الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأخبار المؤرخين، إلا ما ندر منه ولا غنى عنه للتبيين، واعتضت من ذلك تبيين آي الأحكام، بمسائل تسفر عن معناها، وترشد الطالب إلى مقتضاها، فضمنت كل آية تتضمن حكما أو حكمين فما زاد مسائل نبيّن فيها ما تحتوي عليه من أسباب النزول والتفسير والغريب والحكم، فإن لم تتضمن حكما ذكرت ما فيها من التفسير والتأويل، هكذا إلى آخر الكتاب، وسميته ب (الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان
…
» (1).
والذي يقرأ في هذا التفسير يجد أن القرطبي، رحمه الله، قد وفّى بما شرطه على نفسه في هذا التفسير، فهو يعرض لذكر أسباب النزول والقراءات، والإعراب، ويبين معنى الغريب من ألفاظ القرآن، ويحتكم إلى اللغة كثيرا، ويكثر من الاستشهاد بأشعار العرب، وهو ينقل عن السلف كثيرا مما أثر عنهم في التفسير والأحكام، مع نسبة كل قول إلى قائله، وممن نقل عنهم كثيرا: ابن جرير الطبري، وابن عطية، وابن العربي، والكيا الهراسي، وأبو بكر الجصاص (2).
والقرطبي حين يبحث في آيات الأحكام، ويذكر مسائل الخلاف، يورد أدلة كل رأي، ويعلق عليها، ولا يتعصب لمذهبه المالكي، فربما رجح رأي غير الإمام مالك في بعض المسائل، وهو حين يرد أو ينقد فإنه يسوق ذلك في أدب وعفة، ويبتعد عن التعصب والتجريح (3).
رابعا- من التفاسير المتأثرة بالنزعة العقلية:
«التفسير الكبير- للفخر الرازي»
اعتمد عدد من المفسرين على النظرة العقلية في تفسير القرآن الكريم، فتوسعوا في تفسير آيات العقيدة والآيات الكونية، مستندين إلى ما تمخضت عنه
(1) الجامع لأحكام القرآن 1/ 2 - 3.
(2)
ينظر: محمد حسين الذهبي 2/ 458.
(3)
ينظر: مناع القطان: مباحث في علوم القرآن ص 380 - 381.
الحضارة الإسلامية من ثقافة وعلوم عقلية في العصور المتعاقبة، فظهر أثر ذلك على عدد من التفاسير أشهرها (1):
1 -
التفسير الكبير المسمى مفاتيح الغيب- لأبي عبد الله محمد بن عمر فخر الدين الرازي، المتوفى سنة 606 هـ.
2 -
أنوار التنزيل وأسرار التأويل- للقاضي ناصر الدين عبد الله بن عمر البيضاوي، المتوفى سنة 685 هـ على خلاف.
3 -
مدارك التنزيل وحقائق التأويل- لأبي البركات عبد الله بن أحمد بن محمود النسفي، المتوفى سنة 701 هـ.
4 -
غرائب القرآن ورغائب الفرقان- لنظام الدين بن الحسن النيسابوري، المتوفى سنة 728 هـ.
5 -
لباب التأويل في معاني التنزيل- لعلاء الدين أبي الحسن علي بن محمد بن إبراهيم، المعروف بالخازن، المتوفى سنة 741 هـ.
6 -
السراج المنير في الإعانة على معرفة معاني كلام ربنا الحكيم الخبير- لمحمد ابن محمد، المعروف بالخطيب الشربيني، المتوفى سنة 977 هـ.
7 -
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم- لأبي السعود محمد بن محمد ابن مصطفى المتوفى بالقسطنطينية سنة 982 هـ.
ولم يكن الرازي أول من اتجه بالتفسير هذه الوجهة، لكنه كان أكثر توسعا من غيره فيها، وفتح الطريق واسعا للمفسرين من بعده للمضي فيه، فظهرت مجموعة من
التفاسير اعتمدت على النظرة العقلية في تفسير القرآن، من غير أن تهمل التفسير المنقول، وكانت هذه التفاسير تعكس في الغالب شخصية المفسر
(1) ينظر: محمد حسين الذهبي: التفسير والمفسرون 1/ 289.
العلمية، فتنوعت لذلك طريقة معالجة تفسير الآيات في هذه التفاسير ولكن جميعها تعتمد على النظرة العقلية والاجتهاد في التفسير بالرأي المبني على الدليل، وسوف نتحدث عن تفسير الرازي الذي يقف في مقدمة هذه المجموعة من التفاسير.
