المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الخامستفسير تحليلي للآيات الدالة على النسخ في القرآن الكريم - مجلة البحوث الإسلامية - جـ ٢٩

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌المحتويات

- ‌ثانيا: أدلة تحريم الاعتداء على أموال الناس:

- ‌ثالثا: تعريف الحيازة:

- ‌رابعا: موضوع البحث:

- ‌خامسا: ذكر آراء الفقهاء في إثبات الملكية بالتقادم

- ‌تمهيد:

- ‌النقول عن المذهب الحنفي:

- ‌تمهيد:

- ‌ أنواع مرور الزمن:

- ‌ الدعاوى الممنوع استماعها:

- ‌ السنة التي تعتبر في مرور الزمن:

- ‌ تفسير كلمة (لا إله إلا الله محمد رسول الله)

- ‌ حقيقة الإسلام

- ‌ مفهوم العبودية في الإسلام

- ‌معنى نقص العقل والدين عند النساء

- ‌حكم الأخطاء التي ارتكبت قبل الهداية

- ‌تربية ثلاث بنات

- ‌ معنى الإحسان إلى البنات

- ‌تبادل الزيارات بين المسلمات وغير المسلمات

- ‌مصرف المؤلفة قلوبهم

- ‌الوقاية من الجريمة في التشريع الجنائي الإسلامي

- ‌الجريمة:

- ‌الجناية:

- ‌ الطرق الوقائية

- ‌الرقابة الذاتية:

- ‌رقابة الفرد:

- ‌رقابة الأسرة:

- ‌رقابة المجتمع:

- ‌الطريقة الزجرية:

- ‌ حكمة العقوبات المفروضة في الإسلام

- ‌أولا: الإيمان بالله تعالى:

- ‌ثانيا: الإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم وأنه خاتم الأنبياء والمرسلين:

- ‌ثالثا: الإيمان بعموم الشريعة الإسلامية وشمولها وصلاحيتها لكل زمان ومكان

- ‌رابعا: الإيمان بكمال الشريعة الإسلامية ومرونتها وصلاحها للخلود إلى يوم القيامة

- ‌خامسا: الإيمان بأن الشريعة الإسلامية ناسخة لجميع الشرائع السابقة

- ‌حاجة الناس إلى شرع الله تعالى

- ‌النسخ في القرآن الكريم

- ‌مقدمة:

- ‌الفصل الأولالنسخ لغة واصطلاحا

- ‌الفصل الثانيالفرق بين النسخ والتخصيص

- ‌الفصل الثالثشروط النسخ

- ‌الفصل الرابعالآراء في حكم النسخ ومناقشتها

- ‌شبهات المنكرين للجواز العقلي وإبطالها

- ‌شبهات المنكرين للنسخ سمعا

- ‌ شبهة العنانية والشمعونية:

- ‌ شبهة النصارى:

- ‌ شبهة العيسوية:

- ‌ شبهة أبي مسلم:

- ‌الفصل الخامستفسير تحليلي للآيات الدالة على النسخ في القرآن الكريم

- ‌الفصل السادسما يقع فيه النسخ في القرآن

- ‌الفصل السابعأنواع النسخ في القرآن

- ‌آراء العلماء في أنواع النسخ

- ‌الفصل الثامنأمثلة للنسخ وما قيل إنه نسخ وليس بنسخ

- ‌خاتمة البحث

- ‌تقديم

- ‌نحو مجتمع أفضل:من هنا يجب أن نبدأ

- ‌تربية الطفل قبل ولادته:

- ‌تصنيف الطلاب شرط أساسي للنجاح:

- ‌الابتعاث وأثره في وجودنا:

- ‌ الراجفة تتبعها الرادفة

- ‌عبرة من القافقاس:

- ‌الوافدون وما أدراك ما الوافدون:

- ‌الإعلام بين الهدم والبناء:

- ‌مع غواة الغناء والموسيقى:

- ‌في صيدلية الإسلام علاج كل داء:

- ‌حديث شريف

الفصل: ‌الفصل الخامستفسير تحليلي للآيات الدالة على النسخ في القرآن الكريم

ثالثها: إن أبا مسلم على فرض أن خلافه مع الجمهور لفظي لا يعدو حدود التسمية نأخذ عليه أنه أساء مع الله في تحمسه لرأي قائم على تحاشي لفظ اختاره جلت حكمته، ودفع عن معناه بمثل قوله:{مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} (1) وهل بعد اختيار الله اختيار؟ وهل بعد تعبير الله تعبير؟.

رابعا: إن هناك فروقا بين النسخ والتخصيص وقد فصلناها فيما سبق.

(1) سورة البقرة الآية 106

ص: 235

‌الفصل الخامس

تفسير تحليلي للآيات الدالة على النسخ في القرآن الكريم

.

يستدل المجيزون للنسخ عقلا القائلون بوقوعه سمعا ببعض الآيات التي وردت فيها الإشارة إلى ذلك إما صراحة أو ضمنا.

فمما أشار إلى النسخ صراحة قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا} (1)(البقرة: 106) وما أشار إليه ضمنا قوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} (2)(المائدة: 48). وقوله تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} (3)(الرعد: 39)، وقوله تعالى:{وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ} (4)(النحل: 101) فهذه أربع آيات دلت إحداها دلالة صريحة على النسخ بمعنى أنها اشتملت على لفظه ودلت الثلاث الباقية عليه دلالة ضمنية.

