الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مجمع الزوائد ومنبع الفوائد:
للحافظ نور الدين الهيثمي المتوفى سنة 807هـ:
ومؤلفه هو الإمام الحافظ علي بن أبي بكر بن سليمان أبي الحسن الهيثمي القاهري1 الشافعي المعروف بالهيثمي، ولد في رجب سنة خمس وثلاثين وسبعمائة، ونشأ فحفظ القرآن الكريم، ثم صحب الزين العراقي ولم يفارقه سفرًا ولا حضرًا حتى مات، بحيث حج معه جميع حجاته، ورحل معه سائر رحلاته، ورافقه في جميع مسموعه بمصر والقاهرة والحرمين وبيت المقدس وبعلبك وحلب وحماة وغيرها، وربما سمع الزين بقراءته، ولم ينفرد عنه الزين بغير ابن البابا والتقي السبكي، ولم يكن الزين يعتمد في شيء من أموره إلا عليه، حتى إنه أرسله مع ولده ولي الدين أبي زرعة لما ارتحل إلى دمشق، وزوجه ابنته خديحة، ورزق منها عدة أولاد، وكتب الكثير من تصانيف الشيخ، بل قرأ عليه أكثرها، وتخرج به في الحديث، بل دربه في أفراد زوائد كتب المعاجم الثلاثة للطبراني، والمسانيد لأحمد والبزار وأبي يعلى على الكتب الستة، وقد أفرد زوائد صحيح ابن حبان على الصحيحين، ورتب أحاديث الحلية لأبي نعيم على الأبواب، ومات عنه مسودة، فأكمله وبيضه الحافظ ابن حجر، كما رتب أحاديث الغيلانيات والخلعيات وفوائد تمام، والأفراد للدارقطني، وتركه مسودة فأكمله الحافظ ابن حجر، ورتب كلا من ثقات ابن حبان وثقات العجلي على الحروف، وقد أعانه الزين العراقي بكتبه، ثم بالمرور عليها وتحريرها وعمل خطبها ونحو ذلك، وعادت بركة الزين عليه في ذلك وفي غيره، وكان عجبًا في الدين والتقوى والزهد والإقبال على العلم والعبادة وخدمة الشيخ، والمحبة في الحديث وأهله.
نقل ابن العماد في الشذرات2 عن ابن حجر أنه قال: قرأت عليه الكثير، ومما قرأت عليه بانفراده نحو النصف من مجمع الزوائد له وغير ذلك، توفي رحمه الله بالقاهرة ليلة الثلاثاء التاسع عشر من رمضان سنة سبع وثمانمائة للهجرة، ودفن خارج باب البرقوقية.
وهذا الكتاب -كما سبق أن ذكرنا- جمع فيه مؤلفه الزوائد من المسانيد الثلاثة: مسند أحمد ومسند أبي يعلى ومسند البزار، وأضاف إليها المعاجم الثلاثة للطبراني -وقد أشرنا إليها- وهي المعجم الكبير والمعجم الأوسط والمعجم الصغير.
والمسانيد في اصطلاحهم هي الكتب التي موضوعها جعل حديث كل صحابي على حده -صحيحًا كان أو حسنًا أو ضعيفًا- ولكل من أصحاب المسانيد طريقة يختلف بها عن الآخر، فمنهم من يرتبها على حروف المعجم، ومنهم من يرتبها على القبائل، أو على السابقة إلى الإسلام أو الشرف في النسب.
1 من مقدمة محقق مجمع الزوائد ج1 ص12 وما بعدها نقلًا عن الضوء اللامع والشذرات وذيول التذكرة.
2 شذرات الذهب ج7 ص70.
ومعنى المعجم في اصطلاح المحدثين ما تذكر فيه الأحاديث على ترتيب الصحابة أيضًا، أو على ترتيب الشيوخ، أو على ترتيب البلدان، قال في الرسالة المستطرفة1: والغالب في تلك المعاجم أن تكون مرتبة على حروف الهجاء كمعجم الطبراني الكبير المؤلف في أسماء الصحابة على حروف المعجم إلخ.
ولا بد لنا من تصوير كل من هذه المسانيد الثلاثة والمعاجم الثلاثة، التي هي مصدر الزوائد الواردة في كتاب الهيثمي كل على حدة في إيجاز.
1-
مسند الإمام أحمد:
وهو -كما وصفه الكتاني-2 يشتمل على ثمانية عشر مسندًا: أولها مسند العشرة وما معه وفيه زيادات ولده عبد الله، ويسير من زيادات أبي بكر القطيعي الراوي عن عبد الله، وقد اشتهر عند كثير من الناس أن عدة المسند أربعون ألف حديث، وقال ابن المديني: إنه لم يزل يسمع ذلك من الناس حتى قرأه على أبي منصور بن رزيق، وقد صرح بذلك الحافظ شمس الدين محمد بن الحسين في التذكرة فقال: عدة أحاديثه أربعون ألفًا بالمكرر، وقال ابن المنادي: إنه ثلاثون ألفًا، والاعتماد على قوله، وقد انتقاه الإمام من أكثر من سبعمائة ألف وخمسين ألف حديث، ولم يدخل فيه إلا ما يحتج به عنده3.
وكما سبق أن أشرنا جمع الحافظ نور الدين أبو الحسن الهيثمي زوائد مسند أحمد على الكتب الستة في كتاب سماه، غاية المقصد في زوائد المسند.
2-
مسند البزار:
ذكره صاحب الرسالة المستطرفة4 وقال: إن له مسندين صغيرًا وكبيرًا، والمسند الكبير هو المسمى بالبحر الزخار، بين فيه الصحيح من غيره، وقال العراقي: إنه لم يفعل ذلك إلا قليلًا إلا أنه يتكلم في بعض رواة الحديث ومتابعة غيره عليه، وقد رجعنا إلى الزين العراقي في تعليقاته على مقدمة ابن الصلاح، فوجدناه ذكر ذلك جوابًا عما اعترض به على ابن الصلاح من الحكم على المسانيد بأنها أقل مرتبة من الكتب الخمسة الصحاح؛ لأن مسند البزار يبين فيه الصحيح وغيره فقال العراقي: إن ذلك قليل فيه إلا أنه يتكلم في تفرد بعض رواته
…
إلخ، وقد نقلها عنه أيضا في تدريبه تمييزًا لمسند البزار عن غيره5 سماها البحر الزخار في زوائد مسند البزار في مجلد ضخم.
1 الرسالة المستطرفة ص101.
2 الرسالة المستطرفة ص15.
3 وانظر الحديث، والمحدثون للدكتور أبي زهو ص369 والتدريب جزء 1 ص172.
4 الرسالة المستطرفة ص51.
5 راجع التقييد والإيضاح ص56، 58، والتدريب ج1 ص174.
3-
مسند أبي يعلى:
ذكره صاحب كشف الظنون فقال -نقلًا عن إسماعيل بن محمد بن الفضل التيمي الحافظ: قرأت المسانيد كمسند العدني ومسند ابن منيع، فإذا هي كالأنهار ومسند أبي يعلى كالبحر، فيكون مجمع الأنهار1 وقد ذكر الكتاني في الرسالة -كما سبق أن أشرنا- أن للحافظ الهيثمي على مسند أبي يعلى الموصلي زوائد على الكتب الستة في مجلد ضخم إلا أنه -كما قال الحافظ ابن حجر في مقدمة كتابه المطالب العالية- لم يستوعب مسند أبي يعلى، بل اقتصر فيه على الرواية المختصرة، فترك أشياء من هذا المسند استدركها عليه تلميذه الحافظ ابن حجر في المطالب العالية.
وأما المعاجم فهي معاجم الطبراني الثلاثة، وقد تحدث عنها صاحب الرسالة المستطرفة فذكرها على النحو الآتي:
1-
المعجم الكبير:
وهو المعجم الذي ألفه في أسماء الصحابة على حروف المعجم -عدا مسند أبي هريرة فإنه أفرده في مصنف- ويقال إنه أورد في المعجم الكبير ستين ألف حديث في اثني عشر مجلدًا، وقال فيه ابن دحية: هو أكبر معاجم الدنيا، وإذا أطلق في كلامهم المعجم فهو المراد، وإذا أريد غيره قيد2.
2-
المعجم الأوسط:
وهو العجم الذي ألفه أسماء شيوخه، وهو قريب من ألفي رجل، حتى إنه روى عمن عاش بعده لسعة روايته وكثرة شيوخه، وأكثره من غرائب حديثهم، قال الذهبي3: إنه في ست مجلدات كبار على معجم شيوخه، يأتي فيه عن كل شيخ بما له من الغرائب والعجائب، فهو نظير كتاب الأفراد للدارقطني، بين فيه فضيلته وسعة روايته، وكان يقول: هذا الكتاب روحي لأنه تعب عليه، وفيه كل نفيس وعزيز ومنكر.
3-
المعجم الصغير:
وهو الذي يقول الذهبي فيه4: إنه روى عن كل شيخ له فيه حديثًا واحدًا، وقال صاحب الرسالة المستطرفة:5 إنه خرج فيه عن ألف شيخ يقتصر فيه غالبًا على حديث واحد عن كل واحد من شيوخه، قيل: وهو عشرون ألف حديث، ذكره غير واحد لكن ذكر المقري في فتح المتعال نقلًا عن كتاب إرشاد المهتدين لمشايخ ابن فهد تقي الدين أن المعجم الصغير للطبراني في مجلد يشتمل على نحو من ألف وخمسمائة حديث بأسانيدها، قال: لأنه
1 الرسالة المستطرفة ص54 وكشف الظنون ج2 ص1679.
2 الرسالة المستطرفة ص101.
3 الرسالة المستطرفة ص101، وانظر التذكرة ج3 ص118 و119.
4 التذكرة ص119.
5 ص101 و102 من الرسالة المستطرفة.
خرج فيه عن ألف شيخ، كل شيخ حديثًا أو حديثين، انتهى وهو التحرير والصواب وخلافة سبق قلم.
