الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَالْمَمَالِيكِ وَالْعُلَمَاءِ وَمَكْرِ النِّسَاءِ وَالصَّبْرِ عَلَى أَذَى الْأَعْدَاءِ، وَحُسْنِ التَّجَاوُزِ عَنْهُمْ بَعْدَ الِالْتِقَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ من الفوائد. {بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [يوسف: 3] (مَا) الْمَصْدَرُ، أَيْ: بِإِيحَائِنَا إِلَيْكَ، {هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ} [يوسف: 3] وقد كنت، {مِنْ قَبْلِهِ} [يوسف: 3] أي: من قبل وحينا، {لَمِنَ الْغَافِلِينَ} [يوسف: 3] لَمِنَ السَّاهِينَ عَنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ لا تعلمها.
[4]
قَوْلُهُ عز وجل: {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ} [يوسف: 4] أي: اذكر إذا قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ، وَيُوسُفُ: اسْمٌ عبري، ولذلك لا يجري عليه الصرف، وَقِيلَ هُوَ عَرَبِيٌّ، سُئِلَ أَبُو الْحَسَنِ الْأَقْطَعُ عَنْ يُوسُفَ؟ فَقَالَ: الْأَسَفُ فِي اللُّغَةِ: الْحُزْنُ، وَالْأَسِيفُ: الْعَبْدُ، وَاجْتَمَعَا فِي يُوسُفَ عليه السلام فسمي به. {يا أَبَتِ} [يوسف: 4] قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَابْنُ عَامِرٍ (يَا أَبَتَ)، بِفَتْحِ التَّاءِ فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ عَلَى تَقْدِيرِ: يَا أبتاه، والوجه أن أصله يا أبتا بالألف، وهي بدل عن ياء الإضافة، فحذفت الألف كما تحذف التاء فبقيت الفتحة تدل على الألف كما تبقى الكسرة تدل على الياء عند حذف الياء، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ (يَا أَبَتِ) بِكَسْرِ التاء في كل القرآن، والوجه أن أصله (1) يا أبتي، فحذفت الياء تخفيفا واكتفاء بالكسرة؛ لأن باب النداء حذف يدل على ذلك قوله:{يا عِبَادِ فَاتَّقُونِ} [الزمر: 16]{إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا} [يوسف: 4] أَيْ: نَجْمًا مِنْ نُجُومِ السَّمَاءِ وَنَصْبُ الْكَوَاكِبِ عَلَى التَّفْسِيرِ، {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف: 4] ولم يقل رأيتها إلي ساجدات، وَالْهَاءُ وَالْمِيمُ وَالْيَاءُ وَالنُّونُ مِنْ كِنَايَاتِ مَنْ يَعْقِلُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَخْبَرَ عَنْهَا بِفِعْلِ مَنْ يَعْقِلُ عَبَّرَ عَنْهَا بِكِنَايَةِ مَنْ يَعْقِلُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ} [النَّمْلِ: 18] وَكَانَ النُّجُومُ في التأويل أخواته، كانوا أَحَدَ عَشَرَ رَجُلًا يُسْتَضَاءُ بِهِمْ كَمَا يُسْتَضَاءُ بِالنُّجُومِ، وَالشَّمْسُ أَبُوهُ والقمر أمه، وَكَانَ يُوسُفُ عليه السلام ابْنَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً حِينَ رَأَى هَذِهِ الرُّؤْيَا، وَقِيلَ: رَآهَا لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فَلَمَّا قَصَّهَا على أبيه:
[قوله تعالى قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ]
فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا. . . . .
[5]
{قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ} [يوسف: 5] وَذَلِكَ أَنَّ رُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ عليهم السلام وَحْيٌ فَعَلِمَ يَعْقُوبُ أَنَّ إخوته إِذَا سَمِعُوهَا حَسَدُوهُ فَأَمَرَهُ بِالْكِتْمَانِ، {فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا} [يوسف: 5] فيحتالوا في إهلاكك؛ لأنهم لا يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهَا فَيَحْسُدُونَكَ وَاللَّامُ فِي قوله {لَكَ} [يوسف: 5] صِلَةٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} [الْأَعْرَافِ: 154] وَقِيلَ: هُوَ مِثْلُ قَوْلِهِمْ نَصَحْتُكَ وَنَصَحْتُ لَكَ وَشَكَرْتُكَ وَشَكَرْتُ لَكَ. {إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [يوسف: 5] أَيْ: يُزَيِّنُّ لَهُمُ الشَّيْطَانُ وَيَحْمِلُهُمْ على الكيد لعداوته القديمة.
