الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولا بد لدارس علوم القرآن من الوقوف على المعالم البارزة لهذا العلم الذي يتعلق بضبط النص القرآني والمحافظة عليه (1).
أولا- سبب تعدد القراءات وحديث الأحرف السبعة:
والحديث عن أصل القراءات القرآنية يستدعي بحث قضيتين: الأولى تحديد مصدر القراءات، والثاني: تحديد السبب الذي أدّى إلى ظهورها، ومناقشة هاتين القضيتين مرتبط بالظروف التي ظهرت فيها الدعوة الإسلامية، وطبيعة المجتمع العربي في تلك الحقبة، وما كان بين أجزائه من تباين لغوي ظاهر، لأن قراءة القرآن هي في جانب منها نشاط لغوي، ومن جانب آخر هي نشاط فكري ينعكس على سلوك الفرد والجماعة.
كان العرب في جزيرتهم قبائل وجماعات، تفصل بين قبيلة وأخرى فواصل طبيعية أو عوامل نفسية، فالجزيرة بطبيعة أرضها ومناخها تفرض على الناس نوعا من العزلة والتنقل المستمر وراء مساقط المياه ومنابت الكلأ، ولم يكن هناك سلطان سياسي يشمل تلك القبائل والجماعات، بل إن المنازعات كثيرا ما كانت تزيدها تشتتا وعزلة، ومن ثم فإن عوامل الافتراق كانت أكثر فاعلية في المجتمع العربي قبل الإسلام من عوامل التقارب والتوحد، وقد انعكس ذلك على الوضع
(1) لكي يطلع القارئ الذي ليس في متناول يده كتب القراءات على مثال يتبين له من خلاله حقيقة اختلاف القراءات، أورد قراءات القراء السبعة في سورة الفاتحة:
1 -
قرأ عاصم والكسائي (مالك)، وقرأ الباقون من السبعة (ملك).
2 -
قرأ عاصم ونافع وأبو عمرو وابن عامر والكسائي (صراط، الصراط) بالصاد، وقرأ ابن كثير في رواية عنه (السراط)، وقرأ حمزة بين الصاد والزاي (صاد مجهورة).
3 -
قرأ حمزة (عليهم) بضم الهاء والباقون بكسرها.
4 -
قرأ ابن كثير (عليهمو) في الوصل، والباقون بإسكان الميم من غير واو. (ينظر: ابن مجاهد: كتاب السبعة ص 104، والداني: التيسير ص 18).
اللغوي الذي كان يتميز بتعدد اللهجات وتباين صور النطق للعربية (1)، لا سيما في وقت كانت تسود فيه الأمية، ويصعب التنقل والامتزاج، ما عدا فرصا محدودة يلتقي فيها أفراد معدودون في مواسم الحج والتجارة لأيام معدودة، ثم يمضي كل واحد منهم لينخرط في حياة قبيلته أو بلدته.
وفي ذلك الظرف شاء الله تعالى أن يبعث نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم برسالة تدعو إلى التوحيد والتوحيد، وتحثّ على التعلم والتحضر، يقول القاسم بن ثابت السرقسطي (ت 302 هـ):«إن الله تبارك وتعالى بعث نبيه صلى الله عليه وسلم والعرب متناءون في المحال والمقامات، متباينون في كثير من الألفاظ واللغات، ولكل عمارة (2) لغة دلت بها ألسنتهم، وفحوى قد جرت بها عادتهم، وفيهم الكبير العاسي والأعرابي القح، ومن لو رام نفي عادته وحمل لسانه على غير دربته (3) تكلف منه حملا ثقيلا، وعالج منه عبئا شديدا، ثم لم يكسر غربه (4) ولم يملك استمراره إلا بعد التمرين الشديد، والمساجلة الطويلة، فأسقط الله عنهم هذه المحنة، وأباح لهم القراءة على لغاتهم، وحمل حروفه على عادتهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرئهم بما يفقهون، ويخاطبهم بالذي يستعملون بما طوّقه الله من ذلك، وشرح به صدره، وفتق به لسانه، وفضّله على جميع خلقه» (5).
والقرآن الكريم نزل بلغة قريش، في الرأي الراجح، على نحو ما أشرنا إلى ذلك في المبحث الخاص بعربية القرآن، ومعنى ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلقاه من جبريل عليه السلام وتلاه على الناس بنطق عربي يطابق نطق العربية السائد في مكة المكرمة في ذلك الوقت، وكان كتبة الوحي يكتبون ألفاظ الوحي على نحو ما
(1) قال ابن النديم (الفهرست ص 8): «ولكل قبيلة من قبائل العرب لغة تنفرد بها» .
(2)
العمارة، بكسر العين وفتحها، هي الشعبة من القبيلة، أو هي الحي العظيم.
