الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
دماءهم وأموالهم وسبي ذريتهم، فلو كانوا يقدرون على تكذيبه لفعلوا وتوصلوا إلى تخليص أنفسهم وأهليهم من حكمه بأمر قريب، هو عادتهم في لسانهم ومألوف من خطابهم، وكان ذلك يغنيهم عن تكلف القتال وإكثار المراء والجدال، وعن الجلاء عن الأوطان، وعن تسليم الاهل والذرية للسبي، فلما لم تحصل منهم معارضة علم أنهم عاجزون عنها (1).
عجز العرب في عصر النبوة عن معارضة القرآن مع توفر الدواعي وشدة الحاجة (2)، وصدق الله العظيم إذ قال: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (88)[الإسراء].
ثانيا- إعجاز القرآن في المؤلفات القديمة:
كان المشركون قد أدركوا بالفطرة وبما كانوا عليه من فصاحة وبيان ما في القرآن الكريم من تميز وسمو، فقاسوه على أرقى فنون القول لديهم من سجع الكهان وقصيد الشعراء ورجزهم، وأدركوا أنه فوق ذلك فلم يجدوا شيئا يصفون به القرآن يخلصهم من دهشتهم وحيرتهم غير أن يصفوه بأنه سحر.
وتلقى الصحابة، رضي الله عنهم، القرآن الكريم فملأ قلوبهم إيمانا وحكمة وهدى وتقوى، وهم يتلونه ليل نهار، مؤمنين أنه مأدبة الله، لا يعوجّ فيقوّم، ولا تنقضي عجائبه، ولا يخلق عن كثرة الرد (3)، وتلقاه التابعون وتابعوهم على نحو من ذلك، ولم ينقل عنهم أنهم تعرضوا لمناقشة إعجاز القرآن، لأنهم أدركوه بفطرتهم، فلم يحتاجوا إلى أن يعملوا فيه فكرتهم.
(1) المصدر نفسه ص 20.
(2)
الطبري: جامع البيان 1/ 165، والرماني: النكت ص 113.
(3)
جزء من حديث رواه المحدّثون عن ابن مسعود (ينظر: الآجري: أخلاق حملة القرآن ص 44).
ويبدو أن اتساع المعارف وتنوع الثقافات الذي حدث في صدر الدولة العباسية قد أثار جدلا حول عدد من أمور العقيدة، ونشأ جيل من الناس قصرت بهم معارفهم عن فهم الإعجاز أو إدراك حقيقته، فتصدى علماء الأمة لدراسة هذا الموضوع وكتبوا فيه عددا من الرسائل والكتب، تبحث في سر الإعجاز وتسعى إلى بيان وجوهه وتوضيحها، ولا يتسع المقام لتتبع كل تلك الجهود، وإنما سوف أقتصر على عرض المعالم البارزة فيها.
1 -
تكاد كلمة الباحثين تتفق على أن الجاحظ (أبا عثمان عمر بن بحر ت 255 هـ) هو أول من درس موضوع الإعجاز في كتاب مستقل، فقد ألف كتاب (نظم القرآن)(1)، ويبدو أن الجاحظ يذهب إلى أن إعجاز القرآن كائن في نظمه وتأليفه، وهو يرد في ذلك على شيخه إبراهيم بن سيّار النظّام (ت 224 هـ)، الذي زعم أن إعجاز القرآن كائن في أن الله تعالى صرف العرب عن معارضته، ولولا ذلك لكان في مقدورهم الإتيان بمثله، وسمّي هذا المذهب بالصّرفة، وهو قول أنكره جمهور علماء الأمة وردوه (2).
2 -
ومن أقدم الكتب التي عالجت الموضوع كتاب (بيان إعجاز القرآن) لأبي سليمان حمد بن محمد بن إبراهيم الخطابي (ت 388 هـ) الذي استهله بقوله: «قد أكثر الناس الكلام في هذا الباب قديما وحديثا، وذهبوا فيه كل مذهب من القول» (3).