هذا ما تيسر لنا من الحديث عن المسانيد الثلاثة والمعاجم الثلاثة التي أفرز منها الحافظ نور الدين الهيثمي زوائدها على الكتب الستة، وأودعها كتابه الكبير: مجمع الزوائد ومنبع الفوائد.
وقد تحدث المؤلف رحمه الله في مقدمة كتابه عن السبب الباعث له على جمع الزوائد في هذا المؤلف فقال: وبعد، فقد كنت جمعت زوائد مسند الإمام أحمد وأبي يعلى الموصلي وأبي بكر البزار ومعاجم الطبراني الثلاثة رضي الله عن مؤلفيها وأرضاهم، كل واحد منها في تصنيف مستقل، ما خلا المعجم الأوسط والصغير فإنهما في تصنيف واحد، فقال لي شيخي أبو الفضل عبد الرحيم بن العراقي رضي الله عنه: اجمع التصاينف واحذف أسانيدها لكي يجتمع أحاديث كل باب منها في باب واحد من هذا المؤلف.
ثم ذكر أنه رتب هذه الزوائد على كتب أوردها ليسهل الكشف منه، وهي الكتب والأبواب المعروفة في الجوامع العامة -في الجملة- ولا تختلف عنها كثيرًا، وقال: إنه سماه بتسمية شيخه: مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، وتكلم عما فيه من الاصطلاح فقال: إن ما تكلم عليه من الأحاديث من تصحيح أو تضعيف وكان من حديث صحابي واحد ثم ذكر له متنًا بنحوه فإنه يكتفي بالكلام عقيب الحديث الأول إلا أن يكون المتن الثاني أصح من الأول.
بقيت مهمتنا نحن مع هذا الكتاب، وهي بيان ما أضافه إلى المكتبة الحديثية من جديد، وما تركه من أثر في خدمة السنة المحمدية.
ونحن نرى أن هذا الكتاب ثروة ضخمة تركت لنا آلافًا مؤلفة مما لم يرد له ذكر في كتب السنة المتداولة، وأن ناحية بارزة ملموسة فيه، وهي أشياء من غرائب العلم مما ليس بمتداول في كتب السنة الأخرى التي بين أيدنا، حتى إن كثيرًا من الأحاديث الواردة فيه قد يكون لها أصل في كتب السنة المتداولة -وهو نفسه كثيرًا ما يشير إلى تلك الأصول- إلا أن هذه الأحاديث المكررة مع تلك الأصول تذكر في صور تبدو فيها تلك الغرائب، ولا سيما ما يراد منها مع ذكر مناسبة الحديث وسببه.
وناحية عظيمة لا يمكن إغفالها في تلك المناسبة -وهي أنه ليس مجرد تسمية هذه الأحاديث بالزوائد أنها مجرد زوائد على الكتب الستة نقلت من المسانيد إلى هذا الكتاب- وحسبنا ذلك إضافة إليها فهذه الزوائد ليست ليست مجرد نقل لتلك الأحاديث، ولا هي نقل لها على الترتيب الذي كانت قد وردت عليه في تلك المسانيد والمعاجم، ولا على الصفة التي كانت عليها الأحاديث في تلك المراجع فإنه يبدو أنها فيها غير مخرجة ولا مقومة.
وإن القارئ الفاضل يعلم مما أوردنا أن تلك المسانيد والمعاجم ترتب الأحاديث على ترتيب الصحابة أو الشيوخ أو نحو ذلك، مما أشرنا إليه في تصويرنا للمسانيد والمعاجم وطريقتها بعامة،
وفي تصويرنا لمسانيدنا هنا ومعاجمنا بخاصة، ولو كان النقل على ذلك الترتيب الوارد هناك لهان الأمر بعض الشيء، ولكان أقل مجهودًا مما ورد عليه في هذا الوضع الجديد، فقد يكفيه أن يستعرض مسانيد الصحابة أو معاجم الشيوخ، ثم يورد هنا من أحاديثهم ما لم يرد ذكره في المزيد عليه من كتب السنة، ليكون العمل في تلك الزوائد على نسقها ومسايرًا لها، ولكن وراء ذلك مهمة شاقة لا يدركها إلا من زاول دراسة أبواب السنة في جوامعها الأولى وطريقة التبويب فيها.
والمؤلف رحمه الله تعالى قد أشار إلى جانب من ذلك المجهود الضخم في تواضع وأدب حين قال: وقد رتبته على كتب أذكرها لكي يسهل الكشف منه
…
إلخ، على أنه رحمه الله حين رتبه على الكتب لم يكتف بذكر كتب عامة، وإنما أورد ما أدرجه تحتها من أبواب -أكثر منها جدًّا- بحيث صار كثير من العنوانات يتفق في المعنى مع ما تدل عليه الأحاديث الواردة فيها، بل ربما كان العنوان بنفس لفظ الحديث الوارد، ولم يتأثر في ذلك بما سبق به من قبل إلا في طريقة البخاري وأبي داود ومن سار على نهجهما من ذكر عناوين قد تؤخذ منها الأحكام التي تدل عليها الأحاديث المندرجة تحتها، وهو مجهود قيم كبير يقتنع به كل الاقتناع من تصفح الكتاب بل إنه يدركه لأول وهلة من نظر في فهارس كتبه وأبوابه.
وواضح أن في ذلك التصرف إحياء لتلك المعاجم، وإبراز لتلك النواحي الحديثية المقصودة منها، وهي توضيح معالم الدين، وإظهار ما فيه من أغراض مختلفة عظيمة، وأما تلك المعاجم والمسانيد فهي مجرد اختزان لتلك الأحاديث وحفظ لها، إلى أن يقيض الله لها أمثال هذا الحافظ العظيم، ممن يقف على تلك الخزائن فيخرج مما فيها بأمانة، ويوزعها على من ينتفع بها في أبوابها وعناوينها المختلفة، ويصيب الناس منها ما كتب الله لهم من العلم في يسر وسهولة.
ومن هذا التقرير يتبين لنا مدى ما أسداه المؤلف وأمثاله رحمهم الله ممن سلك مسلكه في كتب الزوائد، حيث قدموا لنا هذه الزوائد على طريقة الكتب الجوامع التي خلدت بما فيها من التخير للأحاديث، مضافًا إليها ذلك التبويب الموضوعي الذي ينتفع به كل باحث في الدين ودارس للعلم.
ومن أبرز هذه النواحي ما نلمسه في هذا المؤلف مما جاء أثرًا لتجميع الأحاديث المتعددة المراجع في باب واحد، من ظهور كثرة كاثرة من الأحاديث أحيانًا في موضوع واحد كنتيجة لذلك التجميع الموضوعي، فإنها لا بد وأن تترك أثر كبيرًا في نفس القارئ، وتنير أمامه الطريق للانتفاع بها كأدلة ووسائل للمعارف الإسلامية، وأنها تبهر القارئ الذي لو أراد أن يكلف نفسه ويرجع إلى نظائرها في الكتب الأخرى لعرف مقدار الحاجة التي كانت قائمة إلى تجميع هذه الأحاديث، وعدم حرمان الأمة الإسلامية من الانتفاع بها على هذا الوجه العظيم، وأنه لولا هذا التجميع على هذا الوجه لظلت موضوعات كثيرة من فروع الدين وأبوابه شاغرة تتطلب توجيهات إسلامية ترفع عن بعضها كثيرًا من التضارب، كما تزيل كثيرًا من الغموض عن بعضها الآخر.
أضف إلى ذلك أن مؤلف الكتاب كان حريصًا على استيعاب تلك الأحاديث مهما تكرر الحديث الواحد منها، علمًا منه -وهو من أئمة هذا الشأن- أن لتعدد الروايات فوائد عظيمة، منها الانتفاع باختلاف الروايات -بين بعض الألفاظ وبعض تارة، وبالزيادة والنقص تارة- في شرح لغامض، أو بيان لمجمل، أو إيضاح لمبهم، وفيه -في نفس الوقت- تقوية للأحاديث، برفع رتبة الضعيف منها إلى الحسن تارة، والحسن منها إلى الصحيح أخرى، ومن أجل ذلك، فإن المؤلف لا يمل من تكرار الأحاديث تقديرًا لأمانة العلم، وحرصًا على تقديم الفوائد المتعددة من هذا التكرار.
ونبادر هنا فنذكر على سبيل المثال أنه أورد في خطبة حجة الوداع -تحت عنوان الخطب في الحج- ثمانية عشر حديثًا مختلفة الروايات في هذا المقام1.
هذا: وإنه بهذا التصرف قد أراح نفوسًا كثيرة، وأغناها عن البحث عن تلك المعاجم والمسانيد التي نقل منها هذه الزوائد، حيث أصبحت في غير حاجة إلى طلبها والحرص على تحصيلها لأن ما زاد فيها عن الكتب الستة قد أصبح وافيًا على طرف الثمام، وهو مجمع في أبوابه، متضام كل إلف فيه إلى إلفه، بأسلوب بين غثه من سمينه، بل إنه ربما أصلح من شأن الغث بإلحاقه بالسمين بما نشأ من تلك الشواهد والاعتبارات التي كانت نتيجة لذلك التكرير.
فهذه الأصول التي استقي منها المؤلف زوائده فوق أنه يعز الحصول عليها لندرتها أو فقد بعضها الآن، فإنها إذا وجدت يعز الوصول -على الخاصة بله العامة- إلى تجميع أحاديثها تحت عناوينها التي تربط بعضها ببعض، ولئن تم ذلك فإنه يحتاج إلى بيان مرتبة كل حديث منها، وهيهات أن يتم ذلك لغير متخصص ممتاز من أمثال صاحب هذا الكتاب رحمه الله وأحسن جزاءه، فقد عني بهذا الأمر عناية زادت من قيمة كتابه، ودلت على تمكنه ورجحانه على غيره ممن حاولوا تلك المحاولة، فأضحى كتابه للدارس مستغنيًا عن أن يبذل فيه مجهود آخر لنعرف ما فيه من مراتب الحديث.
