الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عمدة القاري شرح صحيح البخاري
…
عمدة القارئ شرح صحيح البخاري:
لبدر الدين العيني المتوفى سنة 855هـ:
ومؤلفه هو المحدث الكبير بدر الدين محمود بن أحمد بن موسى بن أحمد أبو محمد العينتابي المولد، ثم القاهري الحنفي.
نشأ في عينتاب من أعمال حلب، ولازم الشيوخ فأخذ عنهم مختلف العلوم الشرعية والعربية، وتولى كثيرًا من المناصب في الديار المصرية، وحدث وأفتى ودرس، وأخذ عنه الأئمة من كل مذهب طبقة بعد طبقة.
قال السخاوي في ترجمته للعيني: كنت ممن قرأ عليه أشياء، بل علق شيخنا "يريد ابن حجر" من فوائده، بل سمع عليه ثلاثة أحاديث مع ما بينهما مما يكون عادة بين المتعاصرين. وكذلك كان هو يستفيد من شيخه خصوصًا حين تصنيفه رجال الطحاوي قال: وترجمه شيخنا في رفع الإصر، وفي معجمه باختصار، وذكره ابن خطيب الناصرية في تاريخه فقال: هو إمام عالم فاضل مشارك في علوم، وعنده مروءة وحشمة وعصبية وديانة، ثم قال السخاوي: ولم يزل ملازمًا للجمع والتصنيف حتى مات، خصوصًا بعد صرفه عن نظر الأحباس، وصار يبيع من أملاكه وكتبه سوى ما وقفه على مدرسته منها، وهو شيء كثير.
وقد ذكر السخاوي من تصانيفه العدد الكبير ذكر في أولها شرحه "عمدة القارئ لصحيح البخاري"، وقال: إنه استمد فيه من شرح ابن حجر بحيث كان ينقل منه الورقة بكمالها، وكان يعترض عليه أحيانًا، ولكن الشيخ ابن حجر تعقبه في مجلد حافل، ثم ذكر ما لكل من الشرحين العيني وابن حجر من المزايا، ثم أورد ما له من الشروح للكتب في الحديث وغيره، وذكر منها معاني الآثار للطحاوي شرحه في عشر مجلدات، وقطعة من سنن أبي داود في مجلدين، وقطعة كبيرة من سيرة ابن هشام، وجمع الكلم الطيب لابن تيمية، وشرح الكنز في كتاب سماه رمز الحقائق في شرح كنز الدقائق، وغيرها من الكتب الكثيرة، وله بعض المختصرات، مثل مختصر الفتاوى الظاهرية، والمحيط في الفقه الحنفي، وحواش على شرح الألفية لابن المصنف، وعلى التوضيح، وعلى شرح الجاربري في التصريف، وعمل سيرة الأنبياء، وتاريخًا كبيرًا في تسعة عشر مجلدًا، وله طبقات الشعراء، وطبقات الحنفية، ورجال الطحاوي، ومعجم شيوخه، واختصر تاريخ ابن خلكان، وله تحفة الملوك في المواعظ والرقائق.
وفي مقدمة شرحه للبخاري بيان بشيوخه وتلامذته جاء فيه: أن من شيوخه زين الدين عبد الرحيم العراقي، سمع عليه صحيح البخاري، والإلمام في أحاديث الأحكام لابن دقيق العيد، ومنهم
سراج الدين البلقيني، سمع عليه محاسن الاصطلاع، ومقدمة ابن الصلاح، ومنهم المحدث الكبير تقي الدين محمد بن محمد الدجوي، سمع عليه جميع الأصول الستة بأسرها وكثيرًا من المسانيد، ومنهم الحافظ نور الدين الهيثمي، سمع عليه جملة كتب، ومنهم قطب الدين عبد الكريم الحلبي، قرأ عليه المعاجم الثلاثة، ومنهم الشيخ المسند شرف الدين محمد بن محمد بن الكويك، سمع عليه الشفاء للقاضي عياض ومسند أبي حنيفة، وذكر كثيرًا جدًّا من الشيوخ الذين أخذ عنهم وسمع منهم.
وذكر من تلامذته -الذين قال: إنهم كثير جدًّا -الإمام شيخ الإسلام ابن حجر الذي أخذ عنه بعض الفوائد والأحاديث كما ذكر السخاوي، ومنهم كمال الدين بن الهمام، والعلامة قاسم بن قطلوبغا، وشمس الدين السخاوي، والحافظ محمد بن أبي بكر الصالحي المعروف بابن زريق محدث الديار الشامية، ومنهم الشيخ كمال الدين الشمني، والبدر البغدادي، وقطب الدين الحيضري، والبرهان ابن خضر، والقاضي نور الدين علي بن داود الخطيب، وكثير غيرهم.