ثم عرض الخطابي ثلاثة من تلك المذاهب، ولم يوافق القائلين بها، وهي (4):
(1) ذكره الباقلاني في كتابه إعجاز القرآن (ص 6 و 248)، وذكر ابن النديم في الفهرست (ص 220) كتاب إعجاز القرآن في نظمه وتأليفه لمحمد بن يزيد الواسطي (ت 306 هـ).
(2)
ينظر: الباقلاني: إعجاز القرآن ص 29، والقرطبي: الجامع لأحكام القرآن 1/ 75، والزركشي: البرهان 2/ 93، وأبو زهرة: المعجزة الكبرى ص 75.
(3)
بيان إعجاز القرآن ص 21.
(4)
المصدر نفسه ص 22 - 24.
أ- ذهب قوم إلى أن العلة في إعجازه الصرفة.
ب- وزعمت طائفة أن إعجازه إنما هو فيما يتضمنه من الإخبار عن الكوائن في مستقبل الزمان، وهو يقول: ولا يشكّ في أن هذا وما أشبهه من أخباره نوع من أنواع إعجازه، ولكنه ليس بالأمر العام الموجود في كل سورة من سور القرآن، وقد جعل سبحانه في صفة كل سورة أن تكون معجزة بنفسها.
ج- وزعم آخرون أن إعجازه من جهة بلاغته، وهم الأكثرون من علماء أهل النظر، لكنه يأخذ عليهم أنهم إذا سئلوا عن تحديد هذه البلاغة لم يتمكنوا وقالوا: إن ذلك شيء لا يمكن تصويره وأنه يظهر أثره في النفس حتى لا يلتبس على ذوي العلم والمعرفة به.
ويلخص الخطابي بعد ذلك رأيه في إعجاز القرآن بقوله: «واعلم أن القرآن إنما صار معجزا لأنه جاء بأفصح الألفاظ، في أحسن نظوم التأليف، مضمّنا أصح المعاني» (1).
والتفت الخطابي إلى الأثر الذي يتركه سماع القرآن الكريم في النفس، وجعله أحد وجوه الإعجاز، فقال: «في إعجاز القرآن وجه آخر ذهب عنه الناس، فلا يكاد يعرفه إلا الشاذ من آحادهم، وذلك صنيعه في القلوب وتأثيره في النفوس، فإنك لا تسمع كلاما غير القرآن منظوما ولا منثورا، إذا قرع السمع خلص له إلى القلب من اللذة والحلاوة في الحال، ومن الروعة والمهابة في أخرى ما يخلص منه إليه، تستبشر به النفوس، وتنشرح له الصدور، حتى إذا أخذت حظها منه عادت مرتاعة قد عراها الوجيب والقلق، وتغشّاها الخوف والفرق، تقشعر منه الجلود، وتنزعج له القلوب، يحول بين النفس وبين مضمراتها وعقائدها الراسخة فيها، فكم من عدو للرسول صلى الله عليه وسلم من رجال العرب وفتاكها أقبلوا يريدون
(1) المصدر نفسه ص 27.
اغتياله وقتله فسمعوا آيات من القرآن، فلم يلبثوا حين وقعت في مسامعهم أن يتحولوا عن رأيهم الأول، وأن يركنوا إلى مسالمته، ويدخلوا في دينه، وصارت عداوتهم موالاة، وكفرهم إيمانا
…
» (1).
3 -
وألّف أبو الحسن علي بن عيسى الرماني (ت 386 هـ) كتابه (النكت في إعجاز القرآن)، وقال في أوله: «وجوه إعجاز القرآن تظهر من سبع جهات:
ترك المعارضة مع توفر الدواعي وشدة الحاجة، والتحدي للكافة، والصّرفة، والبلاغة، والأخبار الصادقة عن الأمور المستقبلة، ونقض العادة، وقياسه بكل معجزة» (2). ثم بيّن تلك الوجوه، وفصّل القول في البلاغة وأقسامها، حتى أخذ ذلك معظم الكتاب. (3).
