الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التقييد والإيضاح في شرح مقدمة ابن الصلاح:
للحافظ زين الدين العراقي المتوفى سنة 806هـ:
تمهيد:
مقدمة ابن الصلاح هو الكتاب المبارك الذي تدور حوله مجموعة الكتب التي بقيت في هذا الفن، وصرنا نتدارسها ونأخذ عنها معارف علوم الحديث.
ومؤلفه هو الإمام الحافظ شيخ الإسلام تقي الدين أبو عمرو وعثمان بن عبد الرحمن بن موسى الكردي المعروف بابن الصلاح، ذكره ابن العماد في شذراته1 فقال: إنه برع في مذهب الشافعي وأصوله، وفي الحديث وعلومه، ونقل عن ابن خلكان أنه كان أحد فضلاء عصره في التفسير والحديث والفقه وأسماء الرجال، وما يتعلق بعلم الحديث واللغة، وذكر أنه سافر إلى خراسان وأقام بها زمنًا، وحصل علم الحديث هناك، ثم رجع إلى الشام وتولى المدرسة النظامية بالقدس الشريف، ثم انتقل إلى دمشق وبقي بها حتى بنى الأشرف دار الحديث، ففوض تدريسها إليه، وكان من العلم والدين على قدم عظيم، ولم يزل جاريًا على السداد والصلاح حتى توفي في الخامس والعشرين من ربيع الآخر سنة ثلاث وأربعين وستمائة للهجرة.
وذكر من تصانيفه مشكل الوسيط، وكتاب الفتاوى، وعلوم الحديث "وهو هذا الكتاب" وغيرها من الكتب.
مقدمة ابن الصلاح:
وكتابه علوم الحديث المعروف بمقدمة ابن الصلاح يعتبر هو الأصل والمرجع لمن جاء بعده، وقد نسق فيه أنواع علوم الحديث وجمعها في خمسة وستين نوعًا أشرنا إليها في غير هذا الموضع.
وقد وضع فهرسًا بهذه الأنواع في مقدمة الكتاب، وقال: إنه ليس بآخر الممكن في ذلك، فإنه قابل للتنويع إلى ما لا يحصى؛ إذ لا تحصى أحوال رواة الحديث وصفاتهم، ولا أحوال متون الحديث وصفاتها.
وهو يذكر في خطبته الباعث له على التأليف فيقول ما خلاصته؛ إن علوم الحديث في عصره انقرضت حتى اكتفى الناس بكتابة الحديث عطلًا، وطرحوا علومه التي بها جل قدره، فحين كان الباحث عن مشكلة لا يلقى له كاشفًا، والسائل عن علمه لا يلقى به عارفًا مَنَّ الله سبحانه
1 شذرات الذهب ج5 ص221.
يجمع كتاب تعرف به أنواع علم الحديث، وأنه أوضح أصوله، وشرح وقواعده، وجمع شتاته، وقنص شوارده.
وقد وصف شيخ الإسلام ابن حجر هذا الكتاب في نخبته1 بأنه جاء بعد التآليف العديدة والمصنفات الكثيرة في هذا الفن، فهذب فنونه، وأملاه شيئًا فشيئًا، فلم يحصل ترتيبه على الوضع المناسب، وأنه اعتنى بتصانيف الخطيب المتفرقة، فجمع شتات مقاصدها، وضم إليها من غيرها نخب فوائدها، فاجتمع في كتابه ما تفرق في غيره، فلهذا عكف الناس عليه وساروا بسيره
…
إلخ.
وهذا وصف إمام درس ونقب، وأحاط معرفة بكنه ما يقول، وإن كان الشيخ ابن الصلاح لم يسمح لنا بهذا التصريح المريح، المفيد فائدة كبرى لمتتبع الفن الذي يحاول معرفة تطوره وكيف كان التأليف فيه.
ومهما يكن فقد فهرس ابن الصلاح أنواعه الخمسة والستين بما نذكره في غير هذا الموضع عند الحديث. عن التقريب الذي اختصره النووي فيه مختصرة الإرشاد.