وهذا الكتاب -عمدة القاري- يعد من الشروح المبسوطة للبخاري، وهو أحد الكتابين العظيمين الذين سارت بذكرهما الركبان، وانتفع بها طلاب الحديث أيما انتفاع، حتى كأنهم يستغنون بهما عما عداهما في هذا الباب، والكتاب الآخر هو فتح الباري للإمام العلامة شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر، وإن كانت شهرة فتح الباري في عصرهما كانت أكثر، والإقبال عليه أعظم، ولعل ذلك كان لمكانة ابن حجر من السنة، ورسوخ قدمه فيها حتى إنه اختص من بينهما بلقب الحافظ، ولا سيما أن عمدة القاري ظهر بعد انتشار فتح الباري، الذي ظهر والناس متعطشون لكتاب حافل يشرح صحيح البخاري، يجلي عرائسه، ويكشف جناه ونفائسه.
وإذا كنت قد ضمنت هذه الرسالة بحوثًا عديدة، وتناولت فيها دراسة كتب كثيرة، من بينهما هذا السفر الكريم والخضم العظيم، فإنني لا أستطيع أن أوفيه حقه، ولا أن أتناول كثيرًا من جوانبه التي تصوره للقارئ الكريم، ذلك أنه يحتاج إلى أزمنة متطاولة، ودراسات حافلة لا يتسع لها نطاق البحث في حدود المنهج المرسوم، وهذا بعينه هو السبب في إيثاري لهذا الكتاب بالدراسة دون فتح الباري؛ لأن عناوينه الضابطة تحدد مباحثه، وتجعل الناظر فيه على بصيرة أكثر من إبراز صفاته ووصف مزاياه، يضاف إلى ذلك أن الإمام العيني من أعلام هذه الحقبة التي جعلناها مادة لدراستنا في السنة، فإنه ممن يتوسطون في هذه المدرسة زمانًا ومكانًا، وهو من أعلامها الفحول البارزين ورجالها المبرزين، ولم تسبق دراستنا لشيء من مؤلفاته كما درسنا لابن حجر، الذي ظفرت مؤلفاته من دراستنا بنصيب كبير: في كتب الأحكام وكتب الزوائد وكتب الرجال وكتب التخريج وكتب المصطلح.
فمن أجل ذلك آثرنا عمدة القارئ على فتح الباري بالدراسة في كتب الشروح.
وفي مجال وصف المؤلفين لهذا الكتاب يقول صاحب كشف الظنون عند بيانه لكتب شروح الجامع الصحيح1 ما ملخصه:
ومن الشروح المشهورة شرح العلامة بدر الدين أبي محمد محمود بن أحمد العيني الحنفي المتوفى سنة 855هـ وهو شرح كبير في عشرة أجزاء وأزيد، وسماه عمدة القاري، وأورد في خطبته أنه لما رحل إلى البلاد الشمالية قبل الثمانمائة مستصحبًا فيها هذا الكتاب "الجامع الصحيح" ظفر هناك من بعض مشايخه بغرائب النوادر المتعلقة به، ثم لما عاد إلى مصر شرحه -وهو بخطه في واحد وعشرين مجلدًا- بمدرسته التي أنشأها بالقرب من الجامع الأزهر، وشرع في تأليفه في أواخر رجب سنة 821هـ وفرع منه في أوائل جمادى الأولى سنة 847هـ، واستمد فيه من فتح الباري، بحيث ينقل منه الورقة بكمالها، وكان يستعيره من البرهان بن خضر بإذن مصنفه له، وتعقبه في مواضع، وطوله بما تعمد الحافظ ابن حجر حذفه من سياق الحديث بتمامه، وأفرد كل مراتب الرواة بالكلام، وبيان الأنساب واللغات والإعراب، والمعاني والبيان، واستنباط الفرائد من الأحاديث، والأسئلة والأجوبة.
