الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مقدمة الطبعة الأولى:
الحمد لله الذي علَّم وأحكم، وأنعم وأكرم، والصلاة والسلام على منْ بلَّغَ وفهم، وعلى آله الأصفياء، وأصحابه الأوفياء، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الجزاء.
وبعد: (فإنَّ أجلَّ العلومِ قدراً، وأعلاها فخراً، وأبْلَغَها فضيلةً، وأنجحَها وسيلةً، علمُ الشرعِ الشريفِ، ومعرفةُ أحكامِهِ، والاطلاعُ على سرِّ حلالهِ وحرامهِ، فلذلك تعيَّنَتْ إعانةُ قاصدهِ، وتيسيرُ مواردِهِ لرائدهِ، ومعاونتُهُ على تذكارِ لفظهِ ومعانيْهِ، وفهمِ عباراتِهِ ومبانيْهِ)
(1)
، وجاء في معاوية رضي الله عنه قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)
(2)
، ومن الخير الذي أراده الله - تعالى - لهذه الأمة أن جعل لها مذاهبَ كلَّها مستوحاة من كتاب الله - تعالى - ومن سنة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، ومن هذه المذاهب مذهبُ الحنابلة، وهو من المذاهب التي تأخذ بيد صاحبها نحو أدلة الشريعة التي بها قوام الدين وأساسه، وقد تنوعت طرائق علمائنا الأفاضل -رحمة الله على من مات منهم وحفظ الله من بقي- في كيفية دراسة المذهب عند المتأخرين، وقد يحتار طالب العلم الحنبلي المبتدئ في كيفية دراسة المذهب عند المتأخرين، ومن أين يبدأ؟ وما هو الطريق الذي يوصله إلى فقه المذهب وأدلته وقواعده
(1)
اقتباس من مقدمة الشيخ منصور البهوتي رحمه الله على كشاف القناع 1/ 1 ط وزارة العدل.
(2)
أخرجه البخاري في باب: من يرد الله به خيرا يفقه في الدين ح 71، ومسلم في باب النهي عن المسألة ح 1038 كلاهما من حديث معاوية رضي الله عنه.
وأصوله؟ وقد تمضي على الطالب السنون وهو متشتت لا يدري لماذا لم يُحَصِّل من الفقه إلا القليل؟ رغم بقاءه والتحاقه في حلقات ودورات فقهية كثيرة، ولماذا لا يستطيع تصور مسائل المتون الفقهية كما أرادها مؤلفوها؟ لماذا لم يضبط المذهب رغم حفظه لبعض متونه؟ لماذا ولماذا ولماذا؟ أسئلة يجدها طالب العلم الحنبلي المجد ملحة عليه، إلى متى أسير ولم أقطع شيئاً يذكر؟
أخي في الله دعني أشاركك في هذا الْهَمِّ، أخي طالب العلم الحنبلي: إن الحياة طويلة ولكن تنبه أنها تقصر من حيث لا تشعر، تنبه أنك تسير إلى نهايتك، لا تَقُل أنا في ريعان شبابي، سأهمل، أو سأتمهل، فعمري لم يمض منه إلا القليل، وما أدراك أن ما مضى هو القليل، بل قد يكون هو الكثير، والباقي هو القليل، أخي طالب العلم إنك إن شَمَّرْتَ عن ساعد الجد وأنت صغير وحصَّلت وتفقهت ومضيت وسرت على ما أنت عليه وفيه فستكون - بإذن الله- عالم المسلمين، نعم عالم المسلمين الذي قد يحفظ الله به دينها وفقهها، نعم عالم المسلمين الذي يحتاجه الناس.
أخي طالب العلم سأذكر لك منهجاً عملياً لدراسة مذهب الحنابلة المتأخرين فقهه وأدلته وأصوله وقواعده وفروقه وأشباهه، وسأذكر أيضاً شيئاً من النتف والفوائد خلال ذلك، وسأتطرق كذلك إلى تحقيق المذهب عند المتأخرين.
