الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
{الفصل الأول}
589-
(1) عن سيار بن سلامة، قال: ((دخلت أنا وأبي على أبي برزة الأسلمي، فقال له أبي: كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلى المكتوبة؟ فقال: كان يصلي الهجير التي تدعونها الأولى حين تدحض الشمس، ويصلي العصر ثم يرجع أحدنا إلى رحله في أقصى المدينة والشمس حية،
ــ
ولقوله تعالى: {فاستبقوا الخيرات} [148:2] إلا ما خصه الشارع لحكمة اقتضت تأخيرها كصلاة العشاء والظهر في شدة الحر.
589-
قوله: (عن سيار) بفتح سين وتشديد تحتية (بن سلامة) بفتح السين وتخفيف لام، الرياحي، يكنى أبا المنهال البصري، من ثقات التابعين، روى عن أبي برزة الأسلمي وغيره، مات سنة (129) (دخلت أنا وأبي) أي: سلامة، قال: الحافظ: لم أقف على من ترجمة (على أبي برزة) بفتح موحدة وسكون راء (الأسلمي) بفتح الهمزة، وسكون اللام نسبة إلى أسلم بن أفصى، واسم أبي برزة نقلة – بنون مفتوحة ومعجمة ساكنة – ابن عبيد، صحابي مشهور بكنيته، أسلم قبل الفتح وغزا سبع غزوات، ثم نزل البصرة، وغزا خراسان، ومات بها سنة (65) على الصحيح، له ستة وأربعون حديثاً اتفقا على حديثين وانفرد البخاري بحديثين ومسلم بأربعة (يصلي المكتوبة) أي: الصلوات المفروضة باعتبار أوقاتها (كان يصلي الهجير) أي: صلاة الهجير، والهجير-بفتح الهاء وتخفيف الجيم- والهاجرة بمعنى، وهو وقت شدة الحر، وسميت بذلك الظهر لأن وقتها يدخل حينئذ (التي تدعونها) أي: تسمونها وأنث الموصول والضمير لكون الصلاة مرادة أو أنثهما لأن الهجير بمعنى الهاجرة، أو التقدير صلاة الهجير (الأولى) لأنها أول صلاة ظهرت وصليت، أو لأنها أول صلاة النهار العرفي (حين تدحض الشمس) أي: تزول عن وسط السماء إلى جهة المغرب، مأخوذ من الدحض وهو الزلق، وفي رواية لمسلم: حين تزول الشمس، وهي تفسير لقوله: تدحض، ومقتضي ذلك أنه كان يصلي الظهر في أول وقتها ولا يخالف ذلك الأمر بالإبراد، لاحتمال أن يكون ذلك في البرد، أو قبل الأمر بالإبراد، أو عند فقد شروط الإبراد لأنه يختص بشدة الحر، أو لبيان الجواز، قاله الحافظ (إلى رحله) أي: منزله ومسكنه ومحل أثاثه (في أقصى المدينة) حال من رحله، أو صفة له، وليس بظرف للفعل، أي: الكائن في أبعد المدينة وآخرها (والشمس حية) أي: بيضاء نقية قوية الأثر حرارة ولونا وإنارة وشعاعاً، والجملة حالية أي: حال كون الشمس صافية اللون عن التغيير والاصفرار، فإن كل شيء ضعفت قوته فكأنه قد مات. وقال العيني: حياة الشمس عبارة عن بقاء حرها لم يفتر، وبقاء لونها لم يتغير، وإنما يدخلها التغيير بدنو المغيب، كأنه جعل مغيبها موتاً لها – انتهى. والحديث يدل على المبادرة بصلاة العصر في أول وقتها، وأن وقتها يدخل بمصيره ظل كل شيء مثله، لأنه لا يكون أن يذهب بعد صلاة العصر إلى منزله
ونسيت ما قال: في المغرب، وكان يستحب أن يؤخر العشاء التي تدعونها العتمة، وكان يكره النوم قبلها والحديث بعدها، وكان ينفتل من صلاة الغداة حين يعرف الرجل جليسه، ويقرأ بالستين إلى المائة. وفي رواية: ولا يبالي بتأخير العشاء إلى ثلث الليل، ولا يحب النوم قبلها والحديث بعدها. متفق عليه.
ــ
في أبعد المدينة والشمس بيضاء نقية بعد مصير الظل مثلي الشيء (ونسيت ما قال) أي: أبو برزة (في المغرب) قائل ذلك هو سيار بينه أحمد في روايته (وكان) أي: النبي صلى الله عليه وسلم وهو عطف على "كان يصلي"(يستحب) بفتح الياء وكسر الحاء (أن يؤخر) على بناء المعلوم أو المجهول (العشاء) إلى ثلث الليل كما سيأتي (التي تدعونها العتمة) بفتحات، هي الظلمة التي بعد غيبوبة الشفق، وفيه إشارة إلى ترك تسميتها (وكان يكره النوم قبلها) لما فيه من التعريض لصلاة العشاء على الفوات (والحديث) أي: التحادث مع الناس بكلام الدنيا (بعدها) لما فيه من تعريض قيام الليل بل صلاة الفجر على الفوات عادة ولينام عقب تكفير الخطيئة بالصلاة فيكون ختم عمله على عبادة كفرت خطاياه، وقد ورد الكلام بعدها في العلم وغيره من أمور المسلمين ومصالحهم مما لا يخل، ولذلك حمل هذا الحديث على ما لا يكون من الخير، وخص منه أيضاً المسافر والمصلي لما روى أحمد وأبو يعلى والطبراني في الكبير والأوسط عن ابن مسعود مرفوعاً: لا سمر بعد الصلاة يعني العشاء الآخرة إلا لأحد رجلين مصل أو مسافر، ولما روى أيضاً في الأحكام عن عائشة مرفوعاً: لا سمر إلا لثلاثة: مصل، أو مسافر أو عروس (وكان ينفتل) أي: ينصرف أو يلتفت إلى المأمومين (من صلاة الغداة) أي: الصبح (حين يعرف الرجل جليسه) أي: الذي بجنبه، وإذا كان هذا وقت الفراغ فيكون الشروع بغلس، ففيه دليل على استحباب التعجيل بصلاة الصبح، لأن ابتداء معرفة الإنسان وجه جليسه يكون في أواخر الغلس، وقد صرح بأن ذلك كان عند فراغ الصلاة، ومن المعلوم من عادته صلى الله عليه وسلم ترتيل القراءة، وتعديل الأركان، فمقتضى ذلك أنه كان يدخل فيها مغلساً، ولا يخالف ذلك حديث عائشة الآتي حيث قالت: ما يعرفن من الغلس، لأن الفرق بينهما ظاهر، وهو أن حديث أبي برزة متعلق بمعرفة من هو مسفر جالس إلى جنب المصلي، فهو ممكن، وحديث عائشة متعلق بمن هو متلفف مع أنه على بعد فهو بعيد، قاله الحافظ (ويقرأ) أي: في الصبح (بالستين) أي: آية يعني أنه كان يقرأ بهذا القدر من الآيات، وربما يزيد (إلى المائة) من الآية، وقدرها في رواية للطبراني بسورة الحاقة ونحوها، قال العيني: قوله: يقرأ بالستين إلى المائة. يدل على أنه كان يشرع في الغلس، ويمدها بالقراءة إلى وقت الأسفار، وإليه ذهب الطحاوي (وفي رواية) للشيخين (ولا يبالي) بل يستحب، وهو من المبالاة بمعنى الاكتراث بالشيء (ولا يحب النوم قبلها) بل يكرهه (متفق عليه) واللفظ للبخاري في باب وقت العصر وأخرجه أيضاً أحمد وأبوداود والنسائي وابن ماجه، وأخرج الترمذي طرفاً منه.
590-
(2) وعن محمد بن عمرو بن الحسن بن على، قال:((سألنا جابر بن عبد الله عن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: كان يصلي الظهر بالهاجرة، والعصر والشمس حية، والمغرب إذا وجبت، والعشاء إذا كثر الناس عجل، وإذا قلوا أخر، والصبح بغلس)) . متفق عليه.
591-
(3) وعن أنس، قال:((كنا إذا صلينا خلف النبي صلى الله عليه وسلم بالظهائر، سجدنا على ثيابنا إتقاء الحر)) .
