الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قاعدة في كيفية العمل فيما لو اختلف حكم مسألة في موضعين:
ذكر الشيخ علي بن محمد بن عبدالعزيز الهندي الحنبلي الحائلي (ت 1419 هـ) - رحمه الله تعالى- قاعدة مهمة في مثل هذه المسائل وهي قوله: (إذا ذكر صاحبُ " الإقناع " و " المنتهى "، وغيرُهما مسألةً في غير بابها فالمعتبر إذا ذكرت في بابها انتهى.)
(1)
.
وهذه قاعدة مهمة، للتعامل مع المسائل التي بهذه الكيفية، ومثل هذه المسائل ليست في " الإقناع " فحسب بل هي في " المنتهى " أيضاً فقد يجزم الشيخ الحجاوي، أو الشيخ ابن النجار في مسألة بحكم في باب، ويخالفه في باب آخر، كل هذا في مسألة واحدة، والتي من المفترض أن يسير - في حكمها- على قول واحد في كل موطن يذكرها، فما هو الحكم المعتمد؟
شرح القاعدة: أن المعتبر والمعتمد هو الحكم الذي في الباب التي ذُكِرَتْ فيه المسألة وهي أصل فيه، ومندرجة أصالة تحت ذلك الباب وهي من أهم فروعه، وليس المعتبر الحكم الذي ذكرت المسألة في بابه عَرَضاً واستطراداً وبياناً مع مسألة أخرى، ووجه ذلك ظاهر إذ أن العالم يكون أتقن لها ولحكمها إذا ذكرها في بابها الأصلي لأنه سيذكر شروطها وضوابطها وقيودها، بخلاف ما لو ذكرها في غير بابها.
ما يؤيد قاعدة الجزم بالمذهب بما في الموضع الأصلي للمسألة:
ثم إني رأيت ما يؤيد هذه القاعدة في كلام وعمل الشيخين عثمان والخلوتي، وذلك في مسألة ثبوت المصاهرة بتحمل المرأة ماء الزوج، حيث قرر في المنتهى في المحرمات في النكاح
(2)
أن تحريم المصاهرة لا يثبت إلا بتغييب الحشفة؛ فيفهم منه: أنه لا يثبت التحريم بالمصاهرة بتحمل ماء الزوج لأنه ليس بتغييب حشفة، ثم في باب الصداق قال في أثناء حديثه عما يثبت
(1)
انظر: مقدمة في المصطلحات الفقهية الحنبلية للشيخ علي بن محمد الهندي ص 382 وهي مضمنة لكتاب: (المذهب عند الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة) طبع وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت، الوعي الإسلامي.
(2)
انظر: شرح المنتهى 5/ 160
كل الصداق
(1)
(لا إن تحملت بمائه، ويثبت به - أي بتحمل ماء الرجل - نسب وعدة ومصاهرة)؛ فهنا صرح بأنه يثبت بتحمل ماء الرجل تحريم المصاهرة، فتعقبه النجدي بقوله
(2)
: (قوله (ومصاهرة) هذا قول صاحب "الرعاية"، وتقدم ما يخالفه في المحرمات حيث قال:(ولا يحرم في مصاهرة إلا تغييب حشفة .. الخ) ولعل ما تقدم هو الصحيح لأمرين:
أحدهما: جريه في الإقناع على خلاف قول الرعاية في البابين
(3)
.
والثاني: أن محل المسألة محرمات النكاح، وقد ذكر المصنف فيها خلاف قول صاحب الرعاية).
والشاهد في قوله: ) أن محل المسألة محرمات النكاح)؛ فهذا يدل على أن الترجيح يكون بالحكم الذي تكون فيه المسألة أصلا فيه، لا الباب الذي ذكرت فيه استطرادا.
وجعل الخلوتي
(4)
ما في المحرمات هو الصحيح.
ومع ذلك خالف الغاية ومشى في البابين على ما مشى عليه المنتهى، وبين في باب الصداق مخالفته للإقناع فقال:(ويثبت به عدة .. ومصاهرة خلافا له في المحرمات)، وتعقبه الشارحُ الرحيبانيُ
(5)
بما يوافق ما صححه النجدي والخلوتي فقال: (وذكر المصنف هناك ما يؤيد ما قاله صاحب " الإقناع "، وعبارته: ولا يحرم في مصاهرة إلا تغييب حشفة أصلية في فرج أصلي، وما تقدم في باب المحرمات هو الصحيح من المذهب، وعليه معظم الأصحاب، فإن هذا القول انفرد به صاحب الرعاية وتبعه عليه صاحب " المنتهى " هنا مع أنه مشى في المحرمات على خلافه).
(1)
انظر: شرح المنتهى 5/ 267
(2)
انظر: حاشيته على المنتهى 4/ 153
(3)
ولم أر المسألة في الإقناع إلا في باب المحرمات في النكاح، ولم أر التحريم بالمصاهرة في باب الصداق.
