الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(4) باب سنن الوضوء
{الفصل الأول}
394-
(1) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً، فإنه لا يدري أين باتت يده)) .
ــ
(باب سنن الوضوء) لم يرد بالسنن، سنن الوضوء فقط، أي ما يقابل الفرض بل أراد بالسنن، أفعال النبي صلى الله عليه وسلم وأقواله، أعم من أن تكون سنة أو فرضاً، يقال: جاء في السنة كذا، أي في الحديث.
394-
قوله (من نومه) هذا يدل على عموم الحكم عقب كل نوم ليلاً أو نهاراً، لكن جاء عند الترمذي، وأبي داود وابن ماجه من الليل، مكان قوله من نومه، والمطلق محمول على المقيد، فيدل على خصوصه بنوم الليل، ويؤيده قوله في آخر الحديث "باتت يده"، فإن حقيقة المبيت تكون بالليل، إلا أن التعليل المنصوص الآتي يقتضي إلحاق نوم النهار بنوم الليل، وإنما نوم الليل بالذكر للغلبة، بل قيل: ليس حكم الغسل قبل الغمس في الإناء مخصوصاً بالقيام من النوم، بل المعتبر فيه الشك في نجاسة اليد، فإن الظاهر أن المقصود من الحديث إذا شك أحدكم في يديه مطلقاً، سواء كان لأجل الاستيقاظ من النوم أو لأمر آخر، إلا أنه فرض الكلام في جزئي واقع بينهم على كثرة، ليكون بيان الحكم فيه بياناً في الكلى بدلالة العقل، فالتقييد بالاستيقاظ لأن توهم نجاسة اليد في الغالب يكون من المستيقظ، فلا مفهوم له (فلا يغمس) بتخفيف الميم من باب ضرب، هو المشهور، ويحتمل أن يكون بالتشديد من باب التفعيل (في الإناء) أي في الظرف الذي فيه الماء وغيره من المائعات، وخرج بذكر الإناء البرك والحياض التي لا تفسد بغمس اليد فيها على تقدير نجاستها. (حتى يغسلها) إلى رسغها (ثلاثاً) كذا في جميع طبعات الهند للمشكاة وفي النسخة القاري وسقط هذا اللفظ في نسخة الألباني طبعة دمشق وهو من إفراد مسلم (فإنه لا يدري أين باتت يده) يعني لا يدري تعيين الموضع الذي باتت، أي صارت يده منه، يعني هل لاقت مكاناً طاهراً أو نجساً، وفيه إيماء إلى أن الباعث على الأمر بغسل اليد احتمال النجاسة؛ لأن الشرع إذا ذكر حكماً وعقبه بعلة دل على أن ثبوت الحكم لأجلها. قال الشافعي وغيره من العلماء: سبب الحديث أن أهل الحجاز كانوا يستنجون بالحجارة، وبلادهم حارة، فإذا ناموا عرقوا فلا يومن أن تطوف يده على موضع النجاسة، أو على قذر غير ذلك، فعلم بهذا أن حكم الغسل للشك في نجاسة اليد، فمتى شك في نجاستها كره له غمسها في الإناء قبل غسلها، سواء قام من نوم الليل أو النهار، أو شك في نجاستها من غير نوم. وقال التور بشتى: هذا في حق من بات مستنجياً بالأحجار معرورياً، ومن بات على خلاف ذلك ففي أمره سعة ويستحب له أيضاً غسلها؛ لأن السنة إذا وردت لمعنى لم تكن لتزول بزوال ذلك المعنى. وقال الباجي: الأظهر في سبب الحديث أن النائم لا يكاد أن يسلم من حك جسده، وموضع بثرة في بدنه، ومس رفغه وإبطه، وغير ذلك من
متفق عليه.
395-
(2) وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا استيقظ أحدكم من منامه فتوضأ فليستنثر ثلاثاً، فإن الشيطان يبيت على خيشومه))
ــ
مغابن جسده، ومواضع عرقه، فاستحب له غسل اليد تنظفاً وتنزهاً، قال: وتعليقه بنوم الليل لا يدل على الاختصاص؛ لأن المستيقظ لا يمكنه التحرز من مس رفغه وإبطه، وفتل ما يخرج من أنفه، وقتل برغوث، وحك موضع عرق، فإذا كان المعنى الذي شرع له غسل اليد موجوداً في المستيقظ لزمه ذلك الحكم، ولا يسقط عنه بأن الشرع علقه على النائم- انتهى مختصراً ملتقطاً. وعلى هذا يكون الحكم عاماً لكل متوضئ، ولا يختص بالنائم، وأما على ما قال الشافعي وغيره في سبب الحديث فيكون استحباب الغسل للمتوضئ المستيقظ من النوم خاصة، وهذا القدر يكفي لمناسبة الحديث بالباب. وأما من يريد الوضوء من غير نوم فيستحب له، لما سيأتي في صفة الوضوء من أفعاله صلى الله عليه وسلم. ثم النهي عن الغمس قبل الغسل للتنزيه، والأمر في رواية "فليغسل" للندب عند الجمهور، فلو خالف، وغمس قبل الغسل فقد أساء، ولا يفسد الماء والقرينة الصارفة التقييد بالثلاث في غير النجاسة العينية، فإنه يدل على ندبية الغسل، ولأنه علل بأمر يقتضي الشك في نجاسة اليدين، والوجوب لا يبني على الشك. وحمله أحمد على كراهة التحريم، وقال: بوجوب الغسل في نوم الليل، ولا يبعد من الشارع الإيجاب لرفع الشك، ومن قال: بأن الأمر بالغسل للتعبد كمالك، لا يفرق بين الشاك والمتيقن، والراجح عندي ما ذهب إليه الجمهور، والله أعلم. والحديث فيه مسائل كثيرة، منها استحباب غسل النجاسة ثلاثاً؛ لأنه إذا أمر به في المتوهمة ففي المحققة أولى. ومنها استحباب الأخذ بالاحتياط في العبادات وغيرها ما لم يخرج عن حد الاحتياط إلى حد الوسوسة. (متفق عليه) واللفظ لمسلم وأخرجه أيضاً مالك والشافعي وأحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه وغيرهم، وفي الباب عن ابن عمر وجابر عند الدارقطني وابن ماجه.
395-
قوله (فتوضأ) أي أراد الوضوء وسقط هذا اللفظ من نسخة الألباني (فليستنثر) أي فليخرج ماء الاستنشاق والقذر اليابس المجتمع من المخاط، يعني فليستنثر بعد الاستنشاق، فإن الاستنثار هو إخراج الماء الذي جذبه بريح الأنف إلى أقصاه، فهو من تمام الاستنشاق، والأمر للندب عند الجمهور، وللوجوب عند الظاهرية. (فإن الشيطان) الفاء للسببية (يبيت على خيشومه) بفتح الخاء قيل: أعلى الأنف، وقيل: كله، وقيل: هو أقصى الأنف المتصل بالبطن المقدم من الدماغ، وقيل: غير ذلك. قال عياض وغيره: بيتوتة الشيطان إما حقيقية، فإن الأنف أحد المنافذ التي يتوصل منها إلى القلب، والمقصود من الاستنثار إزالة آثاره، وليس عليه ولا على الأذن غلق، وفي الحديث "إن الشيطان لا يفتح غلقاً". وجاء الأمر بكظم الفم في التثاؤب من أجل دخول الشيطان في الفم. وإما مجاز، فإن ما ينعقد فيه من الغبار والرطوبة قذرات توافق الشيطان، فالمراد أن الخيشوم محل قذر يصلح لبيتوتة الشيطان، فينبغي للإنسان تنظيفه، والراجح أنه محمول على
متفق عليه.
396-
(3) وقيل لعبد الله بن زيد بن عاصم: ((كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ؟ فدعا بوضوء فأفرغ على يديه فغسل يديه مرتين مرتين، ثم مضمض واستنثر
ــ
الحقيقة، وموكول معرفته وعلمه إلى الشارع، فإن الله تعالى خص نبيه صلى الله عليه وسلم بأسرار يقصر عن دركها العقول والأفهام. فالصواب في أمثال هذه الأحاديث أن يؤمن بظواهرها، ويحترز عن بيان كيفياتها، وظاهر الحديث يقتضي أن يحصل لكل نائم. ويحتمل أن يكون مخصوصاً بمن لم يحترز من الشيطان بشيء من الذكر، كما في حديث آية الكرسي:(ولا يقربك شيطان) متفق عليه، أخرجه البخاري في بدء الخلق، ومسلم في الطهارة، واللفظ المذكور للبخاري، وأخرجه أيضاً النسائي.