ــ
590-
قوله: (وعن محمد بن عمرو بن الحسن بن على) بن أبي طالب الهاشمي أبوعبد الله المدني، أمه رملة بنت عقيل ابن أبي طالب من ثقات لتابعين (عن صلاة النبي) أي: عن أوقات صلاته (بالهاجرة) هي شدة الحر نصف النهار عقب الزوال، سميت بذلك من الهجر وهو الترك لأن الناس يتركون التصرف حينئذ لشدة الحر، أو لأنهم يستكنون في بيوتهم كأنهم قد تهاجروا. قال القسطلاني: قوله: كان يصلي الظهر بالهاجرة، أي: إلا أن يحتاج إلى الإبراد لشدة الحر- انتهى. وتعقب بأنه لو كان ذلك مراده لفصل كما فصل في العشاء. وقال السندي: لعل المطلوب أنه كان يصلي الظهر في أول وقتها أي: لا يؤخرها تأخيراً كثيراً فلا ينافي الإبراد. ولعل تخصيص أيام الحر لبيان أن الحر لا يمنعه من أول الوقت فكيف إذا لم يكن هناك حر (إذا وجبت) المراد بوجوب الشمس أي: سقوطها وغيبوبة جميعها (إذا كثر الناس عجل، وإذا قلوا أخر) قال الطيبي: الجملتان الشرطيتان في محل النصب حالان من الفاعل أي: يصلي العشاء معجلاً إذا كثر الناس، ومؤخرا إذا قلوا، أو يحتمل أن يكونا من المفعول والراجح مقدر أي: عجلها أو أخرها- انتهى. والتقدير معجلة ومؤخرة، وفي رواية إذا رآهم اجتمعوا عجل وإذا رآهم أبطؤا أخر. والحديث فيه مشروعية ملاحظة أحوال المؤتمين، والمبادرة بالصلاة مع اجتماع المصلين لأن انتظارهم بعد الاجتماع ربما كان سبب لتأذى بعضهم وأما الانتظار قبل الاجتماع فلا بأس به لهذا الحديث، ولأنه من باب المعاونة على البر والتقوى. قال الشوكاني: الحديث يدل على استحباب تأخير صلاة العشاء لكن مقيداً بعدم اجتماع المصلين (والصبح بغلس) ظلمة آخر الليل إذا اختلطت بضوء الصباح (متفق عليه) واللفظ للبخاري في باب "وقت العشاء إذا اجتمع الناس أو تأخروا" وأخرجه أيضاً أبوداود والنسائي.
591-
قوله: (بالظهائر) الباء زائدة، وهي جمع ظهيرة، وهي الهاجرة أي: شدة الحر من نصف النهار عقب الزوال، ولا يقال: في الشتاء ظهير، والمراد بها صلاة الظهر، وجمعها بالنظر إلى تعدد الأيام (على ثيابنا) الظاهر أنها الثياب التي هم لابسوها، ضرورة أن الثياب في ذلك الوقت قليلة، فمن أين لهم ثياب فاضلة؟ فهذا يدل على جواز أن يسجد المصلي على ثوب هو لابسه، كما عليه الجمهور، ومن لم يجوز يحمله على الثياب المنفصلة عن البدن، أو التي لا تتحرك بحركة المصلي، وهو تأويل لا تساعده الروايات، ولا النظر في الواقع (إتقاء الحر) بالنصب على أنه مفعول له أي: لأجل اتقاء الحر. وفي الحديث جواز استعمال الثياب، وكذا غيرها في الحيلولة بين المصلي وبين الأرض لاتقاء حرها وكذا
متفق عليه، ولفظه للبخاري.
592-
(4) وعن أبي هريرة، قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة)) .
593-
(5) وفي رواية للبخاري عن أبي سعيد، بالظهر، فإن شدة الحر من فيح جهنم،
ــ
بردها. وفيه تقديم الظهر في أول الوقت، وظاهر الأحاديث الواردة في الأمر بالإبراد يعارضه، فمن قال: الإبراد رخصة فلا إشكال. ومن قال: سنة فإما أن يقول التقديم المذكور رخصة، وإما أن يقول منسوخ بالأمر بالإبراد كحديث المغيرة بن شعبة: كنا نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الظهر بالهاجرة، فقال لنا: أبردوا بالصلاة، فإن شدة الحر من فيح جهنم. أخرجه ابن ماجه وغيره، وصححه أبوحاتم وأحمد. وأحسن منهما أن يقال: إن شدة الحر قد توجد مع الإبراد فيحتاج إلى السجود على الثوب، أو إلى تبريد الحصى، لأنه قد يستمر حره بعد الإبراد، ويكون فائدة الإبراد وجود طل يمشي فيه إلى المسجد، أو يصلي فيه في المسجد، كذا في الفتح (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه (ولفظه للبخاري) في باب وقت الظهر عند الزوال.
592-
قوله: (فأبردوا) من الإبراد وهو الدخول في البرد، يقال: أبرد إذا دخل في البرد كأظهر إذا دخل في الظهيرة (بالصلاة) أي: بصلاة الظهر، والباء للتعدية أي: أدخلوها في البرد، وأخروها عن شدة الحر في أول الزوال، وقيل: الباء زائدة وأبرد متعد بنفسه، ومعنى" أبردوا أخروا على سبيل التضمين أي: أخروا الصلاة إلى أن يبرد الوقت وينكسر الوهج، والأمر للندب والقرينة الصارفة أن العلة فيه دفع المشقة عن المصلي لشدة الحر فصار من باب الشفقة والنفع.
593-
قوله: (بالظهر) أي: بدل بالصلاة (فإن شدة الحر من فيح جهنم) بفتح فاء وسكون ياء ثم حاء مهملة أي: من سطوع حرها، وسعة انتشارها، وتنفسها. ومنه مكان أفيح أي: متسع، وأرض فيحاء أي: واسعة، وهذا كناية عن شدة استعارها، وظاهره أن مثار وهج الحر في الأرض من فيح جهنم حقيقية، وقيل بل هو على وجه التشبيه والاستعارة، وتقديره أن شدة الحر تشبه نار جهنم فاحذروه، واجتنبوا ضرره، والأول أولى، ويؤيده قوله: اشتكت النار إلى ربها فأذن لها بنفسين. قال النووي: هو الصواب، لأنه ظاهر الحديث ولا مانع من حمله على حقيقته، فوجب الحكم بأنه على ظاهره. واستبعد هذا بل استشكل لأن اشتداد الحر في الأرض تابع لقرب الشمس وبعدها كما هو المشاهد المحسوس. وأجيب بأنه يمكن أن يكون الشمس بحيث أن جعل الله تعالى بين مادة جرمها وبين جهنم ارتباطاً وعلاقة ومناسبة تقبل بها الشمس حرارة نار جهنم حتى تكون حرارة الشمس سبباً لاشتداد الحر في الأرض في الظاهر، وحينئذ فلا استبعاد في نسبة اشتداد الحر في البلاد إلى فيح جهنم لأنه هو السبب الأصلي الباطني الغيبي لذلك، والله تعالى أعلم. والفاء في "فإن " لتعليل الإبراد أي: وعند شدته يذهب الخشوع الذي هو روح الصلاة وأعظم المطلوب منها. قيل وإذا كان العلة ذلك
واشتكت النار إلى ربها فقالت: رب! أكل بعضي بعضا. فأذن لها بنفسين: نفس في الشتاء ونفس في الصيف، أشد ما تجدون من الحر، وأشد ما تجدون من الزمهرير)) .
