الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كان «من أحفظ الناس لنحو الكوفيين وأعرفهم بالقراءات وله في التفسير ومعاني القرآن كتاب جليل سماه كتاب الأنوار وله أيضا في القراءات وعلوم النحو تصانيف عدة» (1). ولكنه على جلالة قدره وسعة علمه «عمد إلى حروف من القرآن فخالف الإجماع وقرأها وأقرأها على وجوه ذكر أنها تجوز في اللغة العربية، وشاع ذلك عنه عند أهل العلم فأنكروه عليه، وارتفع الأمر إلى السلطان، فأحضره واستتابه بحضرة القراء والفقهاء فأذعن بالتوبة، وكتب محضر توبته، وأثبت من حضر ذلك المجلس خطوطهم فيه بالشهادة عليه» (2).
ثانيا- القراءة الشاذة:
القراءة الشاذة هي التي نقلت عن علماء القراءة الأوائل من الصحابة والتابعين لكنها مخالفة لخط المصاحف العثمانية، فقد كان المسلمون يقرءون القرآن قبل نسخ المصاحف في خلافة عثمان، رضي الله عنه، على وجوه من النطق، وكان بعض تلك الوجوه يخالف خط المصحف، ثم ترك الناس، كل قراءة خارجة عن الخط بعد نسخ المصاحف وإرسالها إلى الأمصار الإسلامية، وقرءوا بالوجوه التي يحتملها الخط من القراءات التي قرأ بها الصحابة، رضي الله عنهم.
وقد سمّيت القراءات المخالفة لخط المصحف بالقراءات الشاذة لأنها جاءت مخالفة لما أجمعت عليه الأمة من نص القرآن الذي نقل بالتواتر، قال علم الدين السخاوي: الشاذ مأخوذ من قولهم شذّ الرجل يشذّ شذوذا، إذا انفرد عن القوم، والذي لم يزل عليه الأئمة الكبار القدوة في جميع الأمصار من الفقهاء والمحدثين وأئمة العربية توقير القرآن واجتناب الشاذ واتباع القراءة المشهورة ولزوم الطرق المعروفة (3).
(1) الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد 2/ 206.
(2)
المصدر نفسه 2/ 206 - 207.
(3)
جمال القراء 1/ 234.
وقال أبو منصور الأزهري: «من قرأ بحرف شاذ يخالف المصحف وخالف بذلك جمهور القراء المعروفين فهو غير مصيب، وهذا مذهب الراسخين في علم القرآن قديما وحديثا» (1).
وتلك القراءات المخالفة لخط المصحف التي قرأ بها الصحابة هي جزء من رخصة الأحرف السبعة التي رخص لهم بها النبي صلى الله عليه وسلم لكن الإجماع على المصاحف التي نسخت في خلافة عثمان صيّر تلك القراءات كأنها منسوخة (2)، وظل كثير من علماء السلف ينقلونها للاستشهاد لا للقراءة، فالفقيه والمفسر واللغوي يذكرونها في كتبهم للاستدلال بها على أمر أو استنباط حكم، أما القراءة بها فمتروكة، لأنهم أجمعوا على تحريم القراءة بالشواذ (3).
ولم تحظ القراءات الشاذة بعناية علماء القراءة كما حظيت القراءات الصحيحة التي نقلت نقلا متواترا، ومن ثمّ تشكك كثير من العلماء في صحة ما يروى من تلك القراءات، قال إسماعيل القاضي (ت 282 هـ) في كتابه في القراءات:«فإذا اختار الإنسان أن يقرأ ببعض القراءات التي رويت مما يخالف خط المصحف صار إلى أن يأخذ القراءة برواية واحد عن واحد، وترك ما تلقته الجماعة عن الجماعة» (4). وقال أبو عمرو بن العلاء: «إني أتّهم الواحد الشاذ إذا جاء على خلاف ما جاءت به العامة» (5).
وكان هارون بن موسى العتكي البصري (ت قبل 200 هـ) أول من اهتم بالقراءات الشاذة في البصرة، قال أبو حاتم السجستاني البصري (ت 255 هـ):
(1) تهذيب اللغة 5/ 14.
(2)
مكي: الإبانة ص 10.
(3)
القسطلاني: لطائف الإشارات 1/ 72 - 73.
(4)
نقلا عن: مكي: الإبانة ص 21.
(5)
أبو شامة: المرشد ص 181.
«كان أول من سمع بالبصرة وجوه القراءات وألّفها وتتبع الشاذ منها، فبحث عن إسناده هارون بن موسى الأعور، وكان من القراء، فكره الناس ذلك، وقالوا قد أساء حين ألّفها
…
» (1). قال الأصمعي (ت 215 هـ): «كنت أشتهي أن يضرب مكان تأليفه الحروف» (2).