396-
قوله (وقيل) القائل هو عمرو بن أبي الحسن الأنصاري، أخو عمارة بن أبي الحسن، جد عمرو بن يحيى بن عمارة، ففي رواية للبخاري من طريق وهيب، قال: شهدت عمرو بن أبي حسن سأل عبد الله بن زيد، وفي رواية أبي نعيم في المستخرج عن عمرو بن أبي حسن قال: كنت كثير الوضوء، فقلت لعبد الله بن زيد" الحديث. فهاتان الروايتان صريحتان في أن القائل والسائل هو عمرو بن أبي الحسن. (لعبد الله بن زيد بن عاصم) بن كعب الأنصاري المازني المدني صحابي شهير، له هذا الحديث، وأحاديث أخرى، قيل: شارك وحشياً في قتل مسيلمة الكذاب. مختلف في شهوده بدراً، استشهد بالحرة، وكان في آخر ذي الحجة سنة (63) وهو ابن (70) سنة، وهو غير عبد الله بن زيد بن عبد ربه الذي أرى النداء في المنام، وليس لابن عبد ربه إلا حديث الأذان فقط. (فدعاء بوضوء) بفتح الواو ما يتوضأ به والباء للتعدية أي طلبه (فأفرغ) أي صب الماء (على يديه) بالتثنية أي إحدى يديه، وفي المصابيح: على يده اليمنى، وكذا في رواية النسائي، ويؤيد رواية الإفراد الإظهار في موضع الإضمار في قوله (فغسل يديه) أي إلى الرسغين، وفيه غسل اليد قبل إدخالها في الإناء ولو كان من غير نوم. (مرتين مرتين) وفي المصابيح بدون التكرار، قال ابن حجر: وجه الاحتياج إلى التكرير أن الاقتصار على الأول يوهم التوزيع- انتهى. قال الحافظ: كذا لمالك بلفظ مرتين، ووقع في رواية وهيب عند البخاري، وخالد عند مسلم، والدراوردي عند أبي نعيم بلفظ "ثلاثاً". وهؤلاء حفاظ قد اجتمعوا، فروايتهم مقدمة على رواية الحافظ الواحد، ولم يحمل على وقعتين؛ لأن المخرج واحد، والأصل عدم التعدد-انتهى. وقال ابن حجر: اقتصر على مرتين في بعض الأحيان لبيان الجواز، وإلا فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم: أنه فعل الثلاث- انتهى. ثم غسلهما في أول الوضوء سنة باتفاق العلماء كما قاله النووي. قال الأمير اليماني: وليس هو غسلهما عند الاستيقاظ، أي الذي تقدم حديثه، بل هذا سنة الوضوء، فلو استيقظ وأراد الوضوء فظاهر الحديثين أنه يغسلهما للاستيقاظ ثلاث مرات، ثم للوضوء كذلك، ويحتمل تداخلهما- انتهى. قلت هذا الأخير هو الراجح عندي (ثم مضمض) المضمضة لغة تحريك الماء في الفم (واستنثر) أي
ثلاثاً، ثم غسل وجهه ثلاثاً، ثم غسل يديه مرتين مرتين. إلى المرفقين،
ــ
استنشق الماء، ثم استخرج ذلك بنفس الأنف بإعانة اليد اليسرى، فلم يذكر الاستنشاق؛ لأن ذكر الاستنثار دليل عليه، فإنه لا يكون إلا بعد الاستنشاق. ثم إنهم اختلفوا في وجوب المضمضة والاستنشاق والاستنثار، فذهب أحمد إلى وجوب الثلاثة في الوضوء، وغسل الجنابة، وهو الراجح، واستدل له بأدلة. منها مواظبة النبي صلى الله عليه وسلم عليها بالفعل في جميع وضوئه. ومنها حديث عائشة عند البيهقي بلفظ: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: المضمضة والاستنشاق من الوضوء الذي لابد منه. ومنها أنه من تمام غسل الوجه، فالأمر بغسله أمر بها، ولا موجب لتخصيصه بظاهره دون باطنه، فإن الجميع في لغة العرب يسمى وجهاً. ومنها حديث أبي هريرة المتفق عليه: إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماء ثم لينثر. ومنها حديث سلمة بن قيس عند الترمذي والنسائي: بلفظ إذا توضأت فاتنثر. ومنها حديث لقيط بن صبرة الآتي في الفصل الثاني، وفيه "وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً." وفي رواية من هذا الحديث "إذا توضأت فمضمض" أخرجها أبوداود وغيره. ومنها حديث أبي هريرة عند الدارقطني: بلفظ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمضمضة والاستنشاق. واستدل من قال: بالسنية في الوضوء بقوله عليه السلام للأعرابي "توضأ كما أمرك الله"، فأحال على الآية، وليس فيها ذكر المضمضة والاستنشاق والاستنثار. وأجيب عنه بأنه قد صح أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بها، والواجب الأخذ بما صح عنه، ولا يكون الاقتصار على البعض في مبادئ التعليم ونحوها موجبا لصرف ما ورد بعده وإخراجه عن الوجوب، وبأن الأمر بغسل الوجه أمر بها كما تقدم، وارجع لمزيد التفصيل إلى النيل للشوكاني، والهدي لابن القيم، والمغني لابن قدامة. (ثلاثاً) أي بثلاث غرفات وهذا ظاهر في الجمع بين المضمضة والاستنشاق من كل غرفة، والرواية الآتية المتفق عليها أظهر في ذلك، واختلفوا في الأفضل بعدما اتفقوا على جواز الوصل والفصل كليهما، فذهب أحمد والشافعي إلى أفضلية الوصل والجمع، وهو المذهب الصحيح المختار عندي؛ لأن رواية الجمع أكثر وأصرح وأصح، وأما ما جاء في بعض الأحاديث من الفصل فهو محمول على الجواز، وقد ذكر شيخنا في شرح الترمذي أحاديث الوصل مع الجواب عن دلائل الحنفية والمالكية القائلين بأفضلية الفصل فارجع إليه. (ثم غسل) أي بيديه لحديث على عند أبي داود وغيره. (وجهه) هو من منابت شعر الرأس إلى أسفل الذقن طولاً، ومن شحمة الأذن إلى شحمة الأذن عرضاً. (ثم غسل يديه مرتين مرتين) وفي رواية لمسلم: غسل يده اليمنى ثلاثاً، ثم الأخرى ثلاثاً، فيحمل على أنه وضوء آخر لكون مخرج الحديث غير متحد. (إلى المرفقين) ، أي مع المرفقين، فهما داخلان في غسل اليدين. والدليل على ذلك فعله صلى الله عليه وسلم، ففي الدارقطني بإسناد حسن من حديث عثمان في صفة الوضوء: فغسل يديه إلى المرفقين، حتى مس أطراف العضدين، وفيه عن جابر، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا توضأ أدار الماء على مرفقيه، لكن إسناده ضعيف. وفي البزار والطبراني من حديث وائل بن حجر في صفة الوضوء: وغسل ذراعيه حتى جاوز المرافق. وفي الطحاوى من حديث ثعلبة بن عباد عن أبيه مرفوعاً: ثم غسل ذراعيه حتى يسيل الماء على مرفقيه. فهذه الأحاديث يقوي بعضها بعضا. قال إسحاق بن راهوية "إلى" في الآية يحتمل أن تكون بمعنى الغاية وأن تكون بمعنى مع، فينبت السنة
ثم مسح رأسه بيديه، فأقبل بهما وأدبر، بدأ بمقدم رأسه، ثم ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردهما حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه، ثم غسل رجليه)) رواه مالك، والنسائي، ولأبي داود نحوه ذكره صاحب "الجامع".