ــ
فلا يشرع الإبراد في البلاد الباردة. واختلفوا في حد الإبراد ولم يرد في تحديده إلا ما تقدم من حديث ابن مسعود: كان قدر صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر في الصيف، الخ. وما روى من حديث أبي ذر عند الشيخين فإن فيه: فقال له: أبرد حتى رأينا فئ التلول - الحديث. فهذه الغاية متعلقة بأبرد أي: قال له: أبرد إلى أن ترى، أو متعلقة بمقدر أي: قال له: أبرد فأبرد إلى أن رأينا، والفيء هو ما بعد الزوال من الظل، ومعنى الحديث أنه أخر تأخيراً كثيرا حتى صار للتلول فيء، وهي في الغالب منبطحة غير شاخصة لا يصير لها فئ في العادة إلا بعد زوال الشمس بكثير فيستنبط منه حد الإبراد وهو أن يؤخر بحيث يصير للجدر ظلال يمشون فيها، والله أعلم (واشتكت) جملة مبنية للأولى وإن دخلت الواو بين المبين والمبين كما في قوله تعالى:{وإن من الحجارة لما يتفجر} [74:2](النار إلى ربها) شكاية حقيقية بلسان المقال بحياة وإدراك خلقهما الله تعالى فيها، وقيل: مجازية عرفية بلسان الحال. قال ابن عبد البر: لكلا القولين وجه ونظائر والأول أرجح، وقال عياض: إنه الأظهر، والله قادر على خلق الحياة بجزء منها حتى تكلم أو يخلق لها كلاما يسمعه من شاء من خلقه. وقال القرطبي: لا إحالة في حمل اللفظ على حقيقيته، وإذ أخبر الصادق بأمر جائز لم يحتج إلى تأويله، فحمله على حقيقته أولى. وقال النووي نحو ذلك، ثم قال: حمله على حقيقته هو الصواب، وقال: نحو ذلك التور بشتي، ورجح البيضاوي حمله على المجاز فقال: شكواها مجاز عن غليانها، وأكلها بعضها بعضاً مجاز عن ازدحام أجزاءها بحيث يضيق مكانها عنها فيسعى كل جزء في إفناء الجزء الآخر والاستيلاء على مكانه، وتنفسها مجاز عن لهبها وخروج ما يبرز منها. وقال الزين بن المنير: المختار حمله على الحقيقة لصلاحية القدرة لذلك، ولأن استعارة الكلام للحال وإن عهدت وسمعت لكن الشكوى وتفسيرها والتعليل له والإذن، والقبول، والتنفس، وقصره على اثنين فقط. بعيد من المجاز خارج عما ألف من استعماله (فأذن لها بنفسين) تثنية نفس وهو ما يخرج من الجوف ويدخل فيه من الهواء (نفس) بالجر على البدل أو البيان، ويجوز الرفع بتقدير أحدهما (أشد ما تجدون من الحر) برفع أشد على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي: ذلك أشد ما تجدون، أو مبتدأ خبر محذوف أي: أشد ما تجدون من الحر من ذلك النفس، ويجوز الجر على البدل من النفس المجرور، والنصب بتقدير أعنى، وعلى كل تقدير فما إما موصولة أو موصوفة، ومن الحر ومن الزمهرير بيان (وأشد ما تجدون من الزمهرير) أي: شدة البرد ولا مانع من حصول الزمهرير من نفس النار لأن المراد بالنار محلها، وهو جهنم وفيها طبقة زمهريرية. والحديث يدل على استحباب الإبراد، ولا يعارض ذلك الأحاديث الواردة بتعجيل الظهر وأفضلية أول الوقت لأنها عامة أو مطلقة، وحديث الإبراد خاص أو مقيد، ولا تعارض بين عام وخاص ولا بين مطلق ومقيد، وأما حديث خباب عند مسلم، قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حر الرمضاء في جباهنا وأكفنا
متفق عليه. وفي رواية للبخاري: فأشد ما تجدون من الحر فمن سمومها، وأشد ما تجدون من البرد فمن زمهريرها.
594-
(6) وعن أنس، قال:((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي العصر، والشمس مرتفعة حية، فيذهب الذاهب إلى العوالي، فيأتيهم والشمس مرتفعة، وبعض العوالي من المدينة على أربعة أميال أو نحوه)) .
ــ
فلم يشكنا. أي: لم يعذرنا ولم يزال شكوانا، فمحمول على أنهم طلبواً تأخيراً زائداً على قدر الإبراد، لأن الإبراد أن يؤخر بحيث يصير للحيطان فئ يمشون فيه، ويتناقص الحر، والتأخير الزائد عنه أن يزول حر الرمضاء، وذلك قد يستلزم خروج الوقت فلذلك لم يجبهم (متفق عليه) للحديث طرفان أما طرفه الأول وهو طرف الإبراد فأخرجه أيضاً مالك وأحمد والترمذي في صفة جهنم، وابن ماجه في الزهد. قال العيني والقسطلاني: وأخرجه النسائي في الصلاة (وفي رواية للبخاري فأشد ما تجدون من الحر) الخ. لم أجد هذه الرواية في البخاري، نعم رواها مسلم والترمذي وابن ماجه بنحوها (فمن سمومها) بفتح السين المهملة، الريح الحارة (فمن زمهريرها) أي: من أثر طبقتها الباردة.
594-
قوله: (والشمس مرتفعة حية) أي: صافية اللون عن التغير والاصفرار (فيذهب الذاهب) أي: بعد صلاة العصر (إلى العوالي) جمع عالية وهي قري مجتمعة حول المدينة أبعدها على ثمانية أميال كما جزم به عياض وابن عبد البر وغير واحد، وآخرهم صاحب النهاية، وأقربها من المدينة على ميلين وبعضها على ثلاثة أميال (فيأتيهم) أي: فيصل إلى أهل العوالي (والشمس مرتفعة) أي: دون ذلك الارتفاع لكنها لم تصل إلى الحد الذي توصف به لأنها منخفضة. وفي ذلك دليل على تعجيله صلى الله عليه وسلم لصلاة العصر لوصف الشمس بالارتفاع بعد أن تمضي مسافة أربعة أميال (وبعض العوالي) أي: بين العوالى والمدينة المسافة المذكورة (أو نحوه) أي: نحو هذا المقدار أي: قريب من أربعة أميال، وظاهر إيراد المصنف يقتضى أن هذا من كلام أنس، وليس كذلك بل هو مدرج من كلام الزهري الراوي عن أنس في الحديث، بينه عبد الرزاق عن معمر عن الزهري في هذا الحديث فقال: فيه بعد قوله: والشمس حية: قال الزهري: والعوالي من المدينة على ميلين أو ثلاثة، فهذا اختصار مخل موهم لخلاف المقصود، وحق العبارة أن يقول: وعن الزهري عن أنس، ثم يقول: قال الزهري: وبعض العوالي، الخ. والحديث يدل على استحباب المبادرة بصلاة العصر أول وقتها لأنه لا يمكن أن يذهب بعد صلاة العصر ميلين وثلاثة والشمس لم تتغير بصفرة ونحوها إلا إذا صلى العصر حين صار ظل الشيء مثله. قال النووي: ولا يكاد يحصل هذا إلا في الأيام الطويلة وهو دليل للجمهور القائلين بأن أول وقت العصر إذا صار ظل كل
متفق عليه
595-
(7) وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تلك صلاة المنافق: يجلس يرقب الشمس، حتى إذا اصفرت، وكانت بين قرني الشيطان؛ قام فنقر أربعاً لا يذكر الله فيها إلا قليلاً)) رواه مسلم.
ــ
شيء مثله (متفق عليه) فيه نظر لأن زيادة: وبعض العوالي، الخ. من إفراد البخاري. والحديث أخرجه أيضاً أحمد وأبوداود والنسائي وابن ماجه وغيرهم.