4 -
وتحدّث أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني (ت 403 هـ) عن وجوه الإعجاز في كتابه (إعجاز القرآن)، وذكرها ملخصة في كتابه (الانتصار لنقل القرآن)، وهي عنده ثلاثة.
أحدها: ما تضمنه من الإخبار عن الغيوب، وما يحدث وما يكون، وذلك مما لا يقدر عليه البشر ولا سبيل لهم إليه.
والوجه الثاني: ما تضمنه من قصص الأولين وأخبار الماضين التي لا يعرفها إلا من أكثر ملاقاة الأمم، ودراسة الكتب، مع العلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أميّا، ولم يكن يعرف شيئا من كتب المتقدمين وأقاصيصهم وأنبائهم وسيرهم.
والوجه الثالث: أنه بديع النظم، عجيب التأليف، متناه في البلاغة إلى الحد الذي يعلم عجز الخلق عنه (4).
(1) المصدر نفسه ص 70.
(2)
النكت ص 75.
(3)
النكت ص 75 - 109، وبقية الوجوه ص 109 - 111.
(4)
إعجاز القرآن ص 33 - 35، ونكت الانتصار ص 58 و 242.
5 -
وممن اعتنى بإعجاز القرآن أبو بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني (ت 471 هـ)، وكتب في ذلك الرسالة الشافية التي ضمنها جملا من «القول في بيان عجز العرب حين تحدّوا إلى معارضة القرآن، وإذعانهم وعلمهم أن الذي سمعوه فائت للقوى البشرية، ومتجاوز للذي يتسع له ذرع المخلوقين
…
» (1).
وهذه الرسالة كتبها عبد القاهر ليثبت حقيقة الإعجاز لا ليبين أسراره، أما تفصيل القول في أسرار الإعجاز فقد جاء كثير من ذلك في كتابه (دلائل الإعجاز).
وتتلخص فكرته في قوله: «فإذا بطل أن يكون الوصف الذي أعجزهم من القرآن في شيء مما عدّدناه، لم يبق إلا أن يكون في النظم، لأنه ليس من بعد ما أبطلناه أن يكون فيه إلا النظم والاستعارة، ولا يمكن أن تجعل الاستعارة الأصل في الإعجاز وأن يقصر عليها، لأن ذلك يؤدي إلى أن يكون الإعجاز في آي معدودة في مواضع من السور الطوال مخصوصة، وإذا امتنع ذلك فيها ثبت أن النظم مكانه الذي ينبغي أن يكون فيه
…
وكنا قد قلنا أن ليس النظم شيئا غير توخّي معاني النحو وأحكامه فيما بين الكلم» (2).
6 -
وبحث القاضي عياض بن موسى (ت 544 هـ) الإعجاز في كتابه (الشفا بتعريف حقوق المصطفى) وحدّد وجوه الإعجاز الرئيسية في أربعة هي:
أولها: حسن تأليفه، والتئام كلمه، وفصاحته، وبلاغته الخارقة عادة العرب.
والثاني: صورة نظمه العجيب، والأسلوب الغريب المخالف لأساليب كلام العرب. وكلا هذين الوجهين يرجع إلى الناحية البيانية في القرآن (3).
والثالث: ما انطوى عليه من الإخبار بالمغيبات، وما لم يكن ولم يقع، فوجد كما ورد، على الوجه الذي أخبر.
(1) الرسالة الشافية ص 117.
(2)
دلائل الإعجاز ص 391.
(3)
أبو زهرة: المعجزة الكبرى ص 87.
والرابع: ما أنبأ من أخبار القرون السالفة والامم البائدة (1).
