الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
منتقى الأخبار من أحاديث سيد الأخيار:
مؤلف هذا الكتاب -كما يقول شارحه العلامة الشوكاني-1 هو الشيخ الإمام علامة عصره المجتهد المطلق، أبو البركات شيخ الحنابلة مجد الدين عبد السلام بن عبد الله، ينتهي إلى علي بن عبد الله الحراني المعروف بابن تيمية.
قال الذهبي في النبلاء: إنه ولد سنة تسعين وخمسمائة تقريبًا، وتفقه على عمه الخطيب، وقدم بغداد وهو مراهق مع ابن عمه، وسمع من أحمد بن سكينة وابن طبرزد ويوسف بن كامل وغيرهم وسمع بحران من حنبل وعبد القادر الحافظ، وتلا بالعشر على الشيخ عبد الواحد بن سلطان، وحدث عنه ولده شهاب الدين والدمياطي وعبد الغني بن منصور وغيرهم، وتفقه وبرع، وصنف التصانيف، وانتهت إليه الإمامة في الفقه، ودرس القراءات وصنف فيها أرجوزة. وحج في سنة إحدى وخمسين على درب العراق، وابتهر علماء بغداد لذكائه وفضله، وأقام ببغداد ستة أعوام مكبًّا على الاشتغال في العلم، ثم ارتحل إليها مرة أخرى قبل العشرين وستمائة فتزيد منه، وصنف التصانيف وتوفي بحران سنة اثنتين وخمسين وستمائة.
وقد وصف المؤلئف "ابن تيمية" كتابه المنتقى فقال: هذا كتاب يشتمل على جملة من الأحاديث النبوية التي ترجع أصول الأحكام إليها، ويعتمد علماء الإسلام عليها، انتقيتها من صحيحي البخاري ومسلم ومسند الإمام أحمد بن حنبل، وجامع أبي عيسى الترمذي، وكتاب السنن لأبي عبد الرحمن النسائي وكتاب السنن لأبي داود السجستاني، وكتاب السنن لابن ماجه القزويني، واستغنيت بالعزو إلى هذه المسانيد عن الإطالة بذكر الأسانيد.
وذكر أن العلامة لما رواه البخاري، ومسلم "أخرجاه" ولبقيتهم "رواه الخمسة" ولهم سبعتهم "رواه الجماعة" ولأحمد مع الشيخين "متفق عليه" وفيما سوى ذلك أسمى من رواه منهم، ولم أخرج فيما غزوته عن كتبهم إلا في مواضع يسيرة، وذكرت في ضمن ذلك شيئًا يسيرًا من آثار الصحابة رضوان الله عليهم، ورتبت أحاديث هذا الكتاب على ترتيب فقهاء أهل زماننا لتسهل على مبتغيها وترجمت لها أبوابًا ببعض ما دلت عليه من الفوائد
…
إلخ.
وقد علق الشوكاني على اصطلاح المؤلف فيما رواه الثلاثة بمتفق عليه بأن هذا خلاف المشهور عند الجمهور من أن المتفق عليه ما رواه الشيخان، ولكن لا مشاحة في الاصطلاح، وبين أن قوله: لم أخرج فيما عزوته عن كتبهم يقصد به أنه اقتصر في كتابه هذا على العزو إلى الأئمة المذكورين، وقد
1 نيل الأوطار ج1 ص13.
يخرج عن ذلك في مواضع يسيرة فيروي عن غيرهم كالدارقطني والبيهقي وسعيد بن منصور والأثرم وهذا شيء واضح لمن تتبع هذا الكتاب ودرسه بتأن ودقة1.
وقد نقل الشوكاني عن جماعة عن أئمة الحديث أن هذا الكتاب من أحسن الكتب المصنفة في الفن، لولا عدم تعرض مصنفه رحمه الله للكلام على التصحيح والتحسين والتضعيف في الغالب ونقل عن البدر المنير أنه قال: وأحكام الحافظ مجد الدين عبد السلام بن تيمية المسمى المنتقى هو كاسمه وما أحسنه لولا إطلاقه في كثير من الأحاديث العزو إلى الأئمة دون التحسين والتضعيف، فيقول مثلًا: رواه أحمد، رواه أبو داود، ورواه الدارقطني، ويكون الحديث ضعيفًا، وأشد من ذلك كون الحديث في جامع الترمذي مبينًا ضعفه، فيعزوه إليه دون بيان ضعفه. قال: وينبغي للحافظ جمع هذه المواضع وكتبها على حواشي هذا الكتاب، أو جمعها على مصنف، يستكمل به فائدة الكتاب المذكور.
