الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نخبة الفكر وشرحها:
لشيخ الإسلام ابن حجر المتوفى سنة 852هـ:
الكتابان للإمام الحافظ شيخ الإسلام أحمد بن علي الشهير بابن حجر العسقلاني، المتوفى عام اثنين وخمسين وثمانمائة للهجرة، وقد سبقت ترجمته عند دراسة كتابه بلوغ المرام من بين كتب الأحكام.
والمتن كما وصفه المؤلف في أول كتابه وشرحه إذ يقول: إن التصانيف في اصطلاح أهل الحديث قد كثرت في القديم والحديث، فسألني بعض الإخوان أن ألخص له المهم من ذلك، فلخصته في أوراق لطيفة سميتها نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر، على ترتيب ابتكرته، وسبيل انتهجته. مع ما ضممته إليه من شوارد الفرائد، وزوائد الفوائد، فأجبته إلى سؤاله، رجال الاندراج في تلك المسالك.
وإنما كان الكتاب على ترتيبه المبتكر؛ لأنه لم يسرد الأنواع سردًا قد يتدخل فيه بعضها مع بعض، ولكنه قسمها تقسيمًا حاضرًا مباينًا دقيقًا كما يصنع المنطقيون بالترديد بين النفي والإثبات، أو بين القسم ومقابله، فإنه بدأ فقال: إن الخبر إما أن يكون له طرق بلا حصر معين، أو مع حصر بما فوق الاثنين، أو بهما، أو بواحد، فالأول: المتواتر المفيد للعلم اليقيني بشروطه، والثاني: المشهور وهو المستفيض على رأي جماعة، والثالث: العزيز، والرابع: الغريب، وكلها سوى الأول آحاد، وفيها المقبول والمردود، لتوقف الاستدلال بها على البحث عن أحوال رواتها دون الأول، وقد يقع فيها ما يفيد العلم النظري بالقرائن على المختار، ثم قسم الغرابة بأنها إما أن تكون في أصل السند أولًا، وذكر اسم كل منهما، ثم انتقل إلى تقسيم خبر الآحاد إلى صحيح وحسن وضعيف، مع بيان وجه الحصر، وبين أن الصحيح تتفاوت مراتبه بتفاوت أوصافه، وربط بهذا ترتيب الكتب الصحاح في الأفضلية، ثم تطرق إلى بيان الحسن بحذف قيد من قيود الصحيح، وأورد أن كثرة الطرق فيه تجعله صحيحًا لغيره، وتطرق إلى بيان حكم ما إذا اجتمع الوصف بالصحة والحسن.
ثم أورد صور التخالف مبينًا الرواية بأقسامها الأربعة التي تشمل المحفوظ والشاذ والمعروف والمنكر، وانتقل إلى بيان ما إذا وجدت موافقة بين حديثين، وما تناوله مما يشمل التابع والشاهد والاعتبار، وانتقل إلى بيان تقسيم في المقبول يتناول السلامة من المعارضة، فأدمج في ذلك المحكم ومختلف الحديث، والناسخ والمنسوخ، وانتقل بعد ذلك إلى تقسيم المردود بحسب موجب الرد، وأورد تحت ذلك ما يسمى المعلق والمرسل والمنقطع والمدلس والمعنعن والموضوع والمتروك والمنكر. وما إلى ذلك.
هذا الفن، وذكر لطيفة، وهي أن المشهور يطلق على ما حرر هنا وعلى ما اشتهر على الألسنة فيشمل ما له إسناد واحد فصاعدًا، بل ما ليس له إسناد أصلًا.
وإذا انتقلنا إلى العزيز1 وجدناه يوضح قوله في المتن "وليس شرطًا للصحيح خلافًا لمن زعمه" فيقول: إن ذلك الزاعم هو أبو علي الجبائي من المعتزلة، وإليه يومئ كلام الحاكم أبي عبد الله في علوم الحديث حيث قال: الصحيح أن يرويه الصحابي الزائل عنه اسم الجهالة، بأن يكون له راويان، ثم يتداوله أهل الحديث إلى وقتنا كالشهادة على الشهادة، وصرح القاضي أبو بكر بن العربي في شرحه على البخاري بأن ذلك شرط البخاري، وأجاب عما أورد عليه من ذلك بجواب فيه نظر، ثم ذكر ما قيل في حديث:"الأعمال بالنيات"، وجواب القاضي الضعيف عن انفراد رواته، ثم نقل عن ابن رشيد قوله: ولقد كان يكفي القاضي في بطلان ما ادعى أنه شرط البخاري أول حديث مذكور فيه، ثم قال: وادعى ابن حبان نقيض دعوى القاضي فقال: إن رواية اثنين عن اثنين إلى النهاية لا توجد أصلًا، ورد ذلك ردًّا مفحمًا، وأورد مثاله من الصحيحين، وهو حديث أنس: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه
…
" الحديث، وهذه من نفائس الفن.
وهكذا نجده سلك ذلك المسلك الذي يشحن الأفئدة بالمعارف المتتابعة، ولولا أنه فني بارع لما استطاع أن ينفع قراءه بهذه النفائس القيمة.
ولا بد أن نذكر -على سبيل المثال- ما أورده في المرسل الخفي2 إذا صدر عن معاصر لم يلق من حدث عنه، بل بينه وبينه واسطة، فقد ذكر الفرق بين المدلس والمرسل الخفي فقال: إنه دقيق حصل تحريره بما ذكر هنا، وهو أن التدليس يختص بمن عرف لقاؤه إياه، فأما إن عاصره ولم يعرف أنه لقيه فهو المرسل الخفي، ومن أدخل في تعريف التدليس المعاصرة ولو بغير لقي لزمه دخول المرسل في تعريفه، والصواب التفرقة بينهما، ثم برهن على ذلك، وأطال في برهانه عليه.