وسنستعرض -تتميما للفائدة- ما قاله في تفسيرها بعض المفسرين لزيادة إيضاح المقصود من الاستدلال بها على جواز وقوع النسخ فنبدأ بالآية الأولى وهي آية البقرة (106) حيث يقول تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (5) فنبين أنهم اختلفوا في قراءتها في موضعين:

(1) سورة البقرة الآية 106

(2)

سورة المائدة الآية 48

(3)

سورة الرعد الآية 39

(4)

سورة النحل الآية 101

(5)

سورة البقرة الآية 106

ص: 235

أحدهما: في قوله {مَا نَنْسَخْ} (1) فإنهم اختلفوا فيه على وجهين فقرأ عبد الله بن عامر الشامي وحده (ما ننسخ) بضم النون وكسر السين. وقرأ الباقون {مَا نَنْسَخْ} (2) بفتح النون والسين.

والموضع الثاني: قوله تعالى {أَوْ نُنْسِهَا} (3) وقد اختلفوا في قراءته على خمسة أوجه بعضها معروف وبعضها شاذ. فقرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه (أو ننساها). بألف وكذلك قرأ النخعي ومجاهد وعبيد بن عمير وعبد الله بن كثير وأبو عمرو بن العلاء وقرأها علي رضي الله عنه {أَوْ نُنْسِهَا} (4) بنون مضمون من غير ألف ومن غير همزة وبه قرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي ويعقوب الحضرمي وهي أيضا قراءة الحسن وسعيد بن المسيب وقتادة.

وقرأ سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه (تنساها) بالتاء لقوله عز وجل: {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى} (5) وقوله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} (6)، وكذلك رواه شبابة عن أبي عمرو بن العلاء البصري وقرأها أبي بن كعب رضي الله عنه (أو ننسك) وحده. وقرأها عطاء بن أبي رباح (أو ننسئها) بياء مهموزة مكان الألف واختلاف هذه القراءة كلها معروفها وشاذها إن صحت الروايات فيها لاختلاف الغرض فتكون هذه الآية نازلة على هذه الوجوه كلها ويكون حكم ما اختلف لفظه واتفق معناه منها كقوله تعالى {فَانْفَجَرَتْ} (7) و" انبجست " وما اختلف لفظه ومعناه منها كقوله تعالى {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} (8) بالضاد واتفق معناه: البخيل. و (بظنين) بالظاء ومعناه المتهم (9) ومعنى هذه الآية على قراءة الجماعة أن الله جل ذكره يخبر عن نفسه يقول ما نرفع من حكم آية ونبق تلاوتها أو ننسكها يا محمد لا تحفظ تلاوتها نأت بخير منها لكم أي نأت بآية أخرى هي أصلح لكم وأسهل في التعبد أو نأت بمثلها

(1) سورة البقرة الآية 106

(2)

سورة البقرة الآية 106

(3)

سورة البقرة الآية 106

(4)

سورة البقرة الآية 106

(5)

سورة الأعلى الآية 6

(6)

سورة الكهف الآية 24

(7)

سورة البقرة الآية 60

(8)

سورة التكوير الآية 24

(9)

الناسخ والمنسوخ للبغدادي ص 57 - 60.

ص: 236

في العمل وأعظم في الأجر فهذا قول صحيح معروف وقد قيل: إن معناها: ما نرفع من حكم آية وتلاوتها نأت بخير منها أي أصلح لكم منها: وقال ابن زيد: إنساؤها محوها وتركها (1).

فأما قراءة من قرأ (أو ننساها) بالألف والنون فمعناه نؤخرها ويقال نسأت إذا أخرت ومنه قوله تعالى {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} (2) وإنما أراد به تأخيرهم الوقوف بعرفة عن ذي الحجة في كل عام بعشرة أيام ليقع حجهم أبدا في الربيع ويقال: أنسأت الشيء أنسأ، والنسيء اسم وضع موضع المصدر، ونسأ الله في أجله، وأنسأ الله أجله، أي أخره، وفي الحديث «من أحب أن ينسأ الله في أجله فليصل رحمه (3)» والنسأ التأخير وفي حديث عمر (ارموا فإن الرمي عدة، فإذا رميتم فانتسئوا عن البيوت) أي تأخروا عن البيوت. والمنسأة العصا لأنه يوخز بها الدابة يقال: نسأت الدابة إذا ضربتها بالمنسأة. قلت: ومنه قوله تعالى في عصا سليمان عليه السلام {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ} (4) ونسأت اللبن إذا جعلت فيه الماء ليكثر وهو النسوء وامرأة نسوء إذا كان مظنونا بها الحمل ونسوة نساء وإنما قيل لها نسوء؛ لأن الحمل زيادة فيها وإنما قيل نسأت اللبن؛ لأن الماء زيادة فيه.

والتأخير زيادة في أجل الشيء ومدته فقوله (ننسأها) معناها نؤخرها كما بينا ومن قرأ {نُنْسِهَا} (5) بضم النون وكسر السين فمعناه ما رواه عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن ابن عباس رضي الله عنهما (كان القرآن ينزل فيثبت الله منه ما يشاء وينسخ منه ما يشاء وعنده أم الكتاب).

ومن قرأ (أو تنساها) بالتاء أو قرأ (أو ننسك) أراد به نسيان النبي صلى الله عليه وسلم، فإن النسيان جائز عليه في صفته وغير جائز في صفة الله تعالى، ومن قرأها بياء مهموزة بدل الألف أراد به التأخير أيضا لأنه قرأها بالإمالة (6).

(1) الإيضاح ص62.

