الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
«أي أن معجزتي التي تحدّيت بها هي الوحي الذي أنزل عليّ، وهو القرآن، لما اشتمل عليه من الإعجاز الواضح
…
» (1).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضا: «ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه
…
» (2).
يعني بالكتاب القرآن، ومثله يعني السنة. والأحاديث في هذا المعنى كثيرة تؤكد على أن القرآن لم يصدر عن الرسول صلى الله عليه وسلم ابتداء، وإنما أنزل عليه، وأنه كلام الله تعالى. وقد آمن بهذه الحقيقة أجيال المسلمين من لدن عصر الصحابة، ولا تزال هذه الحقيقة هي الركيزة الأساسية لإيمان المؤمنين، لا يحيد عنها إلا هالك.
المبحث الثاني بدء نزول القرآن
إن من يريد أن يتعرف على بدء الظاهرة القرآنية فعليه أن يدرس البيئة التي ظهرت فيها، فإن القرآن وإن لم يكن من صنع تلك البيئة فإن كثيرا من معانيه لا تفهم إلا بمعرفتها، كما أن دراسة سيرة الرجل الذي نزل عليه القرآن ضرورة لتفهم كيفية نزول القرآن وإدراك حقيقة الدعوة التي تضمنها. ولا يتسع المكان لعرض تلك التفاصيل هنا، ونفترض أن القارئ على معرفة مناسبة لها. ونكتفي بنقل قول محمد بن سعد الذي يلخص فيه معالم شخصية النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة، حيث قال: «شبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي طالب، يكلؤه الله ويحفظه ويحوطه من أمور الجاهلية ومعايبها، لما يريد به من كرامته، وهو على دين قومه، حتى بلغ أن كان رجلا أفضل قومه مروءة، وأحسنهم خلقا، وأكرمهم مخالطة، وأحسنهم جوارا، وأعظمهم حلما وأمانة، وأصدقهم حديثا، وأبعدهم من الفحش والأذى،
(1) فتح الباري 9/ 6.
(2)
رواه أبو داود في سننه 4/ 200.
وما رئي ملاحيا ولا مماريا أحدا، حتى سماه قومه الأمين، لما جمع الله له من الأمور الصالحة، فقد كان الغالب عليه بمكة الأمين» (1).
وفي السنة التي بلغ فيها النبي صلى الله عليه وسلم الأربعين من عمره بدأ تحول كبير في حياته لم يكن قد تهيأ له من قبل، لكن العناية الإلهية كانت ترعى ذلك التحول وتوجهه نحو النبوة الكاملة التي تنكشف فيها حجب الغيب، ويتنزل الوحي بالقرآن عليه. وكانت أولى مظاهر ذلك التحول أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لخديجة، رضي الله عنها:«إني أرى ضوءا وأسمع صوتا» (2). وتتابعت إرهاصات النبوة التي انتهت باللقاء الأول بين رسول الله صلى الله عليه وسلم والملك جبريل عليه السلام الذي حمل الرسالة إليه.
وتقدّم الروايات التاريخية والأحاديث الصحيحة وصفا لبدء نزول القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونقل البخاري في كتابه الجامع الصحيح، كما جاء في غيره من المصادر المعتمدة تفاصيل ذلك الحدث العظيم عن عائشة، رضي الله عنها، حيث قالت (3): «كان أوّل ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة (أو الصالحة) في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح.
قالت: فمكث على ذلك ما شاء الله، وحبّب إليه الخلوة، فلم يكن شيء أحبّ إليه منها، وكان يخلو بغار حراء (4) فيتحنث فيه- وهو التعبد- الليالي ذوات العدد، قبل أن يرجع إلى أهله فيتزود لمثلها، حتى فجئه الحق وهو في غار حراء.
(1) الطبقات الكبرى 1/ 121.
(2)
رواه الإمام أحمد في المسند (1/ 312) عن ابن عباس، وينظر: الهيثمي: مجمع الزوائد 8/ 255.
(3)
البخاري: الجامع الصحيح 1/ 5. وينظر: ابن سعد: الطبقات الكبرى 1/ 194، وابن هشام: السيرة النبوية 1/ 234، وعبد الرزاق: المصنف 5/ 321، وصحيح مسلم بشرح النووي 2/ 197.
