الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
علماء الحنابلة المتوسطين، حتى صار مقدماً على غيره في الحفظ، والشروح، والحواشي، والأدلة، وغير ذلك، والشيخ الإمام الموفق ابن قدامة رحمه الله عالم المذهب الذي ألف فيه أنفس الكتب وأهمها، وقدرُ هذا العالم كبير جداً، ولعلوِّ قدره قال فيه شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - (ما دخل الشام بعد الأوزاعي (ت 157 هـ) أفقه من الشيخ الْمُوَفَق)
(1)
، وهذا والله كلام كبير من إمام كبير في إمام كبير، لا أدري لماذا أقف مندهشا من كلام شيخ الإسلام هذا في الموفق؛ لأن بين الأوزاعي والموفق قرون، وفي هذه القرون أئمة، وعلماء كبار، ومع ذلك يقول شيخ الإسلام فيه ذلك، فرحمة الله تعالى على الشيخين، وجعلهما في الفردوس الأعلى من الجنة.
عمل الشيخ المرداوي في "الإنصاف" مع "المقنع
":
1 -
تصحيح الخلاف المطلق.
2 -
بيان المذهب.
3 -
بيان الإبهام في الحكم.
4 -
تقييد المطلق وتخصيص العام.
5 -
بيان المسائل المفردات في المذهب.
6 -
بيان المسائل الغريبة، وهي عنده: التي يعايا بها.
بيان أن المرداوي لم يتبع طريقة أحد في كتب التصحيح:
قال ابن بدران في بيان طريقة المرداوي في الإنصاف: (وطريقته فيه أنه يذكر في المسألة أقوال الأصحاب ثم يجعل المختار ما قاله الأكثر منهم سالكا في ذلك مسلك ابن قاضي عجلون في تصحيحه لمنهاج النووي وغيره من كتب التصحيح)
(2)
.
(1)
قال الشيخ زين الدين ابن رجب: (وبلغني من غير وجه عن الإمام أبي العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى أنه قال: ما دخل الشام - بعد الأوزاعي - أفقه من الشيخ الموفق) انظر: ذيل طبقات الحنابلة 3/ 286.
(2)
انظر: المدخل إلى مذهب الإمام أحمد ص 439
وأقول: كذا قال!
لأن المرداوي رحمه الله بَيَّنَ أنه لم ير أحدا سلك طريقته، وأنه غير مسبوق إلا في تصحيح الخلاف المطلق فقط، وما عداه فهو الذي أبدعه وابتدأه، قال في مقدمة التنقيح
(1)
(وهذه طريقة لم أر أحدا ممن يتكلم على التصحيح سلكها، إنما يصححون الخلاف المطلق من الروايات والأوجه والاحتمالات فقط؛ ففاتهم شيء كثير جدا مع مسيس الحاجة إليه أكثر مما فعلوه).
وقال في الهامش على قوله: (التصحيح): (أعني من أصحابنا، بل ولا من غيرهم لم أرهم ذكروا ذلك).
ومن أهم ما عمله الشيخ المرداوي في المقنع- وكذا الفروع - هو: تصحيح الخلاف المطلق.
والمراد بالخلاف المطلق: الخلاف الذي يذكره المصنف - أي: ابن قدامة - ولم يجزم فيه بالمذهب، أو باختيار واحد من الروايات أو الأوجه أو الاحتمالات التي يذكرها
(2)
.
(1)
ص 31
(2)
ثم إني رأيت الشيخ ناصر الميمان- في مقدمة كتاب التوضيح للشويكي 1/ 130 - عرف الخلاف المطلق بقوله: ومعناه: ذكر الروايتين، أو الروايات من غير تقديم ولا تصحيح ولا ترجيح اهـ.
ولي عليه ملاحظتان:
الأولى: أن فيه قصورا، إذ أنه لم يذكر الأوجه والاحتمالات التي يكون فيها أيضا خلاف مطلق.
الثانية: قوله: من غير تقديم، هذا يصدق على مَنْ جعل ما قدمه هو الراجح كصاحب الفروع، ولا يصدق ذلك على صاحب المقنع، لأنه ليس كل ما قدمه من الروايات أو الأوجه أو الاحتمالات هو الراجح عنده.
قال الشيخ المرداوي رحمه الله: (وتارة يطلق الخلاف بقوله: "مثلا جاز أو لم يجز أو صح أو لم يصح في إحدى الروايتين أو الروايات أو الوجهين أو الوجوه أو بقوله: "ذلك على إحدى الروايتين أو الوجهين والخلاف في هذا أيضا مطلق لكن فيه إشارة ما إلى ترجيح الأول.