التقييد والإيضاح:
وجاء الإمام العراقي، وهو الحافظ أبو الفضل زين الدين عبد الرحيم بن الحسين الذي تقدمت ترجمته عند دراسة كتابه تقريب الأسانيد وشرحه المسمى بطرح التثريب من بين كتب الأحكام في الحديث.
وهو إمام ضليع في علوم الحديث ضلاعة يعرفها كل من زاول هذا الشان وعرف رجاله، فأراد أن يضع على مقدمة ابن الصلاح نكتًا لم تكن شرحًا كسائر الشروح التي يفرغ فيها المؤلف كل ما في جعبته، ويطرح بها كل ما في حقيبته، وإنما هي مجرد نكت في أمور رأي وجوب التنبيه عليها، وذلك حتى لا يشغل القارئ عن فحص هذا الكتاب القيم، والعكوف على دراسة ما فيه من معارف جليلة.
وقد أورد في مقدمة هذه النكت ما يدل على عظيم تقديره لذلك الكتاب، وعن منهجه اللطيف القيم فيما أسماء تعليقًا عيه إذ يقول: إن أحسن ما صنف أهل الحديث في معرفة الاصطلاح كتاب علوم الحديث لابن الصلاح، جمع فيه غرر الفوائد فأوعى، ودعا له زمر الشوارد فأجابت طوعًا.
وهذه شهادة إمام جليل في الفن تزيد من قيمة الكتاب، وتعلن برفعة المؤلف فوق ما عرف له من مكانة.
1 نخبة الفكر ص2.
ثم قال في سبب تأليفه: إلا أن فيه غير موضع قد خولف فيه، وأماكن أخر تحتاج إلى تقييد وتنبيه، فأردت أن أجمع عليه نكتًا تقيد مطلقه، وتفتح مغلقه، وقد أورد عليه غير واحد من المتأخرين إيرادات ليست صحيحة، فأردت أن أذكرها، وأبين تصويب كلام الشيخ وترجيحه لئلا يتعلق بها من لا يعرف مصطلحات القوم، وينفق من مزجي البضاعات ما لا يصلح للسوم1.
ثم ذكر أن الشيخ الإمام علاء الدين مغلطاي أوقفه على شيء جمعه عليه سماه إصلاح ابن الصلاح، وقرأ من لفظه موضعًا منه، وأنه لم ير الكتاب المذكور بعد ذلك، وفي ذلك من اعتداد المؤلف بنفسه ما يشعر بأنه لم يعتمد في شيء مما كتب على غيره، ولهذا يقول بعد ذلك: إن هناك جماعة قد اختصروا هذا الكتاب وتعقبوه عليه في مواضع منه، ثم أشعرنا بقوة شخصيته فقال أيضًا. فحيث كان الاعتراض غير صحيح ولا مقبول، ذكرته بصيغة اعتراض على البناء للمفعول.
ثم ذكر -بعد ذلك- إجازته لكتاب ابن الصلاح.
وبعد: فإن هذه الكلمات المحدودة من الإمام الحافظ العراقي أفادت أن نكته تدور في الأعم الأغلب -على ناحيتين:
الناحية الأولى -ويبدو أنها المهمة- بيان ما خولف فيه الشيخ، وما اعترض به عليه، مع تحقيق ما يراه الإمام العراقي حقًّا، سواء أكان للشيخ أو عليه.
الناحية الثانية -إيضاح ما عسى أن يكون في المقدمة من إبهام أو غموض، أو تفصيل بعض ما يحتاج إلى بسط وتفصيل، وإن ذكر غير ذلك فإنما يذكره لا على أنه الباعث الرئيسي له لشرح هذا الكتاب، بل ليسوق فيه فوائد استطرادية تفيد دارس السنة، وتبرهن على قوة اضطلاعه بمختلف العلوم.