وحكى أن بعض الفضلاء ذكر لابن حجر ترجيح شرح العيني بما اشتمل عليه من البديع وغيره فقال بديهة: هذا شيء نقله من شرح لركن الدين، وقد كنت وقفت عليه قبله، ولكني تركت النقل منه لكونه لم يتم، إنما كتب منه قطعة وخشيت من تعبي بعد فراغها من الاسترسال، ولذا لم يتكلم العيني -بعد تلك القطعة- بشيء من ذلك. ا. هـ. وبالجملة فإن شرحه حافل كامل في معناه، ولكنه لم ينتشر كانتشار فتح الباري في حياة مؤلفه.
هذا ما ذكره صاحب كشف الظنون من حكم على هذا الشرح ووصف له.
وقد أورد المرحوم الشيخ محمد منير الدمشقي مخرج الكتاب وناشره في بداية الكتاب ترجمة مسهبة للمؤلف تناول فيها مؤلفات العيني، فأورد من بينها هذا الكتاب "عمدة القارئ" وذكر أنه وقع في إحدى وعشرين مجلدة على تجزئه المصنف، ووصفه بأنه أوسع شروح البخاري نقلًا وتحقيقًا، وأجمعها للفوائد بحثًا وتمحيصًا، ينتهج منهج إتمام سياق الحديث حيث اختصر البخاري، ويسلك مسلك تعيين مواضع تخريجه من الكتاب إذا تعددت طرقه وتكرر تخريجه في الأبواب، ويذكر اختلاف رواة الكتاب إذا كان هناك اختلاف، ويوفي حق الكلام في الرجال، وضبط الأسماء والأنساب، بحيث يغني عن تطلب ذلك في الكتب المؤلفة في هذا الباب، ويبين اللغة والإعراب أتم بيان، ويتعرض بأسلوب بديع لوجوه المعاني والبيان، ثم وصفه بأنه يتوسع في طرائق استنباط الأحكام من الحديث، ويذكر لطائف الإسناد من علو ونزول، ومدني وشامي
1 كشف الظنون ج1 ص548 وما بعدها.
ونحوها، ويبسط في المسائل الخلافية تخريج الأحاديث المتعلقة بها بسطًا وافيًا، ويقارن بين الأدلة ويحاكم بينها، ويسرد تحت عنوان الأسئلة والأجوبة مواضع الأخذ والرد من فقه الحديث، وينتقي من شروح المتقدمين، مواطن العلم والفوائد مع تمام الاستقصاء، ثم تطرق من ذلك إلى الوصف بأنه يشرح الأحاديث من جميع مناحيها، وأن الكتاب بغية المتعلق بالمنقول وطالب المعقول، وأنه سهل الكشف عن المطالب في مظانها، بوضع العناوين الدالة عليها، ولم يحشد إلى كتابه ما هو أجدر بكتب المصطلح مما له كبير مساس بكتب الحديث، ولا يطيل بتخريج طرق الحديث عن كتب المستخرجات والأطراف المختصة بذلك، إلا ما يحتاج إليه في شرح الكتاب، أو ما يفيد ترجيح لفظ على لفظ في الروايات، ولا يفوته موضع الفائدة من ذلك، وقلما يحيل المطالع إلى مواضع قد يتيه في تطلبها، بخلاف صاحبه الشهاب فإنه كثير الإحالة، وقد لا توجد الفائدة حيث أحال، كما أنه خال عما سبق من مزايا شرح البدر، ثم نقل ناحية بين أنها تزيد شرح العيني مزية، وهي أنه كان يطلع على شرح الشهاب ابن حجر جزءًا بواسطة البرهان بن خضر أحد أصحاب الشهاب، وينتقده في مواطن انتقاده مع التوافق بين الشرحين في النقول في بعض المواضع لتوافق مراجعهما، وتناول الكاتب شبهة أن الثاني أخذ من الأول، وبين أنها نظرة من لا دراية له، وأنه يظهر عند الكشف عن مواطن اتفاقهما في مراجعهما، وأورد أيضا أن كتاب العيني ظهر بعد فراغ ابن حجر من شرحه بخمس سنوات، فدهش ابن حجر وأصحابه من ظهور شرح البدر بهذا المظهر، وابتدأ أصحابه يذيعون أعذارًا لشيخهم مولدة، وأورد أن الشهاب بدأ يرد انتقاد العيني عليه، فكتب الاعتراضات وترك ما تحتها بياضًا ليجيب عليها، فاخترمته المنية ولم يجب على كثير منها. ثم اعترف بأن كليهما شرح حافل، وأن العلامة ابن خلدون الذي قال في مقدمته:1 إن شرح البخاري دين على الأمة لو عاش إلى زمن ظهور هذين الشرحين لحكم لهما بقضاء هذا الدين، ثم عاد يفضل شرح العيني بأن من خاض بحار شرحه الفياض يرى نفسه في ملتقى سيل العلوم من جميع النواحي: لغة وإعرابًا وبلاغة واستنباطًا وكشفًا عن تراجم الرجال وكشف كناهم وألقابهم وأسمائهم وأنسابهم وبيانًا لفوائد حديثية، ولطائف إسنادية، وانتهى من ذلك إلى أن المنصف يحكم للعيني بقضاء هذا الدين بلا ارتياب.
