الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[62]
{لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا} [مريم: 62] في الجنة {لَغْوًا} [مريم: 62] بَاطِلًا وَفُحْشًا وَفُضُولًا مِنَ الْكَلَامِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هُوَ الْيَمِينُ الْكَاذِبَةُ، {إِلَّا سَلَامًا} [مريم: 62] اسْتِثْنَاءٌ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ يَعْنِي بَلْ يَسْمَعُونَ فِيهَا سَلَامًا أَيْ قَوْلًا يَسْلَمُونَ مِنْهُ، وَالسَّلَامُ اسْمٌ جَامِعٌ لِلْخَيْرِ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ السَّلَامَةَ، مَعْنَاهُ أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ لَا يَسْمَعُونَ مَا يُؤَثِّمُهُمْ، إِنَّمَا يَسْمَعُونَ مَا يُسَلِّمُهُمْ. وَقِيلَ: هُوَ تَسْلِيمُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ وَتَسْلِيمُ الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهِمْ. وَقِيلَ: هُوَ تَسْلِيمُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم: 62] قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ: لَيْسَ فِي الْجَنَّةِ لَيْلٌ يُعْرَفُ بِهِ الْبُكْرَةُ وَالْعَشِيُّ، بَلْ هُمْ فِي نُورٍ أبدا ولكنهم يؤتون بِأَرْزَاقِهِمْ عَلَى مِقْدَارِ طَرَفَيِ النَّهَارِ. وَقِيلَ: إِنَّهُمْ يَعْرِفُونَ وَقْتَ النَّهَارِ بِرَفْعِ الْحُجُبِ، وَوَقْتَ اللَّيْلِ بِإِرْخَاءِ الْحُجُبِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ مِنْهُ رَفَاهِيَةُ الْعَيْشِ وَسَعَةُ الرِّزْقِ مِنْ غَيْرِ تَضْيِيقٍ، وَكَانَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ يَقُولُ: كَانَتِ الْعَرَبُ لَا تَعْرِفُ مِنَ الْعَيْشِ أَفْضَلَ مِنَ الرِّزْقِ بِالْبُكْرَةِ وَالْعَشِيِّ، فَوَصَفَ اللَّهُ عز وجل أهل جَنَّتَهَ بِذَلِكَ.
[63]
{تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا} [مريم: 63] أَيْ: نُعْطِي ونُنْزِلُ. وَقِيلَ: يُورِثُ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ الْمَسَاكِنَ الَّتِي كَانَتْ لِأَهْلِ النَّارِ لَوْ آمَنُوا، {مَنْ كَانَ تَقِيًّا} [مريم: 63] أي المتقين من عباده.
[64]
{وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ} [مريم: 64] عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «يَا جِبْرِيلُ ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تَزُورَنَا؟» فَنَزَلَتْ {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا} [مريم: 64] الْآيَةَ: قَالَ: كَانَ هَذَا الْجَوَابُ لِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم (1) . وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَالضَّحَّاكُ وَقَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ: «احْتَبَسَ جِبْرِيلُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حِينَ سَأَلَهُ قَوْمُهُ عَنْ أَصْحَابِ الْكَهْفِ وَذِي الْقَرْنَيْنِ وَالرُّوحِ، فَقَالَ: أُخْبِرُكُمْ غَدًا وَلَمْ يَقُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، حَتَّى شَقَّ ذَلِكَ عَلَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، تم نَزَلَ بَعْدَ أَيَّامٍ فَقَالَ لَهُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " أَبْطَأْتَ عَلَيَّ حَتَّى سَاءَ ظَنِّي وَاشْتَقْتُ إِلَيْكَ "، فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: إِنِّي كُنْتُ أَشْوَقَ، وَلَكِنِّي عَبْدٌ مَأْمُورٌ إِذَا بُعِثْتُ نَزَلْتُ وَإِذَا حُبِسْتُ احْتَبَسْتُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ} [مريم: 64] وأَنْزَلَ: {وَالضُّحَى - وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى - مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى: 1 - 3] » {لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ} [مريم: 64] أَيْ لَهُ عِلْمُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا، وَاخْتَلَفُوا فِيهِ فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ: مَا بَيْنَ أَيْدِينَا مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَمَا خَلْفَنَا مَا مَضَى مِنَ الدُّنْيَا وَمَا بَيْنَ ذلك ما يكون هذا من الْوَقْتِ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، وَقِيلَ: مَا بَيْنَ أَيْدِينَا مِنْ أَمْرِ الآخرة وما خلفنا من أمر الدنيا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ أَيْ مَا بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ وَبَيْنَهُمَا أَرْبَعُونَ سَنَةً. وَقِيلَ: مَا بَيْنَ أَيْدِينَا مَا بَقِيَ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا خَلْفَنَا مَا مَضَى مِنْهَا، وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ مُدَّةُ حَيَاتِنَا. وَقِيلَ: مَا بَيْنَ أَيْدِينَا بَعْدَ أَنْ نَمُوتَ وَمَا خَلْفَنَا قَبْلَ أَنْ نُخْلَقَ وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ مُدَّةُ الْحَيَاةِ. وقيل: ما بين أيدينا من الْأَرْضُ إِذَا أَرَدْنَا النُزُولَ إِلَيْهَا وَمَا خَلْفَنَا السَّمَاءُ إِذَا نَزَلْنَا مِنْهَا، وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ الْهَوَاءُ يُرِيدُ أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ لِلَّهِ عز وجل فَلَا نَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ إِلَّا بِأَمْرِهِ. {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم: 64] أَيْ نَاسِيًا، يَقُولُ: مَا نَسِيَكَ رَبُّكَ أَيْ مَا تَرَكَكَ، وَالنَّاسِي التَّارِكُ.