595-
قوله: (تلك صلاة المنافق) إشارة إلى مذكور حكماً أي: صلاة العصر التي أخرت إلى الاصفرار، قاله ابن الملك. وقال الطيبي: إشارة إلى ما في الذهن من الصلاة المخصوصة، والخبر بيان لما في الذهن. والمنافق إما محمول على حقيقته بأن يكون بياناً لصلاته، أو يكون تغليظاً، يعني من أخر صلاة العصر إلى قبيل الغروب فقد شبه بالمنافق، فإن المنافق لا يعتقد حقيقة الصلاة بل إنما يصلي لدفع السيف، ولا يبالي بالتأخير إذ لا يطلب فضيلة، ولا ثوابا والواجب على المسلم أن يخالف المنافق (يجلس يرقب الشمس) أي: ينتظر غروبها، وهي جملة استئنافية بيان للجملة السابقة. قال النووي: فيه تصريح بذم تأخير صلاة العصر بلا عذر (حتى إذا اصفرت) أي: الشمس (وكانت بين قرني الشيطان) أي: جانبي رأسه، وهو كناية عن قرب الغروب، وذلك لأن الشيطان عند الطلوع والإستواء والغروب ينتصب دون الشمس، بحيث يكون الطلوع والغروب بين قرنيه، فهو محمول على حقيقته، وكلمة إذا للشرط وقوله:(قام) أي: إلى الصلاة جزاءها والشرطية استئنافية (فنقر أربعاً) من نقر الطائر الحبة نقرأ أي: التقطها. قال الجزري: يريد تخفيف السجود، وأنه لا يمكث فيه إلا قدر وضع الغراب منقاره فيما يريد أكله- انتهى. وقال السندي: كأنه شبه كل سجدتين من سجداته من حيث أنه لا يمكن يمكث فيهما ولا بينهما بنقر طائر إذا وضع منقارة يلتقط شيئاً- انتهى. يعني إنما قال: أربعاً أي: أربع سجدات مع أن في العصر ثماني سجدات لأنه لا يمكث بينهما، فكأنه سجد أربعاً. وفيه تصريح بذم من صلى مسرعاً بحيث لا يكمل الخشوع والطمأنينة والأذكار، وقيل معنى نقرأ أربعاً أي: لقط أربع ركعات سريعاً، فالنقر عبارة عن السرعة في أداء الصلاة، وقيل عن سرعة القراءة وقلتها وقلة الذكر فيها (لا يذكر اله فيها) لعدم اعتقاده أو لخلوة الإخلاص (إلا قليلا) أي: ذكرا قليلا، وقيل: الظاهر أنه منفصل أي: لكنه في زمن قليل يذكر الله فيه بلسانه فقط. قيل: وتخصيص الأربع بالنقر وفي العصر ثمان سجدات اعتبار بالركعات (رواه مسلم) فيه نظر لأن لفظة (إذا اصفرت) ليست في رواية مسلم بل هي في رواية أبي داود، ولفظ مسلم كذا: حتى إذا كانت بين قرني الشيطان. والحديث أخرجه أيضاً أحمد، والترمذي، وأبوداود، والنسائي.
596-
(8) وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الذي تفوته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله)) متفق عليه.
597-
(9) وعن بريدة، قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله)) .
ــ
596-
قوله: (الذي تفوته) أي: بغروب الشمس، قاله نافع الراوي لهذا الحديث، وقيل بفوت الوقت المختار ومجئ وقت الاصفرار، روى ذلك أبوداود عن الأوزاعي في هذا الحديث، وقيل بفوت الجماعة والإمام، والراجح هو الأول لما روى ذلك مرفوعاً عند ابن أبي شيبة، ذكره السيوطي (صلاة العصر) أي: بغير اختياره، وظاهره التغليظ على من تفوته صلاة العصر وأن ذلك مختص بها والله تعالى يختص ما شاء من الصلوات بما شاء من الفضيلة (فكأنما وتر أهله وماله) على بناء المفعول ونصب الأهل والمال أو رفعهما، قيل النصب المشهور وعليه الجمهور، وهو مبنى على أن وتر بمعنى سلب وهو يتعدى إلى مفعولين، والرفع على أنه بمعنى أخذ فيكون أهله هو نائب الفاعل، والمعنى: أخذ أهله وماله فبقى وترا فرداً بلا أهل ومال، يريد أنه فليكن على حذر من فوتها كحذره من ذهاب أهله وماله. وقيل: الوجه أن المراد أنه حصل له النقصان في الأجر في الآخرة ما لو وزن بنقص الدنيا لما وازنه إلا نقصان من نقص أهله وماله. وقال الحافظ: قوله: أهله. هو بالنصب عند الجمهور على أنه مفعول ثان لوتر، وأضمر في "وتر" مفعول ما لم يسم فاعله، وهو عائد على الذي فاته العصر، فالمعنى: أصيب بأهله وماله، وهو متعد إلى مفعولين، ومثله قوله تعالى:{ولن يتركم أعمالكم} [35:47] . وقيل: "وتر" ههنا بمعنى نقص فعلى هذا يجوز نصبه ورفعه، لأن من رد النقص إلى الرجل نصب وأضمر ما يقوم مقام الفاعل ومن رده إلى الأهل رفع-انتهى. والحديث حمله الترمذي على الساهي والناسي، وعلى هذا فالمراد بالحديث أنه يلحقه من الأسف عند معاينة الثواب لمن صلى ما يلحق من ذهب أهله وماله. وقد روى معنى ذلك عن سالم بن عبد الله بن عمر، ويؤخذ منه التنبيه على أن أسف العامد أشد لاجتماع فقد الثواب وحصول الإثم، وحمله بعضهم على العامد، والظاهر أنه محمول على الساهي، والله أعلم (متفق عليه) وأخرجه أيضاً مالك والترمذي وأبوداود، والنسائي، وابن ماجه، والدارمي، وغيرهم. وفي الباب عن نوفل بن معاوية عند النسائي وغيره.
597-
قوله (من ترك) أي: متعمداً كما في رواية لأحمد وكما في حديث أبي الدرداء عنده أيضاً (صلاة العصر) متكاسلاً (فقد حبط عمله) قال. ابن عبد البر: مفهوم قوله تعالى: {ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله} [5:5] أن من لم يكفر بالإيمان لم يحبط عمله، فيتعارض مفهومه ومنطوق الحديث، فيتعين تأويل الحديث لأن الجمع إذا أمكن كان أولى من الترجيح. فقيل في تأويله أن الوعيد خرج مخرج الزجر الشديد، وظاهره غير مراد كقوله: لا يزني الزاني وهو مؤمن، وقيل: هو من مجاز التشبيه كأن المعنى فقد أشبه من حبط عمله. وقيل معناه: كاد أن يحبط. وقيل: المراد بالحبط الإبطال، أي: يبطل انتفاعه بعمله في وقت ما، ثم ينتفع به كمن رجحت سيئاته على حسناته فأنه
رواه البخاري.
598-
(10) وعن رافع بن خديج، قال: ((كنا نصلي المغرب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فينصرف أحدنا
وإنه ليبصر مواقع نبله)) . متفق عليه.
599-
(11) وعن عائشة رضي الله عنها قالت: ((كانوا يصلون العتمة فيما بين أن يغيب الشفق إلى
ــ
موقوف في المشيئة، فإن غفر له فمجرد الوقوف إبطال لنفع الحسنة إذ ذاك، وإن عذب ثم غفر له فكذلك. قال: معنى ذلك القاضي أبوبكر بن العربي، ومحصل ما قال: أن المراد بالحبط في الآية غير المراد بالحبط في الحديث. وقال: في شرح الترمذي ما حاصله: أن الحبط على قسمين حبط إسقاط، وهو إحباط الكفر للإيمان وجميع الحسنات، وهو إحباط حقيقي. وحبط موازنة وهو إحباط المعاصي للانتفاع بالحسنات عند رحجانها عليها إلى أن تحصل النجاة فيرجع إليه جزاء حسناته، وهو إحباط مجازي أطلق عليه الإحباط مجازاً لا حقيقة وهذا هو المراد في الحديث، وقيل في تأويله غير ذلك، قال الحافظ: أقرب هذه التأويلات قول من قال: إن ذلك خرج مخرج الزجر الشديد، وظاهره غير مراد-انتهى. وقال السندي: حبط عمله، بكسر الباء أي: بطل. قيل: أريد به تعظيم المعصية لا حقيقة اللفظ. ويكون مجاز التشبيه. قال: وهذا مبنى على أن العمل لا يحبط إلا بالكفر، لكن ظاهر قوله تعالى:{لا ترفعوا أصواتكم} الآية [2:49] ، يفيد أنه يحبط ببعض المعاصي أيضاً فيمكن أن يكون ترك العصر عمدا من جملة تلك المعاصي-انتهى (رواه البخاري) وأخرجه أيضاً أحمد، والنسائي، وابن ماجه.