ولنذكر على سبيل المثال بعض ما أورده من اعتراض وما دفعه به:
1-
قال ابن الصلاح: أعلم -علمك الله وإياي- أن الحديث عند أهله ينقسم إلى صحيح وحسن وضعيف2، فقال العراقي: اعترض عليه بأمرين: أحدهما أن في الترمذي مرفوعًا: "إذا دعا أحدكم فليبدأ بنفسه" فكان الأولى أن يقول علمنا الله وإياك، وأجاب عن هذا الاعتراض بأن الحديث ليس هكذا، وهو حديث أبي بن كعب:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا ذكر أحدًا فدعا له بدأ بنفسه" أخرجه الترمذي وقال حسن غريب صحيح ورواه أبو داود بلفظ: كان إذا دعا بدأ بنفسه وقال: "رحمة الله علينا وعلى موسى" الحديث، ورواه النسائي
1 ص 11 و12 من كتاب التقييد والإيضاح.
2 التقييد والإيضاح ص18.
في سنته الكبرى، وهو عند مسلم وليس فيه ما ذكره المعترض من أن كل داع يبدأ بنفسه، وإنما هو من فعله صلى الله عليه وسلم لا من قوله، وإذا كان كذلك فهو مقيد بذكره صلى الله عليه وسلم نبيًّا من الأنبياء كما ثبت في صحيح مسلم في حديث أبي الطويل، وفيه قال: وكان إذا ذكر أحدًا من الأنبياء بدأ بنفسه: "رحمة الله علينا وعلى أخي" فأما دعاؤه لغير الأنبياء فلم ينقل أنه كان يبدأ بنفسه، وذكر حديث ابن عباس: "يرحم الله أم إسماعيل
…
" إلخ وحديث الصحيحين أنه سمع رجلًا يقرأ في سورة بالليل فقال "يرحمه الله" وشاهدًا آخر، ثم قال: فظهر أن بدءه بنفسه في الدعاء كان فيما إذا ذكر نبيًّا من الأنبياء، على أنه أحيانًا كان لا يذكر نفسه كقوله: "يرحم الله لوطًا" وقوله: "يرحم الله موسى".
وإلى هذا الحد سكت العراقي ولم يذكر النتيجة، وواضح أنها تصويب لابن الصلاح في مسلكه وأنه لم يخالف السنة.
والاعتراض الثاني: ما نقله من كون الحديث ينقسم إلى هذه الأقسام الثلاثة ليس بجيد، فإن بعضهم يقسمه إلى قسمين فقط: صحيح وضعيف، وسيأتي للمصنف النص على أن من أهل الحديث من لا يفرد نوع الحسن، وهو الظاهر من كلام الحاكم، فكان ينبغي الاحتراز عن هذا الخلاف هنا، والجواب:1 أن ما نقله المصنف عن أهل الحديث قد نقله عنهم الخطابي صراحة في خطبة معالم السنن -وساق عبارة الخطابي- ثم قال: ولم أر من سبق الخطابي إلى هذا التقسيم، وإن كان في كلام المتقدمين ذكر الحسن، ولكن الخطابي نقل التقسيم عن أهل الحديث وهو إمام ثقة، فتبعه المصنف على ذلك هنا، ثم حكى الخلاف في الموضوع الذي ذكره فلم يهمل حكاية الخلاف.
2-
ذكر ابن الصلاح في المرسل صورة قال: إنه لا خلاف فيها بين العلماء، وهي حديث التابعي الكبير الذي لقي جماعة من الصحابة
…
إلخ، ومثل لهذا التابعي بعبيد الله بن عدي بن الخيار، فاعترض عليه بأن عبيد الله بن عدي ذكر في جملة الصحابة فليس من التابعين2.
ورد ذلك الحافظ العراقي بأن الاعتراض ليس بصحيح، وبرهن على ذلك بأنهم إنما ذكروه جريًا على قاعدتهم في ذكر من عاصر النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن عبيد الله ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ولم ينقل أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم، وضرب لذلك بعض الأمثلة ثم قال: إن عبيد الله بن عدي روى عن عمر وعثمان وعلي في آخرين.