[6]
قَوْلُهُ عز وجل: {وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ} [يوسف: 6] يصطفيك بقوله يعقوب ليوسف عليهما السلام، أَيْ: كَمَا رَفَعَ مَنْزِلَتَكَ بِهَذِهِ الرُّؤْيَا، فَكَذَلِكَ يَصْطَفِيكَ رَبُّكَ، {وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ} [يوسف: 6] يُرِيدُ تَعْبِيرَ الرُّؤْيَا، سُمِّيَ تَأْوِيلًا؛ لأنه يؤول أَمْرُهُ إِلَى مَا رَأَى فِي منامه، والتأويل ما يؤول إليه عَاقِبَةِ الْأَمْرِ، {وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} [يوسف: 6] يَعْنِي: بِالنُّبُوَّةِ، {وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ} [يوسف: 6] أَيْ: عَلَى أَوْلَادِهِ، فَإِنَّ أَوْلَادَهُ كُلَّهُمْ كَانُوا أَنْبِيَاءَ، {كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ} [يوسف: 6] فَجَعَلَهُمَا نَبِيَّيْنَ، {إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [يوسف: 6] وَقِيلَ: الْمُرَادُ مِنْ إِتْمَامِ النِّعْمَةِ عَلَى إِبْرَاهِيمَ الْخَلَّةُ، وَقِيلَ: إِنْجَاؤُهُ مِنَ الذَّبْحِ، وَقِيلَ: بِإِخْرَاجِ يَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ مِنْ صُلْبِهِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: كَانَ بَيْنَ رُؤْيَا يُوسُفَ هَذِهِ وَبَيْنَ تَحْقِيقِهَا بِمَصِيرِ أَبَوَيْهِ وَإِخْوَتِهِ إِلَيْهِ أَرْبَعُونَ سَنَةً، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ التَّفْسِيرِ، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: كَانَ بَيْنَهُمَا ثَمَانُونَ سَنَةً، فَلَمَّا بَلَغَتْ هَذِهِ الرُّؤْيَا إِخْوَةَ يُوسُفَ حَسَدُوهُ وَقَالُوا: مَا رَضِيَ أَنْ تسجد لَهُ إِخْوَتُهُ حَتَّى يَسْجُدَ لَهُ أبواه فبغوه وحسدوه.
[7]
يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ} [يوسف: 7] أَيْ: فِي خَبَرِهِ وَخَبَرِ إِخْوَتِهِ {آيَاتٌ} [يوسف: 7]
(1) في ط دار طيبة: (لِأَنَّ أَصْلَهُ: يَا أَبَتْ، وَالْجَزْمُ يحرك إلى كسر) .
قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ (آيَةٌ) عَلَى التَّوْحِيدِ أَيْ عِظَةٌ وَعِبْرَةٌ، وَقِيلَ: عَجَبٌ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ:(آيَاتٌ) عَلَى الجمع. {لِلسَّائِلِينَ} [يوسف: 7] وَذَلِكَ أَنَّ الْيَهُودَ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ قِصَّةِ يُوسُفَ عليه السلام، وَقِيلَ: سَأَلُوهُ عَنْ سَبَبِ انْتِقَالِ وَلَدِ يَعْقُوبَ مِنْ كَنْعَانَ إِلَى مِصْرَ، فَذَكَرَ لَهُمْ قِصَّةَ يُوسُفَ جميعها، فَوَجَدُوهَا مُوَافِقَةً لِمَا فِي التَّوْرَاةِ فَتَعَجَّبُوا مِنْهَا، فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ:{آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ} [يوسف: 7] أَيْ: دَلَالَةٌ عَلَى نُبُوَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَقِيلَ: آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ وَلِمَنْ لَمْ يَسْأَلْ، كَقَوْلِهِ:{سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} [فُصِّلَتْ: 10]
[فُصِّلَتْ: 10]، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ عِبْرَةٌ لِلْمُعْتَبِرِينَ، فَإِنَّهَا تَشْتَمِلُ عَلَى حَسَدِ إِخْوَةِ يُوسُفَ وَمَا آلَ إِلَيْهِ أَمْرُهُمْ فِي الْحَسَدِ وَتَشْتَمِلُ عَلَى رُؤْيَاهُ، وَمَا حَقَّقَ اللَّهُ مِنْهَا، وَتَشْتَمِلُ عَلَى صَبْرِ يُوسُفَ عليه السلام عَنْ قَضَاءِ الشَّهْوَةِ وَعَلَى الرِّقِّ وعلى اللبث في السِّجْنِ، وَمَا آلَ إِلَيْهِ أَمْرُهُ مِنَ الْمُلْكِ، وَتَشْتَمِلُ عَلَى حُزْنِ يعقوب وصبره على فراق يوسف، وَمَا آلَ إِلَيْهِ أَمْرُهُ مِنَ الْوُصُولِ إِلَى الْمُرَادِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
[8]
{إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ} [يوسف: 8] اللَّامُ فِيهِ جَوَابُ الْقَسَمِ تَقْدِيرُهُ: والله ليوسف، {وَأَخُوهُ} [يوسف: 8] بِنْيَامِينُ، {أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا} [يوسف: 8] كَانَ يُوسُفُ وَأَخُوهُ بِنْيَامِينُ مِنْ أُمٍّ وَاحِدَةٍ، وَكَانَ يَعْقُوبُ عليه السلام شَدِيدَ الْحُبِّ لِيُوسُفَ عليه السلام، وكان إخوته يرون منه مِنَ الْمَيْلِ إِلَيْهِ مَا لَا يَرَوْنَهُ مَعَ أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا هَذِهِ المقالة، {وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} [يوسف: 8] أي: جماعة وكانوا عشرة، وقال الْفَرَّاءُ: الْعُصْبَةُ هِيَ الْعَشَرَةُ فَمَا زَادَ، وَقِيلَ: الْعُصْبَةُ مَا بَيْنَ الْوَاحِدِ إِلَى الْعَشَرَةِ، وَقِيلَ: مَا بَيْنَ الثَّلَاثَةِ إِلَى الْعَشَرَةِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَا بَيْنَ الْعَشَرَةِ إِلَى خَمْسَةَ عَشَرَ، وَقِيلَ: مَا بَيْنَ الْعَشَرَةِ إِلَى الْأَرْبَعِينَ، وَقِيلَ: جَمَاعَةٌ يَتَعَصَّبُ بَعْضُهَا لِبَعْضٍ لَا وَاحِدَ لَهَا مِنْ لَفْظِهَا كَالنَّفَرِ وَالرَّهْطِ. {إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [يوسف: 8] أي خطأ بين أمر إِيثَارِهِ يُوسُفَ وَأَخَاهُ عَلَيْنَا، وَلَيْسَ المراد من هذا الضلال، الضَّلَالِ عَنِ الدِّينِ وَلَوْ أَرَادُوهُ لَكَفَرُوا بِهِ، بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ الْخَطَأُ فِي تَدْبِيرِ أَمْرِ الدُّنْيَا يقولون نحن أنفع فِي أَمْرِ الدُّنْيَا وَإِصْلَاحِ أَمْرِ معاشه ورعي مواشيه من يوسف، فَنَحْنُ أَوْلَى بِالْمَحَبَّةِ مِنْهُ فَهُوَ مُخْطِئٌ فِي صَرْفِ مَحَبَّتِهِ إِلَيْهِ.
