الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خاتمة الفصل الأول:
والآن، وبعد أن استعرضنا نماذج من كتب أحاديث الأحكام، بدأناها بموطأ الإمام مالك، وختمناها بكشف الغمة عن جميع الأمة للإمام الشعراني، ورأينا كيف كانت محاولة الإمام مالك لجمع أحاديث الأحكام، والآثار التي وردت بشأنها، وكان لهذه المحاولة قيمتها وأثرها، باعتبار قربها من المنابع الأصيلة لتعاليم الإسلام زمانًا ومكانًا، فقد عاش صاحبها في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعاصر كثيرًا من التابعين وأتباعهم، وكانت تعاليم الإسلام لا تزال غضة، وأهل العصر ما يزالون متمسكين بعهد النبي صلى الله عليه وسلم، ومترسمين لنهجه وخطاه، ولم تكن الفرق قد نشأت بعد، ولا الأعاجم قد اختلطوا بالعرب والمسلمين ذلك الاختلاط الذي أثر فيهم، فكان الموطأ جامعًا لما تفرق من الآثار الواردة في الأحكام، يحدو مؤلفه الإخلاص للسنة، والنصح للأمة.
ثم جاء أبو داود، وأدرك عصر الرواية، وتيسر له من الرسائل ما لم يتيسر لسلفه الإمام مالك، فجمع كثيرًا من الآثار، وحشد كل نوع منها في كتاب أو باب، وأعانة على ذلك وجوده في عصر الرواية، واعتماد الناس آنذاك في أمور دينهم على الإسناد، ولم يكن أبو داود يتدخل بشرح كلمة في الحديث إلا على ندرة، وبذلك يمكن أن نعتبر أبا داود جامعًا لنصوص الأحكام، مستوعبًا لما ورد بشأنها من الحديث والأثر أو يكاد.
ولم يكد يمضي القرن الثالث الهجري حتى جاء الإمام الطحاوي، وكانت السنة قد جمعت على أيدي الأئمة الأعلام: فقد سبقه لذلك أبو داود، وسبقه إماما الحديث البخاري ومسلم، وسبقه أئمة الفقه الأعلام: الشافعي وأبو حنيفة وأحمد بن حنبل، ومن قبل هؤلاء الإمام مالك، والحركة الفكرية في الجمع والتصنيف والتدوين ما تزال على أشدها، فأعانه ذلك -بعد جمعه لأحاديث الأحكام- على إبراز شخصيته محدثًا وفقيهًا، وشارحًا للآثار، وموفقًا بين ما يبدو فيها من تضارب، ومنتصرًا لمذهبه الذي اختاره، ومرجحًا لأدلته على أدلة غيره، فجاء كتابه "شرح معاني الآثار" كتاب حديث وفقه، أو على الأصح نستطيع أن نقول: إنه قد برز للوجود أول كتاب في فقه السنة متمثلًا في كتاب الطحاوي شرح معاني الآثار.
ثم جاء من بعد الطحاوي من رأى حذف السند اختصارًا، معتمدًا على ما استقاه من الصحيحين من أحاديث الأحكام، وكان ذلك أظهر ما يكون في كتاب المقدسي عمدة الأحكام، فكان اختصارًا للأدلة، واختيارًا لأقواها درجة وأصحها إسنادًا، ومن أجل ذلك كان قاصرًا لم يستوعب كثيرًا من الأدلة، تبعًا لاقتصاره على ما أورده الشيخان من أحاديث الأحكام، ومن ثم دعت الحاجة إلى شرحه وبيان ما فيه، وتدعيمه بما تيسر من الأدلة التي عزبت عنه، فكان شرح ابن دقيق العيد المسمى بإحكام الأحكام، وكتابه الآخر الذي سماه بالإلمام.
وجاء بعد المقدسي من تدارك مسلكه، وتوسع في المراجع التي يأخذ عنها الأحاديث؛ فكان الإمام مجد الدين بن تيمية في كتابه منتقى الأخبار من أحاديث سيد الأخيار، ولم يكن كسلفه المقدسي في اقتصاره على الأخذ من الصحيحين، وإنما أخذ منها كما أخذ من غيرها من كتب الأصول المعتمدة في الحديث، ومن بين هذه الكتب التي أخذ منها مسند الإمام أحمد بن حنبل، وجامع أبي عيسى الترمذي، وكتاب السنن لأبي عبد الرحمن النسائي، وكتاب السنن لأبي داود السجستاني، وكتاب السنن لابن ماجه القزويني، فجاء كتابه المنتقى أوسع دائرة فيما ألف مختصرًا من أحاديث الأحكام بعد عصر الرواية -كما سبق أن ذكرناه- وكان لذلك من أهم المراجع، لولا انصراف مؤلفه إلى إيراد هذه الكثرة الكاثرة من الأحاديث عن تقويمها وبيان درجتها، مما جعل كثيرا ممن جاء بعده يعنى أكبر العناية ببيان درجة الحديث والكلام على رجاله، وعلى رأس هؤلاء الحافظ العراقي، فكان كتابه تقريب الأسانيد وترتيب المسانيد كما وصفه مؤلفه: بأنه مختصر في أسانيد الأحكام، متصل الأسانيد بالأئمة الأعلام، حتى لا يقع في نقيصة نقل العلم بدون إسناده.
ومن بعد هؤلاء جميعًا جاء الحافظ ابن حجر في كتابه بلوغ المرام الذي عبر عنه: بأنه مختصر يشتمل على أصول الأدلة الحديثية للأحكام الشرعية، وذكر عقب كل حديث من أخرجه من الأئمة؛ لإرادته نصح الأمة، وقد اختار ابن حجر نخبة من الأحاديث، واتجه في أكثر ما اختاره إلى ما بنى عليه الإمام الشافعي مذهبه، وراعى في اختيارها أن تكون من بين ما هو صحيح أو حسن، وأن تكون صالحة للاحتجاج، فإن أورد ما هو أدنى من ذلك درجة فإنما يورده كشاهد أو تابع، أو مشتمل على زيادة ليست في غيره مما استوفى شروط القبول.
وأخيرًا كان الإمام الشعراني في كتابه كشف الغمة عن جميع الأمة، وهو كما قلنا كتاب يتناول أحاديث الأحكام، ويعرضها عرضًا نديًا يحفز النفوس إلى العودة إلى هدي النبي الكريم، وهو في هذا جامع لما تفرق، مستوعب في إيجاز، يفيد من تشوفت نفسه إلى التضلع من علوم الشريعة الإسلامية في أوجز وقت وأقربه، فهو مادة جليلة لكل مسلم، ينتفع به الخاص والعام.
ونرجو أن نكون -فيما عرضناه من نماذج لكتب أحاديث الأحكام- قد وفقنا إلى إعطاء القارئ الكريم صورة صادقة لما كان عليه التأليف في السنة في تلك العصور، وما كان عليه سلفنا الصالح من بذل الجهد في سبيل تقريب السنة إلى الدارسين، وتقديمها خالصة من الوشائب، ينتفع بها من أراد الخير لنفسه ولأمته في دينه ودنياه، والله المستعان، وهو حسبنا ونعم الوكيل