3-
قال ابن الصلاح في الحديث المعلل: ويسميه أهل الحديث المعلول، وذلك منهم ومن الفقهاء، في قولهم في باب القياس: العلة والمعلول مرذول عند أهل العربية واللغة3.
1 التقييد والإيضاح ص19.
2 التقييد والإيضاح ص70 وما بعدها.
3 التقييد والإيضاح ص115 وما بعدها.
فقال العراقي: تبعه على ذلك الشيخ محيي الدين النووي فقال في مختصره: إنه لحن، واعترض عليه بأنه قد حكاه جماعة من أهل اللغة منهم قطرب فيما حكاه الخليلي والجوهري في الصحاح والمطرزي في المغرب. ا. هـ. والجواب عن المصنف: إنه لا شك في أنه ضعيف وإن حكاه بعض من صنف في الأفعال كابن القوطية، وقد أنكره غير واحد من أهل اللغة كابن سيدة والحريري، ثم ذكر عبارة المحكم التي تدل على أن ابن سيدة ليس على ثقة من قولهم: المعلول، وأن المعروف: معل ثم قال: أنكره الحريري أيضًا في درة الغواص، واستحسن أخيرًا أن يقال: معل بلام واحدة لا معلل، فإن الذي بلامين يستعمله أهل اللغة بمعنى ألهاه بالشيء وشغله به من تعليل الصبي بالطعام، وأطال في ذلك ثم قال: إن التعبير بالمعلول موجود في كلام كثير من أهل الحديث وساق لذلك أمثلة.
4-
قال ابن الصلاح في المعضل: وذكر أبو نصر السجزي الحافظ قول الراوي بلغني نحو قول مالك: بلغني عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "للمملوك طعامه وكسوته
…
" الحديث، وقال السجزي: أصحاب الحديث يسمونه المعضل،1 فقال العراقي: وقد استشكل كون هذا الحديث معضلًا لجواز أن يكون الساقط بين مالك وأبي هريرة واحدًا، فقد سمع مالك عن جماعة من أصحاب أبي هريرة، كسعيد المقبري، ونعيم المحمر ومحمد بن المنكدر، فلم جعله معضلًا.
وأجاب العراقي بأن مالكًا قد وصل هذا الحديث خارج الموطأ، فرواه عن محمد بن عجلان عن أبيه عن أبي هريرة، فقد عرفنا سقوط اثنين منه، فلهذا سموه معضلًا.
5-
قال ابن الصلاح في الشاذ: إن ما حكم عليه الشافعي بالشذوذ -يريد ابن الصلاح النقل عن الشافعي أن الشاذ أن يروي الثقة حديثًا يخالف به غيره؟ - فلا إشكال في أنه شاذ غير مقبول، وأما ما حكيناه عن غيره "أي من أن الشاذ ما ليس له إلا إسناد واحد
…
إلخ" فيشكل بما ينفرد به العدل الحافظ الضابط كحديث: "إنما الأعمال بالنيات
…
" إلخ2.
وقال العراقي: وقد اعترض عليه بأمرين: أحدهما: أن الخليلي والحاكم إنما ذكرا تفرد الثقة فلا يرد عليهما تفرد الحافظ لما بينهما من الفرقان، الثاني: أن حديث النية لم ينفرد به عمر بل رواه أبو سعيد الخدري وغيره كما ذكره الدارقطني وغيره.
قال العراقي: والجواب عن الأول أن الحاكم ذكر تفرد مطلق الثقة، والخليلي إنما ذكر مطلق الراوي، فيرد على إطلاقهما تفرد العدل الحافظ، وأطال في ذلك، ثم ذكر ما يفيد
1 التقييد والإيضاح ص82 وما بعدها.
2 التقييد والإيضاح ص100 وما بعدها.
الجواب عن الثاني، وهو أن حديث عمر وإن كان قد ورد في المستخرج من أحاديث الناس لعبد الرحمن بن منده أنه رواه سبعة عشر من الصحابة، وأنه رواه عن عمر غير علقمة، وعن علقمة غير محمد بن إبراهيم. فإن الصحيح ما قاله الحافظ أبو بكر البزار في مسنده بعد تخريجه: لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من حديث عمر، ولا عن عمر إلا من حديث علقمة، ولا عن علقمة إلا من حديث محمد بن إبراهيم، ولا عن محمد إبراهيم إلا من حديث يحيى بن سعيد.