وقد قيل: إن المصنف قال إذا قلت: ذلك فهو الصحيح وهو ظاهر مصطلح الحارثي في شرحه وفيه نظر فإن في كتابه مسائل كثيرة يطلق فيها الخلاف بهذه العبارة وليست المذهب ولا عزاها أحد إلى اختياره كما يمر بك ذلك إن شاء الله تعالى ففي صحته عنه بعد) الإنصاف مع المقنع والشرح الكبير 1/ 6.
مثالان:
المثال الأول: عبارته في الماء المسخن بالنجس هل يكره أو لا؟ قال ابن قدامة - رحمه الله تعالى -: (وإن سخن بنجاسة فهل يكره، على روايتين)
(1)
.
فالخلاف الذي ذكره ابن قدامة هنا مطلق لأنه لم يبين الرواية الراجحة، والمذهب: يكره.
المثال الثاني: قال الشيخ ابن قدامة: (فإن توضأ منهما - أي: من آنية الذهب والفضة - فهل تصح طهارته؟ على وجهين)
(2)
.
والمذهب: تصح مع الإثم.
وقد ذكر الشيخ المرداوي في مقدمة الإنصاف صيغا - وهي أساليب - يستخدمها الشيخ ابن قدامة تدل على الخلاف المطلق، أو يستشف المرداوي منها أن الخلاف فيها مطلق، وتأخذ حكم الخلاف المطلق.
وبين أيضا: أن إطلاق الشيخ ابن قدامة للخلاف لا لقوته، بل المُراد: حكايةُ الخلاف في الجملة، قال رحمه الله:(والذي يظهر أن إطلاق المصنف وغالب الأصحاب ليس هو لقوة الخلاف من الجانبين، وإنما مرادهم حكاية الخلاف من حيث الجملة، بخلاف من صرح باصطلاح ذلك كصاحب الفروع ومجمع البحرين، وغيرهما)
(3)
.
وأما عكس الخلاف المطلق فهو: أن يذكر الشيخ العلامة ابن قدامة خلافا، ويبين فيه المذهب، أو يختار إحدى الروايتين أو الوجهين ونحو ذلك.
ومثال الخلاف الذي ليس بمطلق: قول الشيخ ابن قدامة: (ولكل واحد من الزوجين غسل صاحبه في أصح الروايتين)
(4)
، أي إذا مات أحد الزوجين فللحي غسل الآخر في أصح الروايتين.
(1)
انظر: المقنع ص 23.
(2)
المرجع السابق.
(3)
انظر: المقنع والشرح الكبير والإنصاف 1/ 6.
(4)
انظر: المقنع ص 75.
فهنا ذكر الشيخ ابن قدامة خلافا، لكنه صحح إحدى الروايتين وهي: المذهب.
ولم يقتصر فعل الشيخ المرداوي رحمه الله على تصحيح الخلاف المطلق فحسب، أو ما يأخذ حكم الخلاف المطلق، بل حتى ما رجح فيه الشيخ ابن قدامة، أو ذكر أنه المذهب، وهو مخالف للمذهب المعتمد؛ علق عليه وبين فيه الصحيح من المذهب.
قال رحمه الله: (بل ربما جزم في كتابه بشيء والمذهب خلافه)
(1)
.
كما أنه ذكر فيه ما أخل به الشيخ ابن قدامة من الشروط والقيود، وبين ما أبهم، وغير ذلك من الفوائد والتنابيه الشيء الكثير جدا.
المراد بالمبهم: المبهم قد يكون في الحكم، وقد يكون في اللفظ.
والمبهم في الحكم هو: أن يذكر الشيخ ابن قدامة مسألة بدون أن يذكر لها حكما من حيث الحرمة أو الكراهة، أو الوجوب أو الاستحباب.
أمثلة:
المثال الأول: قول الشيخ ابن قدامة رحمه الله: (والشهيد لا يغسل)
(2)
.
فهنا لم يبين رحمه الله حكم غسل الشهيد، ولفظه يحتمل التحريم - وهو ما مشى عليه في:"الإقناع" - ويحتمل الكراهة - وهو ما مشى عليه في: " المنتهى".
قال الشيخ المرداوي: (كلام المصنف وغيره من الأصحاب يحتمل: أن غسله محرم، ويحتمل: الكراهة)
(3)
.
المثال الثاني: قوله رحمه الله: (وإن مات وعليه صوم، أو حج، أو اعتكاف منذور فعله عنه وليه)
(4)
.