(2)

سورة التوبة الآية 37

(3)

صحيح البخاري البيوع (2067)، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2557)، سنن أبو داود الزكاة (1693)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 247).

(4)

سورة سبأ الآية 14

(5)

سورة البقرة الآية 106

(6)

الناسخ والمنسوخ ص 61 - 62.

ص: 237

وقال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية: قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} (1) ما نبدل من آية. وقال ابن جريج عن مجاهد: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} (2) أي ما نمحو من آية. وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} (3) قال: نثبت خطها ونبدل حكمها. حدث به عن أصحاب عبد الله بن مسعود رضي الله عنهم. وقال ابن أبي حاتم: وروي عن أبي العالية محمد بن كعب القرظي نحو ذلك. وقال الضحاك {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} (4) ما ننسك. وقال عطاء أما {مَا نَنْسَخْ} (5) فما نترك من القرآن. وقال ابن أبي حاتم يعني ترك فلم ينزل على محمد صلى الله عليه وسلم وقال السدي {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} (6) نسخها قبضها وقال ابن أبي حاتم: يعني قبضها رفعها مثل قوله (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة) وقوله «لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى لهما ثالثا (7)» وقال ابن جرير {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} (8) ما ينقل من حكم آية إلى غيره فنبدله ونغيره وذلك أن يحول الحلال حراما والحرام حلالا والمباح محظورا والمحظور مباحا ولا يكون ذلك إلا في الأمر والنهي والحظر والإطلاق والمنع والإباحة فأما الأخبار فلا يكون فيها ناسخ ولا منسوخ وأصل النسخ من نسخ الكتاب وهو نقله من نسخة أخرى إلى غيرها وكذلك معنى نسخ الحكم إلى غيره إنما هو تحويله ونقل عبارة إلى غيرها وسواء نسخ حكمها أو خطها إذ هي في كلتا حالتيها منسوخة. وأما علماء الأصول فاختلفت عبارتهم في حد النسخ، والأمر في ذلك قريب؛ لأن معنى النسخ الشرعي معلوم عند العلماء ولحظ بعضهم أنه رفع الحكم بدليل شرعي متأخر فاندرج في ذلك نسخ الأخف بالأثقل وعكسه والنسخ لا إلى بدله ولم يشأ رحمه الله أن يتوسع في تفصيل ذلك فقال وأما تفاصيل أحكام النسخ وذكر أنواعه وشروطه فمبسوطة في أصول الفقه. ثم قال: وقوله تعالى {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا} (9) يقول ما نبدل من آية أو نتركها لا نبدلها وقال عطية العوفي: أو ننسأها نؤخرها فلا ننسخها. وقال السدي مثله أيضا، وكذا الربيع بن أنس وقال الضحاك:(ما ننسخ من آية أو ننسأها) يعني الناسخ من المنسوخ. وقال أبو العالية: (ما ننسخ من آية أو ننسأها) نؤخرها

(1) سورة البقرة الآية 106

(2)

سورة البقرة الآية 106

(3)

سورة البقرة الآية 106

(4)

سورة البقرة الآية 106

(5)

سورة البقرة الآية 106

(6)

سورة البقرة الآية 106

(7)

صحيح البخاري الرقاق (6439)، صحيح مسلم الزكاة (1048)، سنن الترمذي الزهد (2337)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 122)، سنن الدارمي الرقاق (2778).

(8)

سورة البقرة الآية 106

(9)

سورة البقرة الآية 106

ص: 238

عندنا. وروى ابن جرير عن الحسن أنه قال في قوله {أَوْ نُنْسِهَا} (1) إن نبيكم صلى الله عليه وسلم قرأ قرآنا ثم نسيه وعن قتادة أيضا أنه قال: كان الله عز وجل ينسي نبيه صلى الله عليه وسلم ما يشاء وينسخ ما يشاء.

وقوله تعالى {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} (2) أي في الحكم بالنسبة إلى مصلحة المكلفين كما قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا} (3) يقول: خير لكم في المنفعة وأرفق بكم. وقال أبو العالية: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} (4) فلا نعمل بها (أو ننساها) أي نرجئها عندنا نأت بها أو نظيرها. وقال السدي {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} (5) يقول: نأت بخير من الذي نسخناه أو مثل الذي تركناه. وقال قتادة {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} (6) يقول آية فيها رخصة فيها أمر فيها نهي (7) اهـ.

وقال الإمام أبو الفرج بن الجوزي في تفسيره (زاد المسير): قوله تعالى {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} (8) سبب نزولها أن اليهود قالت لما نسخت القبلة: إن محمدا يحل لأصحابه إذا شاء ويحرم عليهم إذا شاء فنزلت هذه الآية. قال الزجاج: النسخ في اللغة إبطال شيء وإقامة آخر مقامه تقول العرب: نسخت الشمس الظل إذا أذهبته وحلت محله وفي المراد بهذا النسخ ثلاثة أقوال: أحدها: رفع اللفظ والثاني: تبديل الآية بغيرها رويا عن ابن عباس، والأول قول السدي والثاني قول مقاتل، والثالث: رفع الحكم مع بقاء اللفظ رواه مجاهد عن أصحاب ابن مسعود وقال أبو العالية: وقرأ ابن عامر (ما ننسخ) بضم النون وكسر السين. قال أبو علي: أي ما نجده منسوخا كقولك: أحمدت فلانا أي وجدته محمودا وإنما يجده منسوخا بنسخه إياه. قوله تعالى {أَوْ نُنْسِهَا} (9) قرأ ابن كثير وأبو عمرو (ننسأها) بفتح النون مع الهمزة والمعنى نؤخرها. قال أبو زيد: نسأت الإبل عن الحوض فأنا أنسأها إذا أخرتها، ومنه النسيئة في البيع وفي معنى نؤخرها ثلاثة أقوال: أحدها: نؤخرها عن

(1) سورة البقرة الآية 106

(2)

سورة البقرة الآية 106

(3)

سورة البقرة الآية 106

(4)

سورة البقرة الآية 106

(5)

سورة البقرة الآية 106

(6)

سورة البقرة الآية 106

(7)

تفسير ابن كثير ج1 ص 149 - 15.