(4)
حراء: بالمد وكسر الحاء، جبل من جبال مكة على ثلاثة أميال منها، في أعلاه قمة شامخة، وفيه الغار الذي كان يأوي إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فجاءه الملك فقال: اقرأ، قال: ما أنا بقارئ، قال: فأخذني فغطّني (1) حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: أقرأ، قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ، فقلت ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني، فقال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3)
الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (5)
[العلق].
فرجع بها الرسول صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد، رضي الله عنها، فقال: زمّلوني (2)، حتى ذهب عنه الرّوع، فقال لخديجة وأخبرها الخبر: لقد خشيت على نفسي، فقالت خديجة: كلا، والله ما يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرّحم، وتحمل الكلّ، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق.
فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى، ابن عم خديجة، كان امرأ تنصّر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء أن يكتب (3). وكان شيخا كبيرا قد عمي، فقالت له خديجة: يا ابن عم، اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة: يا ابن أخي ماذا ترى؟
فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى، فقال له ورقة: هذا الناموس (4) الذي نزّل الله على موسى، يا ليتني فيها جذعا، ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو مخرجيّ هم؟ قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا، ثم لم ينشب (5) ورقة أن توفي، وفتر الوحي».
(1) الغط: العصر الشديد (ينظر: ابن الأثير: النهاية 3/ 373).
(2)
زملوني: دثّروني وغطّوني (ابن الأثير: النهاية 2/ 313).
(3)
كان ورقة يكتب بالعربية كما كان يكتب بالعبرانية (ابن حجر: فتح الباري 1/ 25).
(4)
الناموس: صاحب سر الوحي، والمراد به جبريل، عليه السلام. (ابن منظور: لسان العرب 8/ 130 نمس).
(5)
لم ينشب: لم يلبث (ابن الأثير: النهاية 5/ 52).
قال ابن سعد: «نزل الملك على رسول الله صلى الله عليه وسلم بحراء، يوم الاثنين، لسبع عشرة خلت من شهر رمضان (1)، ورسول الله يومئذ ابن أربعين سنة، وجبريل الذي كان ينزل عليه بالوحي» (2).
وقد قال الله تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ (185)[البقرة].
المبحث الثالث فتور (3) الوحي
إن الارتقاء إلى مقام النبوة الذي تنكشف معه حجب الغيب، ويتصل الإنسان فيه بعالم الروح- أمر يستدعي كثيرا من الإعداد النفسي الذي ينقل الإنسان إلى ذلك المقام من غير أن يصاب بانهيار نفسي أو اضطراب عقلي. ويلمس المتأمل جوانب ذلك الإعداد الإلهي في حياة النبي محمد صلى الله عليه وسلم متمثلة بأمور عدة منها:
1 -
ما رآه وسمعه من الضوء والصوت غير المألوف له من قبل.
2 -
الرؤيا الصادقة التي صارت تتكرر وتتحقق مما يخرج عن العادة.
3 -
الميل نحو الخلوة، وتفرغه لها في أعلى جبل حراء، وما توحيه تلك الخلوة في ليلها الساجي الساكن ونهارها الضاحي الطويل من شعور.
4 -
ما لقيه صلى الله عليه وسلم من الضم الشديد من الملك في اللقاء الأول، لإعداده لتحمل الثقل المصاحب لإيحاء القرآن إليه.
(1) يقابل ذلك شهر شباط من سنة 610 من التقويم الميلادي (ينظر: محمد عبد الله دراز:
مدخل إلى القرآن الكريم ص 28).
(2)
الطبقات الكبرى: 1/ 194.
(3)
فتور الوحي: انقطاع نزول جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم مدة بعد نزوله عليه في غار حراء.
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك اللقاء المبارك في غار حراء في حاجة إلى وقت للراحة والتأمل في حقيقة هذا الأمر الجديد في حياته، وتحقق ذلك بانقطاع نزول جبريل عليه مدة من الوقت جعلته يتشوق إلى لقائه مرة أخرى، بعد أن زال عنه الرّوع، وأخذ يتفكر في كلمات ورقة بن نوفل الذي لم يلبث أن توفي بعد أن سمع منه تفسيره لما وقع له في غار حراء، فروى ابن سعد عن عبد الله بن عباس «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لمّا نزل عليه الوحي بحراء مكث أياما لا يرى جبريل، فحزن حزنا شديدا، حتى كان يغدو إلى ثبير (1) مرة وإلى حراء مرة، يريد أن يلقي نفسه منه، فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك عامدا لبعض تلك الجبال إذ سمع صوتا من السماء. فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم صعقا للصوت، ثم رفع رأسه، فإذا جبريل يقول:
يا محمد أنت رسول الله حقا، وأنا جبريل، قال: فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أقرّ الله عينه، وربط جأشه، ثم تتابع الوحي بعد وحمي» (2).