(4)
انظر: حاشيته على المنتهى 4/ 319
(5)
انظر: مطالب أولي النهى 5/ 208
أمثلة على القاعدة السابقة:
المثال الأول: قول الشيخ الحجاوي رحمه الله في أول كتاب الصلاة: (وكذا- أي: يكفر- لو ترك ركناً أو شرطاً مجمعاً عليه كالطهارة والركوع والسجود، أو مختلفاً فيه يعتقد وجوبه)
(1)
.
ففي هذا الموضع قرر أنه يكفر بترك ركن أو شرط من الصلاة مختلفٍ فيه يعتقد وجوبه؛ بينما قرر في كتاب الردة: بأنه لا يكفر إذا ترك ركناً أو شرطاً من الصلاة إلا إذا كان مجمعاً عليه فقال: (أو) ترك (شرط أو ركن) للصلاة (مجمع عليه فيقتل كفراً)
(2)
، ويفهم منه أنه لو ترك ركناً أو شرطاً مختلفاً فيه فإنه لا يكفر.
فاختلف الحكم في الموضعين ففي كتاب الصلاة يكفر بترك ركن أو شرط مختلف فيه يعتقد وجوبه، وفي كتاب الردة لا يكفر بترك ذلك بل بمجمع عليه، وهذه المسألة من مسائل الردة فالعبرة بما في كتاب الردة فلا يكفر إذا ترك ركناً أو شرطاً مختلفاً فيه.
ولم ينفرد صاحب " الإقناع " بذلك بل حتى صاحب " المنتهى " فعل مثله، واختلف قوله في البابين، حيث قال في كتاب الصلاة:(وكذا) أي كترك الصلاة جحوداً أو تهاوناً أو كسلاً (ترك ركن) للصلاة أو ترك (شرط) لها مجمعٍ عليه أو مختلف فيه (يعتقد) التارك (وجوبه)
(3)
ثم قال الشيخ البهوتي: (وقال الموفق: لا يكفر بمختلف فيه، وهو قياس ما يأتي في الردة).
وقرر في كتاب الردة بأنه: لا يكفر بترك ركن أو شرط مختلف فيه، بل بترك مجمع عليه حيث قال:(وإن ترك عبادة من الخمس تهاوناً لم يكفر إلا بالصلاة أو بشرط أو ركن لها مجمع عليه)
(4)
.
(1)
انظر: كشاف القناع 2/ 28.
(2)
المرجع السابق 14/ 241.
(3)
انظر: شرح منتهى الإرادات 1/ 255.
(4)
المرجع السابق 6/ 289.
ومثلهما في ذلك " التنقيح "
(1)
.
وخالفهم الشيخ مرعي الكرمي في كتابه " غاية المنتهى "، فقرر في كتاب الصلاة بأنه لا يكفر بترك ركن أو شرط مختلف فيه فقال:(ولا كفر بشرط مختلف فيه يعتقد وجوبه خلافاً لهما هنا)
(2)
.
قال الشيخ مصطفى الرحيباني شارح الغاية: (خلافاً لهما هنا) أي: للمنتهى
…
و "الإقناع " حيث صرحا هنا بكفره تبعاً لابن عقيل، والدليل والتعليل يشهدان بصحة ما قال المصنف ومن تأمل نصوص المذهب علم أنه المعتمد قياساً على ما يأتي في الردة)
(3)
.
وقول الغاية: (خلافاً لهما هنا) أي: أنا أخالفهما في هذا الموضع في كتاب الصلاة، وليس في كتاب الردة لأنهما قررا فيه بعدم كفر من ترك شرطاً أو ركناً مختلفاً فيه.
ويستفاد من هذا المثال: أنه ليس كل ما قال فيه صاحب الغاية: (خلافاً لهما) أنه خالف المذهب؛ بل أحياناً يكون قوله هو المذهب، وليس قول صاحب " الإقناع " و " المنتهى "، كما في هذا المثال.
المثال الثاني: قول الشيخ الحجاوي رحمه الله في آخر مقدمة كتاب الزكاة
(4)
: (ولو أتلف المال بعد الحول قبل التمكن ضمنها
(5)
، ولا تسقط بتلف المال إلا الزرع والثمر إذا تلف بجائحة قبل حصاد وجداد) فهنا قرر أن زكاة الزرع والثمر تسقط إذا تلفت بجائحة قبل حصاد وجداد، ويفهم منه أنها لو تلفت بذلك بعد الحصاد والجداد فإنها تضمن.
بينما يقرر في باب زكاة الحبوب والثمار أنها لا تستقر الزكاة فيها إلا
(1)
ص 74.
(2)
انظر: " غاية المنتهى " 1/ 127.