وهذه الكلمة المسهبة وإن بدا فيها روح التعصب للمؤلف وكتابه إلا أنها أغنتنا في وصف الكتاب عن بعض ما كنا سنتناوله من وصف، ونحن نرى أنها قد ذكرت كثيرًا مما للعيني من مزايا، وأغفلت بعض ما فيه مما رآه الكاتب نقصًا في شرح الشهاب، فإن الإحالات في كتاب العيني كثيرة ولا سيما في آخره، بل إنه منذ أول الكتاب يحيل في بيان تراجم الرجال عند ذكر أسمائهم، فمن تقدم ذكره
1 انظر مقدمة ابن خلدون ص351 مطبعة التقدم وفيها يقول: ولقد سمعت كثيرًا من شيوخنا رحمهم الله يقولون: شرح كتاب البخاري دين على الأمة يعنون أن أحدًا من علماء الأمة لم يوفر له ما يجب من الشرح بهذا الاعتبار.
في موضع ترك الكلام عليه وأحال على ما تقدم، دون ذكر الموضع الذي ورد فيه فيما تقدم، على أنه قط غمط العيني بعض مزاياه حين ذكر أنه يعين بعض مواضع تخريج الحديث من الكتاب إذا تعددت طرقه وتكرر تخريجه، فإن العيني لا يقتصر على هذا القدر من الإشارة إلى ذكر الحديث في مواضع من الجامع نفسه، بل إنه يذكر من أخرجه من المحدثين غيره، كمسلم وأبي داود والترمذي وغيرهم، وهذه ناحية ملموسة واضحة، بل إنها ترد في بعض عناوينه الخاصة بهذا المعنى إذ يقول: ذكر تعدد مواضعه ومن أخرجه غيره، ويفي بذلك تحت هذا العنوان.
ونحن بدورنا نشير إلى ما سنح لنا من الصفات البارزة في هذا الكتاب، عند دراستنا لأجزاء من أوائله وأخرى من أواخره، إيثارًا للإيجاز الذي يتناسب مع منهجنا وخطتنا في البحث.
1-
الكتاب في جملته مبسوط بحيث إنه يتناول كثيرًا مما لا يحتاج إليه طالب الحديث ولا سيما فيما يتعلق بالفوائد اللغوية والنحوية والبلاغية والصرفية والبيانية، وإن كان عظيم الفائدة غزير المادة في النواحي الحديثية، وفي شرح ما يحتاج إليه القارئ في استنباط الأحكام، وعرض الأسئلة والأجوبة التي تمكن المعاني في ذهن دارس الحديث، وبيان اختلاف الأئمة والعلماء من المتكلمين في العقائد والمتفقهين في الأحكام، وتفصيل مذاهب كل أولئك، وبيان وجهات كل منهم، وأدلته على ما ذهب إليه، وكثيرًا ما يرجح بعض المذاهب على بعض من وجهة نظره التي يبرزها بدليله وحجته.
2-
الواقع أن وصف الكتاب بالبسط والإطناب يتجلى في الأجزاء الأولى منه، فهو يتناول الأحاديث في تلك الأجزاء بما لا يخلو أكثره مما يأتي:
بيان مناسبة الحديث للباب الذي أورده البخاري، بيان رجاله، بيان لطائف إسناده، بيان مفردات اللغة، بيان الإعراب، بيان الصرف، بيان المعاني، بيان البيان، بيان استنباط الأحكام، الأسئلة والأجوبة، وإذا تطلب الحديث أكثر من ذلك كبيان الأسماء الخارجة عن السند وهي واردة في متن الحديث فإنه يتناولها كذلك بعنوان آخر، وكذلك إذا تطلب الحديث بيان الأنساب أو الأماكن أو غير ذلك فإنه يضع عنوانًا مناسبًا لما يتطلبه الحديث من بيان، ومن ذلك ما جاء في حديث هرقل حيث وضع فيه بيانًا بالأسماء الواقعة فيه1 وبيانًا بأسماء الأماكن فيه2، وقد يذكر في بعض الأحاديث بيانًا بضبط الرجال، وفوائد تتعلق بهم، كما أنه يذكر بيان نوع الحديث من كونه متواترًا أو غير متواتر، غريبًا أو عزيزًا أو ما أشبه ذلك، وقد يذكر بيان سبب الحديث ومورده، وذلك كما في حديث:"إنما الأعمال بالنيات"3.
