الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[26]
{إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ} [الفتح: 26] حِينَ صَدُّوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابَهُ عَنِ البيت عام الحديبية، وَلَمْ يُقِرُّوا بِبَسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَأَنْكَرُوا مُحَمَّدًا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَالْحَمِيَّةُ: الْأَنَفَةُ، يُقَالُ: فَلَانَ ذُو حَمِيَّةٍ إِذَا كَانَ ذَا غَضَبٍ وَأَنَفَةٍ. قَالَ مُقَاتِلٌ: قَالَ أَهْلُ مَكَّةَ: قَدْ قَتَلُوا أَبْنَاءَنَا وَإِخْوَانَنَا ثُمَّ يَدْخُلُونَ عَلَيْنَا، فَتَتَحَدَّثُ الْعَرَبُ أَنَّهُمْ دَخَلُوا عَلَيْنَا عَلَى رَغْمِ أَنْفِنَا، وَاللَّاتِ وَالْعُزَّى لَا يَدْخُلُونَهَا عَلَيْنَا، فهذه {حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ} [الفتح: 26] الَّتِي دَخَلَتْ قُلُوبَهُمْ، {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [الفتح: 26] حَتَّى لَمْ يَدْخُلْهُمْ مَا دَخْلَهُمْ مِنَ الْحَمِيَّةِ فَيَعْصُوا اللَّهَ فِي قتالهم، {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} [الفتح: 26] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: كَلِمَةُ التَّقْوَى "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ". وَرُوِيَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ مَرْفُوعًا. وَقَالَ عَلِيٌّ وَابْنُ عُمَرَ: كَلِمَةُ التَّقْوَى لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ. وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ: هِيَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. وَقَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ: هِيَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: هِيَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. {وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا} [الفتح: 26] من كفار مكة، {وَأَهْلَهَا} [الفتح: 26] أَيْ وَكَانُوا أَهْلَهَا فِي عِلْمِ اللَّهِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى اخْتَارَ لِدِينِهِ وَصُحْبَةِ نَبِيِّهِ أَهْلَ الْخَيْرِ {وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [الفتح: 26]
[قوله تَعَالَى لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ]
لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ. . .
[27]
{لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [الفتح: 27] وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُرِيَ فِي الْمَنَامِ بِالْمَدِينَةِ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى الْحُدَيْبِيَةِ أَنَّهُ يَدْخُلُ هُوَ وَأَصْحَابُهُ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ آمِنِينَ وَيُحَلِّقُونَ رَءُوسَهُمْ وَيُقَصِّرُونَ، فَأَخْبَرَ بِذَلِكَ أَصْحَابَهُ، فَفَرِحُوا وحبوا أَنَّهُمْ دَاخِلُو مكةَ عَامَهُمْ ذَلِكَ فَلَمَّا انْصَرَفُوا وَلَمْ يَدْخُلُوا شَقَّ عليهم ذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ. وَرُوِيَ عَنْ مَجْمَعِ بْنِ [جَارِيَةَ] الْأَنْصَارِيِّ. قَالَ «شَهْدِنَا الْحُدَيْبِيَةَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا انْصَرَفْنَا عَنْهَا إِذَا النَّاسُ يَهُزُّونَ الْأَبَاعِرَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَا بَالُ النَّاسِ؟ فَقَالُوا: أُوحِيَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال فخرجنا نرجف، فَوَجَدْنَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَاقِفًا عَلَى رَاحِلَتِهِ عِنْدَ كُرَاعِ الْغَمِيمِ، فَلَمَّا اجْتَمَعَ إِلَيْهِ النَّاسُ قَرَأَ: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح: 1] فقال عمر: أوفتح هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (نَعَمْ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ) » (1) . فَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْفَتْحِ صُلْحُ الْحُدَيْبِيَةِ، وَتَحَقُّقُ الرُّؤْيَا كَانَ فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ، فَقَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ:{لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ} [الفتح: 27] أَخْبَرَ أَنَّ الرُّؤْيَةَ الَّتِي أَرَاهُ إِيَّاهَا فِي مَخْرَجِهِ إِلَى الْحُدَيْبِيَةِ أَنَّهُ يَدْخُلُ هُوَ وَأَصْحَابُهُ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ صِدْقٌ وَحَقٌّ. قَوْلُهُ: (لَتَدْخُلُنَّ) يَعْنِي وَقَالَ: لَتَدْخُلُنَّ. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: لَتَدْخُلُنَّ مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
(1) أخرجه أحمد (3 / 420) ، وأبو داود (2 / 52)، والحاكم (2 / 131) وقال:"صحيح الإسناد ولم يخرجاه" ووفقه الذهبي.
لِأَصْحَابِهِ حِكَايَةً عَنْ رُؤْيَاهُ، فَأَخْبَرَ الله عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا اسْتَثْنَى مَعَ عِلْمِهِ بِدُخُولِهَا بِإِخْبَارِ اللَّهِ تَعَالَى، تَأَدُّبًا بِآدَابِ اللَّهِ، حَيْثُ قَالَ لَهُ:{وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا - إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الْكَهْفِ: 23 - 24] وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: (إِنْ) بِمَعْنَى إِذْ مَجَازُهُ: إِذْ شَاءَ اللَّهُ، كَقَوْلِهِ:{إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 91] وَقَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ مِنَ الدُّخُولِ لِأَنَّ بَيْنَ الرُّؤْيَا وَتَصْدِيقِهَا سَنَةٌ، وَمَاتَ فِي تِلْكَ السَّنَةِ نَاسٌ فَمَجَازُ الْآيَةِ:(لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ كُلُّكُمْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ) ، وَقِيلَ الاستثناء واقع على الأمر لَا عَلَى الدُّخُولِ، لِأَنَّ الدُّخُولَ لَمْ يَكُنْ فِيهِ شَكٌّ، كَقَوْلِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ دُخُولِ الْمَقْبَرَةِ:«وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ» (1) . فَالِاسْتِثْنَاءُ راجع إلى اللحوق بِأَهْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ لَا إِلَى الْمَوْتِ. {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ} [الفتح: 27] كلها، {وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح: 27] بِأَخْذِ بَعْضِ شُعُورِهَا، {لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا} [الفتح: 27] أَنَّ الصَّلَاحَ كَانَ فِي الصُّلْحِ وَتَأْخِيرِ الدُّخُولِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ} [الفتح: 25] الآية. {فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ} [الفتح: 27] أَيْ مِنْ قَبْلِ دُخُولِكُمْ الْمَسْجِدَ الحرام، {فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح: 27] وَهُوَ صُلْحُ الْحُدَيْبِيَةِ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ، وَقِيلَ: فَتْحُ خَيْبَرَ.