وبهذا يثبت أنه شاذ بالمعنى الثاني، ويصح الاعتراض به على من اعتبر الشذوذ منافيًا للصحة بالمعنى الثاني.
ونذكر على سبيل المثال بعض ما رده الحافظ العراقي على ابن الصلاح وخطأه فيه:
1-
أن ابن الصلاح ذكر في المرسل من الصور المختلف فيها إذا انقطع الإسناد قبل الوصول إلى التابعي فكان فيه رواية راو لم يسمع من المذكور فوقه، فالذي قطع به الحاكم الحافظ أبو عبد الله وغيره من أهل الحديث أن ذلك لا يسمى مرسلًا1.
فقال الحافظ العراقي: إنه قوله قبل الوصول إلى التابعي ليس بجيد، بل الصواب قبل الوصول إلى الصحابي، فإنه لو سقط التابعي أيضًا كان منقطعًا لا مرسلًا عند هؤلاء، ولكن هكذا وقع في عبارة الحاكم فتبعه المصنف.
2-
قال ابن الصلاح: إنه من المختلف فيه في المرسل قول الزهري وابن حازم ويحيى بن سعيد وأتباعهم من صغار التابعين: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم2.
ويقول العراقي: إن ما ذكر في حق من سمى من صغار التابعين أنهم لم يلقوا من الصحابة إلا الواحد والاثنين ليس بصحيح بالنسبة إلى الزهري، فقد لقي من الصحابة ثلاثة عشر فأكثر وهم عبد الله بن عمر وسهل بن سعد وأنس بن مالك
…
وساق البقية، ثم ذكر بعض مناقشات في بعض من سمع منهم من الصحابة.
3-
قال ابن الصلاح: إذا قيل في الإسناد: عن رجل أو عن شيخ عن فلان فالذي ذكره الحاكم في معرفة علوم الحديث أنه لا يسمى مرسلًا بل يسمى منقطعًا، وهو في بعض المصنفات المعتبرة في أصول الفقه معدود من المرسل3.
فقال العراقي: اقتصر ابن الصلاح من الخلاف على هذين القولين، وكل منهما خلاف ما عليه الأكثرون، فإن الأكثرين ذهبوا إلى أن هذا متصل في إسناده مجهول، وقد حكاه عن الأكثرين الحافظ رشيد الدين العطار في الغرر المجموعة، واختاره شيخنا الحافظ العلائي في جامع التحصيل.
1 التقييد والإيضاح ص71.
2 التقييد والإيضاح ص72.
3 التقييد والإيضاح ص73.
ثم قال -استكمالا للبحث: إن ما ذكره عن بعض المصنفات المعتبرة لم يسمه، فالظاهر أنه أراد به البرهان لإمام الحرمين، فإنه قال فيه
…
إلخ:
4-
قال ابن الصلاح: وفي صدر صحيح مسلم المرسل في أصول قولنا وقول أهل العلم بالأخبار ليس بحجة1.
فقال العراقي: الحق أن هذا ليس قول مسلم، وإنما ذكره حاكيًا على لسان خصمه الذي نازعه في اشتراط اللقي، وساق العبارة الدالة على ذلك، وهي تبين أنها سيقت في مناقشة وقعت بين مسلم وخصمه الذي اشترط اللقي في الإسناد المعنعن.
5-
ذكر ابن الصلاح في مرسل الصحابي أنه ما يرويه ابن عباس وغيره من أحداث الصحابة عن الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يسمعوه منه، وعلل قوله بأن روايتهم عن الصحابة، والجهالة بالصحابي غير قادحة2.