(3)
دربته: ما تدرب عليه واعتاده.
(4)
الغرب: الحدّة.
(5)
نقلا عن البلوي: ألف با 1/ 211، وأبو شامة: المرشد الوجيز ص 128.
يسمعونه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهذا فإن الخليفة الراشدي الثالث عثمان بن عفان، رضي الله عنه، أمر الجماعة الذين نسخوا المصاحف أن يكتبوه على لسان قريش، لأنه هو النطق المنزل به.
ولا شك في أن أهل مكة كانوا أقدر على تحقيق نطق القرآن كما نطقه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنهم قومه وعشيرته، أما غيرهم من العرب فكانوا متفاوتين في القدرة على تحقيق ذلك النطق، بحسب قرب أو بعد لغاتهم (أي لهجاتهم) من لغة أهل مكة، ومن ثمّ ظهرت مشكلة أهل مكة. وقد أشار بعض العلماء إلى أن تلك المشكلة ظهرت بصورة واضحة بعد الهجرة، حين دخل في الإسلام أفراد من قبائل عربية متباينة النطق (1).
وأمام ذلك الوضع اللغوي المعقد لم يحمل رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس على تعلم نطق قريش، ولم يمنعهم من قراءة القرآن، وإنما رخّص لهم أن يقرءوا القرآن بالنطق الذي يمكنهم تحقيقه، قال الصحابي عبد الله بن عباس (ت 68 هـ) حول الموضوع:«إن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يقرئ الناس بلغة واحدة، فاشتد ذلك عليهم، فنزل جبريل، فقال: يا محمد، أقرئ كلّ قوم بلغتهم» (2).
وروى الترمذي في سننه عن أبي بن كعب أنه قال: «لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل، فقال: يا جبريل إني بعثت إلى أمة أميين، منهم العجوز والشيخ الكبير، والغلام والجارية والرجل الذي لم يقرأ كتابا قط! قال: يا محمد، إن القرآن أنزل على سبعة أحرف» . قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح قد ورد عن أبيّ بن كعب من غير وجه (3).
(1) ينظر: ابن حجر: فتح الباري 9/ 28، وعبده الراجحي: اللهجات العربية في القراءات القرآنية ص 68.
(2)
ينظر: أبو شامة: المرشد الوجيز ص 95.
(3)
سنن الترمذي 5/ 178.
وقد تواتر في أحاديث صحيحة كثيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، فاقرءوا ما تيسر منه» . وبلغ عدد الصحابة الذي رووا ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدا وعشرين صحابيا (1)، في مناسبات متعددة، ووردت روايات الحديث في أصح كتب الحديث وكتب التفسير وعلوم القرآن (2).
وكانت رخصة الأحرف السبعة حلّا لمشكلة واجهت الصحابة في عصر النبوة حيث يسّرت عليهم قراءة القرآن، من غير أن يختل نظمه أو تتحرف كتابته، قال ابن قتيبة (ت 276 هـ): «وكل هذه الحروف كلام الله تعالى، نزل به الروح الأمين على رسوله عليه السلام وذلك أنه كان يعارضه في كل شهر من شهور رمضان بما اجتمع عنده من القرآن، فيحدث الله إليه من ذلك ما يشاء، وينسخ ما يشاء، وييسر على عباده ما يشاء، فكان من تيسيره أن أمره بأن يقرئ كل قوم بلغتهم وما جرت عليه عادتهم. فالهذليّ يقرأ: عتى حين، يريد: حَتَّى حِينٍ 54 [المؤمنون] لأنه كان يلفظ بها ويستعملها. والأسديّ يقرأ تعلمون وتعلم وتَسْوَدُّ وُجُوهٌ 106 [آل عمران] وأَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ 60 [يس]. والتميمي يهمز والقرشيّ لا يهمز، والآخر يقرأ: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ 11 [البقرة] ووَ غِيضَ الْماءُ 44 [هود] بإشمام الضم مع الكسر، وهذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا [يوسف] بإشمام الكسر مع الضم، وما لَكَ لا تَأْمَنَّا 11 [يوسف] بإشمام الضم مع الإدغام وهذا ما لا يطوع به كل لسان.
«ولو أن كل فريق من هؤلاء أمر أن يزول عن لغته وما جرى عليه اعتياده
(1) ينظر: السيوطي: الاتقان 1/ 131.
(2)
ينظر روايات الحديث: صحيح البخاري (فتح الباري) 9/ 23، وصحيح مسلم بشرح النووي 6/ 98، وسنن الترمذي 5/ 177، وسنن النسائي 2/ 150، وسنن أبي داود 2/ 75، وتفسير الطبري المسمى جامع البيان 1/ 14 وما بعدها، ومكي: الإبانة ص 62 - 69، وأبو شامة: المرشد الوجيز ص 77 - 89.