(1)
انظر: المقنع والشرح الكبير ومعهما الإنصاف 1/ 12.
(2)
انظر: المقنع ص 77.
(3)
انظر: المقنع والشرح الكبير ومعهما الإنصاف 6/ 90
(4)
المقنع ص 105.
وهنا لم يبين حكم فعل الولي عنه هل هو مستحب؟ أم واجب؟ والمذهب: فيه تفصيل، إن ترك الميت تركة وجب على الولي الفعل بنفسه أو بغيره، وإن لم يترك تركة استحب للولي فعله.
قال الشيخ المرداوي في الإنصاف
(1)
: (قوله: " فعله عنه وليه " يستحب للولي فعله، وأعلم أنه إذا كان له تركه وجب فعله، فيستحب للولي الصوم، وله أن يدفع إلى من يصوم عنه من تركته عن كل يوم مسكينا .... فإن لم يكن له تركه لم يلزمه شيء).
المثال الثالث: قول الشيخ ابن قدامة - رحمه الله تعالى - في المقنع في كتاب الحجر في فصل الحكم الثالث من أحكام المحجور عليه: (بيع الحاكم ماله وقسم ثمنه)
(2)
.
قال الشيخ المرداوي - رحمه الله تعالى - في الإنصاف
(3)
: (يعني: يجب ذلك على الحاكم ويكون على الفور).
وكذلك صرح بالوجوب في التنقيح.
(4)
المثال الرابع: قول الشيخ ابن قدامة - رحمه الله تعالى - في باب عشرة النساء: (ولا يجامع إحداهما بحيث تراه الأخرى)
(5)
.
قال الشيخ المرداوي - رحمه الله تعالى -: (يحتمل أن يكون مراده أن ذلك مكروه وهو: الصحيح من المذهب جزم به في الرعايتين وقدمه في الفروع
(6)
، ويحتمل أن يكون مراده أن ذلك محرم ولو رضيتا به، وهو اختيار المصنف والشارح وقطعا به في المغني والشرح، قلت: وهو الصواب.)
(7)
(1)
7/ 507.
(2)
انظر: المقنع 187
(3)
انظر: المقنع والشرح الكبير ومعهما الإنصاف 13/ 309
(4)
ص 256.
(5)
انظر: المقنع ص 327.
(6)
وهو المذهب كما في " المنتهى " 5/ 314.
(7)
انظر: المقنع والشرح الكبير ومعهما الإنصاف 21/ 421.
وقد يكون الإبهام في اللفظ، فيبينه بلفظ يزيل الإبهام عنه.
وختم الشيخ المرداوي كتابه الإنصاف بقاعدة نافعة جامعة لصفة الروايات المنقولة عن الإمام أحمد رضي الله عنه والأوجه والاحتمالات الواردة عن أصحابه - رحمهم الله تعالى - وأقسام المجتهدين، ومن يكون منهم أهلا لتخريج الأوجه والطرق، وصفة تصحيحهم، وبيان عيوب التصانيف واصطلاحهم فيها، وأسماء من روى عن الإمام أحمد رضي الله عنه ونقل الفقه عنه، قال: فإن طالب العلم لا يسعه الجهل بذلك.
(1)
قال المرداوي في آخر كتابه الإنصاف: (فإن جامعه معترف بالعجز والتقصير، وبضاعته في العلم مزجاة، ولاسيما وقد سلك في هذا الكتاب طريقا لم ير أحدا ممن تقدمه من الأصحاب سلكها، فإن المؤلف إذا صنف كتابا قد سُبق إلى مثله، يسهل تعاطي ما يشابهه، ويزيده فوائد وقيودا، وينقحه ويهذبه، بخلاف من صنف في شيء لم يسبق إلى التصنيف فيه، فإنه يحصل له مشقة بسبب ذلك، والمطلوب ممن طالع هذا الكتاب أو نظر فيه أو استفاد منه، دعوة لمؤلفه بالعفو والغفران، فإنه قد كفاه المؤنة والتعب في جمع نقولات ومسائل لعلها لم تجتمع في كتاب سواه
…
الخ)
(2)
اللهم يا رحمن يا رحيم نسألك وأنت صاحب العفو والغفران أن تعفو وتغفر لإمامنا المرداوي فإنه قد كفانا المؤنة والتعب، واجعل قبره روضة من رياض الجنان برحمتك يا أرحم الراحمين.
(1)
انظر: المرجع السابق 30/ 367.
(2)
المرجع السابق 30/ 420.