(8)

سورة البقرة الآية 106

(9)

سورة البقرة الآية 106

ص: 239

النسخ فلا ننسخها قاله الفراء. والثاني: نؤخر إنزالها فلا ننزلها ألبتة. والثالث: نؤخرها عن العمل بها بنسخنا إياها حكاهما أبو علي الفارسي. وقرأ سعد بن أبي وقاص (تنسها) بتاء مفتوحة ونون وقرأ سعيد بن المسيب والضحاك (تنسها) بضم التاء وقرأ نافع (أو ننسها) بنونين الأولى مضمومة والثانية ساكنة أراد (أو ننسكها) من النسيان. قوله تعالى: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا} (1) قال ابن عباس بألين منها وأيسر على الناس. قوله تعالى {أَوْ مِثْلِهَا} (2) أي في الثواب والمنفعة فتكون الحكمة في تبديلها بمثلها الاختبار. اهـ (3) وجاء في تفسير العلامة أبي السعود (إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم) في تفسير هذه الآية قوله رحمه الله: ما ننسخ من آية أو ننسها. كلام مستأنف مسوق لبيان سر النسخ الذي هو فرد من أفراد تنزيل الوحي وإبطال مقالة الطاغين فيه إثر تحقيق حقيقة الوحي ورد كلام الكارهين له رأسا، قيل: نزلت حين قال المشركون أو اليهود: ألا ترون إلى محمد يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمر بخلافه. والنسخ في اللغة الإزالة والنقل يقال: نسخت الريح الأثر أي أزالته، ونسخت الكتاب أي نقلته، ونسخ الآية بيان انتهاء التعبد بقراءتها أو بالحكم المستفاد منها أو بهما جميعا.

وإنساؤها إذهابها من القلوب و (ما) شرطية جازمة (لننسخ) منتصبة به على المفعولية، وقرئ (ننسخ من انسخ) أي: نأمرك أو جبريل بنسخها أو تجدها منسوخة، وننسأها من النسيء أي نؤخرها، وننسها بالتشديد وتنسها وتنسها على خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم مبنيا للفاعل وللمفعول، وقرئ (ما ننسخ من آية أو ننسكها) وقرئ (ما ننسك من آية أو ننسخها) والمعنى: عن كل آية نذهب بها على ما تقتضيه الحكمة والمصلحة من إزالة لفظها أو حكمها أو كليهما معا إلى بدل أو إلى غير بدل.

(1) سورة البقرة الآية 106

(2)

سورة البقرة الآية 106

(3)

زاد المسير ج1 ص107 - 108.

ص: 240

{نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا} (1) أي نوع آخر هو خير للعباد، وبحسب الحال في النفع والثواب من الذاهبة، وقرئ بقلب الهمزة ألفا {أَوْ مِثْلِهَا} (2) أي فيما ذكر من النفع والثواب وهذا الحكم غير مختص بنسخ الآية التامة فما فوقها بل جار فيما دونها أيضا، وتخصيصها بالذكر باعتبار الغالب. والنص كما ترى دال على جواز النسخ، كيف لا وتنزيل الآيات التي عليها يدور فلك الأحكام الشرعية إنما هو بحسب ما يقتضيه من الحكم والمصالح، وذلك يختلف باختلاف الأحوال ويتبدل حسب تبدل الأشخاص والأبصار كأحوال المعاش فرب حكم تقتضيه الحكمة في حال تقتضي في حال أخرى نقيضه، فلو لم يجز النسخ لاختل ما بين الحكمة والأحكام من النظام. اهـ (3) وقال العلامة الشوكاني في تفسيره (فتح القدير) في معرض تفسيره لهذه الآية بعد أن عدد وجوه القراءات في {نُنْسِهَا} (4) وقرأ الباقون {نُنْسِهَا} (5) بضم النون من النسيان الذي بمعنى الترك أي نتركها فلا نبدلها ولا ننسخها ومنه قوله تعالى {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} (6) أي تركوا عبادته فتركهم في العذاب، واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم، وحكى الأزهري أن معناه نأمر بتركها، يقال: أنسيته الشيء أي أمرته بتركه ونسيته تركته ومنه قول الشاعر:

إن علي عقبة أقضيها

لست بناسيها ولا منسيها

أي ولا آمر بتركها. وقال الزجاج: إن القراءة بضم النون لا يتوجه فيها معنى الترك. لا يقال أنسي بمعنى ترك، قال: وما روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: {أَوْ نُنْسِهَا} (7) قال: نتركها لا نبدلها فلا يصح. والذي عليه أكثر أهل اللغة والنظر أن معنى {أَوْ نُنْسِهَا} (8) نبح لكم تركها، من نسي إذا ترك ثم تعديه، ومعنى {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} (9) نأت بما هو أنفع للناس منها في العاجل والآجل أو في أحدهما أو بما هو مماثل لها من غير زيادة، ومرجع ذلك إلى إعمال النظر في المنسوخ والناسخ، فقد يكون الناسخ أخف فيكون

(1) سورة البقرة الآية 106

(2)

سورة البقرة الآية 106

(3)

تفسير أبي السعود ج1 ص 233 - 234.