ومما يؤيدنا في اعتبار تلك المسانيد -قبل فرز الزوائد منها- في درجة لا تصلح للتعويل عليها كثيرًا، ولا تصلح مصدرًا لغير المتخصصين من أئمة هذا الشأن أن الإمام العارف الشيخ أحمد شاه المعروف بشاه الدهلوي قال -وهو بصدد إيراد طبقات كتب الحديث: إن هناك طبقة ثالثة -وأورد فيها المسانيد والمصنفات التي صنفت قبل البخاري ومسلم وفي زمانهما وبعدهما- جمعت بين الصحيح والحسن والمعروف والغريب والشاذ والمنكر والخطأ والصواب والثابت والمقلوب، ولم تشتهر بين العلماء ذلك الاشتهار وإن زال عنها اسم النكارة المطلقة، ولم يتداول ما تفردت به الفقهاء "يعني أحاديث الزوائد" ولم يفحص عن صحتها وسقمها المحدثون كثير فحص، ومنه ما لم يخدمه لغوي بشرح غريب، ولا فقيه لتطبيقه بمذاهب السلف، ولا محدث
1 مجمع الزوائد ج94 ص265.
ببيان مشكله، ولا مؤرخ بذكر أسماء رجاله، فهي باقية على استتارها واختفائها، وخمولها، كمسند أبي يعلى، ومصنف عبد الرزاق، ومصنف عبد بن حميد، والطيالسي، وكتب البيهقي والطحاوي والطبراني، وكان قصدهم جمع ما وجدوه لا تلخيصه وتهذيبه وتقريبه من العمل، ثم ذكر طبقة أخرى وقال: إن مصنفيها جمعوا فيها -بعد قرون متطاولة- ما لم يوجد في الطبقتين الأوليين، وكانت في المجامع والمسانيد المختفية، وكانت على ألسنة من يكتب حديثه المحدثون، ثم قال: إنه من مظنة هذه الأحاديث كتب الخطيب وأبي نعيم ومسند الخوارزمي، وهذه الطبقة مادة كتب الموضوعات، ثم أورد في آخر حديثه فذلكة ذكر فيها أن الطبقة الثالثة لا يباشرها للعمل عليها والقول بها إلا النحارير الجهابذة الذين يحفظون أسماء الرجال وعلل الأحاديث، نعم يؤخذ منها المتابعات والشواهد، وقد جعل الله لكل شيء قدرًا1.
ولعل في هذا ما يؤيد -إلى حد كبير- رأينا في تلك الزوائد قبل فرزها من مراجعها على يد مثل ذلك الجهبذ النحرير، على يد الإمام الحافظ الهيثمي طيب الله ثراه.
وأما طريقة المؤلف في عرضه لأحاديث الزوائد في هذا الكتاب، فإنه:
أولًا: وكما سبق أن أشرنا سلك فيها الإيراد تحت عنوانات أبواب متعتددة تشملها كتب عامة ضمنها كتابه.
فبدأ بكتاب الإيمان وأورد تحته أبوابًا عديدة في موضوعات منه مثل: باب فيمن شهد ألا إله إلا الله، باب فيما يحرم دم المرء وماله، حتى إذا طال الباب أورد جانبًا منه تحت عنوان: باب منه: دفعًا للسآمة، باب الإسلام يجب ما قبله، باب فيمن مات يؤمن بالله واليوم الآخر وهكذا إلى أن أورد خمسة وثمانين بابًا، كلها تندرج تحت كتاب الإيمان وتدل على فروع مختلفة فيه.
ثم انتقل إلى كتاب العلم، فأورد تحته من الأبواب ما يأتي: باب في طلب العلم، باب منه، باب فضل العالم والمتعلم، باب منه، باب الخير كثير ومن يعمل به قليل، باب حث الشباب على طلب العلم. وهكذا حتى استوعب تحت كتاب العلم عشرة ومائة باب، ثم انتقل إلى كتاب الطهارة، وذكر من أبوابه: بابه الإبعاد عند قضاء الحاجة، باب الارتياد للبول، باب ما نهي عن التخلي فيه، باب فيه وفي أدب الخلاء، باب ما يقول عند الخلاء
…
وهكذا حتى استوعب أبوابًا لا تقل عن الباب قبله، ثم انتقل إلى كتاب الصلاة: فأورد فيه عددًا كثيرًا جدًّا من الأبواب وقع بعضها في الجزء الأول، وكثير جدًّا منها في الجزء الثاني، ثم أورد كتاب الجنائز وما يتعلق بالمرض وثوابه وعيادة المريض ونحو ذلك، ثم كتاب الزكاة، وفيه صدقة التطوع، ثم كتاب الصيام ثم كتاب الحج، ثم الأضاحي والصيد والذبائح والوليمة، والعقيقة، وما يتعلق بالمولود، ثم البيوع، ثم الإيمان والنذور، ثم الأحكام، ثم الوصايا، ثم الفرائض، ثم العتق، ثم النكاح
1 حجة الله البالغة ص105 طبع المطبعة الخيرية بالقاهرة سنة 1322، وراجع قواعد التحديث للقاسمي ص239 وما بعدها.
ثم الطلاق، ثم الأطعمة، ثم الأشربة، ثم الطب، ثم اللباس والزينة، ثم الجهاد، ثم المغازي والسير، ثم قتال أهل البغي وأهل الردة، ثم الحدود والديات، ثم التفسير، وفيه ما يتعلق بقراءة القرآن وثوابه، وعلى كم أنزل القرآن من حرف، ثم التعبير، ثم القدر، ثم الفتن، ثم الأدب، ثم البر والصلة، ثم ذكر الأنبياء عليهم السلام، ثم علامات النبوة، ثم المناقب، ثم التوبة، والاستغفار، ثم الأذكار، ثم الأدعية، ثم الزهد وفيه المواعظ، ثم البعث، ثم صفة النار، ثم صفة الجنة.
هذه الكتب التي ضمها مجمع الزوائد، والتي يشتمل كل كتاب منها على مجموعة كبيرة جدًّا من الأبواب، وتحت كل باب منها عدد من الأحاديث يقل أو يكثر بحسب ما ورد في الأسانيد والمعاجم متصلًا بتلك الأبواب، وهي في كثير من أمرها تزيد زيادة لا تخطر بالأذهان، حتى إن الباب الواحد قد يصل عدد الأحاديث فيه إلى قرابة أربعين حديثًا، ومن ذلك باب في الأذكار المندرج تحت كتاب الأذكار في الجزء العاشر من الكتاب1، وهو ما يصور مقدار الثروة الحديثية التي ضمها هذا الكتاب من أحاديث الزوائد، وبين أنه موسوعة إسلامية كبيرة ورائعة.
ثانيًا: التزم المؤلف تخريج كل حديث أورده، فيذكر من خرجه من أصحاب تلك المعاجم والمسانيد ويعزوه إليها، مع تجريده من السند كما أمره شيخه العراقي، ويتبعه بعد ذلك بتقويم الحديث، فيصفه بالصحة أو الحسن أو الضعف، ويتكلم في رجاله بالتوثيق أو التوهين أو الإنكار أو الكذب أو الترك، وله في ذلك دقة ملموسة عجيبة، تجعله موضع ثقة لا يلتمس قارئه التعقيب عليه إلا في بعض رجال يريد أن يبرئ ذمته من الحكم عليهم فيقول: إنه لم يسم، أو إنه لم يجد من ترجمه، أو ما يشبه ذلك، وإليك صورًا قليلة تدل على ما وراءها، وتصور للقارئ هذا الإمام في تقويم الأحاديث وبيان مرتبتها في القبول أو عدمه:
1-
قال في الحديث الأول: رواه أحمد والطبراني في الأوسط باختصار، وأبو يعلى بتمامه، والبزار بنحوه، وفيه رجل لم يسم ولكن الزهري وثقه وأبهمه2.
2-
وفي الحديث الثاني قال: رواه أبو يعلى، وفي إسناده كوثر وهو متروك3.
3-
وفي الحديث الثالث قال: رواه أبو يعلى، ورجاله رجال الصحيح إلا أنه أبا وائل لم يسمعه من أبي بكر4.
1 مجمع الزوائد ص99 إلى 104.
2 يستثنى من ذلك الحديث الأول من الكتاب فإنه ذكره بسند أحمد، واعتذر عن ذلك بقوله: وقد ذكرته بسنده حتى لا ابتدئ الكتاب بسنده منقطع ج1 ص14.
3 يشير إلى قول أحمد عن الزهري: أخبرني رجل من الأنصار من أهل الثقة ج1 ص14 و15.
4 أبو وائل في أول الحديث قبل ذكر أبي بكر رضي الله عنه، وقد ذكره في أول الحديث قبل الصحابي على غير عادته حتى يمكن أن ينبه إليه في التخريج ج1 ص15.
4-
وعن الحديث الرابع قال: رواه أبو يعلى، وفي إسناده سويد بن عبد العزيز، وهو متروك.
5-
وفي الحديث الخامس، بادر المؤلف إلى ذكر الحكم على هذا الحديث في مسند ابن ماجه، وقال: إن رجاله ثقات، ثم أضافه إلى مسنده وهو مسند أحمد، ولم يذكر درجة أحمد، ولعله -وقد أطمأن إلى ثقة رجاله في مسند ابن ماجه ولم يتبين درجة الحديث في مسند أحمد- قد اكتفى بهذا القدر.
6-
وفي الحديث السادس قال: رواه أحمد والطبراني في الكبير، ومداره على سعيد ابن عباس متصلًا، وهذا يرجح أن روايته عن سهيل بن بيضاء غير موثوق بها.
7-
وقال في الحديث السابع: رواه أحمد والطبراني في الكبير ورجاله ثقات.
8-
ثم قال في الحديث الثامن: رواه أحمد والبزار والطبراني في الكبير والأوسط، وإسناد أحمد أصح، وفيه ابن لهيعة، وقد احتج به غير واحد.