3-
وطريقة تناوله لتلك النواحي التي أوردنا أنه لا يكاد يغفلها في مناسباتها أنه يغلب عليه التطويل المسهب، وإن كانت هذه النواحي لا تفيد الفائدة المنشودة في بيان الحديث.
1 عمدة القارئ ج1 ص79.
2 عمدة القارئ ج1 ص82.
3 عمدة القارئ ج1 ص28.
فهو مثلًا في بيان اللغة تحت العنوان الأول. كيف كان بدء الوحي وما تضمنه من الآية الكريمة: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْك} يتكلم على كلمة باب، فيذكر أصله وجمعه ومؤنثه، ويذكر في "كيف" أنها من أي أنواع الكلمة، وما دليل ذلك، وكيف استعملها العرب، وفي كلمة "بدء الوحي" يتكلم على البدء ووزنه، وما أورده صاحب العباب في شأنه، ويتكلم في كلمة الوحي يذكر أصل معناها، وجمعها، وبعض ما وقعت فيه من أشعار العرب، ومن آيات القرآن الكريم والرسول، وبماذا يعرف، وما الفرق بينه وبين النبي، وغير ذلك، ما يشغل القارئ ويجعله يمل قبل أن يصل إلى مقصوده من الحديث.
ثم ينتقل إلى بيان الصرف، فيذكر أنه "كيف" لا يتصرف لأنه جامد، وأن "الوحي" مصدر أوحى، وأن الرسول صفة مشبهة، ويطيل في ذلك أيضًا.
ثم ينتقل إلى الإعراب فيذكر أن "باب" بالرفع خبر لمبتدأ محذوف، ويجوز فيه التنوين وتركه للإضافة، وما ذكره بعضهم من أنه يجوز فيه الوقف، ويناقش ذلك، وما وقع في بعض الروايات من حذفه، وما إلى ذلك.
ثم ينتقل إلى المعاني فيبين أن "كيف" تتضمن معنى همزة الاستفهام، وأنه للإنكار، وأن هذا الأسلوب من أي الأنواع.
ثم ينتقل إلى: "إنا أوحينا" فيبين من أي ضروب الخبر هو، وما هي أضرب الخبر عند علماء المعاني ويستشهد من كلام عبد القاهر على ما يقول.
ثم ينتقل إلى البيان، فيذكر أن الكاف في كما أوحينا للتشبيه، ويفسر ذلك.
ثم ينتقل إلى التفسير، فيبين موضع الآية من القرآن الكريم، وسبب نزولها.
ثم ينتقل إلى سر تصدير الباب بالآية المذكورة، وما جرت به عادة البخاري من ضمه إلى الحديث ما يناسبه من القرآن أو غيره.
وهذا الأخير هو أنفع ما ينتفع به طالب الحديث ويعني بشأنه، وليس له حاجة بما قدمه من قبله.
هذا هو صنيع الإمام العيني في شرح كل حديث يورده البخاري، وليس ذلك قاصرًا على أول الباب الأول، ولكنه مطرد في الأجزاء الأولى من الكتاب -كما قلنا.
ولنضرب لك مثلًا آخر من الجزء الثاني من الكتاب:
في الحديث الثالث والثلاثين من باب الغضب في الموعظة والتعليم1، وهو قول ابن خالد الجهني أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله رجل عن اللقطة فقال: "اعرف وكاءها -أو قال:
1 عمدة القارئ ج2 ص107.