وكما تشكك بعض العلماء في صحة نقل تلك القراءات فإن بعضا منهم حمل القراءات الشاذة المخالفة لخط المصحف على التفسير، فقال أبو بكر بن الأنباري:
«وما يؤثر عن الصحابة والتابعين أنهم قرءوا بكذا وكذا إنما ذلك على جهة البيان والتفسير، لا أن ذلك قرآن يتلى» (3). وقال معلقا على قراءة مروية عن ابن الزبير لقوله تعالى: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ (104)[آل عمران] ويستعينون الله على ما أصابهم: «وهذه الزيادة من تفسير ابن الزبير، وكلام من كلامه، غلط فيه بعض الناقلين فألحقه بألفاظ القرآن» (4).
وقال أبو جعفر النحاس: «وهذا من القراءات المخالفة للسواد، وأكثرها لا يصح ولا يوجد إلا معلولا» (5). وقال معلقا على إحدى تلك القراءات: «فلا يجوز لأحد أن يقرأ بها لمخالفتها المصحف، ولو صحت لكانت على التفسير لا على القراءة» (6).
وقال القاضي أبو بكر بن الطيب الباقلاني: «وكان منهم من يقرأ التأويل مع التنزيل، نحو قوله تعالى: وَالصَّلاةِ الْوُسْطى (138)[البقرة] وهي صلاة
(1) السخاوي: جمال القراء 1/ 235، وأبو شامة: المرشد الوجيز ص 181.
(2)
أبو شامة: المرشد الوجيز ص 181.
(3)
نقلا عن: القرطبي: الجامع لأحكام القرآن 1/ 86.
(4)
المصدر نفسه 4/ 165.
(5)
القطع ص 425.
(6)
القطع ص 474، وينظر: ص 212 و 258 و 511.
العصر
…
» (1). وقال أبو حيان الأندلسي: «إن ما جاء مخالفا لخط المصحف هو «في الحقيقة تفسير لا قراءة» (2).
ويؤيد هذا المذهب في فهم القراءات المخالفة لخط المصحف ما روي عن مجاهد بن جبر المكي (ت 103 هـ) تلميذ ابن عباس أنه قال: «لو كنت قرأت قراءة ابن مسعود لم أحتج أن أسأل ابن عباس عن كثير من القرآن، مما سألت» (3).
قال شارح سنن الترمذي: «أي لما وقع في قراءته من تفسير كثير من القرآن» (4).
ذلك هو معنى القراءة الشاذة وموقف العلماء منها، لكن ابن مجاهد (ت 324 هـ) حين ألّف كتاب (السبعة في القراءات) وضمنه القراءات الصحيحة المشهورة قد أوحى بمعنى جديدة للقراءة الشاذة وهو أن كل ما عدا القراءات السبع شاذ، لا سيما أنه ألّف كتابا ذكر فيه (شواذ القراءة) الذي شرحه ابن جني في كتابه (المحتسب). قال ابن جني «وأنا بإذن الله بادئ بكتاب أذكر فيه أحوال ما شذ عن السبعة، على أننا ننحي فيه على كتاب أبي بكر أحمد بن موسى بن مجاهد، رحمه الله، الذي وضعه لذكر الشواذ من القراءة» (5).
وشاع في القرن الرابع هذا المفهوم الجديد للقراءة الشاذة، فإلى جانب دلالة هذا المصطلح على القراءات المخالفة لخط المصحف صار يعني أيضا ما عدا القراءات السبع، حتى وإن كانت موافقة للخط، وقد ألف أبو طاهر بن أبي هاشم تلميذ ابن مجاهد كتابا في (شواذ السبعة)(6)، كما أن ابن النديم تأثر بهذا
(1) أبو شامة: المرشد الوجيز ص 241.
(2)
البحر المحيط 7/ 65.
(3)
الداودي: طبقات المفسرين 2/ 306.
(4)
تحفة الأحوذي 8/ 282.
(5)
المحتسب 1/ 34 - 35.
(6)
ابن النديم: الفهرست ص 35.
المفهوم أيضا، فذكر أولا (أخبار القراء السبعة)، ثم ذكر (قراء الشواذ) وهم ما عدا السبعة (1).
ولم يستمر تأثير هذا المفهوم الجديد للقراءة الشاذة طويلا، فقد انحسر تأثيره بظهور مؤلفات في القراءات العشر، بإضافة قراءة أبي جعفر ويعقوب وخلف إلى القراءات السبع، وظل تعريف القراءة الشاذة بأنها ما خالف المصحف هو المعتمد.
وقد بيّن ذلك ابن الجزري بصورة أكثر تفصيلا بقوله: «كل قراءة وافقت العربية ولو بوجه، ووافقت أحد المصاحف العثمانية ولو احتمالا، وصح سندها فهي القراءة الصحيحة التي لا يجوز ردها، ولا يحل إنكارها، بل هي من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن، ووجب على الناس قبولها، سواء كانت عن الأئمة السبعة، أم العشرة، أم عن الأئمة المقبولين، ومتى اختل ركن من هذه الأركان الثلاثة أطلق عليها ضعيفة، أو شاذة، أو باطلة، سواء كانت عن السبعة أم عمن هو أكبر منهم، هذا هو الصحيح عن أئمة التحقيق من السلف والخلف» (3).
(1) الفهرست ص 33.
(2)
المرشد الوجيز ص 178.
(3)
النشر 1/ 9.