ونقل البخاري الرواية بتفصيل آخر عن جابر بن عبد الله الأنصاري «قال وهو يحدّث عن فترة الوحي، فقال في حديثه: بينا أنا أمشي إذ سمعت صوتا من السماء، فرفعت بصري، فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، فرعبت منه، فرجعت فقلت: زمّلوني، فدثّروه، فأنزل الله يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) [المدثر]، ثم تتابع الوحي» (3).
وهكذا ذهب في هذه الفترة ما وجده رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرّوع في لقاء غار حراء، وكذلك تشوّق، بعد ذهاب الرّوع عنه، إلى رؤية الملك مرة أخرى (4).
(1) ثبير: جبل من جبال مكة. (ينظر: صفي الدين البغدادي: مراصد الاطلاع 1/ 292).
(2)
الطبقات الكبرى 1/ 196.
(3)
صحيح البخاري 1/ 6 و 6/ 215، وصحيح مسلم بشرح النووي 2/ 206.
(4)
ينظر: العيني: عمدة القارى 1/ 62.
قال الحافظ ابن حجر: «وفتور الوحي عبارة عن تأخره مدة من الزمان، وكان ذلك ليذهب ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وجده من الرّوع، وليحصل له التشوّف إلى العود
…
» (1).
وقد أيقن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذا كله أن الله تعالى قد اختاره رسولا، وصار يتلقى القرآن عن طريق جبريل فحمل أعباء الرسالة وأخذ يدعو إليها واستمر جهاده ثلاثا وعشرين سنة اكتمل خلالها نزول القرآن، وترسخت الدعوة والعقيدة في أرجاء الجزيرة العربية، قبل وفاته صلى الله عليه وسلم (2).
(1) فتح الباري 1/ 27.
(2)
ذهب عدد من المؤلفين في علوم القرآن في عصرنا إلى أن مدة فتور الوحي كانت ثلاث سنين، معتمدين في ذلك على رواية عن عامر الشعبي أحد علماء التابعين (ت 103 هـ) (ينظر: محمد رشيد رضا: الوحي المحمدي ص 125، ومحمد عبد الله دراز: مدخل إلى القرآن الكريم ص 30، وصبحي الصالح: مباحث في علوم القرآن ص 36، ومالك بن نبي: الظاهرة القرآنية ص 185).
والذي يبدو راجحا هو أن فتور الوحي لم يمتد ثلاث سنوات للأسباب الآتية:
1 -
إن الرواية المنقولة عن عامر الشعبي لا تتحدث عن فتور الوحي أولا، وهي رواية غير موثوقة عند أهل العلم ثانيا، وجاء فيها «بعث لأربعين، ووكّل به إسرافيل ثلاث سنين، ثم وكّل به جبريل» (ينظر: ابن حجر: فتح الباري 1/ 27). وقال ابن سعد في شأن هذه الرواية: «فذكرت هذا الحديث لمحمد بن عمر (يعني الواقدي شيخه) فقال: ليس يعرف أهل العلم ببلدنا أن إسرافيل قرن بالنبي صلى الله عليه وسلم وأنّ علماءهم وأهل السيرة منهم يقولون: لم يقرن به غير جبريل من حين أنزل عليه الوحي إلى أن قبض صلى الله عليه وسلم» (الطبقات الكبرى 1/ 191).
2 -
إن ما ورد في روايات فتور الوحي لا يحدد المدة التي كانت بين نزول أول سورة العلق ونزول أول سورة المدثر، ويبدو أنها لم تطل كثيرا، ففي رواية البخاري «وفتر الوحي فترة، حتى حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم» (صحيح البخاري 6/ 215)، وفي طبقات ابن سعد «لما نزل الوحي بحراء مكث أياما لا يرى جبريل، فحزن حزنا شديدا» (الطبقات الكبرى 1/ 196)، وفي السيرة النبوية لابن هشام «قال ابن إسحاق: ثم فتر الوحي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فترة من ذلك، حتى شق ذلك عليه فأحزنه» (السيرة النبوية 1/ 241).