وعاءها وعفاصها- ثم عرفها سنة، ثم استمتع بها، فإن جاء ربها فأدها إليه"، قال: فضالة الإبل؟ فغضب حتى احمرت وجنتاه -أو قال: احمر وجهه- فقال: "ومالك ولها، معها سقاؤها وحذاؤها، ترد الماء وترعى الشجر، فذرها حتى يلقاها ربها"، قال: فضالة الغنم، قال: "لك أو لأخيك أو للذئب". ا. هـ. تناول المؤلف فيه ما يأتي:
مطابقته للترجمة، وهي باب الغضب في الموعظة والتعليم إذا رأى ما يكره، فذكر أن المطابقة في قوله: فغضب، ثم بيان رجاله وهم ستة، فترجم لهم عدا من سبق ذكره، ثم لطائف إسناده: وهي التحديث والعنعنة إلى آخره، ثم بيان تعدد مواضعه ومن أخرجه غير البخاري، وذكر في ذلك كلامًا كثيرًا يتجاوز نصف صفحة من القطع الكبير، ثم بيان اللغات، فضبط اللقطة، وذكر الخلاف في ضبطها، ونصوص رجال اللغة فيها
…
وأطال في ذلك بإيراد نقول كثيرة، ثم تناول كلمة اعرف، وبين أنها من المعرفة لا من الإعراف، ثم تناول كلمة الوعاء فضبطها، وبين معناها والخلاف فيه، ثم تناول كلمة الوكاء وفعله وتعديه، وما قيل في ذلك، وأورد شاهدًا من كلام العرب على معنى أوعيت الزاد، ثم ضبط كلمة العفاص، وما ذكر من أنه يقال فيه العقاص وأورد عبارات اللغة في ذلك، واستطرد إلى عقاص القارورة كالصمام والسداد، وأورد للأخير شاهدًا من كلام العرب، وشرح كلمة ربها وما يستعمل فيه، ثم كلمة الضالة وما تستعمل فيه، وهل يصح حذف التاء فيه، ثم شرح كلمة الوجنة، ثم كلمة السقاء، وما يجمع عليه، ثم كلمة الحذاء ومعناه في البعير ومقابله في الفرس، ثم كلمة ذرها وبين أن ماضيه ميت غير مستعمل، وكلمة الغنم فبين أنه مؤنث موضوع للجنس يقع على الذكور والإناث. وأطال في ذلك.
وبعد هذا ذكر بيان الإعراب، فبين أن رجلًا فاعل سأله، وأن وكاءها مفعول اعرف، وأن عرفها معطوف على اعرف، وأن سنة منصوب بنزع الخافض، وأورد أن استمتع معطوف على عرفها وبين أن "فأدها" جواب الشرط فذلك دخلته الفاء، وأن قول السائل: فضالة الإبل كلام إضافي مبتدأ وخبره محذوف، وأن الفاء في قوله فغضب للسببية مثلها "فوكزه موسى فقضى عليه" وأن حتى للغاية بمعنى إلى، وأن وجنتاه فاعل احمرت، وعلامة الرفع الألف، وأن قوله: مالك ولها يروى بالواو وبغير الواو، وأن كلمة ما استفهامية ومعناه ما تصنع بها، أي لم تأخذها
…
وأن جملة ترد الماء يجوز أن تكون بيانًا لما قبلها لا محل لها وأن يكون محلها الرفع على أنها خبر لمبتدأ محذوف، أي هي ترد الماء وترعى الشجر، وقوله: فذرها جملة من فعل فاعل، والفاء فيها جواب شرط محذوف "هكذا" وقوله: فضالة الغنم كلام إضافي مبتدأ، خبره ما حكمها قوله: لك أو لأخيك أو للذئب فيه حذف تقديره: ليست ضالة الغنم مثل ضالة الإبل، هي لك إن أخذتها أو هي لأخيك
…
إلى آخر ما أطال به مما لا يكاد يكون دقيقًا إذا طبق على قواعد النحو.
وفي بيان المعاني ذكر المراد بالرجل السائل، وبين في كلمة أو قال إنها شك من الراوي وما في ذلك من خلاف، وفي اعرف عفاصها ووكاءها أنها وردت في بعض الطرق من غير شك، ثم ذكر العلة في أمر النبي صلى الله عليه وسلم له بمعرفة العفاص والوكاء، وفي قوله: ثم عرفها بين أن فيه حذفًا أي للناس، وبم يكون التعريف، وما عدته
…
وأطال في ذلك، ثم ذكر السر في الإتيان بثم في قوله:"ثم استمتع" وبين في قوله: "فغضب" وأطال فيه.
ثم انتقل إلى بيان البيان، وذكر أن فيه التشبيه للإبل بمن كان معه حذاء وسقاء في السفر، وانتقل بعد ذلك إلى البديع، وبين أن فيه جناسًا ناقصًا في اعرف وعرف، وهل يستوي الحرف المشدد مع الحرف المخفف.
