصارى وغيرهم.
3 -
إن الله تعالى أمر إبراهيم بذبح ولده عليهما السلام ثم قال الله له لا تذبحه وقد اعترف منكرو النسخ بذلك.
4 -
إن عمل الدنيا كان مباحا يوم السبت لليهود ومنه الاصطياد ثم حرم الله الاصطياد على اليهود باعترافهم.
5 -
إن الله أمر بني إسرائيل بقتل من عبد العجل منهم ثم أمرهم برفع السيف عنهم (1) إلى غير ذلك من الأدلة السمعية التي تقوم بها الحجة على منكري النسخ من اليهود والنصارى.
وأما أمثلة النوع الثاني وهو الذي تقوم به الحجة على منكري النسخ من المسلمين ومن يؤمن برسالة محمد صلى الله عليه وسلم كالعيسوية من اليهود فهي كثيرة أيضا، وأوردنا طرفا منها في مستهل هذا الفصل نقلا عن الإمام العلامة مكي بن أبي طالب القيسي في كتابه (الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه)(2).
ويتبين مما ذكرناه أن أهل الأديان على مذاهب ثلاثة في النسخ:
أولها: إنه جائز عقلا وواقع سمعا. وعليه إجماع المسلمين من قبل أن يظهر أبو مسلم الأصفهاني ومن شايعه، وعليه أيضا إجماع النصارى من قبل معاصريهم الذين خرقوا الإجماع وركبوا رءوسهم فأنكروا النسخ؛ ليصلوا من هذا الإنكار إلى بقاء ديانتهم بجانب الديانة الإسلامية بدعوى أن الشريعة لا تنسخ الشريعة قبلها، وهو رأي العيسوية إحدى طوائف اليهود الثلاث.
(1) مناهل العرفان ج 2 ص 191.
(2)
انظر الفصل الرابع من هذا البحث.