وهذه الجملة الأخيرة كالاستدراك؛ لدفع ما قد يرد عليه في الحكم بصحة إسناد أحمد، لما يتردد من أن ابن لهيعة ضعيف عند المحدثين.
9-
وقال في الحديث التاسع: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح، إلا أن أبا صالح لم يسمع من معاذ بن جبل.
10-
وفي الحديث العاشر قال: رواه أحمد والبزار، وفيه انقطاع بين شهر ومعاذ، وإسماعيل بن عياش روايته عن أهل الحجاز ضعيفة، وهذا منها.
ولعلك ترى في تخريج تلك الأحاديث دقة ملموسة تظهر أكثر وضوحًا لمن تتبع أحاديث الكتاب أكثر مما ذكرنا، ولكننا نكتفي بهذا القدر لننتقل إلى مثله من آخره، حتى يتبين أن مسلك المؤلف لم يختلف في آخر الكتاب عنه في أوله، وأن ذلك خلق فيه لا يتغير.
وإليك عشرة أحاديث أخرى من أواخر الكتاب:
1-
جاء في كتاب التوبة1 حديث لأبي هريرة قال في تخريجه: رواه أحمد وفيه بقية، وهو ضعيف، والحديث التالي له قومه بمثل ذلك.
2-
وقال في الحديث الثالث من هذا الباب: رواه الطبراني في الأوسط، ورجاله رجال الصحيح، غير هارون بن موسى الفروي وهو ثقة.
وهنا تجلت أمانته في أن رجال سند هذا الحديث من رجال الصحيح، غير أن فيه هارون بن موسى الفروي وليس من شيوخ البخاري، وهذا لا يمنع من قبول حديثه لأن رجال التعديل حكموا بأنه ثقة.
1 مجمع الزوائد ص188 ج10.
3-
وفي الحديث الرابع من هذا الباب قال: رواه الطبراني في الأوسط، وفيه عبد الله بن سعيد المقبري وهو ضعيف.
4-
وفي باب ما يحتقر من الذنوب1 خرج حديث عبد الله بن مسعود فقال: رواه أحمد والطبراني في الأوسط، ورجالهما رجال الصحيح غير عمران بن داور القطان2. وقد وثق.
5-
وفي الحديث الذي يليه قال: رواه أبو يعلى، وفيه إبراهيم بن مسلم الهجري، وهو ضعيف.
6-
وفي الحديث الذي يليه، وهو من رواية ابن مسعود أيضًا قال فيه: رواه الطبراني موقوفًا بإسنادين، ورجال أحدهما رجال الصحيح.
7-
وفي حديث سهل بن سعد الذي بعده في نفس الباب قال: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح، ورواه الطبراني في الثلاثة من طريقين، ورجال أحدهما رجال الصحيح غير عبد الوهاب بن عبد الحكم، وهو ثقة.
8-
وفي الحديث الذي بعده من رواية سعد بن جنادة، قال: رواه الطبراني، وفيه نفيع أبو داود، وهو ضعيف.
9-
وقال في حديث أبي سعيد الخدري الذي يليه في نفس الباب: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح.
10-
وفي حديث عبادة بن قرض -أو قرظ-3 التالي لما سبقه قال: رواه أحمد وقال: عبادة، والطبراني وقال: عباد، والله أعلم، وبعض أسانيد أحمد والطبراني رجاله رجال الصحيح.
وبعد هذه التخريجات العشرين التي أوردناها من موضعين: من أول الكتاب وآخره، نترك للقارئ الحكم على أمانة الرجل ودقته التي تجعل كتابه هذا موضع اعتبار وحرص على الأخذ به والإفادة منه جهد الاستطاعة.
ولو أننا تعمقنا بذكر أمثلة تدل على تصرفات المؤلف في تخريج الأحاديث في أجزاء الكتاب المتفرقة لطال المجال في ذلك، ولكنا نورد بعضًا مما يدل على صبر الرجل في تحقيق العلم وإفادته للقراء كما انتهى إليه بحثه.
فقد ذكر في باب فضل الوضوء في تخريج حديث رواه أبو أمامة4 أن الطبراني رواه في الكبير، وفيه لقيط أبو المساور روى عن أبي أمامة، وروى عنه الحريري وفيه قرة بن خالد،
1 مجمع الزوائد ص189 ج1.
2 ورد في خلاصه تهذيب الكمال ص251 باسم عمران بن داود -بالراء- العمي أبو العوامه البصري.
3 هذه أيضًا صورة من صور الدقة؛ لأنه لم يبت في اسم الرجل من وجه واحد، فذكر الوجهين ولعله وجد اختلافًا في اسمه.
4 مجمع الزوائد ج1 ص223.
وقد ذكره ابن حبان في الثقات، وقال: يخطئ ويخالف، ثم ذكر هذا الحديث برواية أخرى وقال: رواه أحمد والطبراني في الكبير، والأوسط بنحوه، وقال فيه: من بات طاهرًا على ذكر الله بدلًا من $"ما من مسلم يبيت على طهر ثم يتعرى من الليل فيذكر الله" ثم قال: وإسناده حسن قلت: ويأتي حديث ابن عمر من يبيت على طهارة بعد هذا، ثم ذكر حديثًا في المعنى وقال: رواه الطبراني ورجاله موثقون، وله طريق رواها أحمد ذكرتها في الخصائص في علامات النبوة.
وفي نفس الباب ذكر في تخريج حديث ثعلبة بن عباد عن أبيه1 قال: ما أدري ذكره النبي صلى الله عليه وسلم أزواجًا أو أفرادًا. ثم قال في آخره: رواه الطبراني في الكبير ورواه بإسناد آخر فقال: عن ثعلبة بن عمارة، وقال: هكذا رواه إسحاق الديري عن عبد الرزاق ووهم في اسمه، والصواب ثعلبة بن عباد، ورجاله موثقون.
وهكذا نرى أن تحقيقاته وتعمقاته في الرجال والأسانيد -مع تجريده منها امتثالًا لأمر شيخه- قد احتلت كثيرًا من أمكنة الباب، وذلك لأنه لم يستسغ أن يترك ما هو محل الفائدة الكبرى في نظر الأئمة من المحدثين، وهو تعرف درجة الحديث، والتنبيه عليها بكل أمانة ودقة.
ثالثًا: يكثر من الأحاديث -في أغلب الأحيان- بما يبلغ العجب من القارئ، وقد أشرنا إلى ذلك في النظرة العامة للكتاب، والوصف الإجمالي له.
وقد يكون مرجع الكثرة اختلاف الصحابة الرواة، أو اختلاف لفظ من ألفاظ الحديث بما يرادفها أو يقاربها في المعنى، أو بالزيادة في أحد الحديثين ونقص في الآخر.
ومهما يكن من أمر فإن الدعامة والعمدة عنده هو أمانة النقل، والتقييد بما ورد في المعاجم والمسانيد التي يأخذ منها، فإن هذه الأحاديث قد تكررت لنفس الأسباب التي أوردناها، أو لتكرر الحديث في بعضها وحده، أو في بعضها مع البعض الآخر، مع اختلاف الراوي أو اختلاف بعض الألفاظ.
ومما يوضح ذلك أن كتاب الإيمان ورد في أول هذه الزوائد، وهو كتاب واسع -كما سبق أن أشرنا- أورد فيه خمسة وثمانين بابًا، وإذا أردنا إحصاء أحاديث الباب الأول منها وموضوعه:"من شهد ألا إله إلا الله" وجدنا عدد الأحاديث التي وردت فيه ستة وثلاثين حديثًا.
والباب الذي بعده وموضوعه: "ما يحرم دم المرء وماله"2 نجد عدد أحاديثه بمقتضى الإحصاء عشرين حديثًا.
القدر الوارد من الأحاديث لهذين الموضوعين كثير جدًّا بالنسبة لهما، ولا يكاد يتوفر القليل منه في الصحاح الأخرى من الكتب المتداولة، وهذه ناحية جليلة من نواحي الفائدة في الكتاب.
1 مجمع الزوائد ج1 ص224.
2 باب ما يحرم دم المرء وماله ج1 ص24.
ومن بين أبواب كتاب الصلاة باب جامع فيما يصلي قبل الصلاة وبعدها1، كأنه أجمل فيه ما فصله في غيره من الأبواب، وقد ذكر فيه عشرة أحاديث في بعضها طول زائد، وهو عبارة عن كتاب كتبه أبو عبيدة بن عبد الله يحيى بن كثير، يخبره فيه عن عدي بن مسعود بما أخذه عن النبي صلى الله عليه وسلم من التحيات والأدعية في بضع الصلوات، وما يدعو به بعد الفراغ منها، وما ينبغي أن يكون عليه العبد من ضراعة وإخلاص عند الدعاء، وما يتصل بذلك من صلاة الضحى وغيرها.
ثم أورد بعد ذلك بابًا في صلاة الضحى2، ذكر فيه خمسة وثلاثين حديثًا في هذه الصلاة التي لم تخل من خلاف بين بعض الصحابة وبعض في فعلها أو تركها مطلقًا أو في أوقات معينة، والإثبات مقدم إذا صح الحديث.
وفي باب فرض الزكاة من كتاب الزكاة3، أورد المؤلف قرابة ثلاثين حديثًا فيما عدا الأبواب الأخرى التي بلغت خمسة وسبعين بابًا من كتاب الزكاة.
وفي كتاب الأطعمة باب الحمر الأهلية4 أورد المؤلف في هذا الباب وحده ستة عشر حديثًا وفي باب ما جاء في الخمر ومن يشربها أورد اثنين وثلاثين حديثًا فيها كثير من المطولات.
ولعل في هذا القدر ما يصور هذه الكثرة من تلك الثروة التي سبق أن أشرنا إليها في الإلمامة الإجمالية أول حديثنا عن هذا الكتاب.