وأضاف إليها القاضي عياض وجوها أخرى، أهمها (2):
أ- ما ورد من تعجيز قوم في قضايا، فما فعلوا.
ب- الروعة التي تلحق قلوب سامعيه، والهيبة التي تعتريهم عند تلاوته.
ج- كونه آية باقية لا تعدم ما بقيت الدنيا، مع تكفل الله تعالى بحفظه.
د- أن قارئه لا يمله، وسامعه لا يمجه.
هـ- جمعه لعلوم ومعارف لم تعهد العرب عامة ولا محمد صلى الله عليه وسلم قبل نبوته خاصة معرفتها ولا القيام بها.
7 -
وذهب علم الدين علي بن محمد السخاوي (ت 643 هـ) إلى أن إعجاز القرآن في أنه خارج في بديع نظمه وغرابة أساليبه عن معهود كلام البشر، مختص بنمط غريب لا يشبه شيئا من القول في الرصف والترتيب، لا هو من قبيل الشعر، ولا من ضروب الخطب والسجع، يعلم من تأمله أنه خارج عن المألوف، مباين للمعروف، متناسب في البلاغة، متشابه في البراعة، بريء من التكلف، منزّه عن التصنع والتعسف.
أما ما تضمنه القرآن العزيز من الإخبار عن المغيّب، وما أتى به من أخبار القرون الماضية والأمم الخالية، وبما كان من أول خلق الأرض والسماء إلى انقضاء الدنيا، فذلك- في رأي علم الدين السخاوي- ليس مما تحداهم به، ولكنه دليل على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم (3).
8 -
وجعل أبو عبد الله محمد بن أحمد القرطبي (ت 684 هـ) وجوه إعجاز القرآن
(1) الشفا 1/ 491 و 511 و 522، وينظر: السيوطي: الإتقان 4/ 16.
(2)
الشفا 1/ 526 و 529 و 533 و 535 و 536.
(3)
جمال القراء 1/ 44.
عشرة، منها ما يتعلق بنظمه وتأليفه، ومنها ما يتعلق بمعانيه وأحكامه، مما لا يخرج أكثره عن الوجوه التي ذكرها العلماء قبله (1).
9 -
وذكر بدر الدين الزركشي (ت 794 هـ) اثني عشر وجها من وجوه الإعجاز، هي تلخيص لجهود سابقيه (2).
10 -
وجمع جلال الدين السيوطي (ت 911 هـ) جهود السابقين له في موضوع الإعجاز في باب من أبواب كتابه الكبير (الإتقان في علوم القرآن)(3). كما أنه ألّف كتابا في الموضوع سماه (معترك الإقران في إعجاز القرآن) في ثلاثة أجزاء كبيرة، وذكر فيه أن بعض العلماء أنهى وجوه إعجازه إلى ثمانين وجها (4). وبلغ ما ذكره هو خمسة وثلاثين وجها، استغرق الوجه الأخير أكثر من ثلثي الكتاب، وهو في (ألفاظ القرآن المشتركة)، وقال في أول كلامه فيه:«وهذا الوجه من أعظم وجوه إعجازه، حيث كانت الكلمة الواحدة تتصرف إلى عشرين وجها، وأكثر وأقل، ولا يوجد ذلك في كلام البشر» (5).
وكثير مما ذكره السيوطي لا يدخل في موضوع الإعجاز، وأشار هو نفسه إلى ذلك بقوله:«وإن كانت بعض الأوجه لا تعدّ من إعجازه، فإنما ذكرتها للاطلاع على بعض معانيه، فيثلج له صدرك، وتبتهج نفسك» (6).
(1) الجامع لأحكام القرآن 1/ 73.
(2)
البرهان 2/ 106.
(3)
الإتقان 4/ 3 - 23.
(4)
معترك الأقران 1/ 3.
(5)
المصدر نفسه 1/ 514.
(6)
المصدر نفسه 1/ 12.