(4)

سورة البقرة الآية 106

(5)

سورة البقرة الآية 106

(6)

سورة التوبة الآية 67

(7)

سورة البقرة الآية 106

(8)

سورة البقرة الآية 106

(9)

سورة البقرة الآية 106

ص: 241

أنفع لهم في العاجل، وقد يكون أثقل وثوابه أكثر فيكون أنفع لهم في الآجل، وقد يستويان فتحصل المماثلة. وقوله {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (1) يفيد أن النسخ من مقدوراته وأن إنكاره إنكار للقدرة الإلهية. وهكذا قوله {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (2) أي له التصرف في السماوات والأرض بالإيجاد والاختراع ونفوذ الأمر في جميع مخلوقاته فهو أعلم بمصالح عباده وما فيه النفع لهم من أحكامه التي تعبدهم بها وشرعها لهم، وقد يختلف ذلك باختلاف الأحوال والأزمنة والأشخاص، وهذا صنع من لا ولي لهم غيره ولا نصير سواه، فعليهم أن يتلقوه بالقبول والامتثال والتعظيم والإجلال. ثم قال رحمه الله في آخر تفسيره لهذه الآية: وقد ثبت في البخاري وغيره عن أنس: «أن الله أنزل في الذين قتلوا في بئر معونة (أن بلغوا قومنا أن قد لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا (3)» ثم نسخ. وهكذا ثبت في مسلم وغيره، عن أبي موسى قال: كنا نقرأ سورة نشبهها في الطول والشدة ببراءة فأنسيتها غير أني حفظت منها (ولو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى لهما ثالثا ولا يملأ جوفه إلا التراب) وكنا نقرأ سورة نشبهها بإحدى المسبحات أولها (سبح لله ما في السماوات) فأنسيناها غير أني حفظت منها (يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون فتكتب شهادة في أعناقكم فتسألوا عنها يوم القيامة) وقد روي مثل هذا من طريق جماعة من الصحابة ومنه آية الرجم كما رواه عبد الرزاق وأحمد وابن حبان عن عمر (4) اهـ.

(1) سورة البقرة الآية 106

(2)

سورة البقرة الآية 107

(3)

صحيح البخاري المغازي (4091)، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (677)، سنن النسائي كتاب التطبيق (1077)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 215).

(4)

فتح القدير للشوكاني ج1 ص 125 - 127.

ص: 242

وقال العلامة عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله في تفسيره الموسوم (تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان) عند تفسيره لهذه الآية: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (1){أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} (2) النسخ هو النقل، فحقيقة النسخ نقل المكلفين من حكم

(1) سورة البقرة الآية 106

(2)

سورة البقرة الآية 107

ص: 242

مشروع إلى حكم آخر أو إلى إسقاطه وكان اليهود ينكرون النسخ ويزعمون أنه لا يجوز، وهو مذكور عندهم في التوراة، فإنكارهم له كفر وهوى محض، فأخبر الله تعالى عن حكمته في النسخ فقال:{مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا} (1) أي ننسها العباد فنزيلها من قلوبهم، نأت بخير منها وأنفع لكم {أَوْ مِثْلِهَا} (2) فدل على أن النسخ لا يكون لأقل مصلحة لكم من الأول؛ لأن فضله تعالى يزداد خصوصا على هذه الأمة التي سهل عليها دينها غاية التسهيل، وأخبر أن من قدح في النسخ قدح في ملكه وقدرته، فقال:{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (3){أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (4) فإذا كان مالكا لكم متصرفا فيكم تصرف المالك البر الرحيم في أقداره وأوامره ونواهيه، فكما أنه لا حجر عليه في تقدير ما يقدره على عباده من أنواع التقادير، كذلك لا يعترض عليه فيما يشرعه لعباده من الأحكام، فالعبد مدبر مسخر تحت أوامر ربه الدينية والقدرية فما له والاعتراض، وهو أيضا ولي عباده فيتولاهم في تحصيل منافعهم وينصرهم في دفع مضارهم، فمن ولايته لهم أن يشرع لهم من الأحكام ما تقتضيه حكمته ورحمته بهم. ومن تأمل ما وقع في القرآن والسنة من النسخ عرف بذلك حكمة الله ورحمته عباده وإيصالهم إلى مصالحهم من حيث لا يشعرون بلطفه (5) اهـ.

2 -

والآية الثانية التي سنذكر ما قاله بعض المفسرين في تفسيرها مما استدلوا به على جواز وقوع النسخ هي قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} (6) الآية.

وشاهدنا منها قوله عز وجل: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} (7) قال ابن

(1) سورة البقرة الآية 106

(2)

سورة البقرة الآية 106

(3)

سورة البقرة الآية 106

(4)

سورة البقرة الآية 107

(5)

تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان ج1 ص58.