وفي المتفق عليه: قيل لعبد الله بن زيد بن عصام: توضأ لنا وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا بإناء، فأكفأ منه على يديه، فغسلهما ثلاثاً، ثم أدخل يده فاستخرجها، فمضمض واستنشق من كف
ــ
أنها بمعنى. (ثم مسح رأسه) أي كله، كما في رواية، واختلفوا في مقدار المفروض، فذهب مالك إلى وجوب الاستيعاب، وهو الراجح لأن لفظ الآية مجمل؛ لأنه يحتمل أن يراد منها مسح الكل على أن الباء زائدة، أو مسح البعض على أنها تبعيضية، فتبين بفعل النبي صلى الله عليه وسلم أن المراد الأول، ولم ينقل أنه مسح بعض رأسه إلا في حديث المغيرة، لكن فيه "أنه مسح على ناصيته وعماته، فلا حجة فيه على الاكتفاء ببعض الرأس". قال ابن القيم: لم يصح عنه صلى الله عليه وسلم في حديث واحد أنه اقتصر على مسح بعض راسه البتة، لكن كان إذا مسح بناصيته كمل على العمامة كما في حديث المغيرة، ولم يذكر العدد في مسح الرأس كغيره، فاقتضى الاقتصار على مرة واحدة. (فأقبل بهما وأدبر) الإدبار هو الذهاب إلى جهة القفاء والإقبال عكسه، والواو لمطلق الجمع لا تقتضي الترتيب، فكأن الأصل فأدبر بهما وأقبل، وقد وقع كذلك في رواية للبخاري. والتفسير الآتي يؤيد بل يعين ذلك. وقيل: إنه من تسمية الفعل بإبتداءه، أي بدأ بقبل الرأس وذهب إلى جهة فقاه، وأدبر أي بدء بدبر الرأس، وقيل غير ذلك. (بدأ بمقدم رأسه ثم ذهب) الخ هذا عطف بيان لقوله: فأقبل بهما وأدبر. ومن ثم لم تدخل الواو على بدأ، أي وضع كفيه وأصابعه عند مقدم رأسه، ثم أمرّهما حتى وصل إلى قفاه أي مؤخر رأسه. (ثم ردهما) أي على جنب الرأس. (حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه) وهو مقدم الرأس، أي مبتدأ شعره. (ثم غسل رجليه) أي إلى الكعبين كما في رواية للبخاري. (رواه مالك والنسائي) أي بهذا اللفظ. (ولأبي داود نحوه) أي بمعناه. (ذكره صاحب الجامع) أي جامع الأصول وهو ابن الأثير، وأصل الحديث أخرجه أيضاً أحمد والشيخان والترمذي وابن ماجه بألفاظ متقاربة مختصراً ومطولاً.
قوله. (وفي المتفق عليه) هذا من زيادات المصنف على المصابيح، واللفظ المذكور هنا لمسلم، وللبخاري معناه. (توضأ) بصيغة الأمر. (وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي نحو وضوئه. (فدعا بإناء) فيه ماء. (فأكفأ) يقال كفأ الإناء إذا كبه، وأكفأه أماله (منه) قال الأبهري: ضمن أكفأ معنى أفرغ وصب فعداه بمن. (ثم أدخل يده) اليمنى في الإناء. (فاستخرجها) أي اليد من الإناء مع الماء. (فمضمض واستنشق) أي واستنثر، وقد ذكر في رواية الثلاثة كما سيأتي. (من كف
واحدة، ففعل ذلك ثلاثاً، ثم أدخل يده فاستخرجها، فغسل وجهه ثلاثاً، ثم أدخل يده فاستخرجها، فغسل يديه إلى المرفقين مرتين مرتين، ثم أدخل يده فاستخرجها، فمسح برأسه، فأقبل بيديه وأدبر، ثم غسل رجليه إلى الكعبين، ثم قال: هكذا كان وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي رواية: فأقبل بهما وأدبر، بدأ بمقدم رأسه، ثم ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردهما حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه، ثم غسل رجليه.
وفي رواية: فمضمض، واستنشق واستنثر ثلاثاً بثلاث غرفات من ماء.
ــ
واحدة) بأن جعل ماء الكف بعضه في فمه وبعضه في أنفه، والكف يذكر ويؤنث. (ففعل ذلك) أى المذكور من المضمضة والاستنشاق. (ثلاثاً) أي ثلاث مرات بأن تمضمض واستنشق من غرفة ثم تمضمض واستنشق من غرفة ثم تمضمض واستنشق من غرفة، وهو صريح في المجمع، وحجة واضحة للشافعي في الوصل، صرح به ابن الملك وغيره من الأئمة الحنفية، والقول بأن قيد الوحدة احتراز من التثنية سخيف جداً، فإن الظاهر على هذا أن يقال بكف واحدة لا من كف واحدة. (ثم أدخل يده) أي في الإناء، والظاهر أن المراد بها الجنس، قاله القاري. (ثلاثاً) قيد للأفعال الثلاثة لا للأخير فقط. (مرتين مرتين) قيد للأفعال. (فمسح برأسه) هو موافق للآية في الإتيان بالباء، ومسح يتعدى بها وبنفسه، قال القرطبي: إن الباء ههنا للتعدية يجوز حذفها وإثباتها. وقيل: دخلت الباء ههنا لمعنى تفيده، وهو أن الغسل لغة يقتضي مغسولاً به، والمسح لا يقتضي ممسوحا به، فلو قال: امسحوا رؤوسكم، لأجزاء المسح باليد بغير ماء، فكأنه قال: وامسحوا برؤوسكم الماء، وهو من باب القلب والأصل فيه امسحوا رؤوسكم بالماء. (فأقبل بيديه وأدبر) يعني استوعب المسح. (ثم غسل رجليه) ظاهره الاكتفاء بمرة، ويحتمل مرتين بقرينة ما قبله، ويحتمل التثليث على ما هو المعروف من دأبه صلى الله عليه وسلم، قاله القاري. (إلى الكعبين) أي مع الكعبين، والكعب هو العظم الناشز عند متلقى الساق والقدم. (هكذا كان وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي غالباً، وقيل: أي في بعض الأوقات.
قوله. (وفي رواية) أي لمسلم. (ثم ردهما) أي على أطراف الرأس.
قوله. (وفي رواية) أي للبخاري، وقد ذكرها في باب مسح الرأس مرة. (فمضمض واستنشق واستنثر) فيه حجة واضحة لمن فرق بين الاستنشاق والاستنثار إلا أن الاستنثار يستلزم الاستنشاق بلا عكس. (ثلاثاً بثلاث غرفات) بفتح الغين والراء وقيل: بضهما جمع غرفة. قيل: الغرفة بالفتح في الأصل المرة من الاغتراف، وبالضم الماء المغروف في اليد. وقيل هي ملأ الكف من الماء، يعني أخذ غرفة، ومضمض واستنثر بها، وكذا في الثانية والثالثة، وهذا أيضاً نص صريح في الجمع والوصل.
وفي أخرى: فمضمض واستنشق من كفة واحدة، ففعل ذلك ثلاثاً.
وفي رواية للبخاري: فمسح رأسه فأقبل بهما وأدبر مرة واحدة، ثم غسل رجليه إلى الكعبين.
وفي أخرى له: فمضمض واستنثر ثلاث مرات من غرفة واحدة.
ــ
قوله. (وفي أخرى) أي للشيخين لكن وقع في مسلم من كف واحدة، وهذه الرواية أوردها البخاري في باب من مضمض واستنشق من غرفة واحدة. (فمضمض واستنشق من كفة واحدة) المراد بالكفة الغرفة والحفنة، فاشتق لذلك من اسم الكف، وجعل عبارة عن ذلك المعنى وسمي الشيء باسم ما كان فيه، وليست تأنيث الكف. وقيل: قوله "من كفة" هي بالضم والفتح كغرفة وغرفة، أي مما ملأ كفه من الماء. (ففعل ذلك) أي ما ذكر من المضمضة والاستنشاق. (ثلاثاً) أي ثلاث مرات، فيه أيضاً دليل صريح على ما تقدم من أن تقدم من أن السنة في المضمضة والاستنشاق أن يكون بثلاث غرفات، يتمضمض ويستنشق من كل واحدة منها.
قوله. (وفي رواية للبخاري) ذكرها في باب غسل الرجلين إلى الكعبين. (مرة واحدة) نص صريح في عدم تكرار مسح الرأس، وحجة واضحة للجمهور في عدم تثليث مسح الرأس خلافاً للشافعي، ومن أقوى الأدلة على ذلك أيضاً الحديث المشهور الذي صححه ابن خزيمة وغيره من طريق عبد الله بن عمرو بن العاص في صفة الوضوء، حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن فرغ: من زاد على هذا فقد أساء وظلم، فإن رواية سعيد بن منصور فيها تصريح بأنه مسح رأسه مرة واحد، فدل على أن الزيادة في مسح الرأس على المرة غير مستحبة، ويحمل ما ورد من الأحاديث في تثليث المسح كحديث علي عند الدارقطني، وحديث عثمان عند أبي داود في بعض طرقه إن صحت على إرادة الاستيعاب بالمسح، لا أنه مسحات مستقلة لجميع الرأس جمعاً بين الأدلة.