598-
قوله: (كنا نصلي المغرب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فينصرف أحدنا) من الصلاة (وإنه) أي: والحال أن أحدنا (ليبصر) من الإبصار أي: بعد الصلاة (مواقع نبله) بفتح النون وسكون الموحدة، وهي السهام العربية لا واحد لها من لفظها. وقيل: واحدها نبلة كتمرة وتمرة يعني أنه صلى الله عليه وسلم كان يعجل بها في أول وقتها بمجرد غروب الشمس حتى ينصرف أحدنا بعد الصلاة، ويرمي السهم عن قوسه ويبصر موقعه لبقاء الضوء، ففيه دليل على المبادرة بصلاة المغرب في أول وقتها بحيث أن الفراغ منها يقع والضوء باق، وقد كثر الحث على المسارعة بها، وأما الأحاديث الواردة في تأخيرها إلى قرب سقوط الشفق فكانت لبيان جواز التأخير، قلت: والحديث يدل على أنه يقرأ فيها السور القصار إذ لا يتحقق مثل هذا إلا عند المبادرة وقراءة السور القصار، فليتأمل (متفق عليه) وأخرجه أيضاً ابن ماجه. وفي الباب عن أنس عند أبي داود، ورجل من أسلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عند النسائي، وعن ناس من الأنصار عند أحمد، قال: الحافظ: إسناده حسن.
599-
قوله: (كانوا) أي: النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه (يصلون العتمة) أي: صلاة العشاء (فيما بين أن يغيب الشفق إلى
ثلث الليل الأول)) متفق عليه.
600-
(12) وعنها، قالت:((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي الصبح، فتنصرف النساء متلفعات بمروطهن ما يعرفن من الغلس)) .
ــ
ثلث الليل الأول) بالجر صفة ثلث، وفيه بيان الوقت المرغوب المختار لصلاة العشاء لما يشعر به السياق من المواظبة على ذلك، وقد ورد بصيغة الأمر في هذا الحديث عند النسائي، ولفظه: ثم قال: صلوا فيما بين أن يغيب الشفق إلى ثلث الليل. وليس بين هذا وبين قوله في حديث أنس: أنه أخر الصلاة إلى نصف الليل. معارضة، لأن حديث عائشة محمول على الأغلب من عادته صلى الله عليه وسلم، كذا في الفتح (متفق عليه) أي: على أصل الحديث الذي اللفظ المذكور طرف منه. وإلا فالسياق المذكور من إفراد البخاري، وهو طرف من حديث اتفق الشيخان على روايته، وبين ألفاظهما اختلاف يسير والطرف الذي ذكره المصنف ليس عند مسلم بل هو من إفراد البخاري، فقول المصنف "متفق عليه" لا يخلو عن نظر.
600-
قوله: (ليصلي) اللام فيه للإبتداء، وقد دخل على الخبر وهو جائز عند الكوفيين (فتنصرف النساء) أي: اللاتي يصلين معه (متلفعات) جمع مرط- بكسر ميم وسكون راء – وهو كساء معلم من خز أو صوف أو غير ذلك. وقيل هي ملحفة يؤتزر بها. قال الجزري: أي: متلففات بأكسيتهن، واللفاع ثوب يجلل به الجسد كله كساء كان أو غيره، وتلفع بالثوب إذا اشتمل به – انتهي. وقال السيوطي: التلفع هو التلفف إلا أن فيه زيادة تغطية الرأس، فكل متلفع متلفف، وليس كل متلفف متلفعاً (مايعرفن) ما نافية أي: ما يعرفن أنساء أم رجال؟ أي: لا يظهر للرائي إلا الأشباح خاصة. وقيل: لا يعرف أعيانهن فلا يفرق بين خديجة وزينب، فإن لكل امرأة هيئة غير هيئة الأخرى غالباً، ولو كان بدنها مغطى، وهذا هو الظاهر، فإن المعرفة إنما تتعلق بالأعيان، ولو كان المراد الأول لعبر بنفي العلم، ووقع في رواية للبخاري أي: في باب سرعة انصراف النساء من الصبح: لا يعرف بعضهن بعضا، وهذا كالصريح في عدم معرفة أعيانهن وأشخاصهن دون معرفة الذكر من الأنثى. قال السندي: ما يعرفن أي: حال الانصراف إلى البيت في الطريق لا في داخل المسجد كما زعمه المحقق ابن الهمام، لأن جملة "ما يعرفن" حال من فاعل تنصرف فيجب المقارنة بينهما – انتهى. قلت: فبطل ذلك تأويل من قال: من الحنفية أن المراد من الغلس غلس المسجد لأنه كان مسقفاً فما كان يظهر فيه النور إلا بطلوع الشمس. (من الغلس) أي: لأجل الظلمة لا لأجل التلفع، فمن ابتدائية أو تعليلية، وهو بفتحتين بقايا ظلام الليل يخالطها ظلام الفجر، وقال الجزري: ظلمة آخر الليل إذا اختلطت بضوء الصباح. قال الحافظ: في الحديث استحباب المبادرة بصلاة الصبح في أول الوقت، وجواز خروج النساء إلى المساجد لشهود الصلاة في الليل، ويؤخذ منه جوازه في النهار من باب الأولى. لأن الليل مظنة الريبة أكثر من النهار، ومحل ذلك إذا لم يخش عليهن أو بهن فتنة-انتهى.
متفق عليه.
ــ
قلت: الحديث يدل على أن التغليس أفضل من الإسفار، وبه قال مالك، والشافعي، وأحمد، وإسحق. قال ابن عبد البر: صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن أبي بكر وعمر وعثمان أنهم كانوا يغلسون، ومحال أن يتركوا الأفضل، وياتوا الدون، وهم النهاية في إتيان الفضائل. واستدل هؤلاء الأئمة على أفضلية التغليس بحديث عائشة هذا، وبحديث إبن عمر عند ابن ماجه، وبحديث أنس الآتي، وبحديث قيلة بنت مخرمة عند الطبراني وابن مندة، ذكره الحافظ في الإصابة (ج4:ص394، 391) في قصة طويلة قال ابن عبد البر: هو حديث طويل فصيح حسن، وبحديثي أبي برزة وجابر بن عبد الله المتقدمين، وبحديث أبي مسعود قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح مرة بغلس، ثم صلى مرة أخرى فأسفر بها ثم كانت صلاته بعد ذلك التغليس حتى مات، لم يعد إلى أن يسفر. رواه الحازمي، وأبوداود، وغيرهما، وصححه ابن خزيمة وغيره. قال الحازمي: تغليس النبي صلى الله عليه وسلم ثابت، وأنه دوام عليه إلى أن فارق الدنيا، ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يداوم إلا على ما هو الأفضل، وكذلك أصحابه من بعده تأسياً به صلى الله عليه وسلم، ثم روى بسنده حديث أبي مسعود هذا وقال بعد روايته: هذا طرف من حديث طويل في شرح الأوقات، وهو حديث ثابت مخرج في الصحيحين بدون هذه الزيادة، وهذا إسناد رواته عن آخره ثقات، والزيادة عن الثقة مقبولة. وقال المنذري في تلخيص السنن نحو هذا. وقال الخطابي: هو صحيح الإسناد. وقال ابن سيد الناس: إسناده حسن. وقال الشوكاني: رجاله في سنن أبي داود رجال الصحيح، وقد أعل بعضهم حديث أبي مسعود هذا بما قد رده شيخنا في أبكار المنن (ص71-73) وفي شرح الترمذي (ج1:ص143) فارجع إليهما. وقد خالف الحنفية أحاديث التغليس، وقالوا باستحباب الإسفار، واستدلوا لذلك بحديث رافع بن خديج الآتي: أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر، وسيأتي كلام فيه فانتظر. وأجابوا عن أحاديث التغليس بأجوبة كلها مخدوشة مردودة. فمنها أن هذه الأحاديث محمولة على الخصوصية، وفيه أن هذا مجرد دعوى لا دليل عليه بل يبطله عمل الخلفاء الراشدين من بعده. ومنها أنها منسوخة فكان التغليس في ابتداء حين كن يحضرن الجماعات، ثم لما أمرن بالقرار في البيوت انتسخ ذلك، وفيه ما في الأول مع أنه لم يثبت منعهن من المساجد بل ثبت النهي عن منعهن من المساجد كما لا يخفى. ومنها أنها محمولة على عذر الخروج إلى سفر، وفيه أنه صلى الله عليه وسلم قد داوم على التغليس في الحضر والسفر، ولازمه حتى فارق الدنيا، فلو كان مستحباً لما اجتمع الصحابة على الإسفار. وقد روى الطحاوي عن إبراهيم النخعي قال: ما اجتمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على شيء ما اجتمعوا على التنوير، وفيه أن دعوى إجماع الصحابة على الإسفار باطلة جداً يبطلها عمل الخلفاء الراشدين، ومن سواهم من الصحابة والتابعين بالتغليس. ومنها أنها محمولة على أطول القراءة كسورة البقرة، فيحمل على الخصوصية أيضاً لقوله صلى الله عليه وسلم:صل بالقوم صلاة أضعفهم، وفيه أنه قد تقدم أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي في الصبح ما بين الستين إلى المائة، وهذا لا يخالف قوله: صل بالقوم صلاة أضعفهم، فلا حاجة إلى حمل تغليسه على الخصوصية (متفق عليه) وأخرجه أيضاً مالك، وأحمد، والترمذي، وأبوداود، والنسائي، وابن ماجه، وغيرهم.