[9]
{اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا} [يوسف: 9] أي: إلى أرض تبعد عَنْ أَبِيهِ، وَقِيلَ: فِي أَرْضٍ تأكله السباع، {يَخْلُ لَكُمْ} [يوسف: 9] يَخْلُصْ لَكُمْ، وَيَصْفُ لَكُمْ {وَجْهُ أَبِيكُمْ} [يوسف: 9] عَنْ شَغْلِهِ بِيُوسُفَ، {وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ} [يوسف: 9] مِنْ بَعْدِ قَتْلِ يُوسُفَ، {قَوْمًا صَالِحِينَ} [يوسف: 9] تَائِبِينَ أَيْ: تُوبُوا بَعْدَمَا فَعَلْتُمْ هَذَا يَعْفُ اللَّهُ عَنْكُمْ، وَقَالَ مقاتل: صالحين يَصْلُحْ أَمْرُكُمْ فِيمَا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ أَبِيكُمْ.
[10]
{قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ} [يوسف: 10] نَهَاهُمْ عَنْ قَتْلِهِ وَقَالَ: الْقَتْلُ كبيرة عظيمة. {وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ} [يوسف: 10]
أَيْ: فِي أَسْفَلِ الْجُبِّ وَظُلْمَتِهِ، وَالْغَيَابَةُ: كُلُّ مَوْضِعٍ سَتَرَ عَنْكَ الشَّيْءَ وَغَيَّبَهُ، وَالْجُبُّ: الْبِئْرُ غَيْرُ الْمَطْوِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ جُبَّ، أَيْ: قُطِعَ ولم يطو {يَلْتَقِطْهُ} [يوسف: 10] يَأْخُذْهُ، وَالِالْتِقَاطُ أَخْذُ الشَّيْءِ مِنْ حيث لا يحتسبه الإنسان، {بَعْضُ السَّيَّارَةِ} [يوسف: 10] أَيْ: بَعْضُ الْمُسَافِرِينَ فَيَذْهَبُ بِهِ إِلَى نَاحِيَةٍ أُخْرَى فَتَسْتَرِيحُوا مِنْهُ، {إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} [يوسف: 10] أَيْ: إِنْ عَزَمْتُمْ عَلَى فِعْلِكُمْ، قال مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: اشْتَمَلَ فِعْلُهُمْ على جرائم من قطيعة الرَّحِمِ، وَعُقُوقِ الْوَالِدَيْنِ، وَقِلَّةِ الرَّأْفَةِ بِالصَّغِيرِ الَّذِي لَا ذَنْبَ لَهُ، وَالْغَدْرِ بِالْأَمَانَةِ وَتَرْكِ الْعَهْدِ وَالْكَذِبِ مَعَ أَبِيهِمْ، وَعَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ ذلك كله حتى لا ييأس أَحَدٌ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، وَقَالَ بعض أهل العلم: إنهما عَزَمُوا عَلَى قَتْلِهِ وَعَصَمَهُمُ اللَّهُ رحمة لهم، ولو فعلوا لهلكوا أجمعون، وَكُلُّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ أَنْ أَنْبَأَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى، وَسُئِلَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ: كَيْفَ قَالُوا (نلعب) وَهُمْ أَنْبِيَاءُ؟ قَالَ: كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ نَبَّأَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى، فَلَمَّا أَجْمَعُوا عَلَى التَّفْرِيقِ بَيْنَهُ وبين والده بضروب من الحيل:
[11]
{قَالُوا} [البقرة: 11] لِيَعْقُوبَ، {يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ} [يوسف: 11] قال جعفر: (تأمنا) بإشمام، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ نَافِعٍ؟ وَقَرَأَ الْبَاقُونَ:(تَأْمَنَّا) بِإِشْمَامِ الضَّمَّةِ فِي النُّونِ الْأُولَى الْمُدْغَمَةِ، وَهُوَ إِشَارَةٌ إلى الضمة غَيْرِ إِمْحَاضٍ؛ لِيُعْلَمَ أَنَّ أَصْلَهُ لَا تَأْمَنُنَا بِنُونَيْنِ عَلَى تَفْعَلُنَا، فَأُدْغِمَتِ النُّونُ الْأُولَى فِي الثَّانِيَةِ، بدؤوا بِالْإِنْكَارِ عَلَيْهِ فِي تَرْكِ إِرْسَالِهِ مَعَهُمْ، كَأَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّكَ لَا تُرْسِلُهُ مَعَنَا أَتَخَافُنَا عَلَيْهِ؟ {وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ} [يوسف: 11] قَالَ مُقَاتِلٌ: فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا لِأَبِيهِمْ:{أَرْسِلْهُ مَعَنَا} [يوسف: 12] فَقَالَ أَبُوهُمْ: إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تذهبوا به، فحينئذ قَالُوا:{يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ} [يوسف: 11] النصح ههنا هُوَ الْقِيَامُ بِالْمَصْلَحَةِ، وَقِيلَ: الْبِرُّ والعطف، إِنَّا عَاطِفُونَ عَلَيْهِ قَائِمُونَ بِمَصْلَحَتِهِ نَحْفَظُهُ حَتَّى نَرُدَّهُ إِلَيْكَ.
