الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثامن علم التجويد
علم التجويد هو العلم الذي يعنى بنطق ألفاظ القرآن نطقا صحيحا، وذلك بإعطاء كل صوت حقه من المخرج والصفات، وما يلحقه في التركيب من أحكام، وهو بذلك يختلف عن علم القراءات الذي يهتم بضبط وجوه النطق التي رواها علماء القراءة من التابعين وتابعيهم عن الصحابة، رضي الله عنهم، على نحو ما بينا في المباحث السابقة.
وقد ميّز علماء القراءة بين العلمين على الرغم من أن ميدانهما واحد وهو قراءة القرآن، قال محمد المرعشي (ت 1150 هـ):«إن قلت: ما الفرق بين علمي التجويد والقراءات؟ قلت: علم القراءات علم يعرف فيه اختلاف أئمة الأمصار في نظم القرآن في نفس حروفه أو في صفاتها، فإذا ذكر فيه شيء من ماهية صفات الحروف فهو تتميم، إذ لا يتعلق الغرض به، أما علم التجويد فالغرض منه معرفة ماهيات صفات الحروف، فإذا ذكر فيه شيء من اختلاف الأئمة فهو تتميم» (1).
الحديث (الذهبي: ميزان الاعتدال 1/ 55). وقال الذهبي (معرفة القراء 1/ 117): «أما في القراءة فثقة ثبت ضابط لها، بخلاف حاله في الحديث» . وتضعيف حفص في الحديث لا يقدح في ضبطه للقراءة. وحاولت أن أقف على علة تضعيفه في الحديث فإذا هي لا تقدح بصحة روايته للقراءة، لأن الأمر يرجع إلى أنه أخذ من شعبة بن الحجاج كتابا فلم يردّه، وكان ياخذ كتب الناس فينسخها. (البخاري: كتاب الضعفاء ص 32، وابن أبي حاتم: الجرح والتعديل 3/ 173). فكأنهم ضعفوه لأنه ينسخ كتب الحديث من غير سماع، ولعل له عذرا في ذلك بانشغاله بعلم القراءة، أما عدم رده كتاب شعبة فلا أحسب أنه سبب كاف لعدم الثقة به، لا سيما أن وكيع بن الجراح وهو أحد أئمة الحديث قال عن حفص: وكان ثقة (الداني: التيسير ص 6).
(1)
جهد المقل ص 84.
وقال المرعشي في موضع آخر: «اعلم أن علم القراءة يخالف علم التجويد لأن المقصود من الثاني معرفة حقائق صفات الحروف مع قطع النظر عن الخلاف فيها، مثلا يعرف في علم التجويد أن حقيقة التفخيم كذا وحقيقة الترقيق كذا، وفي القراءة يعرف فخّمها فلان ورققها فلان» (1).
وكان مكي بن أبي طالب (ت 437 هـ) قد ألمح في أكثر من موضع من كتابه (الرعاية لتجويد القراءة) إلى هذا المعنى، فقال:«ولست أذكر في هذا الكتاب إلا ما لا اختلاف فيه بين أكثر القراء» (2). وقال: «فليس هذا كتاب اختلاف، وإنما هو كتاب تجويد ألفاظ ووقوف على حقائق الكلام، وإعطاء اللفظ حقه، ومعرفة أحكام الحروف التي ينشأ الكلام منها، مما لا اختلاف في أكثره» (3).
وقال عن كتب القراءات: فتلك الكتب كتب تحفظ منها الرواية المختلف فيها، وهذا الكتاب يحكم فيه لفظ التلاوة التي لا خلاف فيها، فتلك كتب رواية، وهذا كتاب دراية
…
» (4).
وكان قد ظهر البحث في الأصوات اللغوية في العربية في الوقت الذي درس فيه العلماء قواعد اللغة العربية، ويتضمن كتاب سيبويه (أبي بشر عمرو بن عثمان ت 180 هـ) بابا كبيرا خصصه لدراسة الأصوات في العربية سماه باب الإدغام.
واقتفى مذهبه كثير من علماء العربية، وقد جعل أبو الفتح عثمان بن جني (ت 392 هـ) مقدمة كتابه (سر صناعة الإعراب) خاصة بدراسة الأصوات اللغوية.
واعتنى علماء قراءة القرآن أيضا بدراسة اللغة العربية، وبحثوا في الظواهر الصوتية في قراءات القراء لكنهم لم يجعلوا لهذه المباحث كتبا خاصة بها حتى
(1) ترتيب العلوم ص 64.