601-
(13) وعن قتادة، عن أنس:((أن نبي الله صلى الله عليه وسلم وزيد بن ثابت تسحرا، فلما فرغا من سحورهما، قام نبي الله صلى الله عليه وسلم إلى الصلاة، فصلى. قلنا؛ لأنس: كم كان بين فراغهما من سحورهما ودخولهما في الصلاة.؟ قال: قدر ما يقرأ الرجل خمسين آية)) رواه البخاري.
602-
(14) وعن أبي ذر، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كشف أنت إذا كانت عليك أمراء يميتون الصلاة، أو يؤخرون الصلاة عن وقتها؟
ــ
601-
قوله: (وعن قتادة) بفتح القاف، ابن دعامة – بكسر المهملة، وخفة العين – ابن قتادة السدوسي، يكنى أبا الخطاب البصري الأعمى، أحد ألأئمة الأعلام، ثقة، ثبت، حافظ مدلس، روى عن أنس، وابن المسيب، والحسن، وابن سيرين، وغيرهم. يقال: ولد أكمه. قال سعيد بن المسيب لما رأى جودة حفظه وإتقانه: ما أظن أن الله خلق مثلك. وقال أيضا: ما أتاني عراقي أحسن من قتادة. وقال ابن سيرين: قتادة أحفظ الناس. قال ابن مهدي: قتادة أحفظ من خمسين مثل حميد. وقال قتادة: ما سمعت أذناي شيئاً إلا وعاه قلبي. قيل: مات بواسط في الطاعون سنة (117) أو (118) وهو ابن (55) أو (56) أو (57) سنة بعد الحسن بسبع سنين. (تسحرا) أي أكلا السحور. (من سحورهما) بفتح السين اسم لما يتسحر به، وقيل بضمها وهو مصدر. (إلى الصلاة) أي صلاة الصبح. (فصلى) أي إماماً وهو معه. (كم كان) أي مقدار، قال ابن الملك: اشتق منه مبتدأ وخبرها الجملة أي أيّ زمان كان. (قال: قدر) بالنصب خبر لكان المقدر، أي كان ما بينهما قدر، ويجوز الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي الفاضلة قدر (ما يقرأ الرجل خمسين آية) فيه دليل على استحباب التغليس، وأن أول وقت الصبح طلوع الفجر؛ لأنه الوقت الذي يحرم فيه الطعام والشراب، والمدة التي بين الفراغ من السحور والدخول في الصلاة وهي قراءة الخمسين آية أو نحوها لعلها مقدار ما يتوضأ، فأشعر بذلك أن أول وقت الصبح أول ما يطلع الفجر، وفيه أنه صلى الله عليه وسلم كان يدخل فيها بغلس. (رواه البخاري) وأخرجه أيضا النسائي في الصيام.
602-
قوله: (كيف أنت) أي كيف الحال والأمر بك. (إذا كانت عليك أمراء) قال الطيبي: أي ما حالك حين ترى من هو حاكم عليك متهاوناً في الصلاة يؤخرها عن أول وقتها وأنت غير قادر على مخالفته؟ إن صليت معه فاتتك فضيلة أول الوقت، وإن خالفته خفت أذاه وفاتتك فضيلة الجماعة. فسأل كيف أفعل حينئذٍ، و"عليك" خبر كان، أي كانت الأمراء مسلطين عليك قاهرين لك، وفي الحديث إخبار بالغيب، وقد وقع في زمن بني أمية فكان معجزة. (يميتون الصلاة) أي يؤخرونها ويجعلونها كالميت الذي خرجت روحه. (أو يؤخرون الصلاة) وفي بعض النسخ أو يؤخرونها، وأو للشك من الراوي. (عن وقتها) قال الطيبي: شبه إضاعة الصلاة وتأخيرها عن وقتها بجيفة ميت تنفر عنها الطباع كما شبه المحافظة عليها وأداءها في وقت اختيارها بذي حياة له نضارة وطراوة في عنفوان شبابه، ثم أخرجها مخرج
قال: قلت: فما تأمرني؟ قال: صل الصلاة لوقتها. فإن أدركتها معهم، فصل، فإنها لك نافلة)) رواه مسلم.
603-
(15) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس، فقد أدرك الصبح. ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس، فقد أدرك العصر)) .
ــ
الاستعارة وجعل القرينة يميتون؛ لأنه غير لازم المشبه به. قال النووي: المراد بتأخيرها تأخيرها عن وقتها المختار؛ لأنهم لم يكونوا يؤخرونها عن جميع وقتها. قلت: ظاهر الحديث إخراج الصلاة وتأخيرها عن جميع وقتها، وعليه حمله النسائي. وقد صح أن الحجاج وأميره الوليد وغيرهما كانوا يؤخرون الصلاة عن وقتها، فينبغي أن يحمل هذا الحديث على الواقع. قال الحافظ في الفتح: قد صح أن الحجاج وأميره الوليد وغيرهما كانوا يؤخرون الصلاة عن وقتها، والآثار في ذلك مشهورة، ثم ذكرها. (فما تأمرني) أي فما الذي تأمرني أن أفعل في ذلك الوقت؟. (فإن أدركتها) بأن حضرتها. (معهم فصل فإنها) أي الصلاة التي صليت مع الأمراء. (لك نافلة) يعني صل الصلاة في أول الوقت، فإن صادفتهم بعد ذلك وقد صلوا أجزأتك صلاتك، وإن أدركت الصلاة معهم فصل معهم، وتكون هذه الثانية نافلة لك. والحديث يدل على مشروعية الصلاة لوقتها وترك الإقتداء بالأمراء إذا أخروها عن أول وقتها، وأن المؤتم يصليها منفرداً، ثم يصليها مع الإمام لئلا تتفرق الكلمة وتقع الفتنة، فيجمع بين فضيلتي أول الوقت والجماعة. وقوله: فإنها لك نافلة. صريح في أن الصلاة التي يصليها مرتين تكون الأولى فريضة، والثانية نفلاً. وفي الحديث دليل على أنه لا بأس بإعادة الصبح والعصر وسائر الصلوات؛ لأن النبي أطلق الأمر بالإعادة، ولم يفرق بين الصلاة والصلاة، فيكون مخصصاً لحديث: لا صلاة بعد العصر وبعد الفجر. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا الترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه.
603-
قوله: (من أدرك ركعة) بأن أتى بها بواجباتها من الفاتحة، واستكمال الركوع والسجود، ومفهومه أن من أدرك أقل من ركعة لا يكون مدركاً للوقت، وأن صلاته تكون فضاء، وإليه ذهب الجمهور، وقيل: تكون أداء. والحديث يرده. (من الصبح) أي من صلاة الصبح. (قبل أن تطلع الشمس) أي وأضاف إليها أخرى بعد طلوعها. (فقد أدرك الصبح) أي أدرك صلاة الصبح أداء لوقوع ركعة في الوقت، فالإتيان ببعضها قبل خروج الوقت ينسحب حكمه على ما بعد خروجه فضلاً من الله، فيكون الكل أداء. وقيل: أي تمكن من إدراكها بأن يضم إلى الركعة المؤداة بقية الصلاة. وليس المراد أن الركعة تكفي عن الكل. وهذا لصاحب العذر كالرجل ينام عن الصلاة، أو ينساها فيذكر، أو يستيقظ عند طلوع الشمس وغروبها. قال النووي: وقد اتفق العلماء على أنه لا يجوز تعمد التأخير إلى هذا الوقت-انتهى.