(6)

سورة المائدة الآية 48

(7)

سورة المائدة الآية 48

ص: 243

الجوزي رحمه الله في تفسيره عند كلامه على هذه الآية وللمفسرين في معنى الكلام قولان: أحدهما: لكل ملة جعلنا شرعة ومنهاجا فلأهل التوراة شريعة ولأهل الإنجيل شريعة ولأهل القرآن شريعة. هذا قول الأكثرين. قال قتادة: الخطاب للأمم الثلاث أمة موسى وعيسى وأمة محمد فللتوراة شريعة وللإنجيل شريعة وللفرقان شريعة يحل الله فيها ما يشاء ويحرم ما يشاء بلاء ليعلم من يطيعه ممن يعصيه، ولكن الدين الواحد الذي لا يقبل غيره التوحيد والإخلاص لله الذي جاءت به الرسل. والقول الثاني: إن المعنى لكل من دخل في دين محمد جعلنا القرآن شرعة ومنهاجا. هذا قول مجاهد (1).

وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله عند تفسيره لهذه الآية: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} (2) وقال ابن أبي حاتم بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سبيلا وعنه أيضا " منهاجا " قال سنة. وكذا رواه العوفي عن ابن عباس {شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} (3) سبيلا وسنة وكذا روي عن مجاهد وعكرمة والحسن البصري وقتادة والضحاك والسدي وأبي إسحاق السبيعي أنهم قالوا في قوله: {شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} (4) أي سبيلا وسنة. إلى أن قال رحمه الله بعد أن نقل قولا حكاه ابن جرير عن مجاهد: إن المخاطب بهذه الآية هذه الأمة، ومعناه لكل جعلنا القرآن منكم أيتها الأمة شرعة ومنهاجا أي هو لكم كلكم تقتدون به. . . إلخ. قال:(والصحيح القول الأول) ويعني به ما قاله قبل ذلك من أن هذا إخبار عن الأمم المختلفة الأديان باعتبار ما بعث الله به رسله الكرام من الشرائع المختلفة في الأحكام المتفقة في التوحيد، ويدل على ذلك قوله تعالى بعده:{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} (5) فلو كان هذا الخطاب لهذه الأمة لما صح أن يقول {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} (6) وهم أمة واحدة ولكن هذا خطاب لجميع الأمم وإخبار عن قدرته تعالى العظيمة التي لو شاء لجمع الناس كلهم على دين واحد وشريعة واحدة لا ينسخ شيء منها، ولكنه تعالى شرع

(1) زاد المسير ج2 ص 372 - 373.

(2)

سورة المائدة الآية 48

(3)

سورة المائدة الآية 48

(4)

سورة المائدة الآية 48

(5)

سورة المائدة الآية 48

(6)

سورة المائدة الآية 48

ص: 244

لكل رسول شريعة على حدة ثم نسخها أو بعضها برسالة الآخر الذي بعده حتى نسخ الجميع بما بعث به عبده ورسوله محمدا صلى الله عليه وسلم الذي ابتعثه إلى أهل الأرض قاطبة وجعله خاتم الأنبياء كلهم (1) اهـ.

وقال العلامة الشوكاني في تفسير هذه الآية: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} (2) الشرعة والشريعة في الأصل: الطريقة الظاهرة التي يتوصل بها إلى الماء ثم استعملت فيما شرعه الله لعباده من الدين. والمنهاج: الطريقة الواضحة البينة. وقال أبو العباس محمد بن يزيد المبرد. الشريعة ابتداء الطريق، والمنهاج الطريق المستمر ومعنى الآية أنه جعل التوراة لأهلها والإنجيل لأهله والقرآن لأهله وهذا قبل نسخ الشرائع السابقة بالقرآن وأما بعده فلا شرعة ولا منهاج إلا ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم (3) اهـ.

وقال العلامة ابن سعدي في تفسيره لهذه الآية {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ} (4) أيها الأمم {شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} (5) أي سبيلا وسنة وهذه الشرائع التي تختلف باختلاف الأمم هي التي تتغير بحسب تغير الأزمنة والأحوال وكلها ترجع إلى العدل في وقت شرعتها وأما الأصول الكبار التي هي مصلحة وحكمة في كل زمان فإنها لا تختلف فتشرع في جميع الشرائع (6) اهـ.

وقال صاحب تفسير المنار محمد رشيد رضا رحمه الله في تفسيره عند كلامه على هذه الآية {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} (7) فهذه الجملة بيان لتعليل الأمر والنهي قبلها أي لكل رسول أو كل أمة منكم أيها المسلمون والكتابيون أو أيها الناس جعلنا شريعة أوجبنا عليهم إقامة أحكامها وطريقا للهداية فرضنا عليهم سلوكه لتزكية أنفسهم وإصلاحها؛ لأن الشرائع العملية وطرق التزكية الأدبية تختلف باختلاف أحوال الاجتماع واستعداد البشر،

(1) تفسير ابن كثير ج2 ص 66.

(2)

سورة المائدة الآية 48

(3)

فتح القدير ج2 ص48.

(4)

سورة المائدة الآية 48

(5)

سورة المائدة الآية 48

(6)

تيسير الكريم الرحمن ج2 ص141.

(7)

سورة المائدة الآية 48

ص: 245

وإنما اتفق جميع الرسل في أصل الدين وهو توحيد الله وإسلام الوجه له بالإخلاص والإحسان. ثم استعرض معاني الشرعة والمنهاج في اللغة واستعرض ما أخرجه غير واحد من رواة التفسير المأثور في تفسير الآية إلى أن قال رحمه الله: وظاهر من قول قتادة أن الشريعة أخص من الدين إن لم تكن مباينة له وأنها الأحكام العملية التي تختلف باختلاف الرسل وينسخ لاحقها سابقها وأن الدين هو الأصول الثابتة التي لا تختلف باختلاف الأنبياء (1) اهـ.