فقال العراقي: إن فيه أمرين: أحدهما أن قوله: لأن روايتهم عن الصحابة ليس بجيد، بل الصواب أن يقال: لأن أكثر رواياتهم عن الصحابة، إذ قد سمع جماعة من الصحابة من بعض التابعين، وذكره ابن الصلاح نفسه في موضعه، ثم ذكر العراقي لذلك أمثلة، واستطرد با يرد به على منكري ذلك من بعض أهل العلم، فأورد ثمانية عشر مثالًا تفيد رواية بعض الصحابة عن بعض التابعين مع تخريج تلك الأحاديث.
6-
قال ابن الصلاح في المعنعن: والصحيح الذي عليه العمل أنه من قبيل الإسناد المتصل ثم قال: وكاد أبو عمرو بن عبد البر الحافظ يدعي إجماع أئمة الحديث على ذلك3.
فقال العراقي: لا حاجة إلى قوله: كاد، فقد إدعاه فقال في مقدمة التمهيد: أعلم وفقك الله أتى تأملت أقاويل أئمة الحديث
…
إلى أن قال: فوجدتهم أجمعوا على قبول الإسناد المعنعن، لا خلاف بينهم في ذلك إذا جمع شروطًا ثلاثة -وساقها- ثم قال: وهو قول مالك وعامة أهل العلم.
7-
نقل ابن الصلاح عن أحمد بن حنبل أنه يفرق بين "عن فلان" و"أن فلانًا"، ومثله عن يعقوب بن شيبة4.
فقال الحافظ العراقي: وما حكاه المصنف عن أحمد بن حنبل وعن يعقوب بن شيبة من تفرقتهما بين عن وأن ليس الأمر فيه على ما فهمه من كلامهما، ولم يفرق أحمد ويعقوب بين
1 التقييد والإيضاح ص75.
2 التقييد والإيضاح ص75.
3 التقييد والإيضاح ص83.
4 التقييد والإيضاح ص85.
عن وأن لصيغة أن، ولكن لمعنى آخر أذكره
…
وساق الحديث الذي يدل على ذلك المعنى ولا يدل على التفرقة بين عن وأن كما فهم ابن الصلاح.
8-
قال ابن الصلاح في معرفة الأكابر من الرواة من الأصاغر: وقد صح عن عائشة أنها قالت: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننزل الناس منازلهم1.
فقال العراقي: جزم المصنف بصحة حديث عائشة، وفيه نظر، فإن مسلمًا رحمه الله ذكره في مقدمة الصحيح بغير إسناد وبصيغة التمريض فقال: ذكر عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت
…
وذكر الحديث، وقد رواه أبو داود في سننه ثم قال: ميمون بن أبي شبيب "الراوي عن عائشة" لم يدرك عائشة، فلم يسكت عليه أبو داود بل أعله بالانقطاع، ثم قال: ولكن المصنف تبع في تصحيحه الحاكم، وليس فيه حجة للمصنف، فإن المصنف لا يرى ما انفرد الحاكم بتصحيحه صحيحًا.
وطعن فيه أيضًا بأن البزار قال في مسنده بعد أن خرجه: لا يعلم عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من هذا الوجه. وأورد عدة مناقشات في هذا المقام ثم قال: ولكن المؤلف لما رأى مسلمًا روى في مقدمة صحيحه حديثه عن المغيرة بن شعبة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من حدث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكذابين" حمله على الاتصال اكتفاء بمذهب مسلم، ومسلم إنما رواه استشهادًا، بعد أن رواه من حديث ابن أبي ليلى عن سمرة، وحكم عليه مسلم بأنه مشهور، والشهرة لا تلازم الصحة، فقد يكون المشهور صحيحًا وقد يكون ضعيفًا. وانتهى إلى أن هذا الحديث لا يصح إسناده تخطئة لابن الصلاح في دعواه.
9-
قال ابن الصلاح في المدبج: اعلم أن رواية القرين عن القرين تنقسم: فمنها المدبج، وهو أن يروي القرينان كل واحد منها عن الآخر، مثاله في الصحابة عائشة وأبو هريرة روى كل منهما عن الآخر2.