(2)
الرعاية ص 42.
(3)
الرعاية ص 128.
(4)
الرعاية ص 200.
القرن الرابع الهجري، حين حاول علماء القراءة استخلاص المباحث المتعلقة بأصوات العربية وظواهر النطق من كتب النحو وكتب القراءات وجمعوها في كتب خاصة مستقلة، وقد أطلق على مباحث هذه الكتب اسم علم التجويد.
ويذكر المؤرخون أن أول مؤلف مستقل في علم التجويد هو القصيدة التي نظمها أبو مزاحم موسى بن عبيد الله بن يحيى الخاقاني البغدادي المتوفى سنة 325 هـ (1)، في حسن أداء القرآن، وعدة أبياتها واحد وخمسون بيتا، ومطلعها:
أقول مقالا معجبا لأولي الحجر
…
ولا فخر إن الفخر يدعو إلى الكبر (2).
وأول كتاب معروف اليوم ألّف بعد قصيدة أبي مزاحم هو كتاب (التنبيه على اللحن الجلي واللحن الخفي) لأبي الحسن علي بن جعفر السعيدي المتوفى في حدود سنة 410 هـ، لكنه كتاب صغير الحجم، على الرغم من أهميته العلمية وقيمته التاريخية (3).
وتتابع التأليف في علم التجويد منذ مطلع القرن الخامس الهجري إلى عصرنا هذا، فظهرت عشرات الكتب التي تنوعت مناهجها وأساليب تأليفها (4)، وتتصدر تلك الكتب ثلاثة مؤلفات أندلسية هي:
1 -
الرعاية لتجويد التلاوة وتحقيق لفظ التلاوة، لمكي بن أبي طالب القيسي (ت 437 هـ)(5).
(1) ابن الجزري: غاية النهاية 2/ 321.
(2)
حققت القصيدة ونشرتها سنة 1980 بجملة كلية الشريعة العدد السادس (ص 348 - 353) ونشرها الدكتور علي حسين البواب ثانية في مجلة المورد سنة 1985 في المجلد 14 في العدد الأول (ص 115 - 127).
(3)
حققت الكتاب ونشر في مجلة المجمع العلمي العراقي سنة 1985، مج 36 ج 2 (ص 240 - 287).
(4)
ينظر: كتابي: الدراسات الصوتية ص 23 - 46.
(5)
حققه الدكتور أحمد حسن فرحات وطبع في دمشق سنة 1974، وطبع في دار عمار/
2 -
التحديد في الإتقان والتجويد، لأبي عمرو عثمان بن سعيد الداني (ت 444 هـ)(1).
3 -
الموضح في التجويد، لعبد الوهاب القرطبي (ت 462 هـ)(2).
وعلم التجويد مكمّل لعلم القراءات، لأنه لا يمكن للقارئ تلاوة القرآن بصورة صحيحة ما لم يعرف قواعد التجويد، مهما كانت القراءة التي يتلو بها القرآن. ومن ثمّ كان واجبا على قارئ القرآن أن يعرف قواعد هذا العلم، وأن تكون لديه المقدرة على تطبيق تلك القواعد في القراءة، ليجري لسانه بالنطق الصحيح الفصيح، فيكون بذلك مستوفيا لشروط القراءة، راجيا ثوابها، متجاوزا لإثم التقصير فيها. وقد قال ابن الجزري في المقدمة الجزرية (3):
والأخذ بالتجويد حتم لازم
…
من لم يجوّد القرآن آثم
وقال شراح المقدمة: «إن مراعاة قواعد التجويد والأخذ بذلك، أي العمل به، فرض عين لازم لكل قارئ قرأ القرآن، ثم أخبر أن من لم يصحح القراءة آثم، أي من لم يراع قواعد التجويد في قراءته عاص آثم بعصيانه، والإثم معاقب عليه
…
» (4).
وقد بيّن ابن الجزري هذا الموضوع في كتابه النشر على نحو أكثر تفصيلا.
فقال: «ولا شك أن الأمة كما هم متعبدون بفهم معاني القرآن وإقامة حدوده
الأردن، عدة طبعات.
(1)
حققته وطبع ببغداد سنة 1987 م، وفي دار عمار/ الأردن.
(2)
حققته وطبع في معهد المخطوطات العربية في الكويت سنة 1990 م.
(3)
متن الجزرية ص 14.