3 -

الآية الثالثة التي نريد استعراض أقوال بعض المفسرين في تفسيرها مما استدلوا به على جواز وقوع النسخ هي قوله تعالى في سورة الرعد آية 39 {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} (2) فقد قال أبو الفرج بن الجوزي عند تفسيره لهذه الآية: قوله تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} (3) قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم ويثبت ساكنة الثاء خفيفة الباء. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي (ويثبت) مشددة الباء مفتوحة الثاء قال أبو علي: المعنى ويثبته فاستغنى بتعدية الأول من الفعلين عن تعدية الثاني.

واختلف المفسرون في المراد بالذي يمحو ويثبت على ثمانية أقوال، ثم مضى رحمه الله يعدد تلك الأقوال الثمانية وكلها لا صلة لها بمبحثنا إلا الثاني منها فهو المتعلق بموضوعنا حيث قال: والثاني أنه الناسخ والمنسوخ فيمحو المنسوخ ويثبت الناسخ روى هذا المعنى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس وبه قال سعيد بن جبير وقتادة والقرظي وابن زيد وقال ابن قتيبة يمحو الله ما يشاء أي ينسخ من القرآن ما يشاء ويثبت أي يدعه ثابتا لا ينسخه وهو المحكم (4) اهـ.

وقال الحافظ أبو الفداء بن كثير في تفسيره عند كلامه على هذه الآية

(1) تفسير المنار ج6 ص413.

(2)

سورة الرعد الآية 39

(3)

سورة الرعد الآية 39

(4)

زاد المسير ج4 ص 337.

ص: 246

يمحو الله ما يشاء منها، أي من الكتب المنزلة من السماء من عند الله حيث نقل في تفسيره للآية التي قبلها وهي قوله تعالى:{لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} (1) قول الضحاك بن مزاحم: أي لكل كتاب أجل يعني لكل كتاب أنزله من السماء مدة مضروبة عند الله ومقدار معين فلهذا يمحو الله ما يشاء منها ويثبت يعني حتى نسخت بالقرآن الذي أنزله الله على رسوله صلوات الله وسلامه عليه، ثم أورد رحمه الله اختلافات المفسرين في تفسير الآية التي نحن بصددها إلى أن قال: ومعنى هذه الأقوال أن الأقدار ينسخ الله ما يشاء منها ويثبت منها ما يشاء. ثم مضى بعد ذلك إلى أن قال: وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس يمحو الله ما يشاء ويثبت يقول يبدل ما يشاء فينسخه ويثبت ما يشاء فلا يبدله {وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} (2) وجملة ذلك عنده في أم الكتاب الناسخ وما يبدل وما يثبت كل ذلك في كتاب.

وقال قتادة في قوله يمحو الله ما يشاء ويثبت كقوله {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا} (3)(4) الآية اهـ.

وقال أبو السعود في تفسيره لهذه الآية يمحو الله ما يشاء أي ينسخ ما يشاء نسخه من الأحكام لما تقتضيه الحكمة بحسب الوقت ويثبت بدله المصلحة أو يبقيه على حاله غير منسوخ (5) اهـ.

وكذلك أورد الشوكاني في (فتح القدير) ما أورد الحافظ ابن كثير في تفسيره الذي نقلناه آنفا عن ابن عباس للآية من أن المراد: يبدل ما يشاء فينسخه. . . إلخ. وقد قال في إسناده: وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في المدخل عن ابن عباس ثم حكاه (6) اهـ.

(1) سورة الرعد الآية 38

(2)

سورة الرعد الآية 39

(3)

سورة البقرة الآية 106

(4)

تفسير ابن كثير ج2 ص 519 - 520.

(5)

تفسير أبي السعود ج3 ص232.

(6)

فتح القدير ج3 ص89.

ص: 247

4 -

والآية الرابعة والأخيرة من الآيات التي استدلوا بها على جواز النسخ هي قوله سبحانه {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} (1) النحل (101) والمعنى وإذا نسخنا آية بآية إما نسخ الحكم والتلاوة أو نسخ الحكم مع بقاء التلاوة {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ} (2) من ناسخ ومنسوخ وتشديد وتخفيف فهو عليم بالمصلحة في ذلك {قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ} (3) أي كاذب {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} (4) فيه قولان: أحدهما: لا يعلمون أن الله أنزله. والثاني: لا يعلمون فائدة النسخ (5) اهـ.

وقال الحافظ أبو الفداء إسماعيل بن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره لهذه الآية: يخبر تعالى عن ضعف عقول المشركين وقلة ثباتهم وإيقانهم وأنه لا يتصور منهم الإيمان وقد كتبت عليهم الشقاوة وذلك أنهم إذا رأوا تغير الأحكام ناسخها بمنسوخها قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: {إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ} (6) أي كذاب وإنما هو الرب تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. وقال مجاهد: {بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ} (7) أي رفعناها وأثبتنا غيرها. وقال قتادة هو كقوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا} (8) الآية (9) وقال العلامة أبو السعود بن محمد العمادي الحنفي في تفسيره عند هذه الآية {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ} (10) أي إذا أنزلنا آية من القرآن مكان آية منه وجعلناها بدلا منها بأن نسخناها بها {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ} (11) أولا وآخرا وبأن كلا من ذلك ما نزلت حيثما نزلت إلا حسبما تقتضيه الحكمة والمصلحة فإن كل وقت له مقتضى غير مقتضى الآخر فكم من مصلحة في وقت تنقلب في وقت آخر مفسدة وبالعكس لانقلاب الأمور الداعية إلى ذلك وما الشرائع إلا مصلحة للعباد في المعاش والمعاد تدور حسبما تدور المصالح. والجملة إما

(1) سورة النحل الآية 101

(2)

سورة النحل الآية 101

(3)

سورة النحل الآية 101

(4)

سورة النحل الآية 101

(5)

زاد المسير ج4 ص491.

