الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْإِنْفَاقِ فِيمَا يُقَرِّبُ مِنَ اللَّهِ وَأَنْتُمْ مَيِّتُونَ تَارِكُونَ أَمْوَالَكُمْ، ثُمَّ بَيَّنَ فَضْلَ مَنْ سَبَقَ بِالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَبِالْجِهَادِ فَقَالَ:{لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ} [الحديد: 10] يَعْنِي فَتْحَ مَكَّةَ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ، وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: هُوَ صلح الحديبية، {وَقَاتَلَ} [الحديد: 10] لَا يَسْتَوِي فِي الْفَضْلِ مَنْ أَنْفَقَ مَالَهُ وَقَاتَلَ الْعَدُوَّ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ مَعَ مَنْ أَنْفَقَ وَقَاتَلَ بَعْدَهُ، {أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد: 10] أَيْ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ وَعَدَهُمُ اللَّهُ الْجَنَّةَ.
قَالَ عَطَاءٌ: دَرَجَاتُ الْجَنَّةِ تَتَفَاضَلُ فَالَّذِينَ أَنْفَقُوا قَبْلَ الْفَتْحِ فِي أَفْضَلِهَا.
وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ (وَكُلٌّ) بِالرَّفْعِ، {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [الحديد: 10]
[قوله تعالى يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى]
نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ. . .
[11 - 12]{مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ - يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ} [الحديد: 11 - 12] يَعْنِي عَلَى الصِّرَاطِ، {بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} [الحديد: 12] يَعْنِي عَنْ أَيْمَانِهِمْ.
قَالَ بَعْضُهُمْ: أَرَادَ جَمِيعَ جَوَانِبِهِمْ فَعَبَّرَ بِالْبَعْضِ عَنِ الْكُلِّ وَذَلِكَ دَلِيلُهُمْ إِلَى الجنة، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه: يُؤْتَوْنَ نُورَهُمْ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ فَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْتَى نُورَهُ كَالنَّخْلَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْتَى نُورَهُ كَالرَّجُلِ الْقَائِمِ، وَأَدْنَاهُمْ نُورًا مَنْ نُورُهُ أَعْلَى إِبْهَامِهِ فَيُطْفَأُ مَرَّةً وَيَقِدُ مَرَّةً.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَمُقَاتِلٌ: يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ كُتُبُهُمْ يُرِيدُ أَنَّ كُتُبَهُمُ الَّتِي أُعْطُوهَا بِأَيْمَانِهِمْ وَنُورِهِمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، وَتَقُولُ لَهُمُ الْمَلَائِكَةُ.
[13]
{يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا} [الحديد: 13] قَرَأَ الْأَعْمَشُ وَحَمْزَةُ: (أَنْظِرُونَا) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الظَّاءِ يَعْنِي أَمْهِلُونَا.
وَقِيلَ: انْتَظِرُونَا.
وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِحَذْفِ الْأَلْفِ فِي الْوَصْلِ وَضَمِّهَا فِي الِابْتِدَاءِ وَضَمِّ الظَّاءِ، تَقُولُ الْعَرَبُ: انْظُرْنِي وَأَنْظِرْنِي يَعْنِي انْتَظِرْنِي.
{نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد: 13] نَسْتَضِيءُ مِنْ نُورِكُمْ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُعْطِي الْمُؤْمِنِينَ نُورًا عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ يَمْشُونَ بِهِ عَلَى الصِّرَاطِ، وَيُعْطِي الْمُنَافِقِينَ أَيْضًا نُورًا خَدِيعَةً لَهُمْ، وَهُوَ قَوْلُهُ عز وجل:(وهو خادعهم) ، بينما هم يمشون إذا بَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ رِيحًا وَظُلْمَةً فَأَطْفَأَتْ نُورَ الْمُنَافِقِينَ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ:{يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا} [التَّحْرِيمِ: 8] مَخَافَةَ أَنْ يُسْلَبُوا نُورَهُمْ كَمَا سُلِبَ نُورُ الْمُنَافِقِينَ.
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: بَلْ يَسْتَضِيءُ الْمُنَافِقُونَ بِنُورِ الْمُؤْمِنِينَ وَلَا يُعْطَوْنَ النُّورَ فَإِذَا سَبَقَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَبَقُوا فِي الظُّلْمَةِ قَالُوا لِلْمُؤْمِنِينَ: انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ، {قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ} [الحديد: 13] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَقُولُ لَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ، وَقَالَ قَتَادَةُ: تَقُولُ لَهُمُ الْمَلَائِكَةُ: ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ مِنْ حَيْثُ جئتم، {فَالْتَمِسُوا نُورًا} [الحديد: 13] فَاطْلُبُوا هُنَاكَ لِأَنْفُسِكُمْ نُورًا فَإِنَّهُ لَا سَبِيلَ لَكُمْ إِلَى الِاقْتِبَاسِ مِنْ نُورِنَا، فَيَرْجِعُونَ فِي طَلَبِ النُّورِ فَلَا يَجِدُونَ شَيْئًا فَيَنْصَرِفُونَ إِلَيْهِمْ لِيَلْقُوهُمْ فَيُمَيَّزُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ قَوْلُهُ:{فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ} [الحديد: 13] أي سور، والباء صِلَةٌ يَعْنِي بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُنَافِقِينَ، وَهُوَ حَائِطٌ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، له أي لذلك السور، {لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ} [الحديد: 13] أَيْ فِي بَاطِنِ ذَلِكَ السُّورِ الرحمة وهي الجنة {وَظَاهِرُهُ} [الحديد: 13] أَيْ خَارِجَ ذَلِكَ السُّورِ، {مِنْ قِبَلِهِ} [الحديد: 13] أَيْ مِنْ قِبَلِ ذَلِكَ الظَّاهِرِ، {الْعَذَابُ} [الحديد: 13] وهو النار.