[28]
{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [الفتح: 28] على أنك نبي صادق صالح فِيمَا تُخْبِرُ.
[29]
{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} [الفتح: 29] تم الكلام هاهنا، قال ابْنُ عَبَّاسٍ، شَهِدَ لَهُ بِالرِّسَالَةِ، ثُمَّ قَالَ مُبْتَدِئًا {وَالَّذِينَ مَعَهُ} [الفتح: 29] قالوا: وفيه واو الاستئناف أَيْ وَالَّذِينَ مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ} [الفتح: 29] غِلَاظٌ عَلَيْهِمْ كَالْأَسَدِ عَلَى فَرِيسَتِهِ لَا تَأْخُذُهُمْ فِيهِمْ رَأْفَةٌ، {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29] مُتَعَاطِفُونَ مُتَوَادُّونَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ، كَالْوَلَدِ مَعَ الْوَالِدِ، كَمَا قَالَ:{أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة: 54]{تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا} [الفتح: 29] أَخْبَرَ عَنْ كَثْرَةِ صَلَاتِهِمْ وَمُدَاوَمَتِهِمْ عَلَيْهَا، {يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ} [الفتح: 29] أن يدخلهم الجنة، {وَرِضْوَانًا} [الفتح: 29] أن يرضى عنهم، {سِيمَاهُمْ} [الفتح: 29] أَيْ عَلَامَتُهُمْ، {فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح: 29] اختلفوا في هذا السِّيمَا، فَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ نُورٌ وَبَيَاضٌ فِي وُجُوهِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُعْرَفُونَ بِهِ أَنَّهُمْ سَجَدُوا فِي الدُّنْيَا، وَهُوَ رِوَايَةُ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: اسْتَنَارَتْ وُجُوهُهُمْ مِنْ كَثْرَةِ مَا صَلُّوا. وَقَالَ شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ: تَكُونُ. مَوَاضِعُ السُّجُودِ مِنْ وُجُوهِهِمْ كَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ. وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ السَّمْتُ الْحَسَنُ وَالْخُشُوعُ وَالتَّوَاضُعُ. وَهُوَ رِوَايَةُ الْوَالِبِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَيْسَ بِالَّذِي تَرَوْنَ لَكِنَّهُ سِيمَاءُ الْإِسْلَامِ وَسَجِيَّتُهُ وَسَمْتُهُ وَخُشُوعُهُ. وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ: وَالْمَعْنَى أَنَّ السُّجُودَ أَوْرَثَهُمُ الْخُشُوعَ وَالسَّمْتُ الْحَسَنُ الَّذِي يُعْرَفُونَ بِهِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هُوَ صُفْرَةُ الْوَجْهِ مِنَ السَّهَرِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ مَرْضَى وَمَا هُمْ بِمَرْضَى. قَالَ عِكْرِمَةُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هُوَ أَثَرُ التُّرَابِ عَلَى الجباه. قال أبو العالية لأنهم يَسْجُدُونَ عَلَى التُّرَابِ لَا عَلَى الْأَثْوَابِ. وَقَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ: دَخَلَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ كُلُّ مَنْ حَافَظَ عَلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ. {ذَلِكَ} [الفتح: 29] الذي ذكرت، {مَثَلُهُمْ} [الفتح: 29] صفتهم {فِي التَّوْرَاةِ} [الفتح: 29] هَاهُنَا تَمَّ الْكَلَامُ ثُمَّ ذَكَرَ نَعْتَهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ، فَقَالَ:{وَمَثَلُهُمْ} [الفتح: 29] صِفَتُهُمْ، {فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ} [الفتح: 29] أراد فراخه، يُقَالُ أَشْطَأَ الزَّرْعُ فَهُوَ مُشْطِئٌ إِذَا أَفْرَخَ، قَالَ مُقَاتِلٌ: هُوَ نَبْتٌ وَاحِدٌ فَإِذَا خَرَجَ مَا بَعْدَهُ فَهُوَ شَطْؤُهُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ. هُوَ أَنْ يُخْرِجَ مَعَهُ الطَّاقَةَ الأخرى. قوله: {فَآزَرَهُ} [الفتح: 29] قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ: (فَأَزَرَهُ) بِالْقَصْرِ. وَالْبَاقُونَ بِالْمَدِّ، أَيْ قَوَّاهُ وَأَعَانَهُ وشد أزره، {فَاسْتَغْلَظَ} [الفتح: 29] ذلك الزرع، {فَاسْتَوَى} [الفتح: 29] أَيْ تَمَّ وَتَلَاحَقَ نَبَاتُهُ وَقَامَ، {عَلَى سُوقِهِ} [الفتح: 29]
(1) قطعة من حديث أخرجه مسلم في الجنائز برقم (975) 2 / 671.