وبعد ذلك انتقل إلى استنباط الأحكام، فذكر وجوهًا كثيرة جدًّا. وأطال فيها، وكان استنباط الأحكام من هذا الحديث فيما يقرب من ثلاث صفحات من القطع الكبير.
وواضح أن استنباط الأحكام هذا هو أهم ناحية في عرض السنة وشرحها للناس، أما تلك النواحي الأخرى التي بلغت نحوًا من ثلاث صفحات أخرى فقد كان يمكن الاقتصار فيها على أقل القليل حتى يصل طالب المعنى إلى بغيته من أقرب طريق.
ولعل فيما عرضناه من طريقته في الموضوعين اللذين أوردناهما ما يلقي ضوءًا مسفرًا على ما وصفنا به الكتاب من البسط في أوائله.
وأما أواخره، فإنها لم تكن على هذا الوجه من البسط ولا ما يقرب منه، فليس فيها تلك العناوين الكثيرة، وإن كان فيها بعض ما يندرج تحت هذه العناونين دون ذكرها، ولكن مع الإيجاز والاختصار البين، ولو أنه سلك هذا المسلك من أول الكتاب لكان أنفع لطالب الحديث، وأعون على تعجيل المنفعة وتيسيرها للراغب في السنة الذي يريد أن يستغني بأقل القليل مما أطال به المؤلف في غير جوهر الحديث ونواحيه الدينية الأصلية، وإليك مثالين من صنعه في آخر الكتاب:
في حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال1: "تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة يتكفؤها الجبار بيده، كما يكفؤ أحدكم خبزته في السفر نزلًا لأهل الجنة"، فأتى رجل من اليهود فقال: بارك الرحمن عليك يا أبا القاسم، ألا أخبرك بنزل أهل الجنة يوم القيامة قال:"بلى". قال: تكون الأرض خبزة واحدة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فنظر النبي صلى الله عليه وسلم إلينا ثم ضحك حتى بدت نواجذه ثم قال: ألا أخبرك بإدامهم؟ قال: إدامهم بالأم ونون. قالوا: وما هذا؟ قال: ثور ونون يأكل من زئادة كبدها سبعون ألفًا.
1 عمدة القارئ ج23 ص102.
وبدر الدين العيني في هذا الحديث يذكر مطابقته للترجمة، وهي باب "يقبض الله الأرض يوم القيامة" ويبين من أخرجه غيره دون ترجمة، ويشرح الألفاظ دون ترجمة، فيشرح الخبزة بإيجاز، ويشرح التكفؤ كذلك، ويبين الشبه في قوله: كما يكفؤ أحدكم خبزته، ويذكر كلام الخطابي في ذلك، ثم يشرح كلمة النزل ويبين المراد بها، ثم يروي عن البيضاوي أن هذا الحديث مشكل جدًّا، لا من جهة إنكار صنع الله وقدرته، بل لعدم التوقف على قلب جرم الأرض من الطبع الذي عليه إلى طبع المطعوم والمأكول، ويزيل البيضاوي الإشكال في ذلك فيما ينقله العيني عنه ثم يذكر وجوهًا للمحدثين في إزالة هذه الإشكال، ثم ينتقل إلى بيان السبب في ضحك النبي صلى الله عليه وسلم، ويفسر قوله: بدت نواجذه، ثم يقسم الأضراس في هذه المناسبة، ثم يتكلم عن البالام بما ينقله عن الكرماني من بيان إعرابها، والأقوال فيها، والصحيح من ذلك، وهي أنها عبرانية معناها الثور، ويذكر تعليل الخطابي ذكر اليهودي لهذه الكلمة، ثم يذكر تفسير ابن الأثير لهذه الكلمة، ومناقشته لتفسير غيره، ثم ينتقل إلى بيان أن "من" في قوله: من زائدة كبدها زائدة، ويفسر الزائدة بأنها القطعة المنفردة المتعلقة بالكبد، ويذكر أنها أطيبها، ولذلك خص بأكلها سبعون ألفًا، ويذكر خلاف المحدثين في هؤلاء السبعين، ثم يذكر أثرًا عن ابن المبارك عن كعب:"أن الله يقول لأهل الجنة: إن لكل ضيف جزورًا، وإني أجزركم اليوم حوتًا وثورًا" كما يذكر أثرًا عن مسلم من حديث ثوبان: "أن تحفة أهل الجنة زيادة كبد النون" وينتهي من هذا الشرح بلا جزم بقول، ولا اختيار لرأي، ومهما يكن فإنه لا يحرم القارئ من فائدة يفيدها مع إيجازه.