رابعًا: يورد كثيرًا من غرائب العلم، ونعني بها تلك المعاني غير المتعارفة في الثقافات المستمدة من كتب السنة المتداولة، مثل كون أهل اليمامة أحذق شيء بأخلاط الطين، فيما ورد عن طلق بن علي5 قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يؤسس مسجد المدينة، فجعلت أحمل الحجارة كما يحملون، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنكم يا أهل اليمامة أحذق شيء بأخلاط الطين، فاخلط لنا الطين
…
" الحديث، وهو من رواية الطبراني في الكبير، وفيه محمد بن جابر اليمامي، وضعفه أحمد وغيره، واختلف في الاحتجاج به.
ومثل كون صاحب القلم يكون يوم القيامة في تابوت من نار مقفل عليه6 في حديث عطاء، قال: كنت عند ابن عباس فجاء رجل فقال: يا أبا عباس ما تقول في؟ قال: وما عسى أن أقول فيك: فقال: إني عامل بقلمي، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يؤتى بصاحب القلم يوم القيامة في تابوت من نار مقفل عليه بأقفال من نار، فإن كان أجراه في طاعة الله ورضوانه فك عنه التابوت، وإن كان أجراه في معصية الله هُوِي به في التابوت سبعين خريفًا حتى بارى القلم ولايق الدواة" رواه الطبراني في الأوسط والكبير
1 مجمع الزوائد ج2 ص231.
2 باب صلاة الضحى ج2 ص234.
3 مجمع الزوائد ج3 ص62.
4 مجمع الزوائد ج5 ص47.
5 مجمع الزوائد ج2 ص69.
6 مجمع الزوائد ج1 ص136.
وفيه أبو أيوب الجيزي عن إسماعيل بن عياش، والظاهر أن آفة هذا الحديث هو الجيزي؛ لأن الطبراني قال في الأوسط: تفرد به الجيزي.
ومثله كون أحب صلاة إلى الله المرأة إذا كانت في أظلم مكان في بيتها، وذلك في حديث ابن مسعود1 قال:"ما صلت امرأة من صلاة أحب إلى الله من أشد مكان في بيتها ظلمة" رواه الطبراني في الكبير ورجاله موثقون.
ومثله كون المرأة كانت في بني إسرائيل تلبس القالبين في الصلاة تطول بهما لخليلها، وذلك في حديث عن عبد الله بن مسعود2 قال: "كان الرجال والنساء من بني إسرائيل يصلون جميعًا، فكانت المرأة إذا كان لها خليل تلبس القالبين تطول بهما لخليلها، فألقى الله عليهن الحيض
…
" الحديث. رواه الطبراني في الكبير ورجاله رجال الصحيح.
ومثله كون النبي صلى الله عليه وسلم أعطى قتادة عرجونا ليضرب به الشيطان فأضاء العرجون مثل الشمعة، وذلك في حديث قتادة3: أنه كان في ليلة شديدة الظلمة والمطر فقال: لو أني اغتنمت الليلة شهود العتمة مع النبي صلى الله عليه وسلم: فلما انصرف النبي صلى الله عليه وسلم أبصرني ومعه عرجون يمشي عليه
…
إلى أن قال: فأعطاني العرجون فقال: "إن الشيطان قد خلفك في أهلك، فأذهب بهذا العرجون فأمسك به"
…
إلى أن يقول: فأضاء العرجون مثل الشمعة نورا فاستضأت به، فأتيت أهلي فوجدتهم قد رقدوا، فنظرت في الزاوية فإذا فيها قنفذ، فلم أزل أضربه بالعرجون حتى خرج. رواه الطبراني في الكبير، ثم قال الهيثمي: ويأتي حديث عند أحمد أطول من هذا في الجمعة والساعة التي فيها إن شاء الله، ورجاله موثقون.
ومثله ما جاء في الخبر من أن شيخنا من طيء4 قال: مر ابن مسعود على مسجد لنا، فتقدم رجل منهم فقرأ بفاتحة الكتاب ثم قال: نحج بيت ربنا ونقضي الدين وهو مثل القطوات يهوين. فقال عبد الله: ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق.
والغريب في هذا الخبر أن رجلًا من هؤلاء القوم لا يعرف من القرآن غير الفاتحة يؤم عبد الله بن مسعود، وهو من أعلام الصحابة، ومن أقرئهم لكتاب الله كما شهد له بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يضع موضع الآيات التي تتلى بعد الفاتحة هذا الهراء على أنه قرآن يتلى، ويقول الهيثمي في تقويم هذا الخبر: الرجل الذي حدث عن عبد الله لا يعرفه، وبقية رجاله ثقات.
ومن الغرائب أيضًا حديث أحمد والطبراني5 عن جابر قال: "مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على رجل وهو يصلي قد وضع يده اليسرى على اليمنى، فانتزعها ووضع اليمنى على
1 مجمع الزوائد ج2 ص35.
2 مجمع الزوائد ج2 ص35.
3 مجمع الزوائد ج2 ص41.
4 مجمع الزوائد ج2 ص66.
5 مجمع الزوائد ج2 ص104.
اليسرى" وقد اعتبرناه من الغرائب لطرافته، ولمبادرة الرسول صلى الله عليه وسلم بتصحيح خطأ الرجل وهو في موقفه بين يدي الله عز وجل، وقد نص الحافظ على أن رجاله رجال الصحيح.
ومن ذلك أيضًا أن فتية من قريش قد حلوا أزرهم1 فجعلوها مخاريق2 وهم عراة، وذلك في حديث عبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي:"أنه مر وصاحب له على فتية من قريش قد حلوا أزرهم فجعلوها مخاريق يجتلدون بها وهم عراة. قال عبد الله: فلما مررنا بهم قالوا: إن هؤلاء قسيسون فدعوهم، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إليهم فلما أبصروه تبددوا، فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم مغضبًا حتى دخل، وكنت وراء الحجرة فسمعته يقول: "سبحان الله، لا من الله استحيوا، ولا من رسوله استتروا"، وأم أيمن عنده تقول: استغفر لهم يا رسول الله، فبلأي ما استغفر لهم، وفي رواية: "فتأبي ما استغفر لهم"، رواه أحمد وأبو يعلى.
ومن ذلك هذه المفاضلة اللطيفة التي فاضل فيها النبي صلى الله عليه وسلم بين رجل رفض شفاعته وبين الذي يبخل بالسلام، وذلك حديث جابر: أن رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن لفلان في خائطي عذقًا3 وإنه قد آذاني وشق على مكان عذقه، فأرسل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"بعني عذقك الذي في حائط فلان"، قال: لا، قال:"فهبه لي"، قال: لا، قال:"فبعنيه بعذق في الجنة"، قال: لا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما رأيت الذي هو أبخل منك إلا الذي يبخل بالسلام" رواه أحمد والبزار، وفيه عبد الله بن محمد بن عقيل وحديثه حسن وفيه ضعف، وبقية رجاله رجال الصحيح4.
ومن ذلك أن عمرًا أتى النجاشي فوجد من عنده يدخلون مكفرين5 من خوخة، فلما رأى الخوخة ودخولهم عليه أولاه ظهره، ودخل يمشي القهقرى، فلما دخل منها اعتدل، ففزعت الحبشة وهموا بقتله، قالوا: ما منعك أن تدخل كما دخلنا؟ قال: لا نصنع ذلك بنبينا، فهو أحق أن نصنع ذلك به، فقال النجاشي: اتركوه صدق، رواه الطبراني في الأوسط، ورجاله ثقات، وفي بعضهم كلام لا يضر6.
ومن ذلك أن رجلًا دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وعنده عائشة، فرعم أنه ينزل له عن خير منها "يريد امرأته" وذلك في حديث جرير: أن عيينة بن حصن دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وعنده عائشة فقال: من هذه إلى جانبك؟ قال: "عائشة"، قال: يا رسول الله
1 مجمع الزوائد ج8 ص27.
2 المخاريق جمع مخراق، وهو ثوب يلف ويضرب به الصبيان بعضهم بعضًا.
3 العذق -بالفتح- النخلة كما في النهاية وهو بالكسر العرجون، والحائط البستان المسور بجدار.
4 مجمع الزوائد ج8 ص31.
5 جاء في النهاية أن التكفير أن ينحني لأي إنسان ويطأطئ رأسه قريبًا من الركوع كما يفعل من يريد تعظيمه لصاحبه ومنه حديث عمرو بن أمية -وساق هذا الحديث، والخوخة باب صغير كالنافذة الكبيرة كما في هامش مجمع الزوائد.
6 مجمع الزوائد ج8 ص39.
أفلا أنزل لك عن خيرًا منها "يعني امرأته" فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا"، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:"أخرج فاستأذن"، فقال له: إنها يمين علي ألا أستأذن على مضري، وقالت عائشة: من هذا؟ قال: "هذا أحمق متبع". رواه الطبراني عن شيخه علي بن سعيد بن بشير، وهو حافظ رحال قيل فيه: ليس بذاك، وبقية رجاله رجال الصحيح غير يحيى بن محمد بن مطيع وهو ثقة1.
ومن ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا يومًا إلى حلب ناقة فتقدم لها بعض الناس ولكن لم يختر إلا صاحب الاسم الحسن، عن يعيش الغفاري قال: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لحلب ناقة يومًا فقال: "من يحلبها؟ " فقال رجل: أنا، فقال له:"ما اسمك؟ " قال: مرة، قال:"اقعد"، ثم قام آخر، فقال:"ما اسمك؟ " قال: مرة قال: "اقعد"، ثم قام آخر، فقال:"ما اسمك؟ " قال: جمرة فقال: "اقعد"، ثم قام يعيش فقال:"ما اسمك؟ " قال: يعيش. قال: "احلبها". رواه الطبراني وإسناده حسن.