قوله. (وفي أخرى له) أي للبخاري ذكرها في باب الوضوء من التور. (من غرفة واحدة) يتعلق بقوله: فمضمض واستنثر، والمعنى أنه جمع بينهما ثلاث مرات، كل مرة من غرفة. ويحتمل أن يتعلق بقوله: ثلاث مرات، والمعنى أنه جمع بينهما ثلاث مرات من غرفة واحدة، والأول موافق لباقي الروايات، فهو أولى، كذا في الفتح. قال المؤلف: وإنما أطنبنا الكلام في الحديث؛ لأن ما ذكر في المصابيح بلفظه لم يوجد إلا في رواية مالك والنسائي. فأما معناه فما ذكرته في المتفق عليه عقبه. وبقية الروايات إنما أوردتهما تنبيهاً على أن ما في المصابيح منها، ذكره الطيبي. قال السيد جمال الدين: كأنه اعتراض على الشيخ محي السنة حيث أورد حديث عبد الله بن زيد بهذا اللفظ في الصحاح مع أنه غير مذكور في أحد الصحيحين انتهى.
397-
وعن عبد الله بن عباس قال: ((توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة مرة، لم يزد على هذا)) . رواه البخاري.
398-
(5) وعن عبد الله بن زيد، ((أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ مرتين مرتين)) . رواه البخاري.
399-
(6) وعن عثمان رضي الله عنه، ((أنه توضأ بالمقاعد، فقال: ألا أريكم وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم.؟ فتوضأ ثلاثاً ثلاثاً)) .
ــ
397-
قوله: (مرة مرة) نصب على المصدر، يعنى غسل كل عضو مرة واحدة، ومسح برأسه مرة (لم يزد على هذا)، أي: في هذا الوضوء، أو في ذلك الوقت، أو باعتبار علمه، وإلا فقد صحت الزيادة في روايات كثيرة، وإنما فعل ذلك لبيان الجواز، أو لمراعاة الحال في الاستعجال، أو قلة الماء، وبيان الجواز يكفي فيه إطلاق القرآن. وفيه دليل على أن الواجب من الوضوء مرة مرة، ولهذا اقتصر عليه النبي صلى الله عليه وسلم، ولو كان الواجب مرتين مرتين، أو ثلاثاً ثلاثا، ً لما اقتصر على مرة مرة، وقد جاءت الأحاديث الصحيحة بالغسل مرتين مرتين، وثلاثاً ثلاثاً، وبعض الأعضاء ثلاثاً وبعضها مرتين. قال الترمذي: وقد ذكر في غير حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ بعض وضوئه مرة وبعضه ثلاثاً. والاختلاف دليل على جواز ذلك كله، وأن الثلاث هي الكمال. والواحدة تجزئ. (رواه البخاري)، أي: في باب الوضوء مرة مرة، والحديث مجمل، وقد رواه البخاري في باب غسل الوجه باليدين من غرفة واحدة مطولاً ومفصلاً، وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه مختصراً، وأبوداود مطولاً ومختصراً. وفي الباب أحاديث عن جماعة من الصحابة، ذكرها الشوكاني في النيل مع الكلام عليها.
398-
قوله: (توضأ مرتين مرتين) أي لكل عضو من أعضاء الوضوء لبيان الجواز أيضاً، والنصب في مرتين على المفعول المطلق المبين للكمية. (رواه البخاري) في باب الوضوء مرتين مرتين، والظاهر أن حديث عبد الله بن زيد هذا غير حديثه المفصل المتقدم، فإنه ليس فيه الغسل مرتين إلا في اليدين إلى المرفقين، نعم روى النسائي من طريق سفيان بن عينية في حديث عبد الله بن زيد التثنية في اليدين والرجلين، ومسح الرأس، وتثليث غسل الوجه، لكن في الرواية المذكورة نظر، قاله الحافظ. والحديث أخرجه أيضاً أحمد. وفي الباب عن أبي هريرة أخرجه أبوداود والترمذي وصححه وابن حبان:" أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ مرتين مرتين".
399-
قوله: (توضأ بالمقاعد) بفتح ميم جمع مقعد، والمراد بها دكاكين عند دار عثمان. وقيل: درج. وقيل: موضع بقرب المسجد اتخذ للقعود فيه للحوائج والوضوء. (ألا) للتنبيه أو الهمزة للإنكار. (أريكم وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي كيفية وضوئه. (فتوضأ ثلاثاً ثلاثاً) هذا هو الأكمل، وقد استدل به للشافعي على سنية تثليث مسح الرأس، وأجيب عنه بأنه
رواه مسلم.
400-
(7) وعن عبد الله بن عمرو قال: ((رجعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، حتى إذا كنا بماءٍ بالطريق تعجل قوم عند العصر، فتوضؤوا وهم عجال، فانتهينا إليهم وأعقابهم تلوح لم يمسها الماء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويل للأعقاب من النار، أسبغوا الوضوء))
ــ
مجمل تبين في الروايات الصحيحة التي فصلت فيها أعضاء الوضوء أن المسح لم يتكرر، فيحمل على الغالب، أو يختص بالمغسول. (رواه مسلم) . وأخرجه أيضاً أحمد، وفي الباب عن جماعة من الصحابة، ذكر أحاديثهم العيني في شرح البخاري.
400-
قوله: (حتى إذا كنا) أي صرنا. (بماء بالطريق) قال الطيبي: الظرف الأول خبر كان والثاني صفة، أي إذا كنا نازلين بماء كائن في طريق مكة. (تعجل) بتشديد الجيم. (قوم عند العصر فتوضؤوا وهم عجال) بضم العين وتشديد الجيم. جمع عاجل كجهال جمع جاهل. وقيل: بكسر العين وتخفيف الجيم كقيام جمع قائم، وقيل: جمع عجلان بمعنى المستعجل، وكغضاب جمع غضبان. قال الطيبي: تعجل بمعنى استعجل، يعني تطلبوا تعجيل الوضوء عند العصر فتوضؤوا عاجلين. وقيل: الأظهر أن معناه استعجلوا في السير، وتقدموا علينا عند دخول العصر مبادرة إلى الوضوء، فتوضؤا على العجلة بحكم ضيق الوقت في السفر. (وأعقابهم) عقب بكسر القاف مؤخر القدم، وهي مؤنثة (تلوح) أي يظهر للناظر فيها بياض لم يصبها الماء الذي أخذوه لغسل الأرجل مع إصابته سائر القدم، وذلك لعجلتهم في الوضوء بسب ضيق الوقت، فكأن مقصودهم الغسل، إلا أنهم كانوا يتعجلون فيه لئلا تفوتهم الصلاة، فلم يحصل لذلك إسباغ الأرجل. وفي رواية ذكرها العيني: رأى قوماً توضؤوا وكأنهم تركوا من أرجلهم شيئا، وفي حديث أبي هريرة عند مسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً لم يغسل عقبه فقال ذلك الوعيد. (لم يمسها الماء) جملة حالية مبنية لتلوح. (ويل) قيل: الويل الخزى والهلاك والمشقة من العذاب. قال الأبهري: جاز الابتداء بالنكرة لأنه دعاء، وأصح الأقوال في معناه ما رواه ابن حبان في صحيحه من حديث أبي سعيد: واد في جهنم. (للأعقاب) أي المرئية إذ ذاك، فاللام للعهد، ويلتحق بها ما يشاركها في ذلك، ففي حديث عبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي عند ابن خزيمة والطبراني "ويل للاعقاب وبطون الأقدام من النار". قيل: معناه "ويل لأصحاب الأعقاب المقصرين في غسلها" نحو {واسأل القرية} [82:12] والأعقاب تختص بالعقاب إذا قصر في غسلها. (من النار) بيان للويل كما في قوله: {فاجتنبوا الرجس من الأوثان} [30:22] ويجوز أن تكون بمعنى "في" كما في قوله تعالى: {من يوم الجمعة} [9:62] أي في يوم الجمعة. وفي الوعيد والإنكار دليل على أن وظيفة الرجلين الغسل الوافي لا المسح، ولا الغسل الخفيف المبقع المشابه للمسح، لأن الوعيد لا يكون إلا على ترك الواجب. (أسبغوا الوضوء) أي أتموه وأكملوه، والوضوء هو غسل الأعضاء الثلاثة، ومسح الرأس، فالأمر بإسباغ الوضوء أمر