[65]
{رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ} [مريم: 65] أَيِ اصْبِرْ عَلَى أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: مثلا. وقال سعيد بن جبير: عدلا. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ. هَلْ تَعْلَمُ أَحَدًا يسمى الله غيره.
[قوله تعالى وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ]
حَيًّا. . . .
[66]
{وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ} [مريم: 66] يَعْنِي أُبَيَّ بْنَ خَلَفٍ الْجُمَحِيَّ كَانَ مُنْكِرًا لِلْبَعْثِ، قَالَ:{أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا} [مريم: 66] من القبر، قاله استهزاء وتكذيبا للبعث.
(1) أخرجه البخاري في التفسير 8 / 428 وفي التوحيد 13 / 440 والمصنف في شرح السنة 13 / 325.
[67]
قَالَ اللَّهُ عز وجل: {أَوَلَا يَذْكُرُ} [مريم: 67] أَيْ يَتَذَكَّرُ وَيَتَفَكَّرُ، وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ وَيَعْقُوبُ يَذْكُرُ خفيف، {الْإِنْسَانُ} [مريم: 67] يَعْنِي أُبَيَّ بْنَ خَلَفٍ {أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا} [مريم: 67] أَيْ لَا يَتَفَكَّرُ هَذَا الْجَاحِدُ فِي بَدْءِ خَلْقِهِ فَيَسْتَدِلَّ بِهِ عَلَى الْإِعَادَةِ، ثُمَّ أَقْسَمَ بِنَفْسِهِ، فقال:
[68]
{فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ} [مريم: 68] أي لَنَجْمَعَنَّهُمْ فِي الْمَعَادِ يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ المنكرين للبعث، {وَالشَّيَاطِينَ} [مريم: 68] مَعَ الشَّيَاطِينِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ يَحْشُرُ كُلُّ كَافِرٍ مَعَ شَيْطَانِهِ فِي سِلْسِلَةٍ، {ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ} [مريم: 68] قيل: في جهنم، {جِثِيًّا} [مريم: 68] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنه: جَمَاعَاتٍ، جَمْعُ جَثْوَةٍ، وَقَالَ الْحَسَنُ وَالضَّحَّاكُ: جَمْعُ جَاثٍ أَيْ جَاثِينَ عَلَى الرُّكَبِ. قَالَ السُّدِّيُّ: قَائِمِينَ عَلَى الرُّكَبِ لِضِيقِ الْمَكَانِ.
[69]
{ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ} [مريم: 69] لنخرجن، {مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ} [مريم: 69] أَيْ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ وَأَهْلِ دِينٍ مِنَ الْكُفَّارِ. {أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا} [مريم: 69] عُتُوًّا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: يَعْنِي جَرْأَةً. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: فُجُورًا يُرِيدُ الْأَعْتَى فَالْأَعْتَى. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: قَائِدُهُمْ وَرَأْسُهُمْ فِي الشَّرِّ يُرِيدُ أَنَّهُ يُقَدِّمُ فِي إدخال النار مَنْ هُوَ أَكْبَرُ جُرْمًا وَأَشَدُّ كفرا. وفي بعض الآثار أنهم يحضرون جميعا حول جهنم مسلمين مَغْلُولِينِ، ثُمَّ يُقَدَّمُ الْأَكْفَرُ فَالْأَكْفَرُ وَرَفَعَ أَيُّهُمْ عَلَى مَعْنَى الَّذِي، يُقَالُ لَهُمْ: أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا. وَقِيلَ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، ثُمَّ لَننْزِعَنَّ يَعْمَلُ فِي مَوْضِعِ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ.