وله نظير فيمن يسوق إبل النبي صلى الله عليه وسلم، فيما ورد عن حدرد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من يسوق إبلنا هذه، أو من يبلغ إبلنا هذه؟ "، فقام رجل فقال:"ما اسمك؟ " قال: فلان: قال: "اجلس"، ثم قام آخر فقال: أنا، فقال:"ما اسمك؟ قال: ناجية. قال: أنت لها فسقها" رواه الطبراني من رواية أحمد بن بشير عن عمر، ولم أر فيها جرحًا ولا تعديلًا وبقية رجاله ثقات2.
ومن ذلك أنه سمى مولودًا باسمه دون كنيته، ومسح على رأسه فعمر حتى شاب رأسه وما شاب موضع يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، حديث محمد بن فضالة "يعني الظفري" قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ابن أسبوعين، فأتى بي إليه فمسح على رأسي وقال:"سموه باسمي ولا تكنوه بكنيتي"، وحج بي معه حجة الوداع وأنا ابن عشر سنين، فلقد عمر محمد حتى شاب رأسه وما شاب موضع يد رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه الطبراني وفيه يعقوب بن محمد الزهري وثقه ابن حبان وغيره، وضعفه جماعة وبقية رجاله ثقات3.
ومن ذلك أن رجلًا اسمه حرام سمع النبي صلى الله عليه وسلم اسمه فغيره إلى حلال، عن رجل من جهينة قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم سمعه يقول: يا حرام، فقال:"يا حلال". رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح.
ونظير ذلك ما روي عن عائشة: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سمع اسمًا قبيحًا غيره، فمر على قرية يقال لها: عفرة، فسماها خضرة" رواه الطبراني في الصغير ورجاله رجال الصحيح4.
1 مجمع الزوائد ج8 ص45.
2 مجمع الزوائد ج8 ص47.
3 مجمع الزوائد ج8 ص48.
4 مجمع الزوائد ج8 ص51.
ومن ذلك أنه صلى الله عليه وسلم كان ينكر على من يلعن الدابة أو البرغوث أو نحو ذلك عن عائشة: أنها كانت1 مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فلعنت بعيرًا لها، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يرد، وقال:"لا يصحبني شيء ملعون". رواه أحمد والطبراني في الأوسط ورجاله رجال الصحيح، غير عمرو بن مالك البكري وهو ثقة.
وعنها أنها ركبت جملًا فلعنته، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم:"لا تركبيه" رواه أحمد وأبو يعلى، ورجاله ثقات إلا أن يحيى بن وثاب لم يسمع من عائشة وإن كان تابعيًّا.
وعن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسير فلعن رجل ناقة فقال: "أين صاحب الناقة؟ " فقال الرجل: أنا، فقال:"أخرها فقد أجبت فيها". رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح.
وعن أنس قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلدغت رجلًا برغوث فلعنها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تعلنها فإنها نبهت نبيًا من الأنبياء لصلاة الصبح". رواه أبو يعلى والبزار.
وعن علي رضي الله عنه قال: نزلنا منزلًا فآذتنا البراغيث فسببناها، فقال صلى الله عليه وسلم:"لا تسبوها فنعمت الدابة فإنها أيقظتكم لذكر الله" رواه الطبراني في الأوسط، وفيه سعد بن طريف وهو متروك.
ومن ذلك بعض المراجعات الطريفة مع بعض أصحابه صلى الله عليه وسلم كما جاء عن عقبة بن عامر: أن رجلًا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم2 فقال: يا رسول الله أحدنا يذنب؟ قال: "يكتب عليه"، قال: ثم يستغفر منه ويتوب؟ قال: "يغفر له ويتاب عليه". قال: فيعود فيذنب؟ قال: "فيكتب عليه"، قال: ثم يستغفر منه ويتوب؟ قال: "يغفر له ويتاب عليه، ولا يمل الله حتى تملوا". رواه الطبراني في الكبير وسنده حسن.
ونظيره عن عائشة قالت: جاء حبيب بن الحارث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني رجل مقراف3 قال: "فتب إلى الله يا حبيب"، قال: يا رسول الله إني أتوب ثم أعود، قال:"فكلما أذنبت فتب" قال: يا رسول الله إذًا تكثر ذنوبي، قال:"عفو الله أكبر من ذنوبك يا حبيب بن الحارث"4 رواه الطبراني في الأوسط وفيه نوح ابن ذكوان وهو ضعيف.
ومن ذلك ما ورد عن عائشة وبعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: "أن رجلًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم جلس بين يديه فقال: يا رسول الله إن لي مملوكين يكذبونني ويخونونني ويعصونني وأضربهم وأشتمهم فكيف أنا منهم يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
1 مجمع الزوائد ج8 ص77 وما بعدها.
2 مجمع الزوائد ج10 ص200.
3 جاء في النهاية أن المقراف هو كثير المباشرة للذنوب، وأورد صدر هذا الحديث.
4 ج10 ص200.
"بحسب ما خانوك وعصوك وكذبوك وعقابك إياهم، فإن كان عقابك إياهم دون ذنوبهم كان فضلًا لك، وإن كان عقابك إياهم بقدر ذنوبهم كان كفافًا لا لك ولا عليك، وإن كان عقابك إياهم فوق ذنوبهم اقتص لهم منك الفضل الذي بقي قبلك"، فجعل الرجل يبكي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويهتف، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما لك؟ أما تقرأ كتاب الله: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} " 1 فقال الرجل: يا رسول الله ما أجد شيئًا خيرًا لي من فراق هؤلاء، أشهدك أنهم أحرار كلهم2. رواه أحمد وفي إسناده الصحابي الذي لم يسم، وبقية رجاله رجال الصحيح، وقال الهيثمي: إن حديث عائشة وحده رواه الترمذي3.
وقريب من هذا في الطرافة والدقة حديث أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت4: كان النبي صلى الله عليه وسلم في بيتي وكان بيده سواك فدعا وصيفة له -أو لها- حتى استبان الغضب في وجهه، فخرجت أم سلمة إلى الحجرات فوجدت الوصيفة وهي تلعب ببهمة5 فقالت: ألا أراك تلعبين بهذه البهمة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوك قالت: والذي بعثك بالحق ما سمعتك، فقال صلى الله عليه وسلم:"لولا خشية القود لأوجعتك بهذا السواك"، وفي رواية "لولا القصاص لضربتك بهذا السواك"، وفي أخرى:"لولا مخافة القصاص لأوجعتك بهذا السوط" روى هذا كله أبو يعلى والطبراني بنحوه.
ومن ذلك ما يجمع إلى غرابة اللفظ غزارة المعنى، كوصف المؤمن بأنه واه راقع، وبشارة الراقع في آخر حياته بالسعادة، عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المؤمن واه راقع، فسعيد من هلك على رقعته"6، رواه الطبراني في الصغير والأوسط والبزار، وفيه سعيد بن خالد القزاعي وهو ضعيف.
ولولا خشية الإطالة لأوردنا كثيرًا جدًّا من هذه الطرائف التي تبدو بارزة واضحة في هذه الزوائد كأنها خصيصة من خصائصها، واستيعاب ما تتطلع إليه النفوس في هذا المقام يخرج عن الغرض المقصود، وإنه لجدير بمؤلف مستقل يضم أطرافه، ويجمع ما تفرق منه.
خامسًا: غير أننا نضيف إلى ذلك ما لفت نظرنا مما ورد في هذا الكتاب من أن النبي صلى الله عليه وسلم: "شغل يوم الخندق عن صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء، فأمر بلالًا فأذن وأقام فصلى الظهر، ثم أمره فأذن وأقام ثم صلى العصر، ثم أمره فأذن وأقام ثم صلى المغرب
1 سورة الأنبياء آية 47.
2 مجمع الزوائد ج10 ص352.
3 ج10 ص353.
4 نسبة حديث عائشة إلى الترمذي يعتبر إضافة على موضوع الزوائد، وفي الكتاب نظائر لهذا أحيانًا.
5 البهمة بفتح الباء كما في النهاية ولد الضأن الذكر والأنثى يجمع على بهم، وجمع الجمع بهام.
6 قال الهيثمي الواهي بمعنى المذنب والراقع بمعنى التائب المستغفر والحديث في ج10 ص201. وفسره في النهاية فقال واه يهي دينه بمعصيته، وراقع يرقعه بتوبته.
ثم أمره فأذن وأقام فصلى العشاء" رواه أبو يعلى، وفيه يحيى بن أبي أنيسة، وهو ضعيف عند أهل الحديث، إلا أن ابن عديا قال: وهو مع ضعفه يكتب حديثه.
ومثله حديث لجابر ذكر فيه الأذان مع الإقامة في كل صلاة من هذه الصلوات الأربع، رواه البزار والطبراني في الأوسط، وفيه عبد الكريم بن أبي المخارق وهو ضعيف.
وقد تتبعت مظان هذا الحديث في كتب أحاديث الاحكام، وفي كتب الفقه المقارن: في كتاب المنتقى لاين تيمية وشرحه نيل الأوطار للشوكاني، وفي بلوغ المرام لابن حجر وشرحه سبل السلام للصنعاني، وفي معاني الآثار وشرحه للطحاوي مع أن الحديث يشهد لمذهبه الحنفي من أن الأذان يكرر للفائتة إذا تعددت، كما رجعنا إلى كتاب المغني والشرح الكبير لابن قدامة، فلم نعثر على هذا الحديث في مظانه من أبواب الفقه وأحاديث الأحكام ولو على سبيل الاستدلال لمن يخالف الجمهور من الحنيفية، الذين يستدلون لمذهبهم بالقياس على الأذان لها فيقولون: يؤذن لكل صلاة ويقيم؛ لأن ما سن للصلاة في أدائها سن في قضائها كسائر المسنونات1.
فلو أن الطحاوي هدي إلى هذا الحديث لاستدل به لنصرة مذهبه، ولكان فرصة له في تدعيم هذا المذهب الذي يحرص على الانتصار له.