بتكميل الغسل وإبلاغ الماء كل ظاهر أعضائه، فقوله:(أسبغوا) تأكيد للوعيد المذكور عام، يشمل الرجلين وغيرهما من أعضاء الوضوء، لأنه لم يقل أسبغوا الرجلين، بل قال: أسبغوا الوضوء، ومطلوبية الإسباغ غير مختصة بالرجلين فكما أنه مطلوب فيهما كذلك مطلوب في غيرهما. وتخصيص الوعيد بلفظ الأعقاب؛ إنما هو لأجل تقصيرهم في وظيفة الرجلين. والحديث يدل على وجوب غسل الرجلين في الوضوء، وهو مذهب جمهور المحدثين والمفسرين من أهل السنة. قال الحافظ: قد تواترت الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم في صفة وضوئه أنه غسل رجليه، وهو المبين لأمر الله، وقد قال في حديث عمرو بن عبسة الذى رواه ابن خزيمة وغيره مطولاً في فضل الوضوء: ثم يغسل قدميه كما أمره الله، ولم يثبت عن أحد من الصحابة خلاف ذلك إلا من علي، وابن عباس، وأنس، وقد ثبت عنهم الرجوع عن ذلك. قال عبد الرحمن بن أبي ليلى أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على غسل القدمين، رواه سعيد بن منصور. وقال الطيبي: ذهب الشيعة إلى أنه يمسح على الرجلين، لقوله تعالى:{وامسحوا برؤسكم وأرجلكم} [6:5] على قراءة الجر، فإنه تعالى عطف الرجل على الرأس والرأس يمسح فكذا الرجل. قلنا: وقد قرئ بالنصب عطفاً على قوله: {وأيديكم} وإذا ذهب إلى المسح يبقى مقتضى النص غير معمول به، بخلاف العكس فإن المسح مغمور بالغسل، على أن الأحاديث الصحيحة تواترت معاضدة لقراءة النصب، فوجب تأويل القراءة بالكسر، وفيه وجوه: أحدها العطف على الجوار كقوله تعالى: {عذاب يوم أليم} [26:11) والأليم صفة العذاب فأخذ إعراب "اليوم" للمجاورة، وقوله تعالى: {عذاب يوم محيط} [84:11]{وحور عين} بالجر بعد قوله: {يطوف عليهم ولدان مخلدون، بأكواب وأباريق} [18،17:56] لأن حور لا يصلح عطفها على أكواب، لأن الحور لا يطاف بها. والثاني الاستغناء بأحد الفعلين عن الآخر، والعرب إذا اجتمع فعلان متقاربان في المعنى، ولكل واحد منهما متعلق جوزت ذكر أحد الفعلين وعطف متعلق المحذوف على متعلق المذكور على حسب ما يقتضيه لفظه، حتى كأنه شريكه في أصل الفعل كما قال الشاعر:
يا ليت بعلك قد غدا
…
... متقلداً سيفاً ورمحا
وكقول الأخر:
…
... علفتها تبناً وماءً باردا
تقديره علفتها تبناً وسقيتها ماءًا بارداً، ومتقلداً سيفاً، وحاملاً رمحاً. والثالث قول الزجاج: يجوز {أرجلكم} بالخفض على معنى فاغسلوا؛ لأن قوله تعالى: {إلى الكعبين} قد دل عليه؛ لأن التحديد يفيد الغسل، كما في قوله تعالى:{إلى المرافق} ولو أريد المسح لم يحتج إلى التحديد، كما في قوله:{وامسحوا برؤسكم} من غير تحديد، ويطلق المسح على الغسل انتهى. قال العلامة السيد محمود الآلوسي البغدادي المتوفي سنة 1270هـ في تفسيره روح المعاني (ج6: ص73) : وفي الأرجل ثلاث قراءات، واحدة شاذة، واثنتان متواترتان، أما الشاذة فالرفع وهي قراءة الحسن، وأما المتواترتان فالنصب وهي قراءة نافع، وابن عامر، وحفص، والكسائي، ويعقوب. والجر وهي قراءة ابن كثير، وحمزة، وأبي عمرو، وعاصم، وفي رواية أبي بكر عنه. ومن هنا اختلف الناس في غسل الرجلين ومسحهما، قال الإمام الرازي: فنقل القفال في تفسيره عن ابن عباس، وأنس بن مالك، وعكرمة، والشعبي، وأبي جعفر محمد بن علي الباقر: أن الواجب فيهما المسح وهو مذهب
الإمامية، وقال جمهور الفقهاء والمفسرين: فرضهما الغسل. وقال داوود: يجب الجمع بينهما، وهو قول الناصر للحق من الزيدية. وقال الحسن البصري، ومحمد بن جرير الطبري: المكلف مخير بين المسح والغسل. وحجة القائلين بالمسح قراءة الجر، فإنها تقتضي كون الأرجل معطوفة على الرؤس، فكما وجب المسح فيها وجب فيها، والقول أنه جر بالجوار كما في قولهم: هذا جحر ضبٍ خربٍ، وقوله:
كأن ثبيرا في عرانين وبله كبير أناس في بجادٍ مزملٍ
باطل من وجوه: أولها أن الكسر على الجوار معدود في اللحن الذي قد يتحمل لأجل الضرورة في الشعر، وكلام الله تعالى يجب تنزيهه عنه. وثانيها أن الكسر إنما يصار إليه حيث حصل الأمن من الالتباس كما في ما استشهدوا به، وفي الآية الأمن من الالتباس غير حاصل. وثالثها أن الجر بالجوار إنما يكون بدون حرف العطف، وأما مع حرف العطف فلم تتكلم به العرب، وردوا قراءة النصب إلى قراءة الجر فقالوا: إنها تقتضي المسح أيضاً لأن العطف حينئذٍ على محل الرؤوس لقربه فيتشاركان في الحكم، وهذا مذهب مشهور للنحاة. ثم قالوا: أو لا يجوز رفع ذلك بالأخبار، لأنها بأسرها من بابا الآحاد، ونسخ القرآن بخبر الواحد لا يجوز، ثم قال الإمام: واعلم أنه لا يمكن الجواب عن هذا إلا من وجهين الأول: أن الأخبار الكثيرة وردت بإيجاب الغسل، والغسل مشتمل على المسح ولا ينعكس، فكان الغسل أقرب إلى الاحتياط فوجب المصير إليه، وعلى هذا يجب القطع بأن غسل الأرجل يقوم مقام مسحهما والثاني: أن فرض الأرجل محدود إلى الكعبين، والتحديد إنما جاء في الغسل لا المسح، والقوم أجابوا منه بوجهين: الأول: أن الكعب عبارة عن العظمين الناتئين من جانبي الساق إلا أنهم التزموا أنه يجب أن يمسح ظهور القدمين إلى هذين الموضعين، وحينئذٍ لا يبقى هذا السؤال. انتهى. ولا يخفى أن بحث الغسل والمسح مما كثر فيه الخصام، وطالما زلت فيه الأقدام، وما ذكره الإمام يدل على أنه راجل في هذا الميدان، وضالع لا يطيق العروج إلى شاوى ضليع، وتحقيق تبتهج به الخواطر والأذهان، فلنبسط الكلام في تحقيق ذلك رغماً لأنوف الشيعة، السالكين من السبل كل سبيل هالك، فنقول وبالله تعالى التوفيق: إن القراءتين متواترتان بإجماع الفريقين، بل بإطباق أهل الإسلام كلهم، ومن القواعد الأصولية عند الطائفتين، أن القراءتين المتواترتين إذا تعارضتا في آية واحدة فلهما حكم آيتين، فلا بد لنا أن نسعى ونجتهد في تطبيقهما أولاً مهما أمكن؛ لأن الأصل في الدلائل الإعمال دون الإهمال كما تقرر عند أهل الأصول، ثم نطلب بعد ذلك الترجيح بينهما، ثم إذا لم يتيسر لنا الترجيح بينهما نتركهما ونتوجه إلى الدلائل الأخر من السنة، وقد ذكر الأصوليون أن الآيات إذا تعارضت بحيث لا يمكن التوفيق ثم الترجيح بينهما يرجع إلى السنة، فإنها لما لم يمكن لنا العمل بها صارت معدومة في حقنا من حيث العمل، وإن تعارضت السنة كذلك نرجع إلى أقوال الصحابة وأهل البيت، أو نرجع إلى القياس عند القائلين بأن قياس المجتهد يعمل به عند التعارض، فلما تأملنا في هاتين القراءتين في الآية وجدنا التطبيق بينهما على قواعدنا من وجهين: الأول أن يحمل المسح على الغسل كما صرح به أبوزيد الأنصاري وغيره من أهل اللغة، فيقال للرجل إذا توضأ: تمسح. ويقال: مسح الله تعالى ما بك، أي أزال عنك المرض. ومسح الأرض المطر إذا غسلها، فإذا عطفت الأرجل على الرؤوس في قراءة الجر لا يتعين كونها ممسوحة بالمعنى الذي يدعيه الشيعة، واعترض ذلك من وجوه: أولها:
أن فائدة اللفظين في اللغة والشرع مختلفة، وقد فرق الله تعالى بين الأعضاء المغسولة والممسوحة فكيف يكون معنى الغسل والمسح واحداً. وثانيها: أن الأرجل إذا كانت معطوفة على الرؤوس وكان الفرض في الرؤوس المسح الذي ليس بغسل بلا خلاف وجب أن يكون حكم الأرجل كذلك، وإلا لزم الجمع بين الحقيقة والمجاز، وثالثها: أنه لو كان المسح بمعنى الغسل يسقط الاستدلال على الغسل بخبر أنه صلى الله عليه وسلم غسل رجليه؛ لأنه على هذا يمكن أن يكون مسحهما، فسمى المسح غسلا، ورابعها: أن استشهاد أبي زيد بقولهم: تمسحت للصلاة، لا يجدى نفعا، لاحتمال أنهم لما أرادوا أن يخبروا عن الطهور بلفظ موجز، ولم يجز أن يقولوا تغسلت للصلاة، لأن ذلك يوهم الغسل، قالوا بدله: تمسحت، لأن المغسول من الأعضاء ممسوح أيضاً، فتجوزوا بذلك تعويلاً على فهم المراد، وذلك لا يقتضي أن يكونوا جعلوا المسح من أسماء الغسل. وأجيب عن الأول بأنا لا ننكر اختلاف فائدة اللفظين لغةً وشرعاً، ولا تفرقة الله تعالى بين المغسول والممسوح من الأعضاء، لكنا ندعى أن حمل المسح على الغسل في بعض المواضع جائز، وليس في اللغة والشرع ما يأباه على أنه قد ورد ذلك في كلامهم. وعن الثاني بأنا نقدر لفظ "امسحوا" قبل {أرجلكم} أيضاً وإذا تعدد اللفظ فلا بأس بأن يتعدد المعنى، ولا محذور فيه، فقد نقل شارح زبدة الأصول من الإمامية أن هذا القسم من الجمع بين الحقيقة والمجاز جائز، بحيث يكون ذلك اللفظ في المعطوف عليه بالمعنى الحقيقي، وفي المعطوف بالمعنى المجازى، وقالوا في الآية {لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون، ولا جنباً إلا عابرى سبيل} [43:4] : أن الصلاة في المعطوف عليه بالمعنى الحقيقي الشرعي، وهو الأركان المخصوصة، وفي المعطوف بالمعنى المجازى، وهو المسجد، فإنه محل الصلاة، وادعى ذلك الشارح أن هذا نوع من الإستخدام، وبذلك فسر جمعٌ من مفسرى الإمامية وفقهائهم. وعليه فيكون هذا العطف من عطف الجمل في التحقيق، ويكون المسح المتعلق بالرؤوس بالمعنى الحقيقي، والمسح المتعلق بالأرجل بالمعنى المجازي، على أن من أصول الإمامية كالشافعية جواز الجمع بين الحقيقة والمجاز، وكذا استعمال المشترك في معنييه. ويحتمل هنا إضمار الجار تبعاً للفعل فتدبر. ولا يشكل أن في الآية حينئذٍ إبهاماً، ويبعد وقوع ذلك في التنزيل، لأنا نقول: إن الآية نزلت بعد ما فرض الوضوء، وعلمه عليه الصلاة والسلام روح القدس إياه في إبتداء البعثة بسنين، فلا بأس أن يستعمل فيها هذا القسم من الإبهام، فإن المخاطبين كانوا عارفين بكيفية الوضوء، ولم تتوقف معرفتهم بها على الاستنباط من الآية ولم تنزل الآية لتعليمهم بل سوقها لإبدال التيمم من الوضوء والغسل في الظاهر، وذكر الوضوء فوق التيمم للتمهيد، والغالب فيما يذكر لذلك عدم البيان المشبع. وعن الثالث: بأن حمل المسح على الغسل لداعٍ لا يستلزم حمل الغسل على المسح بغير داعٍ، فكيف يسقط الاستدلال؟ سبحان الله تعالى هذا هو العجب العجاب. وعن الرابع: بأنا لا نسلم أن العدول عن "تغسلت" لإبهامه الغسل، فإن "تمسحت" يوهم ذلك أيضاً، بناءً على ما قاله من أن المغسول من الأعضاء ممسوح أيضاً، سلمنا ذلك، لكنا لم نقتصر في الاستشهاد على ذلك، ويكفي مسح الأرض المطر في الفرض. والوجه الثاني: أن يبقى المسح على الظاهر، وتجعل الأرجل على تلك القراءة معطوفة على المغسولات، كما في قراءة النصب والجر للمجاورة، واعتراض أيضاً من وجوه، الأول والثاني والثالث ما ذكره الإمام من عد الجر بالجوار لحناً، وأنه إنما يصار إليه عند أمن الالتباس، ولا أمن فيما
نحن فيه، وكونه إنما يكون بدون حرف العطف. والرابع: أن في العطف على المغسولات سواءٌ كان المعطوف منصوب اللفظ أو مجروره، الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بجملة أجنبية ليست اعتراضية، وهو غير جائز عند النحاة، على أن الكلام حينئذٍ من قبيل "ضربت زيداً وأكرمت خالداً وبكراً" بجعل بكر عطفاً على زيد، أو إرادة أنه مضروب لا مكرم، وهو مستهجن جداً تنفر عنه الطباع، ولا تقبله الأسماع فكيف يجنح إليه أو يحمل كلام الله تعالى عليه وأجيب عن الأول بأن إمام النحاة الأخفش وأبا البقاء وسائر مهرة العربية وأئمتها جوزوا جر الجوار، وقالوا بوقوعه في الفصيح كما ستسمعه إنشاء الله تعالى ولم ينكره إلا الزجاج، وإنكاره مع ثبوته يدل على قصور تتبعه، ومن هنا قالوا: المثبت مقدم على النافي. وعن الثاني: بأنا لا نسلم أنه إنما يصار إليه عند أمن الالتباس، ولا نقل في ذلك عن النحاة في الكتب المعتمدة، نعم: قال بعضهم: شرط حسنه عدم الالتباس مع تضمن نكتة وهو هنا كذلك، لأن الغاية دلت على أن هذا المجرور ليس بمسموح، إذا المسح لم يوجد مغياً في كلامهم، ولذا لم يغي في آية التيمم، وإنما يغي الغسل، ولذا غي في الآية حين احتج إليه، فلا يرد أنه لم يغي غسل الوجه لظهور الأمر فيه، ولا قول المرتضى أنه لا مانع من تغييه. والنكتة فيه الإشارة إلى تخفيف الغسل حتى كأنه مسح. وعن الثالث: بأنهم صرحوا بوقوعه في النعت كما سبق من الأمثلة، وقوله تعالى:{عذاب يومٍ محيطٍ} [84:11] بجر {محيط} مع أنه نعت للعذاب. وفي التوكيد كقوله:
الأبلغ ذوى الزوجات (كلهم)
…
... أن ليس وصل إذا انحلت عرى الذنب
بجر "كلهم" على ما حكاه الفراء. وفي العطف كقوله تعالى: {وحورٌ عينٌ، كأمثال اللؤ لؤ المكنون} [23،22:56] على قراءة حمزة، والكسائي، وفي رواية المفضل عن عاصم فإنه مجرور بجر {أكواب وأباريق} ومعطوف على {ولدان مخلدون} . وقول النابغة:
لم يبق إلا أسير غير منفلت
…
... و (موثق) في حبال القد مجنوب
يجر "موثق" مع أن العطف على "أسير" وقد عقد النحاة لذلك بابا على حدة لكثرته، ولما فيه من المشاكلة، وقد كثر في الفصيح حتى تعدوا عن اعتباره في الإعراب إلى التثنية والتأنيث وغير ذلك، وكلام ابن الحاجب في هذا المقام لايعبأ به. وعن الرابع بأن لزوم الفصل بالجملة إنما يخل إذا لم تكن جملة {وامسحوا برؤسكم} متعلقة بجملة المغسولات، فإن كان معناها وامسحوا الأيدي بعد الغسل برؤسكم فلا إخلال كما هو مذهب كثير من أهل السنة، من جواز المسح ببقية ماء الغسل واليد المبلولة من المغسولات، ومع ذلك لم يذهب أحدٌ من أئمة العربية إلى امتناع الفصل بين الجملتين المتعاطفتين، أو معطوف ومعطوف عليه، بل صرح الأئمة بالجواز، بل نقل أبوالبقاء إجماع النحويين على ذلك، نعم! توسط الأجنبي في كلام البلغاء يكون لنكتة وهي هنا ما أشرنا إليه. أو الإيماء إلى الترتيب، وكون الآية من قبيل ما ذكر من المثال في حين المنع، وربما تكون كذلك لو كان النظم "وامسحوا رؤسكم وأرجلكم إلى الكعبين" والواقع ليس كذلك وقد ذكر بعض أهل السنة أيضاً وجهاً آخر في التطبيق، وهو أن قراءة الجر محمولة على حالة التخفف، وقراءة النصب على حال دونه واعترض بأن الماسح على الخف ليس ماسحاً على الرجل حقيقةً ولا حكماً، لأن الخف اعتبر