وأنت ترى أنه قد أتى على المقصود من شرح هذا الحديث مع طول متنه بما لا يطيل به على القارئ، وما يمكن أن يجتزئ به مع وجازة، من غير إفاضة في اللغات ووجوه الإعراب والمعاني والبيان وما إلى ذلك، فإنه وقع في نحو صفحة ونصف، ولو أنه التزم في مثل هذا الحديث ما ألزم به نفسه في أول الكتاب لقرأنا في شرحه ما يزيد على عشر صفحات.
وفي "باب النذر فيما لا يملك وفي معصية" حديث أبي إسرائيل قال ابن عباس1: بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب إذا هو برجل قائم فسأل عنه فقالوا: هذا أبو إسرائيل نذر أن يقوم ولا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"مره فليتكلم وليستظل وليقعد وليتم صومه".
فيبين العيني في هذا الحديث مطابقته للترجمة، وبعض الأسماء التي وردت فيه باختصار، ومن أخرجه غير البخاري، ومواضع ذكره فيها، وما قيد به قوله يخطب في بعض الروايات،
1 عمدة القارئ ج23 ص212.
وأن قوله يخطب قيد في بعض الروايات بيوم الجمعة، وأنه ورد في بعض الروايات أنه صلى الله عليه وسلم التفت، وبين أن قوله قائم صفة لرجل، وأنه مقيد في بعض الروايات بأنه قائم في الشمس، وفي بضعها بأنه قائم يصلي، وذكر في أبي إسرائيل رواية أبي داود "هو أبو إسرائيل وما زاده كل من الخطيب والكرماني في وصفه، وما أورده ابن الأثير في وصفه أيضًا وما ترجمه به ابن عبد البر.
ثم انتقل إلى بيان المراد بكلمة مره، ومرجع الضمير في مره، ثم إلى تعليل قوله صلى الله عليه وسلم:"ليتم صومه" ثم إلى ما يستفاد من الحديث من كونه يدل على أن السكوت عن المباح ليس بطاعة، وكذلك الجلوس في الشمس وكل ما يتأذى به الإنسان، وإنما الطاعة ما أمر الله به ورسوله.
وكل هذا الشروح في نصف صفحة من هذا الكتاب.
ولعلك ترى أنه اقتصر في هذا الحديث على قدر الضرورة أو ما هو أقل من ذلك، وكان بوسعه فيه أن يورد من التفصيلات ما يروي ظمأ القارئ فيما يجب الوفاء به وما لا يجب من النذر، ولعله اكتفى بذكر شرحه لأحاديث أخرى في هذا المعنى قبل هذا الحديث، قد يستفيد بها القارئ لو ضم بعضها إلى بعض متونًا وشروحًا، غير أننا أردنا أن نعرض بعض ما وقع لنا في أواخر الكتاب كما عرضنا بعض ما وقع لنا في أوله.
وأرجو ألا يكون ما وصفنا به صاحب عمدة القارئ من الإطالة والبسط في أول الكتاب والاختصار والإيجاز في آخره مما قد يبدو لوثه في تأليفه، أو عيبًا في تصنيفه، ولعله يكون أقرب إلى النصح للأمة، والإخلاص للقارئ منه إلى غير ذلك، فإن الإطناب في أوائل الكتب أمر يتقدم به المؤلفون لشحذ الملكات واستنهاض الهمم، لمجاراة الإثراء من الثقافة، والتضلع من مختلف المواد والفنون، وقد رأينا الكثرة الكاثرة من المؤلفين في التفسير وشروح السنة يتنهجون هذا المنهج، فإذا كان قد بسط في أول الكتاب فإن ذلك لمزيد التزويد من الثقافة، وإذا كان قد أوجز في آخره فإن ذلك للاكتفاء بما سبقت دراسته في أوله، ولعلنا قد رأينا أن في اختصاره في آخر الكتاب ما لا يخل بالمطلوب من الشرح، وبيان أهم النواحي المنشودة فيه.
ومهما يكن فإننا نسأل الله للإمام العيني بما نصح به لهذه الأمة، وقدم لطلاب الحديث من إحسان ومنه، أن يجزيه أحسن الجزاء، وأن ينفع به وبسائر مؤلفاته، إنه سميع قريب.