فقال العراقي: إن تقييد المصنف للمدبج بالقرينين إذا روى كل منهما عن الآخر تبع فيه الحاكم في علوم الحديث، ثم قال: إن الأمر ليس على ما ذكراه، إنما المدبج أن يروي كل من الراويين عن الآخر سواء أكانا قرينين أو أحدهما أكبر من الآخر، فتكون رواية أحدهما عن الآخر من رواية الأكبار عن الأصاغر.
ثم ذكر أن صاحب التسمية الأولى للمدبج -وهو الدارقطني- لم يتقيد بكونهما قرينين، بدليل أنه ذكر فيه رواية أبي بكر عن النبي صلى الله عليه وسلم، ورواية النبي صلى الله عليه وسلم عن أبي بكر، ورواية عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم، ورواية النبي صلى الله عليه وسلم عنه
1 التقييد والإيضاح ص328.
2 التقييد والإيضاح ص333.
وذكر مثل ذلك في سعد بن عبادة، وذكر أيضًا رواية الصحابة عن التابعين وبالعكس. وأطال في هذا جدًّا، ثم قال: فهذا يدل على أن المدبج لا يختص بكون الراويين الذين روى كل منهما عن الاخر قرينين، بل الحكم أعم من ذلك.
10-
قال ابن الصلاح في رواية الآباء عن الأبناء: وآخر ما رويناه من هذا النوع وأقربه عهدًا ما حدثنيه أبو المظفر عبد الرحيم
…
إلى أن قال: فذكر بإسناده عن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أحضروا موائدكم البقل فإنه مطردة للشيطان مع التسمية
…
". ا. هـ1.
قال العراقي: وقد أبهم المصنف ذكر إسناده، والسمعاني رواه في الذيل من رواية العلاء بن مسلمة الراوسي عن إسماعيل بن مغر الكرماني عن ابن عياش -وهو إسماعيل- عن بردة عن مكحول عن أبي أمامة، وهو حديث موضوع، فأبهم المصنف موقع العلة وسكت عليه، وقد ذكر المصنف في النوع الحادي والعشرين أنه لا يحل رواية الحديث الموضوع لأحد علم حاله في أي معنى إلا مقرونًا ببيان وضعه، وهذا الحديث ذكر غير واحد من الحفاظ أنه موضوع. ثم ساق على ذلك أدلة، ثم ترفق بالمصنف فقال: إنه قد يجاب عن المصنف بأنه لا يرى أنه موضوع وإن كان في إسناده وضاع، فكأنه ما اعترف بوضعه.
وبعد: فهذه أمثلة تدل على مبلغ دقة هذا الإمام الحافظ، فإنه يبدو أنه أنصف ابن الصلاح إنصافًا كريمًا بذكره ما له وما عليه في مواضع المناقشة، فما كتبه على وجازته التي تبدو في متابعة تعليقاته يعتبر من أنفس ما كتب في هذا الفن، كما يبدو أن صاحب التقييد رحمه الله رأى أن كتاب ابن الصلاح كفاية لمن أراد التزود من علوم الحديث، من غير تزيد في متابعة الفضول والمناقشات التي هي مشغلة عن العلم، ومضيعة للكثير من الوقت.
على أن للإمام العراقي استطرادات جمة الفوائد، من بينها ما أشرنا إليه إجمالًا من ذكر الصحابة الذين يروي عنهم الزهري2، فقد عد فيمن روى عنهم الزهري، عبد الله بن عمر، وسهل بن سعد، وأنس بن مالك، وعبد الله بن جعفر، وربيعة بن عِبَاد "بكسر العين وتخفيف الموحدة"3 وسنين أبو جميلة، والسائب بن يزيد، وأبو الطفيل عامر بن واثلة، والمسور بن مخرمة، وعبد الرحمن بن أزهر
…
إلخ، ثم ذكر بعض الصحابة الذين اختلف في رواية الزهري عنهم.