(6)

سورة النحل الآية 101

(7)

سورة النحل الآية 101

(8)

سورة البقرة الآية 106

(9)

تفسير ابن كثير ج2 ص586.

(10)

سورة النحل الآية 101

(11)

سورة النحل الآية 101

ص: 248

معترضة لتوبيخ الكفرة والتنبيه على فساد رأيهم. وفي الالتفات إلى الغيبة مع إسناد الخبر إلى الاسم الجليل المستجمع للصفات ما لا يخفى من تربية المهابة وتحقيق معنى الاعتراض أو حالية وقرئ بالتخفيف من الإنزال قالوا أي الكفرة الجاهلون بحكمة النسخ {إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ} (1) أي متقول على الله تعالى تأمر بشيء ثم يبدو لك فتنهى عنه وحكاية هذا القول عنهم هاهنا للإيذان بأن ذلك كفرة ناشئة من نزغات الشيطان وأنه وليهم {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} (2) أي لا يعلمون شيئا أصلا أو لا يعلمون أن في النسخ حكما بالغة وإسناد هذا الحكم إلى الأكثر لما أن منهم من يعلم ذلك وإنما ينكره عنادا (3) اهـ.

وقال العلامة الشوكاني في تناوله لتفسير هذه الآية {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ} (4) هذا شروع منه سبحانه في حكاية شبه كفرية ودفعها ومعنى التبديل رفع الشيء مع وضع غيره مكانه. وتبديل الآية رفعها بأخرى غيرها وهي نسخها بآية سواها. وقد تقدم الكلام في النسخ في البقرة قالوا أي كفار قريش الجاهلون للحكمة في النسخ: إنما أنت يا محمد مفتر أي كاذب مختلق على الله متقول عليه بما لم يقل حيث تزعم أنه أمرك بشيء ثم تزعم أنه أمرك بخلافه فرد الله سبحانه عليهم بما يفيد جهلهم فقال {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} (5) شيئا من العلم أصلا أو لا يعلمون الحكمة في النسخ فإنه مبني على المصالح التي يعلمها الله سبحانه، فقد يكون في شرع هذا الشيء مصلحة مؤقتة بوقت ثم تكون المصلحة بعد ذلك الوقت في شرع غيره. لو انكشف الغطاء لهؤلاء الكفرة لعرفوا أن ذلك وجه الصواب ومنهج العدل والرفق واللطف ثم بين سبحانه لهؤلاء المعترضين على حكمة النسخ الزاعمين أن ذلك لم يكن من عند الله وأن رسوله صلى الله عليه وسلم افتراه فقال {قُلْ نَزَّلَهُ} (6) أي القرآن المدلول عليه بذكر الآية {رُوحُ الْقُدُسِ} (7) أي جبريل والقدس التطهير والمعنى: نزله الروح المطهر من أدناس البشرية فهو من إضافة

(1) سورة النحل الآية 101

(2)

سورة النحل الآية 101

(3)

تفسير أبي السعود ج3 ص400 - 401.

(4)

سورة النحل الآية 101

(5)

سورة النحل الآية 101

(6)

سورة النحل الآية 102

(7)

سورة النحل الآية 102

ص: 249

الموصوف إلى الصفة من ربك أي ابتداء تنزيله من عنده سبحانه و {بِالْحَقِّ} (1) في محل نصب على الحال أي متلبسا بكونه حقا ثابتا لحكمة بالغة {لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا} (2) على الإيمان فيقولون: كل من الناسخ والمنسوخ من عند ربنا ولأنهم أيضا إذا عرفوا ما في النسخ من المصالح ثبتت أقدامهم على الإيمان ورسخت عقائدهم (3) اهـ.

وقال العلامة عبد الرحمن بن ناصر بن سعدي رحمه الله تعالى في تفسيره لهذه الآية: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ} (4) الآية. يذكر تعالى أن المكذبين بهذا القرآن يتتبعون ما يرونه حجة لهم وهو أن الله تعالى هو الحاكم الحكيم الذي يشرع الأحكام ويبدل حكما مكان آخر لحكمته ورحمته فإذا رأوه كذلك قدحوا في الرسول وبما جاء به و {قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ} (5) قال الله تعالى: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} (6) منهم جهال لا علم لهم بربهم ولا بشرعه. إلى أن قال رحمه الله عند تفسير قوله تعالى بعد ذلك {لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا} (7) عند نزول آياته وتواردها عليهم وقتا بعد وقت فلا يزال الحق يصل إلى قلوبهم شيئا فشيئا حتى يكون إيمانهم أثبت من الجبال الرواسي وأيضا فإنهم يعلمون أنه الحق وإذا شرع حكما من الأحكام ثم نسخه علموا أنه أبدله بما هو مثله أو خير منه لهم وأن نسخه هو المناسب للحكمة الربانية والمناسبة العقلية (8)

(1) سورة النحل الآية 102

(2)

سورة النحل الآية 102

(3)

فتح القدير ج3 ص194.

(4)

سورة النحل الآية 101

(5)

سورة النحل الآية 101

(6)

سورة النحل الآية 101

(7)

سورة النحل الآية 102

(8)

تيسير الرحمن ج4 ص 118.

ص: 250