[12]
{أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا} [يوسف: 12] إلى الصحراء، {يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ} [يوسف: 12] قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَابْنُ عَامِرٍ بالنون فيهما وجزم العين في (نرتع)، وَقَرَأَ يَعْقُوبُ:(نَرْتَعْ) بِالنُّونِ، (وَيَلْعَبْ) بالياء، وَقَرَأَ أَهْلُ الْكُوفَةِ بِالْيَاءِ فِيهِمَا وجزم العين في (يرتع) يعني يوسف، وقرأ الآخرون (نَرْتَعْ) بِالنُّونِ (وَيَلْعَبْ) بِالْيَاءِ، وَالرَّتْعُ هُوَ الِاتِّسَاعُ فِي الْمَلَاذِ؛ يُقَالُ: رَتَعَ فُلَانٌ فِي مَالِهِ إِذَا أَنْفَقَهُ فِي شَهَوَاتِهِ، يُرِيدُ وَنَتَنَعَّمُ وَنَأْكُلُ وَنَشْرَبُ وَنَلْهُو وَنَنْشَطُ، وَقَرَأَ أَهْلُ الْحِجَازِ:(يَرْتَعْ) بِكَسْرِ الْعَيْنِ، وَهُوَ يَفْتَعِلُ مِنَ الرَّعْيِ، ثُمَّ ابْنُ كَثِيرٍ قَرَأَ بِالنُّونِ فِيهِمَا أَيْ: نَتَحَارَسُ وَيَحْفَظُ بَعْضُنَا بَعْضًا، وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَنَافِعٌ بِالْيَاءِ إِخْبَارًا عَنْ يُوسُفَ، أَيْ: يَرْعَى الْمَاشِيَةَ كَمَا نَرْعَى نَحْنُ. {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [يوسف: 12]
[13]
{قَالَ} [يوسف: 13] لَهُمْ يَعْقُوبُ، {إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ} [يوسف: 13] أَيْ. يُحْزِنُنِي ذَهَابُكُمْ بِهِ، وَالْحُزْنُ ههنا: أَلَمُ الْقَلْبِ بِفِرَاقِ الْمَحْبُوبِ، {وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ} [يوسف: 13] وَذَلِكَ أَنَّ يَعْقُوبَ كَانَ رَأَى فِي الْمَنَامِ أَنَّ ذِئْبًا شَدَّ عَلَى يُوسُفَ، فَكَانَ يَخَافُ مِنْ ذلك، فمن ثم قال: أخاف أن يأكله الذئب، قرأ ابن كثير إسماعيل وقالون عن نافع وعاصم وابن عامر:(الذئب) بالهمزة، وكذلك أبو عمرو إذا لم يدرج، وحمزة إذا لم يقف، وقرأ الكسائي وورش عن نافع، وأبو عمرو وفي الدرج، وحمزة في الوقف، (الذيب) بترك الهمزة في الهمز، أنه هو الأصل؛ لأنه من قولهم: تذابت الريح إذا جاءت من كل وجه، ويجمع الذئب أذؤبا وذئابا بالهمزة، والوجه في ترك الهمز أن الهمزة خففت فقلبت ياء لسكونها وانكسار ما قبلها.
[14]
{قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} [يوسف: 14] عشرة، {إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ} [يوسف: 14] عَجَزَةٌ ضُعَفَاءُ.
[15]
{فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا} [يوسف: 15] أي: عزموا، {أَنْ يَجْعَلُوهُ} [يوسف: 15] يلقوه، {فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ} [يوسف: 15]