ومن ذلك الاستطراد أيضًا ذكره لرواية بعض الصحابة عن بعض التابعين عن بعض الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم ومهد له بقوله: بلغني عن بعض أهل العلم أنه أنكر أن يكون قد وجد شيء من رواية الصحابة عن التابعين عن الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فرأيت أن أذكر من ذلك ما وقع لي، فذكر عشرين حديثًا مع بيان رواتها وتخريجها.
1 التقييد والإيضاح ص345 وما بعدها.
2 التقييد والإيضاح ص72.
3 ولهذا الضبط للأعلام فائدة استطرادية جميلة، وهي نصيحة طيبة.
ومن هذه الأحاديث: حديث سهل بن سعد عن مروان بن الحكم عن زيد بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم أملى عليه: "لا يستوي القاعدون من المؤمنين
…
" فجاء ابن أم مكتوم. الحديث رواه البخاري والنسائي والترمذي وقال: حسن صحيح.
ومن ذلك: حديث السائب بن يزيد عن عبد الرحمن بن عبد القارئ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: من نام عن حزبه أو عن شيء منه
…
فذكره، رواه مسلم وأصحاب السنن الأربعة.
ومن ذلك: حديث جابر بن عبد الله عن أم كلثوم بنت أبي بكر الصديق عن عائشة رضي الله عنها: "أن رجلًا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل يجامع ثم يكسل
…
" الحديث. وهكذا.
وعلى أنه لا يخلو من فوائد أخرى يوردها، فقد كتب1 -مع هذه الوجازة الملموسة في كتابه- مناقشة طريفة تدل على قوة يقظته وشدة وعيه، عند قول ابن الصلاح: فالله أسأل أن يجعله مليًا بذلك وأملى، وفيا بكل ذلك وأوفى، يقول: استعمل المصنف هنا مليًا وأملى من غير همز على التخفيف، وكتبه بالياء لمناسبة قوله وفيا وأوفى، وإلا فالأول مهموز من قولهم ملأ الرجل -بضم اللام وبالهمز- أي صار مليئًا أي ثقة، وهو مليء بين الملاء والملاءة ممدودان.
ومن ذلك ما أورده العراقي عند قول ابن الصلاح في دراسة المعضل2 تعليقًا عليه، قال ابن الصلاح: وأصحاب الحديث يقولون أعضله فهو معضل بفتح الضاد، وهو اصطلاح مشكل المأخذ من حيث اللغة، وبحثت فوجدت له قولهم: أمر عضيل أي مستغلق شديد، ولا التفات في ذلك إلى معضل بكسر الضاد وإن كان مثل عضيل في المعنى.
فقال العراقي: أراد المصنف بذلك تخريج قول أهل الحديث معضل بفتح الضاد على مقتضى اللغة، ثم زاده المصنف إيضاحًا فيما أملاه حين قراءة الكتاب عليه فقال: إن فعيلًا يدل على الثلاثي، قال: فعلى هذا يكون لنا عضل قاصرًا، وأعضل متعديًا وقاصرًا، كما قالوا ظلم الليل وأظلم الليل والليل.
ثم قال: اعترض عليه بأن فعيلًا لا يكون من الثلاثي القاصر، والجواب أنه إنما يكون من الثلاثي القاصر إذا كان فعيل بمعنى مفعول، فأما إذا كان بمعنى فاعل فيجيء من الثلاثي القاصر كقولهم حريص من حرص
…
وأطال في ذلك.
وقد كان يمكن أن تضاف هذه الأمثلة إلى ما ذكرناه في الاعتراضات والإجابة عنها، ولكنا ذكرناها هنا للدلالة على توسعة في اللغة أيضًا.
وبعد فلعلنا بهذه الدراسة الموجزة لكتابي مقدمة ابن الصلاح وشرحها المسمى بالتقييد والإيضاح للحافظ العراقي نكون قد ألقينا ضوءًا مشرقًا ينبه إلى مكانة هذين الكتابين، وأنهما يستحقان مزيد عناية ممن يعنون بدراسة هذه العلوم، للانتفاع بهما فيما هم بصدده من هذه الدراسة.
1 التقييد والإيضاح ص13.
2 التقييد والإيضاح ص81 وما بعدها.