سادسا: يتخير المؤلف كثيرا من عناوين الأبواب فيما ينتفع به طلاب الحديث، ويوجههم إلى كثير مما يخصهم ترغيبا وترهيبا، وهي ناحية بارزة فيما يناسبها من الكتاب.
ومن ذلك العناوين الآتية2:
باب وصية أهل العلم، باب في طالب العلم وإظهار البشر له، باب الرحلة في طلب العلم، باب أخذ كل علم من أهله، باب كتابة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم لمن ذكره أو ذكر عنده، باب سماع الحديث وتبليغه، باب أخذ الحديث من الثقات، باب الاحتراز في رواية الحديث، باب فيمن كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب فمن كذَّب بما صح من الحديث، باب الكلام في الرواة، باب الإمساك عن بعض الحديث، باب معرفة أهل الحديث بصحيحه وضعيفه، باب طلب الإسناد ممن أرسل، باب عرض الكتاب بعد إملائه، باب عرض الكتاب على من أمر به.
هذا وإن في اختيار أحاديث هذه الأبواب وأمثالها من المسانيد والمعاجم المرتبة على أسماء الرواة وهي مفرقة في ثنايا هذه المعاجم وتلك المسانيد لأمر عسير على غير من أوتي فطانة ودقة في هذا الفن، وتوفيقا من الله سبحانه وتعالى.
وقد كان معهودا للمؤلفين في الجوامع أن يوردوا موضوع العلم بصفة عامة في مثل ما أورده الحافظ الهيثمي في كتابه، لكن العجب كل العجب في تخير هذه الأحاديث، وإعطائها صبغة خاصة بما
1 المغني والشرح الكبير ج1 ص433.
2 مجمع الزوائد ج1 ص130 إلى ص152 في أبواب متفرقة.
أورده من عناوين تكاد تكون من خصائص توجيه أهل الفن إلى ما يلزم اتباعه في المسالك الخاصة بدراسة الحديث وطلبه:
سابعا: يورد المؤلف عناوين متضاربة أحيانا ويورد أحيانا أخرى أحاديث متضاربة تحت عنوان واحد:
فمن الأول: قوله: باب ما يقطع الصلاة1، وهو يختلف مع عنوان آخر بعده بقليل: لا يقطع الصلاة شيء2، وكذلك قوله: باب إمامة الفاسق3 المشعر بعدم جوازها وقد دل على ذلك صريحا ما ورد من خبر تحت هذا العنوان، وبعده مباشرة: الصلاة خلف كل إمام4 المشعر بجواز إمامة الفاسق، والحديث الذي أورده تحته يدل على هذا صراحة أيضا.
ومنه أيضا: باب فيمن يأمر بالمعروف ولا يفعله5، وفيه وعيد شديد على ذلك، وبعده باب: مروا بالمعروف وإن لم تعملوا به، وهو مختلف مع ما قبله في عنوانه وفي دلالة أحاديثه6.
وبهذه المناسبة نورد أننا لاحظنا في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر7 زيادة على ما فيه من تكرار واضح في العناوين مثل: باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفيمن لا تأخذه في الله لومة لائم، وهو مكرر مع العنوان الاول الذي كأنه رئيسي في موضوعه ومع عنوان آخر في نفس اللفظ باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر8 فإننا نلاحظ فيه تضاربا آخر بين الأبواب بعضها مع بعض، وبين الأحاديث كذلك.
ومن الثاني: ما أورده في موضوع أذان الأعمى9: فقد ذكر حديثا يدل على كراهته، ثم ذكر بعده حديثا يدل على إباحته، والأول هو حديث ابن مسعود:"ما أحب أن يكون مؤذنوكم عميانكم" والثاني حديث زيد بن ثابت وفيه: "كلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم" ومن الواضح أن ابن أم مكتوم كان أعمى.
ومن ذلك ما ورد في باب تلقين الإمام10: فإن فيه ما يدل على منعه، وما يدل على طلبه، والأول هو حديث ابن مسعود:"إذا تعايا الإمام فلا تردن عليه" والثاني حديث أبي بن كعب: إن النبي صلى الله عليه وسلم صلى فأسقط بعض سورة، فذكَّره أبي بعد الصلاة فقال:"أفلا لقنتنيها؟ " وفي حديث آخر: "أن النبي صلى الله عليه وسلم تردد في صلاة الفجر في آية، فلما قضى الصلاة سأل عن أبي بن كعب، فرأى القوم أنه إنما سأل عنه ليفتح عليه" وفي رواية: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الفجر فالتبس فيها، ثم قال لأبي بن كعب:"ما منعك أن تفتح علي" ومنه أيضا ما ورد
1 مجمع الزوائد ج2 ص6.
2 مجمع الزوائد ج2 ص66.
3 مجمع الزوائد ج2 ص66.
4 مجمع الزوائد ج2 ص67.
5 مجمع الزوائد ج7 ص276.
6 مجمع الزوائد ج7 ص277.
7 مجمع الزوائد ج7 ص261 وما بعدها.
8 مجمع الزوائد ج7 ص270.
9 مجمع الزوائد ج2 ص2.
10 مجمع الزوائد ج2 ص69.
تحت عنوان: باب في الإمام يسيء صلاته1 فإن فيه ما يدل على ترك الصلاة خلف الإمام المسيء كما فعل أنس بن مالك مع عمر بن عبد العزيز، وكما فعل أيوب مع مروان، كما أن فيه ما يدعو إلى الصلاة خلفه، وهو حديث عقبة بن عامر الجهني أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"من أم قومًا فإن أتم فله التمام ولهم التمام، وإن لم يتم فلهم التمام وعليه الإثم".
ولعل عذره في إيراد الأحاديث المتضاربة أنه -وشكر الله له- بصدد العناية بجمع الأحاديث ونقلها إلى الأبواب التي تناسبها من المسانيد والمعاجم، وما دام بصدد الجمع فإن عليه أن يعرض الأحاديث، وليس عليه أن يتصرف في شأنها بالتوفيق بين المختلفات، أو الجمع بين المتعارضات، فتلك مهمة الفقهاء ومهمة شراح الحديث، وليس هو -في هذا المقام- واحد منهم، ثم تكون مهمة الدارس أن يبحث ويرجع إلى المظان التي تمارس ذلك، ككتب الفقه وأدلتها، وكتب شروح الأحاديث، وكتب مختلف الأحاديث وما إلى ذلك.
ثامنًا: يحيل القارئ -في بعض الأحيان- على بعض الأحاديث التي ترتبط بالباب الذي هو بصدده ليضيفه القارئ إلى ذلك الباب وينتفع به فيه، كما صنع في باب: فيما يدرك مع الإمام وما فاته2، فقد ذكر بعض الأحاديث في ذلك، وأحال على بعض ما يتعلق به في باب آخر سبق فقال: وقد تقدمت أحاديث منها في هذا الباب في المشي إلى الصلاة، وهو يريد حديث سعد بن أبي وقاص الذي في آخره:"فصلِّ ما أدركت واقض ما فاتك" 3 وحديث أنس وفي آخره: "فصلوا ما أدركتم واقضوا ما سبقكم" وحديث أبي قتادة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمسرعين إلى الصلاة: "لا تفعلوا، ليصلِّ أحدكم ما أدرك وليقض ما فاته".
ومن ذلك قوله في باب فضل الوضوء4 بعد حديث: "ما من مسلم يبيت على طهر
…
" إلخ: ويأتي حديث ابن عمر فيمن يبيت على طهارة بعد هذا، وحديث ابن عمر فيمن يبيت على طهارة ورد في باب بهذا العنوان بعده5 وهو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من بات طاهرًا بات في شعاره ملك
…
" إلخ.
ومنه أيضًا قوله تحت عنوان: باب فعل الخير والإكثار منه في رمضان: قلت: وتأتي أحاديث6 فيمن يتصدق وهو صائم، أو يعود مريضًا أو يشهد جنازة.
وفي هذا المقام ظاهرة لا تخلو من غرابة، وهي أنه أورد في كتاب الصوم: بابا في فضل الصوم7 ولم يذكر فيه شيئًا أكثر من قوله: يأتي بعد إن شاء الله، ثم أورد في باب فضل الصوم8 بعد العنوان مباشرة قوله: وقد تقدم فضل شهر رمضان وفيه بعض فضل الصوم، والواقع أنه
1 مجمع الزوائد ج2 ص68.
2 مجمع الزوائد ج2 ص76.
3 مجمع الزوائد ج2 ص31.
4 مجمع الزوائد ج1 ص223.
5 مجمع الزوائد ج1 ص226.
6 مجمع الزوائد ج3 ص150.
7 مجمع الزوائد ج3 ص145.
8 مجمع الزوائد ج3 ص179.
أورد في فضل شهر رمضان1 بعض فضل الصوم -وهو ما يختص بصوم رمضان- في أحاديث تخصه، ثم أورد بعد هذا مباشرة باب فيمن صام إيمانًا واحتسابًا.
ونرى أن في هذه الإحالات المتداخلة مع تكرار الأبواب دون موجب ما لا يخلو عن إيقاع القارئ في بعض الحيرة عند متابعة موضوعات هذا الكتاب، والدوران معه في هذا التكرار وتلك الإحالات.
هذا وربما كان عذره في ذلك أنه اضطلع رحمه الله بعبء ثقيل لا يطيقه إلا كثرة من الجماعين والمنظمين، فغفر له وأحسن جزاءه.
تاسعًا: في روايته للأحاديث كثير من الموقوفات على الصحابة رضوان الله عليهم:
فمن ذلك حديث نعيم بن قعنب الرياحي2، وفي آخره أنه سأله عما فعل من وأد البنات فقال: أفي الجاهلية؟ قال الرجل: نعم. فقال أبو ذر: عفا الله عما سلف.
ومنه حديث ابن مسعود في باب أذان الأعمى3: "ما أحب أن يكون مؤذنوكم عميانكم" وحديثه أيضًا4 في باب الصلاة في المحراب: "أن عبد الله كره الصلاة في المحراب وقال: إنما كانت للكنائس فلا تشبهوا بأهل الكتاب".