ونقول: إن هذا كان واجبًا قبل ظهور نيل الأوطار، فأما بعد ظهوره، فلم تعد تلك التنبيهات واجبة على الحافظ أو غيره، وقد بين الإمام الشوكاني منة الله عليه في ذلك فقال: وقد أعان الله وله الحمد على القيام بما أرشد إليه هذا الحافظ مع زيادات إليها تشد رحال الطلاب، وتنقيحات تنقطع بتحقيقها علائق الشك والارتياب.
وقد صدق الشوكاني في ذلك، فقد بذل جهدًا فيه، حتى إن الناظر في كتابه ليلمس أنه يبدأ في شرح الحديث ببيان درجته ومرتبته، وإن كان المصنف قد بينها فإن له فيه تفصيلًا وبحثًا، قد يطول أحيانًا، وقد يختلف به مع المؤلف في تقويمه للحديث مع البيان المقنع الشافي، فشكر الله له هذا المجهود.
ومن نظر في أول حديث أخرجه المؤلف -وهو حديث طهورية ماء البحر- تبين له ذلك بجلاء ووضوح، فإن المصنف اقتصر في تخريج الحديث وتقويمه على قوله: رواه الخمسة، وقال الترمذي: هذا الحديث حسن صحيح، ولكن الشوكاني اتجه ببيان مستقل ينبئ عن شخصية علمية فذة، فإن القارئ للمتن من شأنه أن يعتمد على ما أورده المصنف من أنه رواية الخمسة، ومن حكم الترمذي عليه بالحسن والصحة، ولكن أمانة العلم وشدة الفحص دعت الإمام الشوكاني إلى أن يبين أن الحديث أخرجه ابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما، وابن الجارود في المنتقى، والحاكم في المستدرك والدارقطني والبيهقي في سننهما، وابن أبي شيبة، وذكر حكاية عن الترمذي نقلًا عن البخاري أن الحديث صحيح، ثم أورد معركة في الحكم على هذا الحديث يطول شرحها، ولا يستبينها إلا من رجع إلى هذا الشرح، وأراد أن يعزز الحديث في النهاية بأنه مروي عن جابر عند أحمد وابن ماجه وابن حبان والدارقطني والحاكم بنحو حديث أبي هريرة، وأن له طرقًا عند الطبراني في الكبير.
1 نيل الأوطار ج1 ص22.
وأن الحافظ ابن حجر حكم على إسناده بأنه حسن، وليس فيه إلا ما يخشى من التدليس ثم تعرض لشرح هذا التدليس، وانتقل إلى أن ابن السكن قال: حديث جابر أصح ما روي في هذا الباب
…
إلى آخر ما قال.
ولا نعني بذلك أن هذا الاستيعاب في البحث عن درجة الحديث هو مسلكه في جميع الأحاديث، وإلا لخرج عما هو مقصوده من الاستدلال به على الأحكام، وبيان الأئمة في الأخذ به أو العدول عنه ووجهة نظر كل منهم، فإنه وفق في كلتا الناحيتين فأجاد وأحسن، وهذه خدمة جليلة يشكرها الله له.
والكتاب بعد هذا أكبر مؤلف في أحاديث الأحكام التي ألفت مجردة من الأسانيد بعد عهد الرواية، وهو منتقى كاسمه، فقد اختار من الأحاديث أصلحها للاستدلال من تلك الكتب التي أوردها، وبينا المراد بما فيما نقلناه عن شارحه الشوكاني.