أما الرازي فهو محمد بن عمر بن الحسين، أبو عبد الله، فخر الدين المفسّر، المتكلم، إمام وقته في العلوم العقلية، وأحد الأئمة في العلوم الشرعية، صاحب المصنفات المشهورة، والفضائل الغزيرة المذكورة، ولد في شهر رمضان سنة 544 هـ، ببلاد الري، وكانت وفاته في يوم الاثنين يوم عيد الفطر من سنة 606 هـ بمدينة هراة (1).
وكانت قاعدة ثقافة الرازي واسعة جدا، يظهر ذلك من قائمة كتبه، فهي في معارف متنوعة، وفنون عدة: في العلوم النقلية والعقلية والطبيعية، فقد ألّف في تفسير القرآن، والفقه، واللغة، والأدب، والتاريخ، وعلم الكلام، والمنطق، والفلسفة، والرياضة، والفلك، والطب (2).
وتفسير الرازي هو (التفسير الكبير)، ويسمى أيضا (مفاتيح الغيب)، وكان هناك شك في إتمام الرازي تأليف هذا التفسير، وقيل: إنه كتب معظمه وأتمه بعض المتأخرين (3)، لكن رجح بعض الباحثين المحدثين أن يكون الرازي قد كتب التفسير كله (4).
(1) تنظر ترجمة الرازي عند: الداودي: طبقات المفسرين 2/ 213 - 217.
(2)
ينظر: محسن عبد الحميد: الرازي مفسرا ص 19 و 35. والداودي: طبقات المفسرين 2/ 216.
(3)
محمد الفاضل بن عاشور: التفسير ورجاله ص 119، ومحمد حسين الذهبي: التفسير والمفسرون 1/ 291.
(4)
محسن عبد الحميد: الرازي مفسرا ص 52 - 63.
والرازي حين بدأ بتفسير سورة الفاتحة أطال الكلام فيها كثيرا، وأورد في تفسيرها من المسائل والفوائد الشيء الكثير، لكنه عاد حين أخذ في تفسير سورة البقرة إلى المنهج المعروف في التفسير الذي يدور على ألفاظ وعبارات الآيات القرآنية بشكل مباشر، ومع ذلك فإن تفسير الرازي يعد من التفاسير المطولة، لكثرة المسائل التي يثيرها الرازي وهو يفسر آيات القرآن.
وأكثر الرازي في تفسيره من إيراد قضايا علم الكلام ومسائل العقيدة، لأنه يعتقد أن هذا العلم من أشرف العلوم، بسبب اتصاله بالله الخالق، سبحانه وتعالى، لأنه لا طريق، في رأيه، إلى معرفة الله تعالى إلا بالنظر والاستدلال.
والناظر في هذا التفسير يجد نفسه أمام منهج عقلي يقوم على ما امتاز به الرازي من غزارة في العلم وقوة في الحجة. وهذا الاتجاه العقلي عند الرازي في تفسيره لا يعني أنه كان يفضل ثمرات العقول على صحيح المنقول، فإنه كان إذا ثبت النقل فسر الآية به، ولم يعدل عنه إلى غيره، فالمقصود بالمنهج العقلي عند الرازي هو تفسير القرآن الكريم فيما لم يرد فيه نص، لأن النقل إذا ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان وحيا من الله تعالى، قاطعا في معناه، غير مخالف لما تؤدي إليه العقول، لأن النقل الصحيح لا يخالف العقل الصريح، لأنهما صادران من مبدع واحد، فمن المحال أن يتعارضا تعارضا حقيقيا (1).
والرازي في تفسيره يهتم بكثير من القضايا ذات الصبغة العامة، فهو يكثر من الاستطراد إلى العلوم الرياضية والطبيعية، عند تفسير الآيات الكونية، ويناقش مسائل العقيدة كلما سنحت الفرصة لذلك، وهو لا يكاد يمر بآية من آيات الأحكام إلا يذكر مذاهب الفقهاء فيها، ويستطرد كذلك إلى ذكر المسائل الأصولية والنحوية والبلاغية، ومؤكدا على مظاهر ووجوه إعجاز القرآن، وبالجملة فالكتاب أشبه بموسوعة في التفسير وعلم الكلام وعلوم الكون والطبيعة (2).
(1) ينظر: المصدر السابق ص 67 وما بعدها.
(2)
ينظر: محمد حسين الذهبي: التفسير والمفسرون 1/ 294.