قال الحافظ: الإدراك الوصول إلى الشيء، فظاهره أنه يكتفي بذلك، وليس ذلك مراداً بالإجماع، فقيل: يحمل على أنه أدرك الوقت، فإذا صلى ركعة أخرى فقد كملت صلاته، وهذا قول الجمهور، وقد صرح بذلك في رواية الدراوردي عن زيد بن أسلم، أخرجه البيهقي من وجهين، ولفظه: من أدرك من الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس، وركعة بعد ما تطلع الشمس، فقد أدرك الصلاة. وأصرح منه رواية أبي غسان محمد بن مطرف، عن زيد بن أسلم عن عطاء وهو ابن يسار، عن أبي هريرة بلفظ: من صلى ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس، ثم صلى ما بقي بعد غروب الشمس فلم يفته العصر. وقال مثل ذلك في الصبح، وفي رواية للبخاري يعني التي بعد هذا الحديث: فليتم صلاته، وللنسائي من وجه آخر: من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة كلها إلا أنه يقضي ما فاته. وللبيهقي من وجه آخر: من أدرك ركعة من الصبح فليصل إليها أخرى. ويؤخذ من هذا الرد على الطحاوي حيث خص الإدراك باحتلام الصبي، وطهر الحائض وإسلام الكافر، ونحوها، وأراد بذلك نصرة مذهبه في أن من أدرك من الصبح ركعة تفسد صلاته؛ لأنه لا يكملها إلا في وقت الكراهة – انتهى. والحديث يدل على أن من أدرك ركعة من صلاة الصبح قبل طلوع الشمس فقد أدرك صلاة الصبح ولا تبطل بطلوعها، كما أن من أدرك ركعة من صلاة العصر قبل غروب الشمس فقد أدرك صلاة العصر ولا تبطل بغروبها، وبه قال مالك والشافعي وأحمد وإسحاق، وهو الحق، وخالف أبوحنيفة هذا الحديث فقال: من طلعت عليه الشمس وهو في صلاة الصبح بطلت صلاته. واحتج في ذلك بالأحاديث الواردة في النهي عن الصلاة عند طلوع الشمس. وأجيب عنه بأن أحاديث النهي عامة تشمل ذوات الأسباب المتقدمة وغير ذوات الأسباب من النوافل والفرائض. وحديث أبي هريرة هذا خاص ليس فيه إلا ذكر صلاة ذات سبب متقدم، فتحمل أحاديث النهي على ما لا سبب له من النوافل جمعاً بين الحديثين، فإن الجمع بالتخصيص أولى من ادعاء النسخ، قاله الحافظ. قال الشوكاني: هذا جمع بما يوافق مذهب الحافظ، والحق أن أحاديث النهي عامة تشمل كل صلاة، وهذا الحديث خاص فيبني العام على الخاص، ولا يجوز في ذلك الوقت شيء من الصلوات إلا بدليل يخصه، سواء كان من ذوات الأسباب أوغيرها-انتهى. وقال النووي: قال أبوحنيفة: تبطل صلاة الصبح بطلوع الشمس؛ لأنه دخل وقت النهي الصلاة بخلاف غروب الشمس. (ففرق بين فجر اليوم وعصره) والحديث حجة عليه-انتهى. قال القاري بعد ذكر كلام النووي ما نصه: وجوابه ما ذكره صدر الشريعة (في شرح الوقاية) : أن المذكور في كتب أصول الفقه أن الجزء المقارن للأداء سبب لوجوب الصلاة، وآخر وقت العصر وقت ناقص إذ هو وقت عبادة الشمس، فوجب ناقصاً، فإذا أداه أداه كما وجب فإذا اعترض الفساد بالغروب لا تفسد، والفجر كل وقته وقت كامل؛ لأن الشمس لا تعبد قبل طلوعها، فوجب كاملاً، فإذا اعترض الفساد بالطلوع تفسد؛ لأنه لم يؤديها كما وجب، فإن قيل: هذا تعليل في معرض النص، قلنا: لما وقع التعارض بين هذا الحديث وبين النهي الواردة عن الصلاة في الأوقات الثلاثة رجعنا إلى القياس كما هو حكم التعارض، والقياس رجح هذا الحديث في صلاة العصر، وحديث النهي في صلاة الفجر، وأما سائر الصلوات فلا تجوز في الأوقات الثلاثة المكروهة لحديث النهي الوارد، إذ لا معارض لحديث النهي فيها. قلت: قد رد هذا التقرير المزخرف الشيخ عبد الحي اللكنوي
وهو من الحنفية في حاشيته على شرح الوقاية حيث قال: فيه بحث، وهو أن المصير إلى القياس عند تعارض النصين إنما هو إذا لم يمكن الجمع بينهما، وأما إذا أمكن يلزم أن يجمع بينهما، وههنا العمل بكليهما ممكن بأن يخص صلاة العصر والفجر الوقتيتان من عموم حديث النهي، ويعمل بعمومه في غيرهما، وبحديث الجواز فيهما إلا أن يقال حديث الجواز خاص، وحديث النهي عام، وكلاهما قطعيان عند الحنفية، ومتساويان في الدرجة والقوة، فلا يخص أحدهما الآخر، وفيه أن قطعية العام كالخاص ليس متفقاً عليه بين الحنفية، فإن كثيراً منهم وافقوا الشافعية في كون العام ظنياً كما هو مبسوط في شروح المنتخب الحسامي وغيرها-انتهى. وقال صاحب الكوكب الدري بعد ذكر وجه الفرق بين الفجر والعصر بنحو ما ذكره صدر الشريعة ما لفظه: هذا ما قالوا، وأنت تعلم ما فيه من الاختلال وتزويق المقال، فإن قولهم: النهي عن الأفعال الشرعية يقتضي صحتها في أنفسها، ينادي بأعلى نداء على جواز الصلاتين كلتيهما وإن اعتراهما حرمة بعارض التشبه بعبدة الشمس، فادعاء المعارضة بينهما باطل، وإن قطع النظر عن ذلك فلا وجه لعدم الجواز في الفجر والجواز في العصر، فإن الوقت شرط لكلتيهما، فإذا غربت الشمس بأداء ركعة أو ركعتين لم يبق الوقت المشروط لصحة الباقي، فكيف يمكن لهم القول بأن الصلاة تامة، إذ ليس ذلك إلا قولاً بعدم اشتراط الوقت، فعلى هذا يلزم عليهم جواز صلاة من شرع في الصلاة وثوبه نجس بقدر الدرهم أو دونه، ثم بعد أدائه ركعة وضع عليه رجل شيئاً نجساً ليس ذلك إلا أداء الصلاة على الكيفية التي التزمها، أو من أخذ في الصلاة وهو يدافعه الأخبثان، فلما قضى ركعة أو ركعتين بال أو تغوط، أو ليس نظير ما قالوا، فإنه أدى صلاته بعد الحدث على نحو مما التزمه. (إلى آخر ما قال وأطال في الرد عليهم) قلت: ويلزمهم أيضاً أن يقولوا بفساد صلاة العصر إذا شرع فيها في الجزء الصحيح الكامل أي قبل الاصفرار ومدها إلى أن غربت، مع أنها لا تكره عندهم فضلاً عن أن تفسد. وما اعتذروا عنه بعذر الخشوع والخضوع لا ينفع كما أقربه صاحب فيض الباري، فإن الاحتراز عن المد إلى غروب الشمس ليس مما يتعذر كما لا يخفى على المنصف غير المتعسف. واختار صاحب الكوكب في معنى الحديث ما ذهب إليه الأئمة الثلاثة من جواز الصلاتين العصر والصبح، وفراغ الذمة لمن صلى في هذين الوقتين، وإن لم يخل فعله ذلك من الكراهة، واعلم أن الحنفية قد عجزوا عن دفع إلزام العمل ببعض هذا الحديث وترك بعضه مع أن النقص قارن العصر ابتداء والفجر بقاء، ولذلك ذهب الطحاوي إلى عدم جواز عصر يومه كالفجر خلافاً لمذهب الحنفية. قال صاحب الفيض: إن الحديث لا يفرق بين الفجر والعصر، وظاهره موافق لما ذهب إليه الجمهور، وتفريق الحنفية باشتمال العصر على الوقت الناقص دون الفجر عمل بإحدى القطعتين وترك الأخرى بنحو من القياس، وذا لا يرد على الطحاوي، فإنه ذهب إلى النسخ بالكلية بالأحاديث الواردة في النهي عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها، إلا أن المعروف من مذهب الحنفية خلافه، فإنهم قائلون في العصر بصحتها كما في الحديث، قال: فلم أر جواباً شافياً عنه في أحد من كتب الحنفية بعد، ثم حمل هو هذا الحديث على المسبوق، وقال: إن المراد بالإدراك إدراك الجماعة لا إدراك الوقت، وإن الصلاة كلها في الوقت قبل الطلوع في الفجر، وقبل الغروب في العصر، ومعنى الحديث: من أدرك ركعة من الصبح مع الإمام وركعة أخرى بعد انصرافه، وكلتاهما في الوقت قبل الطلوع، وكذا في العصر أدرك
متفق عليه.