(3)
انظر: مطالب أولي النهى 1/ 283.
(4)
انظر: " الإقناع " 1/ 396.
(5)
أي: الزكاة.
بجعلها في البيدر
(1)
، وتضمن إذا تلفت بعده، ولا تضمن قبل جعلها في البيدر - ولو بعد الحصاد والجداد-، قال رحمه الله (ولا يستقر الوجوب إلا بجعلها في جرين، وبيدر، ومسطاح، فإن تلفت قبله بغير تعد منه سقطت الزكاة)
(2)
.
ففي هذه المسألة اختلف الحكم في البابين، ففي مقدمة الزكاة يقرر أن زكاة الحبوب والثمار تسقط بالتلف قبل الحصاد والجداد فقط، وفي باب زكاة الحبوب والثمار يقرر أنها تسقط بالتلف حتى بعد الحصاد والجداد، ولكن قبل وضعها في البيدر.
وليس هذا صنيع الشيخ الحجاوي فحسب، بل وافقه في ذلك الشيخ ابن النجار في " المنتهى "
(3)
.
والمذهب المعتبر في هذه المسألة هو الحكم المجزوم به في بابها الأصلي وهو: (باب: زكاة الحبوب والثمار)، وأن الحبوب والثمار إذا تلفت بجائحة ونحوها قبل الحصاد أو بعده وقبل وضعها في البيدر فإنها لا تضمن وتسقط زكاتها، وأما بعد وضعها في البيدر فيستقر الوجوب ولا تسقط زكاتها بتلفها وتضمن مطلقاً.
وقد استدرك الشيخ مرعي عليهما في كتابه (غاية المنتهى)، قال في مقدمة كتاب الزكاة
(4)
: (إلا إذا تلف زرع أو ثمر بجائحة قبل وضع في بيدر ومسطاح ولو بعد حصاد وجداد خلافاً لهما هنا).
المثال الثالث: قول الشيخ الحجاوي رحمه الله في كتاب الصيام، في آخر باب ما يفسد الصوم ويوجب الكفارة في كفارة الجماع في رمضان
(5)
:
(1)
وهو: الموضع الذي تشمس فيه الحبوب والثمار.
(2)
انظر: " الإقناع 1/ 420.
(3)
حيث قرر في مقدمة الزكاة بأنها لا تسقط بعد الحصاد والجداد انظر: شرح " المنتهى " 2/ 192، وقرر في باب زكاة الحبوب والثمار أنها تسقط بعد الحصاد والجداد وقبل وضعها في البيدر انظر: شرح " المنتهى " 2/ 237.
(4)
انظر: الغاية 1/ 295، ومطالب أولي النهى شرح " غاية المنتهى " 2/ 27.
(5)
انظر: " الإقناع " 1/ 502.
(والكفارة على الترتيب، فيجب عتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فلو قدرعلى الرقبة في الصوم، لم يلزمه الانتقال، لا إن قدر قبله، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً).
وقال في " المنتهى "
(1)
: (وهي: عتق رقبة فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فلو قدر عليها - لا بعد شروع فيه - لزمته
…
الخ).
وقال في التنقيح
(2)
: (فلو قدر على الرقبة في الصوم لم تلزمه، وتلزم من قدر قبله).
والحاصل: أنهم يقررون هنا في كفارة من وطئ في نهار رمضان أنه يعتق رقبة، فإن لم يستطع فصيام شهرين متتابعين، لكن إن قدر على الرقبة قبل الشروع في الصوم لزمته، وإن قدر عليها بعد الشروع فيه لم تلزمه.
وهذا مخالف لما يقررونه في الفصل الذي يتكلمون فيه عن أحكام الكفارات؛ وهو كتاب الظهار، حيث يقررون قاعدة في الكفارات وهي: أن العبرة في الكفارات وقت الوجوب
(3)
، وبناء على ذلك فمن كان وقت وجوب كفارة الوطء في رمضان عليه معسراً فالواجب عليه الصوم
(4)
ولو أيسر بعد ذلك بوجود الرقبة، وسواء شرع في الصوم أو لا.
ولذا قال الشيخ مرعي الكرمي في " غاية المنتهى "
(5)
: (وهي عتق رقبة فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، ويتعين صوم لقن، لا عتق لمعسر أيسر، ولو قبل شروع في صوم خلافا له هنا)
…
وكان ينبغي على الشيخ مرعي رحمه الله أن يقول: خلافا لهما هنا؛ لأن "المنتهى" كالإقناع في ذلك، وكلاهما هنا تَبعَ التنقيح.
(1)
انظر: شرح " المنتهى " 2/ 370.
(2)
ص 165.
(3)
انظرها: في كشاف القناع 12/ 485، وشرح " المنتهى" 5/ 547، والتنقيح ص 400.
(4)
ويجوز أن يعتق.
(5)
1/ 355.