[14]
{يُنَادُونَهُمْ} [الحديد: 14] يعني: ينادون الْمُنَافِقُونَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ وَرَاءِ السُّورِ حين حجب بَيْنَهُمْ بِالسُّورِ وَبَقُوا فِي الظُّلْمَةِ: {أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ} [الحديد: 14] فِي الدُّنْيَا نُصَلِّي وَنَصُومُ: {قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ} [الحديد: 14] أَهْلَكْتُمُوهَا بِالنِّفَاقِ وَالْكُفْرِ، وَاسْتَعْمَلْتُمُوهَا فِي الْمَعَاصِي وَالشَّهَوَاتِ، وَكُلُّهَا فِتْنَةٌ، {وَتَرَبَّصْتُمْ} [الحديد: 14] بالإيمان والتوبة.
وقال مقاتل: وتربصتم بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَقُلْتُمْ يُوشِكُ أَنْ يَمُوتَ فَنَسْتَرِيحُ منه،
{وَارْتَبْتُمْ} [الحديد: 14] شَكَكْتُمْ فِي نُبُوَّتِهِ وَفِيمَا أَوْعَدَكُمْ به، {وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ} [الحديد: 14] الْأَبَاطِيلُ وَمَا كُنْتُمْ تَتَمَنَّوْنَ مِنْ نِزُولِ الدَّوَائِرِ بِالْمُؤْمِنِينَ، {حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ} [الحديد: 14] يَعْنِي الْمَوْتَ، {وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [الحديد: 14] يَعْنِي الشَّيْطَانَ، قَالَ قَتَادَةُ: مَا زَالُوا عَلَى خُدْعَةٍ مِنَ الشَّيْطَانِ حَتَّى قَذَفَهُمُ اللَّهُ فِي النَّارِ.
[15]
{فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ} [الحديد: 15] بَدَلٌ وَعِوَضٌ بِأَنْ تَفْدُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ الْعَذَابِ، {وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الحديد: 15] يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ، {مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الحديد: 15] صَاحِبُكُمْ وَأَوْلَى بِكُمْ لِمَا أَسْلَفْتُمْ من الذنوب {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الحديد: 15]
[16]
قَوْلُهُ عز وجل: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} [الحديد: 16] قَالَ الْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ بِسَنَةٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ سَأَلُوا سَلْمَانَ الْفَارِسِيَّ ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالُوا حَدِّثْنَا عَنِ التَّوْرَاةِ فَإِنَّ فِيهَا الْعَجَائِبَ، فَنَزَلَتْ:{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} [يُوسُفَ: 3] فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ الْقُرْآنَ أَحْسَنُ قَصَصًا مِنْ غَيْرِهِ، فَكَفُّوا عَنْ سُؤَالِ سَلْمَانَ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ عَادُوا فَسَأَلُوا سَلْمَانَ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ فَنَزَلَ:{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا} [الزُّمَرِ: 23] فَكَفُّوا عَنْ سُؤَالِهِ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ عَادُوا فَقَالُوا: حَدِّثْنَا عَنِ التَّوْرَاةِ فَإِنَّ فِيهَا الْعَجَائِبَ فَنَزَلَتْ هذه الآية.
فعلى هذا تأويل قَوْلُهُ: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} [الحديد: 16] يَعْنِي فِي الْعَلَانِيَةِ وَبِاللِّسَانِ.
وَقَالَ الآخرون: نَزَلَتْ فِي الْمُؤْمِنِينَ.
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: "مَا كَانَ بَيْنَ إِسْلَامِنَا وَبَيْنَ أَنْ عَاتَبْنَا اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} [الحديد: 16] إِلَّا أَرْبَعُ سِنِينَ".
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ اللَّهَ اسْتَبْطَأَ قُلُوبَ الْمُؤْمِنِينَ فَعَاتَبَهُمْ عَلَى رَأْسِ ثَلَاثَ عشر مِنْ نِزُولِ الْقُرْآنِ، فَقَالَ:{أَلَمْ يَأْنِ} [الحديد: 16] أَلَمْ يَحِنْ لِلَّذِينِ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ تَرِقَّ وَتَلِينَ وَتَخْضَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ، {وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} [الحديد: 16] وَهُوَ الْقُرْآنُ، {وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ} [الحديد: 16] وَهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، {فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ} [الحديد: 16] الزَّمَانُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَنْبِيَائِهِمْ، {فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} [الحديد: 16] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَالُوا إِلَى الدُّنْيَا وَأَعْرَضُوا عَنْ مَوَاعِظِ اللَّهِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ عز وجل يَنْهَى الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَكُونُوا فِي صحبة القرآن كاليهود الَّذِينَ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ لَمَّا طَالَ عليهم الدهر.
{وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: 16] يَعْنِي الَّذِينَ تَرَكُوا الْإِيمَانَ بِعِيسَى ومحمد عليهما الصلاة والسلام.
[17 - 18] وَقَوْلُهُ عز وجل: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ - إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ} [الحديد: 17 - 18] قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ: بِتَخْفِيفِ الصَّادِ فِيهِمَا مِنَ التَّصْدِيقِ أَيِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِتَشْدِيدِهِمَا، أَيِ الْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ أُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الصَّادِ، {وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [الحديد: 18] بِالصَّدَقَةِ وَالنَّفَقَةِ