[70]
{ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا} [مريم: 70] أَيْ أَحَقُّ بِدُخُولِ النَّارِ، يُقَالُ: صَلِي يَصْلَى صِلِيًّا مِثْلُ لَقِيَ يلقى لقيا، صلى يَصْلِي صُلِيًّا مِثْلُ مَضَى يَمْضِي مُضِيًّا إِذَا دَخَلَ النَّارَ وَقَاسَى حرها.
[71]
{وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مَرْيَمَ: 71] أي وَمَا مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا، وَقِيلَ: القسم في مُضْمَرٌ أَيْ وَاللَّهِ مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَارِدُهَا، وَالْوُرُودُ هُوَ مُوَافَاةُ الْمَكَانِ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْوُرُودِ هَاهُنَا وَفِيمَا تَنْصَرِفُ إِلَيْهِ الكناية في قوله:{وَارِدُهَا} [مريم: 71] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنه وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ مَعْنَى الْوُرُودِ هَاهُنَا هُوَ الدُّخُولُ، وَالْكِنَايَةُ رَاجِعَةٌ إِلَى النَّارِ، وَقَالُوا: النَّارُ يَدْخُلُهَا الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ، ثُمَّ يُنْجِّي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ، فَيُخْرِجُهُمْ مِنْهَا، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْوُرُودَ هُوَ الدُّخُولُ قَوْلُ اللَّهِ عز وجل حِكَايَةً عَنْ فِرْعَوْنَ:{يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ} [هود: 98] وَقَالَ قَوْمٌ: لَيْسَ الْمُرَادُ مِنَ الْوُرُودِ الدُّخُولَ، وَقَالُوا: النَّارُ لَا يَدْخُلُهَا مُؤْمِنٌ أَبَدًا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ - لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا} [الْأَنْبِيَاءِ: 101 - 102] وَقَالُوا: كُلُّ مَنْ دَخَلَهَا لَا يَخْرُجُ مِنْهَا، وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ:{وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم: 71] الْحُضُورُ وَالرُّؤْيَةُ، لَا الدُّخُولُ، كَمَا قال تَعَالَى:{وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ} [القصص: 23]
أراد به الحضور. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، أَنَّهُ قَالَ: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا يَعْنِي الْقِيَامَةَ وَالْكِنَايَةُ رَاجِعَةٌ إِلَيْهَا، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، وَعَلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ أَنَّهُمْ جَمِيعًا يَدْخُلُونَ النَّارَ ثُمَّ يُخْرِجُ اللَّهُ عز وجل مِنْهَا أَهْلَ الْإِيمَانِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى:{ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} [مريم: 72] أَيِ اتَّقَوُا الشِّرْكَ، وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ. وَالنَّجَاةُ إِنَّمَا تَكُونُ مِمَّا دَخَلْتَ فيه لا ما وردت والدليل على هذا ما ورد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا يَمُوتُ لِمُسْلِمٍ ثَلَاثَةٌ مِنَ الْوَلَدِ فَيَلِجُ النَّارَ إِلَّا تَحِلَّةَ الْقَسَمِ» (1) وَأَرَادَ بِالْقَسَمِ قَوْلَهُ: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مَرْيَمَ: 71] عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَفِي قَلْبِهِ وَزْنُ شَعِيرَةٍ مِنْ خَيْرٍ وَيَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَفِي قَلْبِهِ وَزْنُ بُرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ. وَيَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَفِي قَلْبِهِ وَزْنَ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ» (2) وَقَالَ أَبَانُ عَنْ قَتَادَةَ " مِنْ إِيمَانٍ " مكان " خير " وَأَمَّا قَوْلُهُ عز وجل: {لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا} [الْأَنْبِيَاءِ: 102] قِيلَ: إِنَّ اللَّهَ عز وجل أَخْبَرَ عَنْ وَقْتِ كَوْنِهِمْ فِي الْجَنَّةِ أَنَّهُمْ لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا فَيَجُوزُ أَنْ يكون قَدْ سَمِعُوا ذَلِكَ قَبْلَ دُخُولِهِمُ الْجَنَّةَ، لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ لَمْ يسمعوا حسيسها ويجوز ألا يَسْمَعُوا حَسِيسَهَا عِنْدَ دُخُولِهِمْ إِيَّاهَا، لِأَنَّ اللَّهَ عز وجل يَجْعَلُهَا عليهم بردا وسلاما. {كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} [مريم: 71] أَيْ كَانَ وُرُودُكُمْ جَهَنَّمَ حَتْمًا لَازِمًا مَقْضِيًّا قَضَاهُ اللَّهُ عَلَيْكُمْ.
