الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومناهج تعكس ما استجد في حياة المسلمين والعالم من يقظة وتطور علمي وتطلع حضاري.
وكانت حصيلة تلك الجهود الكبيرة التي بذلها المفسرون من لدن عصر الصحابة حتى وقتنا الحاضر ثروة علمية أخذت أكبر مساحة في المكتبة العربية الإسلامية، وأنتجت مئات المؤلفات المتعددة المناهج والأحجام، التي لا يتسع المقام للحديث المفصل عنها هنا، ومن ثم سوف أكتفي بعرض الاتجاهات العامة لتلك المؤلفات والنقاط البارزة في تلك الجهود من خلال المباحث الآتية:
المبحث الأول: نشأة علم التفسير
.
المبحث الثاني: دراسة موجزة لأشهر التفاسير القديمة.
المبحث الثالث: علم التفسير في العصر الحديث.
المبحث الرابع: خلاصة في أصول التفسير.
المبحث الخامس: إعجاز القرآن الكريم.
المبحث الأول نشأة علم التفسير
أولا- تفسير القرآن في عصر النبوة:
جاء تدوين العلوم الإسلامية متأخرا بضع عشرات من السنين عن عصر النبوة المبارك، لكن نشأة تلك العلوم كان مرتبطا بتلك الحقبة، وكان التفسير مرتبطا بتلاوة القرآن الكريم، لأن التلاوة، مع كونها عبادة، ليست غاية في ذاتها، وإنما هي وسيلة لتفهم معاني كلام الله تعالى، حتى تتحقق ثمرة التلاوة، وهي الاهتداء إلى الدين القويم، وقد حث القرآن على تدبر معاني الآيات، قال الله تعالى:
كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (29)[ص] وحذّر من الغفلة عند التلاوة بقوله: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (24)[محمد].
والتدبّر معناه التفكر، مشتق من قولهم: دبّر الأمر وتدبره: أي نظر في عاقبته وما يؤول إليه (1).
وكان تعليم رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن لأصحابه يقتضي تفهم معانيه، كما كانت قراءة الصحابة القرآن تقتضي الوقوف على معانيه، يدل على ذلك قول أبي عبد الرحمن السلمي (ت 74 هـ): «حدثني الذين كانوا يقرءوننا: عثمان بن عفان، وعبد الله بن مسعود، وأبي بن كعب، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرئهم العشر، فلا
يجاوزونها إلى عشر أخرى حتى يتعلموا ما فيها من العمل، فتعلمنا القرآن والعمل جميعا» (2). والعمل يقتضي الفهم ومعرفة المعاني.
ومن تمام تعليم رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن للناس بيان معانيه ومعرفة أحكامه، قال الله تعالى: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)[النحل]. ومن ثمّ «فإن سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم تبيّن القرآن، وتدل عليه، وتعبّر عنه» (3). سواء أكان ذلك البيان قوليا أم عمليا.
واختلف الدارسون في مقدار التفسير الذي بيّنه النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة، فمنهم من قال: إنه فسّر عدا من الآيات (4)، ومنهم من قال: إنه بيّن للصحابة معاني القرآن كما بيّن لهم ألفاظه (5).
ويمكن أن يكون الاختلاف في هذه القضية لفظيا، لأن القرآن الكريم أنزل بلغة العرب، وكان لسان المخاطبين به من الصحابة عربيا، فلم يحتاجوا إلى السؤال عن معاني كثير من آيات القرآن، قال أبو عبيدة معمر بن المثنى: «إنما
(1) لسان العرب: مادة دبر.
(2)
ابن سعد: الطبقات الكبرى 6/ 172، وابن مجاهد: كتاب السبعة ص 69.
(3)
ابن تيمية: مجموع الفتاوى 13/ 29.
(4)
ينظر: الطبري: جامع البيان 1/ 37، والقرطبي: الجامع لأحكام القرآن 1/ 31.
(5)
ابن تيمية: مقدمة في أصول التفسير ص 35.
أنزل القرآن بلسان عربي مبين
…
فلم يحتج السلف ولا الذين أدركوا وحيه إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن يسألوا عن معانيه، لأنهم كانوا عرب الألسن، فاستغنوا بعلمهم به عن المسألة عن معانيه» (1).
وما قاله أبو عبيدة لا يعني أن الصحابة لم يسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن معنى شيء من القرآن، أو أنه لم يبين لهم من معاني القرآن شيئا، فقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بيّن معاني الكثير من آيات القرآن، لكنه لم يبين معاني جميع آياته، لأن من القرآن ما استأثر الله بعلمه، ومنه ما تعلمه العرب من لغاتها، ولا شك في أنه صلى الله عليه وسلم لم يفسر لهم ما يرجع فهمه إلى معرفة كلام العرب، لأن القرآن نزل بلغتهم، ولم يفسر لهم ما استأثر الله بعلمه، مما يجري مجرى الغيوب التي لم يطلع الله عليها نبيه، وإنما فسّر لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما خفي عليهم معناه أو التبس المراد به، مما خصه الله بمعرفته وأطلعه عليه (2).
ولم يدوّن شيء من التفسير في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن التدوين كان موجها إلى حفظ ألفاظ الوحي، وكان صلى الله عليه وسلم قد نهى أولا عن كتابة شيء من كلامه غير القرآن، خشية اختلاطه بالقرآن، فقال:«لا تكتبوا عني شيئا سوى القرآن، ومن كتب غير القرآن فليمحه» (3).