وهو مرتب على أبواب الفقه، سالك مسلكها من إيراد العنوان العام المندرج تحته أبواب، إلا أنه تارة يذكر العنوان العام باسم كتاب، كما صنع في كتاب الطهارة وتارة يذكره باسم باب، كما صنع في أبواب الأواني، ولعل حكمته في ذلك أن هذه الأبواب تشتمل أنواعًا مختلفة في موضوع يندرج تحت الكتاب العام، ولأن خطته في عرض الأبواب أن يكثر منها بحيث يشبه أبا داود في سننه، ولعله يتأثره في التنبيه إلى الحكم بإيراده تحت عنوان باب، وما أكثر ما عنون بالباب لمجرد حديث أو حديثين، ومن صور ذلك: باب طهورية ماء البحر وغيره فليس تحته إلا حديثان، وباب بيان زوال تطهيره فليس تحته إلا حديثان، وباب الرد على من جعل ما يغترف منه المتوضئ بعد غسل وجهه مستعملًا، وليس تحته إلا حديث واحد، مع طول هذا العنوان طولًا بينًا.
ولا سبيل لنا إلى استقصاء أحاديث الكتاب فليس له فيما نحن بصدده كبير جدوى، ولكننا نكتفي في الحكم عليه بما وصفه به ذلك الإمام محمد بن علي الشوكاني الذي انبرى له من بين المحدثين، وأبرز ما فيه من أدلة، وما يتصل بكل حديث من منزلة ورتبة، فهو يقول في بيان السبب الذي دعاه إلى شرحه على ذلك الوجه العظيم: إنه لما كان الكتاب الموسوم بالمنتقى من الأخبار في الأحكام مما لم ينسج على بديع منواله، ولا حرر على شكله ومثاله أحد من الأئمة الأعلام قد جمع من السنة المطهرة ما لم يجتمع في غيره من الأسفار1، وبلغ إلى غاية من الإحاطة بأحاديث الأحكام تتقاصر عنها الدفاتر الكبار، وشمل من دلائل المسائل جملة نافعة تغني دون الظفر ببعضها طوال الأعمار، وصار مرجعًا لجلة العلماء عند الحاجة إلى طلب الدليل، لا سيما في هذه الديار2 وهذه الأعصار، فإنه تزاحمت على مورده العذب أنظار المجتهدين، وتسابقت على الدخول في أبوابه أقدام الباحثين من المحققين، وغدا ملجأ للنظار يأوون إليه، ومفزعًا للهاربين من رق التقليد يعولون عليه، وكان
1 لعله يريد بذلك ما ألف منها في أحاديث الأحكام خاليًا من الأسانيد بعد عصور الرواية.
2 يريد بها اليمن مسقط رأسه.
كثيرًا ما يتردد الناظرون في صحة بعض دلائله
…
حمل حسن الظن بي جماعة من حملة العلم -بعضهم من مشايخي- على أن التمسوا مني القيام بشرح هذا الكتاب1.
هذا؛ وإننا لا نعلم لهذا الكتاب القيم أحدًا قام بشرحه شرحًا كاملًا سوى2 الإمام الشوكاني الذي أفدنا من مقدمته هذه الكلم الجوامع في وصفه لهذا الكتاب، والذي يعنينا من هذا الوصف أن هذا الكتاب نسيج وحده، وأن مجموعته من أحاديث الأحكام المستوعبة مما لم يتح لغيره، وبذلك حاز شهرة جعلته بين كتب الأحكام مرجعًا وإمامًا، وأن مؤلفه -وقد زاد عن صاحب العمدة في عدد الروافد التي يستمد منها أحاديث الأحكام- قد أتيح له ما لم يتح لسلفه من إيراد الكثير من الأدلة التي تفيد الباحث وتقفه على مسائل من الدين ما كانت لتتيسر له لولا أنه توسع في الأخذ عن مظانها من كتب السنن المعتمدة غير الصحيحين.
من أجل هذا نرى أن هذا الكتاب -وإن شابه قصور من ناحية تقويم الحديث والكلام على رجاله- كان أوسع دائرة فيما ألف مختصرًا من أحاديث الأحكام بعد عصر الرواية، وكان تمهيدًا لمن جاء بعده من المؤلفين فيها، فاستكملوا ما فات صاحب المنتقى من تقويم الحديث والكلام على رجال الإسناد، وكان منهم الحافظ العراقي في طرح التثريب الذي رأينا فيه عناية بهذا الأمر تطمئن الدارس على ما ورد فيه من أحاديث الأحكام، والله المستعان.
1 نيل الأوطار للشوكاني ج1 ص11.
2 جاء في كشف الظنون ج2 ص1851 أن السراج عمر بن الملقن الشافعي المتوفى سنة 804هـ قد شرح هذا الكتاب ولم يكمله بل كتب قطعة منه.