وسميت هذا المنهج بـ: (مدارج تفقه الحنبلي).
وقد كتبت هذا المنهج للمبتدئين أمثالي، وقد يستفيد منه المنتهون، وذلك لما رأيت من ذهاب وقت طويل على طالب العلم الذي لا يسير على منهج واضح ومحدد، منهجٍ له بدايةٌ يبتدئ الطالبُ منها، ونهايةٌ يحرصُ على الوصولِ إليها، والحصول عليها.
وقد أكثرت في هذا المنهج من ذكرِ الأمثلة للتوثيق، ولكي يتدرب الطالب عليها، ويستخرج أمثالها بنفسه، وليس كل ما في هذا المنهج صالحاً لكل طالب مبتدئ، فلا يصلح للمبتدئ في هذا المنهج إلا المرحلة الأولى وما
يتعلق بها، ولذا فأنا أنصح الطالب المبتدئ بأن لا يقرأ المرحلة الثانية الآن، بل يقتصر على قراءة المرحلة الأولى فقط؛ حتى ينتهي منها أو أكثرها؛ ثم يقرأ المرحلة الثانية وما يتعلق بها، وإنما قلت ذلك حتى لا يشوش الطالب على ذهنه، خاصة أنني قد ذكرت في المرحلة الثانية أمورا تحتاج لوقوف طويل حتى يفهمها الطالب ويستوعبها.
أخي طالب العلم: اعلم أن مؤسس ومصحح ومنقح مذهب الحنابلة المتأخرين هو الإمام علي بن سليمان المرداوي (ت 885 هـ) -رحمه الله تعالى- وذلك في علمي أصول الفقه وفروعه، وكلُّ الحنابلة المتأخرين إنما يُعَوِّلُونَ في ترجيح المذهب عليه، ويرجعون في التصحيح إليه، وقد انتهج رحمه الله منهجاً بديعاً، وأسلوباً فريداً في كيفية تناول ودراسة المسائل الفقهية؛ بَيَّنَه في مقدمة كتابه
…
" التنقيح المشبع في تحرير أحكام المقنع "، وهذا المنهج هو الذي اخترتُه واعتمدتُه هنا لدراسة متون الفقه مع الشرح والبيان والتمثيل، وأضفت إليه ما لا يقل أهمية عما ذكره رحمه الله مع المرور على كل كتب المذهب المعتمدة، ودراستها بنفس ذلك المنهج.
ومن أهم فوائد هذا المنهج: فهمُ المسائل الفقهية على ما أراده فقهاءُ الحنابلة - رحمهم الله تعالى- مع الضبط والإتقان لها الذي لا يقِلُّ أهميةً عن فهمها، حتى تتكوَّن عند الطالبِ ملكةٌ فقهية يبنيها بنفسه بعد الاطلاع المتكرر للمسائل في أكثر من كتاب، وبأكثر من طريقة، وكم وُجِدَ مَنْ عنده فهمٌ، أو قادر على الفهم الصحيح؛ لكن ليس عنده ضبط للمسائل ولا إتقان، غير قادر على التفريق بين المسائل المتشابهة، أو غير قادر على الربط بينها، أو غير قادر على معرفة نظائرها وأشباهها.
وكم استكثر بعضُ الناس تكرارَ النظرِ في المسائل في أكثر من كتاب، وقال: هذا ضياع وقت؛ أن ينظر الطالب المسائل نفسها في أكثر من كتاب.
وأنا أقول: هب أنك فهمت المسألة من أول قراءة لها في أول كتاب، فهل يُتَصَوَّرُ أن يكون هذا الفهمُ هو نفسُهُ فقط الذي سيكون مع نظرها في كتاب آخر، بل سيزداد هذا الفهمُ وضوحاً، وسيجد الناظرُ تصوراً جديداً، وقيوداً واستثناءات، قد لا تكون موجودة في أول كتاب، بل ولا في ثاني
كتاب، لأن العلماء يختلفون في كيفية عرضهم للمسائل، وتناولهم لها، هذا فضلاً عن المسائل الجديدة التي تمر عليك في كل كتاب آخر ستقرأه.