[72]
{ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} [مريم: 72] أَيِ اتَّقَوُا الشِّرْكَ، وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ (نُنْجِي) بِالتَّخْفِيفِ، وَالْبَاقُونَ بِالتَّشْدِيدِ {وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} [مريم: 72] جَمِيعًا. وَقِيلَ: جَاثِينَ عَلَى الرُّكَبِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْكُلَّ دَخَلُوهَا ثُمَّ أَخْرَجَ اللَّهُ مِنْهَا الْمُتَّقِينَ، وَتَرَكَ فِيهَا الظَّالِمِينَ، وَهُمُ المشركون.
[73]
{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ} [مريم: 73] واضحات، {قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [مريم: 73] يَعْنِي النَّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ وَذَوِيهِ من قريش، {لِلَّذِينَ آمَنُوا} [مريم: 73] يَعْنِي فُقَرَاءَ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَكَانَتْ فِيهِمْ قَشَافَةٌ وَفِي عَيْشِهِمْ خُشُونَةٌ وَفِي ثِيَابِهِمْ رَثَاثَةٌ، وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يُرَجِّلُونَ أشعارهم ويدهنون رءوسهم ويلبسون ثِيَابِهِمْ، فَقَالُوا لِلْمُؤْمِنِينَ:{أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا} [مريم: 73] مَنْزِلًا وَمَسْكَنًا، وَهُوَ مَوْضِعُ الْإِقَامَةِ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ:(مُقَامًا) بِضَمِّ الْمِيمِ أَيْ إِقَامَةً، {وَأَحْسَنُ نَدِيًّا} [مريم: 73] أَيْ مَجْلِسًا، وَمِثْلُهُ النَّادِي، فَأَجَابَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فَقَالَ:
[74]
{وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا} [مريم: 74] أَيْ مَتَاعًا وَأَمْوَالًا. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: لباسا وثيابا، {وَرِئْيًا} [مريم: 74] قَرَأَ أَكْثَرُ الْقُرَّاءِ بِالْهَمْزِ أَيْ مَنْظَرًا مِنَ الرُّؤْيَةِ، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَنَافِعٌ غَيْرَ ورش ريا مُشَدَّدًا بِغَيْرِ هَمْزٍ، وَلَهُ تَفْسِيرَانِ، أَحَدُهُمَا: هُوَ الْأَوَّلُ بِطَرْحِ الْهَمْزِ وَالثَّانِي مِنَ الرَّيِّ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْعَطَشِ، وَمَعْنَاهُ الِارْتِوَاءُ مِنَ النِّعْمَةِ، فَإِنَّ الْمُتَنَعِّمَ يَظْهَرُ فِيهِ ارْتِوَاءُ النِّعْمَةِ، وَالْفَقِيرُ يَظْهَرُ عَلَيْهِ ذُيُولُ الْفَقْرِ.
[75]
{قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا} [مريم: 75] هَذَا أَمْرٌ بِمَعْنَى الْخَبَرِ، مَعْنَاهُ يَدَعُهُ فِي طُغْيَانِهِ وَيُمْهِلُهُ فِي كُفْرِهِ، {حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ} [مريم: 75] وَهُوَ الْأَسْرُ وَالْقَتْلُ فِي الدُّنْيَا، {وَإِمَّا السَّاعَةَ} [مريم: 75] يَعْنِي الْقِيَامَةُ فَيَدْخُلُونَ النَّارَ، {فَسَيَعْلَمُونَ} [مريم: 75] عِنْدَ ذَلِكَ {مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا} [مريم: 75] منزلا، {وَأَضْعَفُ جُنْدًا} [مريم: 75] أَقَلُّ نَاصِرًا أَهُمْ أَمِ الْمُؤْمِنُونَ؟ لِأَنَّهُمْ فِي النَّارِ وَالْمُؤْمِنُونَ فِي الْجَنَّةِ. وَهَذَا رَدٌّ عَلَيْهِمْ فِي قَوْلِهِ: {أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا} [مريم: 73]
[76]
{وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} [مريم: 76] أَيْ إِيمَانًا وَإِيقَانًا عَلَى يَقِينِهِمْ، {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ} [الكهف: 46]
(1) أخرجه البخاري في الأيمان والنذور 11 / 541 ومسلم في البر والصلة برقم (2632) 4 / 2028.
(2)
أخرجه البخاري في الإيمان 1 / 103 ومسلم في الإيمان رقم (192) 1 / 182.