مانعاً سراية الحدث إلى القدم فهي طاهرة، وماحل بالخف أزيل بالمسح، فهو على الخف حقيقةً وحكماً، وأيضاً المسح على الخفين لا يجب إلى الكعبين اتفاقاً وأجيب بأنه يجوز أن يكون لبيان المحل الذي يجزئ عليه المسح، لأنه لايجزء المسح على ساقه، نعم! هذا الوجه لا يخلو عن بعد والقلب لا يميل إليه وإن ادعى الجلال السيوطي أنه أحسن ما قيل في الآية. وللإمامية في تطبيق القراءتين وجهان أيضاً لكن الفرق بينهما وبين ما سبق من الوجهين اللذين عند أهل السنة، أن قراءة النصب التي هي ظاهرة في الغسل عند أهل السنة، وقراءة الجر تعاد إليها، وعند الإمامية بالعكس. الوجه الأول: أن تعطف الأرجل في قراءة النصب على محل {برؤوسكم} فيكون حكم الرؤوس والأرجل كليهما مسحاً. الوجه الثاني: أن الواو فيه بمعنى مع من قبيل "استوى الماء والخشبة" وفي كلا الوجهين بحث لأهل السنة من وجوه: الأول: أن العطف على المحل خلاف الظاهر بإجماع الفريقين، والظاهر العطف على المغسولات والعدول عن الظاهر إلى خلافه بلا دليل لا يجوز، وإن استدلوا بقراءة الجر قلنا: إنها لا تصلح دليلاً على ذلك لما علمت، والثاني: أنه لو عطف {وأرجلكم} على محل {برؤسكم} جاز أن نفهم منه معنى الغسل، إذ من القواعد المقررة في العلوم العربية أنه إذا اجتمع فعلان متغايران في المعنى ويكون لكل منهما متعلق، جاز حذف أحدهما، وعطف متعلق المحذوف على متعلق المذكور كأنه متعلقة، ومن ذلك قوله:
ياليت بعلك قد غدا
…
... متقلداً سيفاً ورمحاً
فإن المراد وحاملاً رمحاً ومنه قوله:
إذا ما الغانيات برزن يوماً
…
... وزججن الحواجب والعيونا
فإنه أراد وكحلن العيونا، وقوله:
تراه كأن مولاه يجدع أنفه
…
وعينيه إن مولاه كان له وفر
أى يفقئ عينيه إلى ما لا يحصى كثرة. والثالث: أن جعل الواو بمعنى مع بدون قرينة مما لا يكاد يجوز، ولا قرينة ههنا على أنه يلزم كما قيل فعل المسحين معاً بالزمان، ولا قائل به بالاتفاق. بقى لو قال قائل: لا أقنع بهذا المقدار في الاستدلال على غسل الأرجل بهذه الآية مالم ينضم إليها من خارج ما يقوى تطبيق أهل السنة، فإن كلامهم وكلام الإمامية في ذلك عسى أن يكون فرسي رهان. قيل له: إن سنة خير الورى صلى الله عليه وسلم وآثار الأئمة رضي الله عنهم شاهدة على ما يدعيه أهل السنة، وهي من طريقهم أكثر من أن تحصى، وأما من طريق القوم فقد روى العياشي، عن علي، عن أبي حمزة قال: سألت أباهريرة عن القدمين فقال: تغسلان غسلاً. وروى محمد بن النعمان، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله رضي الله عنه قال: إذا نسيت مسح رأسك حتى غسلت رجليك فامسح رأسك، ثم اغسل رجليك. وهذا الحديث رواه أيضاً الكلبي، وأبوجعفر الطوسي بأسانيد صحيحة بحيث لا يمكن تضعيفها، ولا الحمل على التقية، لأن المخاطب بذلك شيعي حاضر. وروى محمد بن الحسن الصفار، عن زيد بن علي، عن أبيه، عن جده أمير المؤمنين - كرم الله وجهه - أنه قال: جلست أتوضأ فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما غسلت قدمي قال: يا علي! خلل بين الأصابع. ونقل الشريف الرضي عن علي - كرم الله وجهه - في نهج البلاغة حكاية وضوئه صلى الله عليه وسلم، وذكر فيه غسل الرجلين، وهذا يدل على أن مفهوم الآية كما قال أهل السنة، ولم يدع
أحد منهم النسخ حتى يتكلف لإثباته كما ظنه من لا وقوف له وما يزعمه الإمامية من نسبة المسح إلى ابن عباس رضي الله عنهما، وأنس بن مالك وغيرهما كذب مفتري عليهم، فإن أحداً منهم ما روى عنه بطريق صحيح أنه جوز المسح إلا ابن عباس، فإنه قال بطريق التعجب: لا نجد في كتاب الله تعالى إلا المسح ولكنهم أبوا إلا الغسل. ومراده أن ظاهره الكتاب يوجب المسح على قراءة الجر التي كانت قراءته، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يفعلوا إلا الغسل، ففي كلامه هذا إشارة إلى أن قراءة الجر مؤولة متروكة الظاهر بعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، ونسبة جواز المسح إلى أبي العالية، وعكرمة، والشعبي زور وبهتان أيضاً، وكذلك نسبة الجمع بين الغسل والمسح، أو التخيير بينهما إلى الحسن البصري - عليه الرحمة-، ومثله نسبة التخيير إلى محمد بن جرير الطبري صاحب التاريخ الكبير والتفسير الشهير، وقد نشر رواة الشيعة هذه الأكاذيب المختلفة، ورواها بعض أهل السنة ممن لم يميز الصحيح والسقيم من الأخبار بلا تحقق ولا سند، واتسع الخرق على الراقع. ولعل محمد بن جرير القائل بالتخيير هو محمد بن جرير بن رستم الشيعي صاحب الإيضاح للمترشد في الإمامة، لا أبوجعفر محمد بن جرير بن غالب الطبري الشافعي الذي هو من أعلام أهل السنة، والمذكور في تفسير هذا هو الغسل فقط لا المسح، ولا الجمع، ولا التخيير الذي نسبه الشيعة إليه. ولا حجة لهم في دعوى المسح بما روى عن أمير المؤمنين علي - كرم الله وجهه-: أنه مسح وجهه ويديه، ومسح رأسه ورجليه، وشرب فضل طهوره قائماً، وقال: إن الناس يزعمون أن الشرب قائماً لا يجوز، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع مثل ما صنعت، وهذا وضوء من لم يحدث. لأن الكلام في وضوء المحدث لا في مجرد التنظيف بمسح الأطراف، كما يدل عليه ما في الخبر من مسح المغسول اتفاقاً. وأما ما روى عن عبادة بن تميم، عن عمه بروايات ضعيفة: أنه صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح على قدميه. فهو كما قال الحافظ: شاذ منكر، لا يصلح للاحتجاج، مع احتمال حمل القدمين على الخفين ولو مجازاً، واحتمال اشتباه القدمين المتخففين بدون المتخففين من بعيد، ومثل ذلك عند من اطلع على أحوال الرواة ما رواه الحسين بن سعيد الأهوازي، عن فضالة، عن حماد بن عثمان، عن غالب بن هذيل، قال: سألت أبا جعفر رضي الله عنه عن المسح على الرجلين فقال: هو الذي نزل به جبرئيل عليه السلام، وما روى عن أحمد بن محمد قال: سألت أبا الحسن موسى بن - جعفر رضي الله عنه عن المسح على القدمين كيف هو؟ فوضع بكفيه على الأصابع ثم مسحهما إلى الكعبين، فقلت له، لو أن رجلاً قال بأصبعين من أصابعه هكذا إلى الكعبين أيجزئ؟ قال: لا إلا بكفه كلها إلى غير ذلك مما روته الإمامية في هذا الباب، ومن وقف على أحوال رواتهم لم يعول على خبر من أخبارهم، وقد ذكرنا نبذة من ذلك في كتابنا "النفحات القدسية في رد الإمامية" على أن لنا أن نقول: لو فرض أن حكم الله تعالى المسح على ما يزعمه الإمامية من الآية فالغسل يكفي عنه، ولو كان هو الغسل لا يكفي عنه فبالغسل يلزم الخروج عن العهدة بيقين دون المسح، وذلك لأن الغسل محصل لمقصود المسح من وصول البلل وزيادة وهذا مراد من عبر بأنه مسح وزيادة، فلا يرد ما قيل من أن الغسل والمسح متضادان لا يجتمعان في محل واحد كالسواد والبياض، وأيضاً كان يلزم الشيعة الغسل لأنه الأنسب بالوجه المعقول من الوضوء، وهو التنظيف للوقوف بين يدي رب الأرباب- سبحانه وتعالى لأنه الأحوط أيضاً لكون
رواه مسلم.