ونذكر -على سبيل المثال أيضًا- أنه ذكر الموضوع3 وهو المطعون فيه بكذب راويه في الحديث، فاستطرد بقوله: إن الحكم بالوضع إنما هو بطريق الظن الغالب لا بالقطع، إذ قد يصدق الكذوب، لكن لأهل العلم بالحديث ملكة قوية يميزون بها ذلك، وإنما يقوم بذلك منهم من يكون اطلاعه تامًّا وذهنه ثاقبًا، ومعرفته بالقرائن الدالة على ذلك متمكنة، وقد لا يعرف الوضع بإقرار واضعه، قال ابن دقيق العيد: لكن لا يقطع بذلك لجواز أن يكون كذب في ذلك الإقرار
…
ا. هـ. وفهم منه بعضهم أنه لا يعمل بذلك الإقرار أصلًا، وليس ذلك
1 نخبة الفكر ص5.
2 نخبة الفكر ص18.
3 نخبة الفكر ص19.
مراده، وإنما نفى القطع بذلك، ولا يلزم من نفي القطع نفي الحكم؛ لأن الحكم يقع بالظن الغالب، وهو هنا كذلك، ولولا ذلك لما ساغ قتل المقر بالقتل، ولا رجم المعترف بالزنا، لاحتمال أن يكونا كاذبين.
ثم تطرق إلى بيان القرائن التي يعرف بها الوضع1 فأطال وأفاد، ونذكر على سبيل المثال أنه قال في المتن2: ولا يجوز تعمد تغيير المتن "متن الحديث" مطلقًا، ولا الاختصار منه بالنقض، ولا إبدال اللفظ المرادف باللفظ المرادف إلا لعالم بمدلولات الألفاظ، وبما يحيل المعاني، وقال في الشرح: إن ذلك هو الصحيح في المسألتين -وذكر الخلاف في اختصار الحديث، ووجهة نظر الجمهور في جوازه بما يؤيد مذهبهم- وأما الرواية بالمعنى فقال: إن الخلاف فيها شهير، والأكثر على جوازه، ومن أقوى حججهم الإجماع على جواز شرح الشريعة للعجم بلسانهم للعارف به، فإذا جاز الإبدال بلغة أخرى فجوازه باللغة العربية أولى، ثم أفاض في ذكر الخلاف في ذلك.
ثم ذكر على سبيل المثال أنه تناول الحديث المرفوع في تقسيمه، وبين أنه ما انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم تصريحًا أو حكمًا من قوله أو فعله أو تقريره، وفي الشرح أورد مثالًا لكل فقال: إن المرفوع من القول تصريحًا أن يقول الصحابي: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول كذا، أو حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا، أو يقول هو أو غيره: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، أو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال كذا أو نحو ذلك، وهذا الترديد يفهمه العارفون لفن المصطلح بأنه يشمل المتصل والمرسل والمعلق والمعنعن والمنقطع والمعضل، وغير ذلك.
ثم قال: ومثال المرفوع من الفعل تصريحًا أن يقول الصحابي: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل كذا، أو يقول هو أو غيره: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل كذا، وهذا يتناول جميع الأقسام التي أشرنا إليها عند تمثيله للمرفوع من القول تصريحًا، ثم قال: ومثال المرفوع من التقرير تصريحًا أن يقول الصحابي: فعلت بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، أو يقول هو أو غيره: فعل فلان بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، ولا يذكر إنكاره لذلك، ومثال المرفوع من القول حكمًا لا تصريحًا أن يقول الصحابي -الذي لم يأخذ عن الإسرائيليات- ما لا مجال للاجتهاد فيه، ولا له تعلق ببيان لغة أو شرح، كالإخبار عن الأمور الماضية من بدء الخلق وأخبار الأنبياء، أو الآتية كالملاحم والفتن وأحوال القيامة، وكذا الإخبار عما يحصل بفعله ثواب مخصوص أو عقاب مخصوص، ثم بين لم كان ذلك في حكم المرفوع.
1 نخبة الفكر ص20.
2 نخبة الفكر ص22، 23.
وقال بعد ذلك: ومثال المرفوع من الفعل حكمًا أن يفعل الصحابي ما لا مجال لاجتهاد فيه. فيدل على أن ذلك عنده عن النبي صلى الله عليه وسلم، كما قال الشافعي رضي الله عنه في صلاة علي في الكسوف في كل ركعة أكثر من ركوعين.
وهكذا ظل يذكر الأمثلة التي تفتق الأذهان على ألوان من هذا الفن العظيم ثم قال: ويلتحق بقولي حكمًا ما ورد بصيغة الكتابة في موضع الصيغ الصريحة بالنسبة إليه صلى الله عليه وسلم، كقول التابعي عن الصحابي يرفع الحديث أو يرويه أو ينميه أو يبلغ به أو رواية أو رواه، وقد يقتصرون على القول مع حذف القائل ويريدون به النبي صلى الله عليه وسلم، كقول ابن سيرين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال: "تقاتلون قومًا
…
" الحديث، وفي كلام الخطيب أنه اصطلاح خاص بأهل البصرة، ثم قال: ومن الصيغ المحتملة قول الصحابي: من السنة كذا وأطال في هذا كثيرًا، وسرد أنواعًا من الصيغ المختلفة، وما فيها من كلام العلماء أو اختلافهم، ووجهات نظرهم، مما يدل على أنه يطنب بعلمه في مواضع الإطناب بما تعظيم فائدته وتحلو ثمرته، ويوجز بحكمته في مواضع الإيجاز بما تعجل فائدته، فلله دره.