ونقل علماء الصحابة إلى التابعين ما سمعوه من التفسير النبوي للقرآن الكريم، وأخذ تابعو التابعين ومن جاء بعدهم تلك الروايات وأوردوها في كتب الحديث وكتب التفسير، وصارت مصدرا أساسيا في تفسير القرآن الكريم، لأنه «مما ينبغي أن يعلم أن القرآن والحديث إذا عرف تفسيره من جهة النبي صلى الله عليه وسلم
…
لم يحتج في ذلك إلى الاستدلال بأقوال أهل اللغة ولا غيرهم» (4).
(1) مجاز القرآن 1/ 8.
(2)
ينظر: محمد حسين الذهبي: التفسير والمفسرون 1/ 53.
(3)
صحيح مسلم بشرح النووي 18/ 129، وابن أبي داود: كتاب المصاحف ص 4.
(4)
ابن تيمية: مجموع الفتاوى 13/ 27.
وكان الإمام السيوطي، رحمه الله، قد جمع الروايات المنقولة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تفسير القرآن، من كتب الحديث والتفسير، في كتابه (الإتقان في علوم القرآن) مرتبة على ترتيب السور في المصحف، وقد بلغ مجموعها أكثر من مائتين وخمسين رواية بقليل (1). ومن أمثلة تلك الروايات:
1 -
أخرج أحمد، والترمذي وحسّنه، وابن حبان في صحيحه، عن عدي بن حاتم، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن المغضوب عليهم هم اليهود، وإن الضالين النصارى» (2).
2 -
وأخرج الحاكم وصححه، عن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن قول الله تعالى:
مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا (97)[آل عمران]. ما السبيل؟ قال: «الزاد والراحلة» (3).
3 -
وأخرج أحمد، والشيخان وغيرهم، عن ابن مسعود، قال: لما نزلت هذه الآية:
الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ (82)[الأنعام]، شق ذلك على الناس، فقالوا: يا رسول الله، وأيّنا لا يظلم نفسه؟ قال:«إنه ليس الذي تعنون، ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) [لقمان]، وإنما هو الشرك» (4).
4 -
وأخرج مسلم وغيره، عن عقبة بن عامر، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو على المنبر: «وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ (60) [الأنفال]، ألا وإن القوة الرّمي» (5).
5 -
وأخرج أحمد، والترمذي، والحاكم وصححه، والنسائي، عن أبي هريرة
(1) الإتقان 4/ 214 - 257.
(2)
الإتقان 4/ 214، وينظر: تفسير ابن كثير 1/ 30.
(3)
الإتقان 4/ 218، وتفسير ابن كثير 1/ 386.
(4)
الإتقان 4/ 222، وتفسير ابن كثير 2/ 153.
(5)
الإتقان 4/ 225، وتفسير ابن كثير 2/ 322.
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن العبد إذا أذنب ذنبا كانت نكتة سوداء في قلبه، فإن تاب منها صقل قلبه، وإن زاد زادت حتى تعلو قلبه، فذلك الرّان الذي ذكر الله في القرآن كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (14) [المطففين]» (1).
والمتأمل في ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من بيان لمعاني آيات أو كلمات من القرآن يجد أكثر تلك الروايات جاءت جوابا لمسائل سئل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو كانت استدلالا منه على معنى، فيكون ذلك الاستدلال بيانا لمعنى الآية، وجاء عدد منها تفسيرا نبويا لكلمات أو آيات من القرآن توضيحا لمعناها وتأكيدا له في نفوس الصحابة، رضي الله عنهم.
ويمكن للدارس أن يلحظ أن تفسير القرآن في عصر النبوة لم يكن شاملا لكل القرآن الكريم، ولعل ذلك يرجع من جانب إلى فصاحة الصحابة التي مكنتهم من إدراك معاني كثير من آي القرآن من غير حاجة إلى سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عنها، وإلى أن التطبيق العملي لأحكام القرآن الذي كانوا يشاهدونه ويشاركون فيه قد أغناهم من جانب آخر عن السؤال عن معاني الآيات الكريمة.
ولعل هناك عاملا آخر أسهم في تقليل مسائل الصحابة عن معاني آي القرآن، هو قوة إيمانهم، وصفاء عقيدتهم، وعمق يقينهم، فكرهوا لذلك السؤال عما تشابه من آي القرآن مما استأثر الله بعلمه (2)، فلم يرو أنهم سألوا عنه رسول صلى الله عليه وسلم بل كانوا يقولون: آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا، واتجهوا إلى الجانب العملي من
(1) الإتقان 4/ 252، وتفسير ابن كثير 4/ 486.
(2)
مثل كراهة عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، سؤال صبيغ التميمي عن معاني آيات من متشابه القرآن، حتى إنه ضربه بعراجين النخل. وكان عبد الله بن عباس، رضي الله عنه، إذا ألح عليه رجل في مسألة من هذا الجنس قال له: ما أحوجك أن يصنع بك كما صنع عمر بصبيغ (ينظر: ابن تيمية: مجموع الفتاوى 13/ 311، وتفسير ابن كثير 1/ 6 و 4/ 232).