401-
(8) وعن المغيرة بن شعبة قال: ((إن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ فمسح بناصيته وعلى العمامة وعلى الخفين))
ــ
سنده متفقا عليه للفريقين كما سمعت، دون المسح للاختلاف في سنده - انتهى (رواه مسلم) . الحديث بهذا اللفظ من إفراد مسلم، وأخرجه أيضاً أبوداود، والنسائي، وابن ماجه مختصراً، وهو عند جميعهم من حديث منصور عن هلال بن يساف، عن أبي يحيى، عن عبد الله بن عمرو قال المنذري: واتفق البخاري ومسلم على إخراجه من يوسف بن ماهك عن عبد الله بن عمرو نحوه.
401-
قوله: (فمسح بناصيته وعلى العمامة) بكسر العين، وفي رواية للنسائي: مسح ناصيته وعمامته. واستدل به لما ذهب إليه مالك والشافعي ومن معهما: من أنه لايجوز اقتصار المسح على العمامة، بل لا بد مع ذلك من المسح على الناصية. قيل: رواية مسلم هذه مفصلة، يحمل عليها ما في بعض طرقها: من أنه صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين والعمامة. أخرجها الترمذي وصححها. وذهب أحمد وغيره من فقهاء أصحاب الحديث إلى جواز الاقتصار على العمامة، واحتجوا بحديث عمرو بن أمية عند أحمد والبخاري وابن ماجه. وبحديث بلال عند أحمد، ومسلم، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه. وبحديث سلمان عند أحمد، وبأحاديث أبي أمامة، وخزيمة بن ثابت، وأبي طلحة، وأبي ذر عند الطبراني. وبحديث أنس عند البيهقي، وغير ذلك من الأحاديث التي ذكرها الزيلعي في نصب الراية واعتذر الأولون عن هذه الأحاديث بوجوه كلها مخدوشة، فمنها أنها معلولة مضطربة الأسانيد وفيها رجال مجهولون وفيه أن أكثر هذه الأحاديث صحيحة مستقيمة، كما حقق صحتها واستقامتها الحافظ في التلخيص وغيره. ومنها أن أحاديث المسح على العمامة من أخبار الآحاد فلا تعارض الكتاب، لأن الكتاب يوجب مسح الرأس. وفيه أن الآية لا تنفي الاقتصار على المسح على العمامة، لأن من قال: قبلت رأس فلان يصدق ولو بحائل وسيأتي توضيحه. ومنها أن الله تعالى فرض المسح على الرأس، والحديث في العمامة محتمل التأويل، فلا يترك المتيقن للمحتمل، والمسح على العمامة ليس بمسح على الرأس وفيه أن هذا الوجه يرجع إلى الوجه الثاني، وقد تقدم جوابه وتوضيحه أنه أجزئ المسح على الشعر، ولا يسمى رأساً. فإن قيل: يسمى رأساً مجازاً بعلاقة المجاورة. قيل: والعمامة كذلك بتلك العلاقة، فإنه يقال: قبلت رأسه، والتقبيل على العمامة، ويؤيد ذلك حملهم قراءة الجر في {أرجلكم} في آية على حالة التخفف، فتأمل. ومنها أن أحاديث المسح على العمامة مجملة، وحديث المغيرة عند مسلم مفصل مفسر فتحمل عليه، ويقال: إن أداء المفروض من مسح الرأس وقع بمسح الناصية إذ هي جزء الرأس، وصارت العمامة تبعاً له، يعني أن المسح على العمامة كان زائداً على أصل الفرض، وتعميماً وتكميلاً، فرخص لهم صلى الله عليه وسلم بفعله بعد مسح الواجب أن يقتصروا من الاستيعاب على مسح العمائم. وفيه أنه لا موجب لحمل أحاديث المسح على العمامة على حديث المغيرة، فإنها وقائع مختلفة ليست حكاية عن فعل واحد في وقت واحد، وأما إن المسح على العمامة كان زائداً على أصل الفرض وإتماما ففيه أنه مجرد دعوى لا دليل عليها فلا يلتفت إليها. ومنها أنها حكاية حال فيجوز
رواه مسلم.
402-
(9) وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب التيمن ما استطاع في شأنه كله
ــ
أن تكون العمامة صغيرة رقيقة بحيث تنقع البلة منها إلى الرأس. وفيه أن الكل من قوله وفعله وتقريره حجة لنا، وفي إنشاء مثل هذه الاحتمالات في أفعاله وأحواله من غير دليل رد للسنة الصحيحة الثابتة، وأيضاً لا يتحقق وصول البلة إلى الرأس إلا إذا كانت العمامة غير ذات أكوار، وفيه إبطال لمسمى العمامة. ومنها أنه يحتمل أن ذلك كان قبل نزول المائدة. وفيه أنه لايثبت النسخ بالاحتمال حتى يعلم التاريخ، وأيضاً لا منافة بين الآية وبين أحاديث المسح حتى يحتاج إلى التوفيق، أو إدعاء النسخ. ومنها ما قال محمد بن الحسن في موطئه: بلغنا أن المسح على العمامة كان فترك. وفيه أنه لا يثبت النسخ بمجرد قول الإمام محمد، ولا بد لمن يدعى النسخ أن يأتي بالحديث الناسخ الصحيح الصريح. ومنها أن الخطاب في قوله: فامسحوا بوجوهكم وأيديكم. كالخطاب في قوله: وامسحوا برؤسكم، ولا يجوز مسح الوجه في التيمم بحائل، فكذلك الرأس. وفيه أنه قد ثبت بالأحاديث الصحيحة المسح على العمامة فقلنا به ولم يثبت مسح الوجه في التيمم بحائل، لا بحديث صحيح، ولا ضعيف، ولا بأثر صحابي، ولذلك لم يذهب إليه أحد من الأئمة، ولا حاجة إلى رد أحاديث المسح على العمامة بمثل هذا العذر الواهي. ومنها أن المراد بقوله (مسح عمامته) مسح ما تحتها، ومن قبيل إطلاق اسم الحال على المحل وفيه أن هذا مجاز خلاف الأصل فلا يحمل عليه من غير دليل. ومنها أنه يحتمل أنه مسح ناصيته وسوى عمامته بيديه فحسب الراوي تسوية العمامة عند المسح مسحاً لكونه بعيداً. وفيه أنه نسبة الخطأ إلى الصحابة من غير دليل، ويرتفع الأمان عن الأحاديث بمثل هذه الإحتمالات. ومنها أنه يحتمل أنه كان ذلك لمرض منعه كشف رأسه، فصارت العمامة كالجبيرة. وفيه أن هذا أيضاً احتمال محض فلا يلتفت إليه، لما فيه من رد السنة الصحيحة الثابتة، وبهذا علمت أن الحق ما ذهب إليه أحمد وغيره، فقد ثبت المسح على الرأس فقط. وعلى العمامة فقط، وعلى الرأس والعمامة، والكل صحيح ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم موجود في كتب الأئمة الصحاح، والنبي صلى الله عليه وسلم مبين لأمر الله، فقصر الإجزاء على بعض ما ورد لغير موجب ليس من دأب المنصفين (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً النسائي والبيهقي وأخرجه الترمذي بلفظ: مسح على الخفين والعمامة.
402-
قوله: (يجب التيمن) أي الإبتداء باليمين، أي فيما لم يعهد فيه المقارنة من باب التشريف، بخلاف غسل الوجه، ومسح الرأس والأذنين فإن المعهود في هذه الأشياء قران اليسار باليمين (ما استطاع) ما إما موصول فهو بدل من التيمن، وإما بمعنى مادام، وبه احتراز عما لا يستطيع فيه التيمن شرعاً كالخروج من المسجد، والدخول في الخلاء، والتمخط، والاستنجاء (في شأنه) متعلق بالتيمن، أو بالمحبة، أو بهما على سبيل التنازع، والشأن الأمر والحال، والخطب (كله) تأكيد، وهو يدل على التعميم، أي استحباب التيمن في دخول الخلاء وأمثاله أيضاً، ويمكن أن يقال: حقيقة