604-
(16) وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أدرك أحدكم سجدة من صلاة العصر قبل أن تغرب الشمس، فليتم صلاته. وإذا أدرك سجدة من صلاة الصبح قبل أن تطلع الشمس، فليتم صلاته)) رواه البخاري.
ــ
ركعة مع الإمام وثلاث ركعات بعد سلامه لكن الصلاة كلها وقعت في الوقت قبل الغروب، وهذا كما ترى تحريف للحديث وإبطال لمؤداه، لا توجيه له مع أنه يبطل شرحه ويهدمه، كما اعترف به هو ما تقدم من رواية البيهقي بلفظ: من أدرك من الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس، وركعة بعد ما تطلع الشمس، فقد أدرك الصلاة، هذا. وقد أطال الكلام في الجواب عن هذه الرواية وتقرير ما رامه من تحريف الحديث، وأتى بكلام كله تكلفات ودعاوي محضة، ونسبة الوهم وسوء الفهم والاختصار إلى الرواة من غير دليل وبرهان. واعلم أيضاً أن إدراك الركعة قبل خروج الوقت لا يختص بصلاة الفجر والعصر؛ لما ثبت عند الشيخين وغيرهما من حديث أبي هريرة مرفوعا بلفظ: من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة. وهو أعم من حديث الباب. قال الحافظ: ويحتمل أن تكون اللام عهدية، ويؤيده أن كلاً منهما من رواية أبي سلمة عن أبي هريرة، وهذا مطلق وذاك يعني حديث الباب مقيد فيحمل المطلق على المقيد – انتهى. ويمكن أن يقال أن حديث الباب دل بمفهومه على اختصاص ذلك الحكم بالفجر والعصر، وهذا الحديث دل بمنطوقه على أن حكم جميع الصلوات لا يختلف في ذلك، والمنطوق أرجح من المفهوم فيتعين المصير إليه، ولاشتماله على الزيادة التي ليست منافيه للمزيد، كذا في النيل. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً مالك وأحمد والترمذي وأبوداود والنسائي، وابن ماجه وغيرهم.
604-
قوله: (إذا أدرك أحدكم سجدة) أي ركعة كما ذكره المجد بن تيمية في المنتقى، ومسلم في صحيحه، وقد ثبت عند الإسماعيلي بلفظ "ركعة" مكان سجدة، فدل على أن الاختلاف في اللفظ وقع من الرواة، وقد تقدم الرواية بلفظ: من أدرك ركعة، قال الحافظ: ولم يختلف على راويها في ذلك، فكان عليها الاعتماد، قال الخطابي: المراد بالسجدة الركعة بركوعها وسجودها، والركعة إنما يكون تمامها بسجودها، فسميت على هذا المعنى سجدة – انتهى. (فليتم صلاته) أي ليكملها بالباقية، ويكون الكل أداء. (رواه البخاري) وأخرجه أيضاً أحمد والنسائي، وفي الباب عن عائشة عند أحمد ومسلم والنسائي وابن ماجه. ومناسبة هذا الحديث وما قبله لعنوان الباب غير ظاهرة، وإنما ذكرهما استطراداً، أو يقال: فيهما إشارة إلى أن من أخر الصلاة إلى آخر أجزاء وقتها بسبب السهو والنسيان أو النوم لا يكون مقصراً، ويصدق عليه أنه عجلها في الجملة حيث أداها قبل الفوت.
605-
(17) وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من نسي صلاة، أو نام عنها، فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها، وفي رواية: لا كفارة لها إلا ذلك)) متفق عليه.
606-
(18) وعن أبي قتادة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس في النوم تفريط،
ــ
605-
قوله: (من نسي صلاة) أي تركها نسياناً. (أو نام عنها) ضمن نام معنى غفل أي غفل عنها في حال نومه، قاله الطيبي. أو نام غافلاً عنها. (فكفارتها) هذا يدل على أنه لا يخلو عن تقصير ما يترك المحافظة، لكن يكفي في نحو تلك الخطيئة القضاء، وما سيجئ أنه لا تفريط في النوم فبالنظر إلى الذات. (أن يصليها إذا ذكرها) أي بعد النسيان أو النوم، وقيل: فيه تغليب للنسيان، فعبر بالذكر وأراد به ما يشمل الاستيقاظ، والأظهر أن يقال: أن النوم لما كان يورث النسيان غالباً قابلهما بالذكر. وظاهر الحديث أنه يصليها إذا ذكرها، أي وإن كان عند طلوع الشمس أو عند غروبها أو عند استواءها. وإليه ذهب مالك والشافعي وأحمد وإسحاق، فجعلوا هذا الحديث وما في معناه مخصصاً لأحاديث النهي عن الصلاة في هذه الأوقات الثلاثة. ووقع في رواية لغير الشيخين "فوقتها حين يذكرها لا وقت لها إلا ذلك"، وهذا يفيد أن ذلك وقتها أداء لا قضاء، فتكون أحاديث الباب مخصصة لما ورد من توقيت الصلاة وتعيين أوقاتها ابتداء وانتهاء، فيقال إلا الصلاة التي سها عنها المصلى أو نسيها أو نام عنها، فإن فعلها عند الذكر هو وقت أداءها ولو بعد خروج الوقت المضروب لتلك الصلاة، فإن حين التذكر والاستيقاظ هو وقت أدائها. (وفي رواية) أي للشيخين. قال الطيبي: أراد أنه زاد في رواية أخرى هذه العبارة، لا أن هذه الرواية بدل على الرواية السابقة؛ لأن اسم الإشارة يقتضي مشاراً إليه، وهو قوله: فليصلها إذا ذكرها. جيء بالثانية تأكيداً وتقريراً على سبيل الحصر، لئلا يتوهم أن لها كفارة غير القضاء. (لا كفارة لها إلا ذلك) قال الخطابي في المعالم: يريد أنه لا يلزمه في تركها غرم أو كفارة من صدقة أو نحوها كما تلزمه في ترك الصوم في رمضان من غير عذر الكفارة، وكما تلزم المحرم إذا ترك شيئاً من نسكه كفارة وجبران من دم أو طعام ونحوه. وقال الطيبي: يحتمل ذلك وجهين: أحدهما أنه لا يكفرها غير قضائها، والآخر أنه لا يلزمه في نسيانها غرامة ولا زيادة تضعيف ولا كفارة من صدقة ونحوها كما يلزم في ترك الصوم. (متفق عليه) أي بروايته إلا أن لفظ الرواية الأولى لفظ مسلم. والحديث أخرجه أيضاً أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه.
606-
قوله: (ليس في النوم) أي في حاله (تفريط) أي تقصير، ينسب إلى النائم في تأخيره الصلاة، وكذا في النسيان، ولم يذكر لأنه في معناه، ولهذا ذكره في التفريغ، وليس المراد أن نفس فعل النوم والمباشرة بأسبابه لا يكون فيه تفريط أي تقصير، فإنه قد يكون فيه تفريط إذا كان في وقت يقتضي فيه النوم إلى فوات الصلاة كالنوم قبل العشاء، وإنما المراد أن ما فات حالة النوم فلا تفريط في فوته فإنه فات بلا اختيار، وأما المباشرة بالنوم فالتفريط فيها تفريط حالة