(4)
أبو بكر أحمد بن الجزري: الحواشي المفهمة 22 ظ، وينظر: القسطلاني: اللئالئ السنية 14 و، وطاش كبرى زاده: شرح الجزرية 15 و.
متعبدون بتصحيح ألفاظه وإقامة حروفه على الصفة المتلقاة عن أئمة القراءة المتصلة بالحضرة النبوية الأفصحية العربية التي لا تجوز مخالفتها ولا العدول عنها إلى غيرها. والناس في ذلك بين محسن مأجور، ومسيء آثم أو معذور، فمن قدر على تصحيح كلام الله تعالى باللفظ الصحيح العربي الفصيح وعدل إلى اللفظ الفاسد العجمي أو النبطي القبيح، استغناء بنفسه واستبدادا برأيه وحدسه واتكالا على ما ألف من حفظه، واستكبارا عن الرجوع إلى عالم يوقفه على صحيح لفظه، فإنه مقصر بلا شك، وآثم بلا ريب، وغاشّ بلا مرية، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(الدين النصيحة: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم). أما من لم يطاوعه لسانه أو لا يجد من يهديه إلى الصواب فإن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها» (1). (2)
وتتلخص موضوعات علم التجويد وأركانه في أربعة أمور، ذكرها الحسن بن قاسم المرادي (ت 749 هـ) بقوله: «إن تجويد القراءة يتوقف على أربعة أمور:
أحدها: معرفة مخارج الحروف.
والثاني: معرفة صفاتها.
والثالث: معرفة ما يتجدد لها بسبب التركيب من الأحكام.
والرابع: رياضة اللسان بذلك وكثرة التكرار» (3).
(1) النشر 1/ 210 - 211، والقسطلاني: لطائف الإشارات 1/ 209.
(2)
أشار ابن الجزري في النشر (1/ 211 - 212) إلى قول نصر بن علي الشيرازي: «على أن العلماء اختلفوا في وجوب حسن الأداء في القرآن فبعضهم ذهب إلى أن ذلك مقصور على ما يلزم المكلف قراءته في المفترضات فإن تجويد اللفظ وتقويم الحروف وحسن الأداء واجب فيه فحسب. وذهب الآخرون إلى أن ذلك واجب على كل من قرأ شيئا من القرآن كيفما كان، لأنه لا رخصة في تغيير اللفظ بالقرآن وتعويجه واتخاذ اللحن سبيلا إليه إلّا عند الضرورة» وصحح ابن الجزري هذا الرأي الأخير.
(3)
المفيد ص 39، وشرح الواضحة (له) ص 29.
وليس بيان هذه القضايا من غرض هذا الكتاب، لأنه يبحث في علوم القرآن بحثا عاما، وتفصيل قضايا كل علوم القرآن موضعه الكتب الخاصة بكل علم من تلك العلوم، فتفصيل موضوعات علم التجويد والوقوف على قواعد التلاوة تكلفت ببيانها كتب علم التجويد، ولكن تلزم الإشارة هنا إلى بعض القضايا المنهجية منها:
1 -
أهمية دراسة مخارج الحروف وصفاتها لدارس قواعد التلاوة، وقد أولت كتب علم التجويد القديمة هذه الناحية عناية كبيرة، لكن الكتب المتأخرة والمؤلفة حديثا في هذا العلم أهملت ذلك إلى حد كبير، وهذا نقص يجب تلافيه.
2 -
تقدمت دراسة علم الأصوات اللغوية في زماننا تقدما ملحوظا ولم يستفد دارسو علم التجويد في زماننا من الحقائق الصوتية التي كشف عنها هذا العلم، وهو أمر يخالف منهج علماء السلف الذين بنوا كتبهم في علم التجويد على حقائق علم الأصوات اللغوية كما يعرضها علماء اللغة العربية.
3 -
للتطبيق العملي والتمرين الشفهي أهمية كبرى في ضبط الأداء، وفهم دقائق التلاوة، ومن ثم فإنه لا تكفي القراءة في كتب علم التجويد، إن لم تقترن التلقي من المعلم المتقن الضابط لقراءة القرآن (1).
(1) يمكن الوقوف على تفصيل هذه القضايا المنهجية في بحث (مناهج كتب تعليم قواعد التلاوة: عرض ومناقشة) منشور في مجلة كلية المعارف الجامعة، العدد الأول، الأنبار 1418 هـ 1998 م، ص 36 - 57.