ومن ذلك ما جاء في باب الصلاة في بقاع المسجد5 عن مرة الهمذاني أنه قال: حدثت نفسي أن أصلي خلف كل سارية من مسجد الكوفة
…
وفي آخر الحديث فقال ابن مسعود: لو يعلم أن الله جل وعز عند أدنى سارية ما جاوزها حتى يقضي صلاته.
ومنه باب كيف الجلوس في المسجد6 عن ابن مسعود أنه رأى قومًا قد أسندوا ظهورهم إلى قبله المسجد بين أذان الفجر والإقامة فقال: لا تحولوا بين الملائكة وبين صلاتها، وقد قصر الهيثمي هذا الباب على هذا الخبر وحده ولم يزد عليه.
ومن ذلك باب فيمن دخل المسجد لغير صلاة7 عن أبي عمرو الشيباني قال: كان ابن مسعود يعس في المسجد فلا يجد سوادًا إلا أخرجه إلا رجلًا مصليًا.
ومن ذلك ما جاء في باب كيف المشي إلى الصلاة8 أن ابن مسعود سعى إلى الصلاة فقيل له، فقال: أو ليس أحق ما سعيتم إليه الصلاة؟ وفيه أنه خرج إلى المسجد فجعل يهرول فقيل له: أتفعل هذا وأنت تنهى عنه؟ قال: إنما أردت حد الصلاة التكبيرة الأولى.
1 مجمع الزوائد ج3 ص140.
2 مجمع الزوائد ج1 ص31.
3 مجمع الزوائد ج2 ص2.
4 مجمع الزوائد ج2 ص15.
5 مجمع الزوائد ج2 ص16.
6 مجمع الزوائد ج2 ص23.
7 مجمع الزوائد ج2 ص24.
8 مجمع الزوائد ج2 ص32.
ومن ذلك ما جاء في باب خروج النساء إلى المساجد1 عن ابن مسعود قال: "صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها، وصلاتها في حجرتها أفضل من صلاتها في دارها
…
" الحديث، وفي الباب عن ابن مسعود: "ما صلت المرأة في موضع خير لها من قعر بيتها إلا أن يكون المسجد الحرام أو مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، إلا امرأة تخرج في منقليها -يعني خفيها" وعنه أيضًا: أنه كان يحلف فيبلغ في اليمن: "ما من مصلى للمرأة خير من بيتها إلا في حج أو عمرة إلا امرأة قد يئست من البعولة وهي في منقلبها2. قيل ما منقلبها؟ قال: امرأة عجوز قد تقارب خطوها" ومنه قال: "ما صلت امرأة من صلاة أحب إلى الله من أشد مكان في بيتها ظلمة" وأمثال ذلك في الكتاب كثير لمن تتبعه.
على أنه ربما يورد بعض المقطوعات، كما في باب من صلى بغير أذان ولا إقامة3، حيث أورد حديث سفيان أنه بلغه عن بعض الصحابة أنهم صلوا بغير أذان ولا إقامة، فقال: كفتهم إقامة المصر، وقد جاء بها الهيثمي في رواية أخرى عن ابن مسعود في الموضع نفسه أنه قال: إقامة المصر تكفي.
عاشرًا: أنه لا يأبى أن ينقل من تلك المسانيد والمعاجم أحاديث أو آثارًا فيها مطاعن أو مغامز، تنفيذًا لما التزمه من نقل زوائد تلك المسانيد والمعاجم على الأصول، والتنبيه إلى ما فيها من مطاعن أو مغامز، تحقيقًا لأمانة العلم، وتحذيرًا من تلك الأحاديث التي وردت في تلك المعاجم والمسانيد.
فمن ذلك حديث عبد الله بن أوفى: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال بلال: قد قامت الصلاة نهض فكبر" رواه الطبراني في الكبير من طريق حجاج بن فروخ، وهو ضعيف جدًّا4، وحديث ابن عباس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"تذهب الأرضون كلها يوم القيامة إلا المساجد" رواه الطبراني في الأوسط، وأصرم بن حوشب كذاب5، وحديث أنس بن مالك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من صباح ولا رواح إلا وبقاع الأرض كلها ينادي بعضها بعضًا
…
" الحديث. رواه الطبراني في الأوسط، وصالح المزي ضعيف6 وحديث عائشة: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي في الموضع الذي يبول فيه الحسن والحسين، وقال: إن العبد إذا سجد لله سجدة طهر الله موضع سجوده" رواه الطبراني في الأوسط، ويزيع اتهم بالوضع7. وحديث عائشة الذي تقول فيه: "إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: أما علمت أن المؤمن تطهر سجدته موضعها" رواه الطبراني في الأوسط، وعبد الله بن صالح ضعفه الجمهور8.
1 مجمع الزوائد ج2 ص34.
2 مجمع الزوائد ج2 ص3.
3 مجمع الزوائد ج2 ص5.
4 مجمع الزوائد ج2 ص6.
5 مجمع الزوائد ج2 ص6.
6 مجمع الزوائد ج2 ص6.
7 مجمع الزوائد ج2 ص7.
8 مجمع الزوائد ج2 ص7.
وفي باب بناء المساجد حديث عبد الله بن عمرو: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من بنى لله مسجدًا بنى الله له بيتًا أوسع منه في الجنة"1 رواه أحمد، وفيه الحجاج بن أرطأة وهو متكلم فيه.
وفي باب تطهير المساجد حديث عبد الله بن مسعود: "جاء أعرابي فبال في المسجد فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بمكانة فاحتفر" الحديث رواه أبو يعلى، وفيه سمعان بن مالك2 وهو ضعيف.
وفي باب ما جاء في القبلة عن عمارة بن رويبة قال: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في إحدى صلاتي العشاء حين صرفت القبلة، فدار النبي صلى الله عليه وسلم" الحديث. رواه الطبراني في الكبير وفيه عبد الملك بن حسين النخعي، وهو ضعيف3.
ومن هذا النوع ما يكون فيه خلائف بين علماء الجرح والتعديل فيذكره، كما في حديث واثلة بن الأسقع أنه جاء وهم يبنون مسجدًا فوقف فسلم ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من بنى مسجدًا
…
" الحديث رواه أحمد والطبراني في الكبير، وفيه الحسن بن يحيى الخشني، ضعفه الدارقطني وابن معين في رواية، ووثقه دحيم وأبو حاتم4 وحديث ابن عباس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من بنى الله مسجدًا يراه الله بنى الله له بيتًا في الجنة" الحديث، رواه الطبراني في الأوسط، وفيه عمران بن عبد الله، وإنما هو ابن عبيد الله ذكره البخاري في تاريخه، وقال: فيه نظر، وضعفه ابن معين، وذكره ابن حبان في الثقات وسمي أباه عبد الله مكبرًا.
هذا وفي الكتاب كثير جدًّا من أمثال هذه الأحاديث تعرف بالتتبع، وإنما ينقلها -كما قلنا- تحقيقًا لأمانة العلم، وتحذيرًا منها إن لم تؤيدها أحادث صالحة للتأييد، وهو بهذا يصدق ما قاله النقاد من أن المعاجم والمسانيد مظنة الأحاديث الضعيفة والمنكرة، وأنها تصلح أن تكون موضعًا لالتماس الشواهد والمتابعات في غير ما اتفقت فيه مع الكتب الصحاح.
ونختم هذه الدراسة الموجزة بما تعطيه هذه الإلمامة القصيرة من تصوير هذا الكتاب القيم في صورته القوية ثروة جامعة، تضيف إلى الكتب الصحاح زيادات كان لا بد من إضافتها، وهي لا تقل عنها عددًا إن لم تزد عليها إحصاء، مع ما فيها من طرائف العلم وغرائبه، وما لا بد من معرفته ولا سيما لخواص العلماء الذين تقتضيهم مهمتهم أن يتابعوا السنة النبوية الكريمة، ويلتمسوها حيث تكون.
ولا يفوتنا وقد درسنا هذا الكتاب، وألمعنا إلى بعض النواحي البارزة فيه، بما هو مفخرة للأمة الإسلامية بهذا الحافظ العظيم، الذي استطاع أن يجمع شتات هذه الزوائد من مظانها المتعددة.
1 مجمع الزوائد ج2 ص7.
2 مجمع الزوائد ج2 ص11.
3 مجمع الزوائد ج2 ص13.
4 مجمع الزوائد ج2 ص7.
في محيط واحد، فيكمل ما تحتاج إليه كتب السنة الأصلية من استكمال جهد استطاعته -لا يفوتنا أن ننبه إلى أننا بعد أن تتبعنا كتب الزوائد من الرسالة المستطرفة التي هي أوسع ما كتب في تعداد كتب الحديث وإحصائها- أن الحافظ الهيثمي هو أول من رسم الطريق -فيمن علمنا- في جمع الزوائد وإضافتها إلى كتب السنة، فإنه هو الذي جمع هذا المجمع بإشارة شيخه الحافظ العراقي وهو الذي ألف زوائد مسند البزار على الكتب الستة في مجلد ضخم، وألف زوائد مسند أبي يعلى الموصلي عليها في مجلد، وألف زوائد المعجم الكبير للطبراني وسماها البدر المنير في ثلاث مجلدات، وألف زوائد المعجم الأوسط والصغير وسماها مجمع البحرين في مجلدين، ثم جمع الزوائد الستة المذكورة كلها في كتابنا هذا بعد حذف الأسانيد، وتناول كل حديث بدرجته من الصحة والحسن والضعف، وما في بعض الرواة من جرح وتعديل، وقد شهد له الحافظ الكتاني في رسالته المستطرفة بأنه أنفع كتب الحديث، بل لم يوجد مثله في كتاب، ولا صنف مثله في هذا الباب.
جزى الله الإمام الحافظ الهيثمي خير الجزاء، ونفع بتراثه الطيب وعمله الخالص، إنه سميع مجيب.