وعلم الفقه من العلوم التي لا يُدرك بالنظر اليسير في كتبه، بل لابد من إطالة النظر فيه، وتكراره حتى يحصلَ الفهمُ والإدراكُ، وانظر إلى الشيخ البهوتي رحمه الله شارح كتب المذهب بلا منازع، قد وضع حاشية على المنتهى ثم على الإقناع ثم شرح زاد المستقنع ثم شرح الإقناع ثم شرح المنتهى، فلو كان الشيخ يرى أنه لا فائدة من تأليفها مع تكرار نفس المسائل لاكتفى بأحدها، لكنه يعلم رحمه الله أن الفقه لا يدرك بالنظر اليسير والوقوف على بعض كتبه دون بعض؛ بل لابد من إكثار النظر في كتب الفقه، وأن يُكرر ذلك؛ حتى يدرك الطالب مراميَه، ويفهمَ معانيَه.
أخي طالب العلم: لا تستعجل الثمرة، فالثمرة تحتاج لوقت طويل حتى يكتمل خلْقها ونماؤها، ويستوي نضجها، ويطيب طعمها، وعندها يحين قطفها وأكلها، وهكذا علم الفقه فلا تستعجل قطف ثمرته، نعم قد تتأخر لكنها حاصلة بإذن الله لمن جد واجتهد في تحصيلها.
وفي ختام هذه المقدمة أشكر الله تعالى أولاً وآخراً، وأحمده حمد الشاكرين، وأستغفره استغفار المذنبين المخطئين، وأسأل الله تعالى المغفرة والرحمة الواسعة لعلمائنا الحنابلة الذين ساهموا في هذا المذهب وأثروه، وأحسنوا بيانه وبُنيانه، كما أسأله تعالى أن يجزي هذه الدولة السعودية وحكامها كل خير على ما بذلوه وأسدوه في نشر مذهب الحنابلة، والتكفل بطباعة كتبه وتوزيعها على طلبة العلم مجاناً، كما أسأل الله تعالى الرفعة والقبول لكل من ساهم في إظهار وتحقيق وطبع كتب المذهب، وأخص بذلك الشيخين الفاضلين: معالي الشيخ عبدالله بن عبدالمحسن التركي الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي، ومعالي الشيخ عبدالملك ابن عبدالله بن دهيش شافاه الله وعافاه
(1)
، فإن لهذين الشيخين الفاضلين فضلاً كبيراً على الحنابلة
(1)
وقد توفي الشيخ رحمه الله تعالى يوم الخميس الثاني والعشرين من شهر شوال من عام أربع وثلاين وأربعمائة وألف للهجرة، وكنت كتبت هذا الكتاب قبل وفاة الشيخ بسنة تقريبا.
في هذا العصر لما قاموا به من تتبع كتب المذهب المعتمدة وتحقيقها وطباعتها ونشرها، فأسأل الله الكريم أن يتقبل منا ومنهم ومن كل علماء المسلمين صالح العمل، وأن يعفو عنا وعنهم الخطأ والزلل، وأن يجعل ما قدموه في ميزان حسناتهم يوم يلقونه، .
أخي يا من نظر في هذه الكتابة، هذا جهد من مُقِلٍّ حقيقة، لا مجازاً، وأعترف بالتقصير والعجز، فما قلته وكان صواباً فمن الله تعالى وحده وله الفضل والمنة، وما أخطأت فيه فمني ومن الشيطان واستغفر الله تعالى منه، والعلماء بريئون من هذا الخطأ، أسأله تعالى أن يغفرَ لي، ويعفوَ عني، وعَمَّن قرأَهُ، أو نظرَ فيه، وأن يرحمَنا وأن يجعلَ أعمالَنا كلَّهَا صالحةً، ولوجهه الكريمِ خالصةً، وصلى الله وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
أحمد بن ناصر القعيمي
20/ 3 / 1435