الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث السابع القراءات القرآنية في الوقت الحاضر
أولا- انتشار قراءة عاصم بن أبي النجود:
دأب علماء القراءة بعد عصر ابن مجاهد، على رواية القراءات السبع، والتأليف فيها، وزاد بعضهم القراءات الثلاث المتممة للعشر، وصارت القراءات العشر مدار القراءة والإقراء، ويميل بعض العلماء من المتأخرين إلى تقسيم القراءات على ثلاثة أقسام: قسم اتفقوا على تواتره وهو السبع، وقسم اختلفوا فيه والراجح أنه متواتر وهو الثلاث بعدها، وقسم متفق على شذوذه وهو ما عدا العشر (1).
وقد تلقت الأمة على مدى العصور القراءات الصحيحة بالقبول، وهي لا ترى أن بعضها أولى من بعض بالقراءة، قال مكي بن أبي طالب القيسي (ت 437 هـ):
«والقراءات الثابتة عندنا كلها من السّنّة التي لا مدفع فيها لأحد» (2). وكان السلف بعضهم يقرأ بهذه القراءة وبعضهم يقرأ بتلك، ولم ينكر واحد على الآخر قراءته، ولم يوجب أحد القراءة بقراءة معينة أو بجميع القراءات الصحيحة، قال الطبري:
«الأمة أمرت بحفظ القرآن وخيّرت في قراءته وحفظه بأي تلك الأحرف السبعة شاءت، كما أمرت إذا هي حنثت في يمين وهي موسرة أن تكفّر بأي الكفارات شاءت: إما بعتق أو إطعام أو كسوة
…
» (3).
ويبدو أن المسلمين اتجهوا في العصور المتأخرة إلى القراءة ببعض القراءات دون بعض، على الرغم من أن رواية العلماء للقراءات المأثورة لم تنقطع، فقد ظل علماء القراءة يحرصون على رواية القراءات السبع وغيرها، بينما صار جمهور
(1) السيوطي: الإتقان 1/ 210، والقسطلاني: لطائف الإشارات 1/ 170.
(2)
التبصرة ص 230.
(3)
جامع البيان 1/ 25.
الناس يكتفون بضبط قراءة واحدة يتلون بها كتاب الله تعالى، وأدى ذلك خلال القرون المتلاحقة إلى انتشار قراءات معينة وانحسار أخرى، بحيث صارت لا تعرف إلا في الكتب، ولا يضبطها إلا المتخصصون بدراسة القراءات وروايتها.
وأكثر القراءات انتشارا في العالم الإسلامي اليوم قراءة عاصم، ويقرأ المسلمون في بلاد المغرب برواية ورش عن نافع، وفي بلاد السودان برواية الدوري عن أبي عمرو بن العلاء، لكن قراءة عاصم آخذة بالانتشار في تلك البلدان أيضا.
ولم يكن تميز قراءة عاصم بالأمر الذي حدث في العصور المتأخرة، فهذا الإمام أحمد بن حنبل المتوفى سنة 241 هـ يسأله ابنه صالح: أي القراءة أحب إليك؟ فقال: قراءة نافع، قال: فإن لم توجد؟ قال: قراءة عاصم (1).
وقال مكي عن قراءة عاصم: «فقراءته مختارة عند من رأيت من الشيوخ، مقدّمة على غيرها، لفصاحة عاصم، ولصحة سندها، وثقة ناقلها» (2). فهذه ثلاثة أسباب ذكرها مكي لتميز قراءة عاصم، سوف نقف على شواهدها التاريخية بعد قليل، إن شاء الله.
وليس من اليسير القول إن قراءة عاصم سادت بلدان المشرق الإسلامي في قرن معين، ولكن لدينا شواهد وأقوال توضح جانبا من هذه القضية الكبيرة، منها أن الخطيب البغدادي ذكر أن أحمد بن سهل الأشناني المتوفى سنة 307 هـ «هو أحد القراء المجودين، قرأ على عبيد بن الصبّاح روايته عن حفص بن سليمان حرف عاصم بن أبي النجود، واشتهر بهذه القراءة» (3).
وتمضي قرون حتى نلتقي بقول أبي حيان الأندلسي (ت 754 هـ) الذي يذكر فيه أن قراءة نافع هي التي ينشأ عليها أهل المغرب وأن قراءة عاصم هي القراءة
(1) السخاوي: جمال القراء 2/ 464.
(2)
التبصرة ص 219.
(3)
تاريخ بغداد 4/ 185.
التي ينشأ عليها أهل العراق (1). وهذا دليل تاريخي يؤكد سيادة قراءة عاصم في العراق في القرن الثامن الهجري.
ونلتقي بنص آخر من القرن الثاني عشر الهجري يدل على انتشار قراءة عاصم إلى مناطق خارج العراق، فهذا محمد المرعشي المتوفى سنة 1150 هـ يقول:
والمأخوذ به في ديارنا قراءة عاصم برواية حفص عنه (2)، وهو يعني بلدته مرعش، وهي مدينة بين الشام وبلاد الروم (3). وهي اليوم تابعة لتركيا تقع جنوبيها.
ولعل اختراع المطابع وطباعة المصاحف بها قد ساعد على انتشار قراءة عاصم أيضا، فأول مصحف أخرجته المطابع ورأى النور كان في سنة (1694 م- 1106 هـ تقريبا) الذي وقف على طبعة هنكلمان في مدينة هامبورج بألمانيا، وكان مضبوطا على قراءة عاصم (4).
وخلاصة القول في هذا الأمر أن قراءة عاصم انتشرت في الأمصار الإسلامية في وقت مبكر، وسادت في كثير من البلدان، لا سيما في العراق وما حوله من بلدان المشرق الإسلامي منذ القرن الثامن الهجري في الأقل، وأن القرون اللاحقة شهدت سيادتها في مناطق أخرى.
أما عاصم صاحب القراءة فهو عاصم بن أبي النّجود أبو بكر الأسدي، مولاهم، الكوفي، وقيل إن اسم أبيه بهدلة، وقيل هو اسم أمه، وأن اسم أبيه هو عبد الله (5)، ومهما يكن من أمر فإنه اشتهر باسم عاصم بن أبي النّجود. وكان من
(1) البحر المحيط 1/ 11.
(2)
جهد المقل ص 293.
(3)
صفي الدين البغدادي: مراصد الاطلاع 3/ 1259.
(4)
تراجع الفقرة الخاصة بطباعة المصحف في الفصل الثاني من هذا الكتاب.
(5)
ابن أبي حاتم: الجرح والتعديل 6/ 340، وابن الجزري: غاية النهاية 1/ 346.