الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(3) باب فضائل الصلاة
{الفصل الأول}
626-
(1) عن عمارة بن رويبة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لن يلج النار أحد صلى قبل
طلوع الشمس، وقبل غروبها. يعني الفجر والعصر))
ــ
موقوف. قال الحافظ: والذي ظهر لي باستقراء أنه لا يعبر بهذه الصيغة إلا إذا كان المتن موقوفاً، أو كان فيه راو ليس على شرطه، والذي هنا من قبيل الأول، وقد وصله الإسماعيلي، ورواه أبونعيم الأصبهاني. (باب فضائل الصلاة) كذا وقع في بعض النسخ، وفي بعضها "باب في فضل الصلوات في مواقيتها"، وفي بعضها "باب" لا غير، وهو بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هذا باب، ويجوز فيه الوقف على سبيل تعداد الكلمات فلا إعراب له حينئذٍ؛ لأن الإعراب لا يكون إلا بعد العقد والتركيب، قال ابن حجر: أي في متمات فضائل الصلوات وأوقاتها، ووقع في المصابيح فصل لا غير، قال ابن الملك: إنما أفرد هذا الفصل عما تقدم؛ لأن أحاديثه من جنس آخر-انتهى.
626-
قوله: (عن عمارة) بضم العين وتخفيف الميم. (بن رويبة) بضم الراء وفتح الواو وسكون التحتية بعدها موحدة. الثقفي، يكنى أبا زهير الكوفي. صحابي نزل الكوفة. له تسعة أحاديث، انفرد له مسلم بحديثين، تأخر إلى ما بعد السبعين. (لن يلج) أي لن يدخل. (النار) أي أصلاً للتعذيب، وقيل: أو على وجه التأبيد (صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها يعني الفجر والعصر) أي داوم على أدائهما، وخص الصلاتين بالذكر؛ لأن وقت الصبح وقت لذيذ السكرى والنوم. والقيام فيه أشق على النفس من القيام في غيره. ووقت صلاة العصر وقت قوة الاشتغال بالتجارة، وحينئذٍ يحمى البيع والشراء، فمن يتلهى عنه إلا من كمل دينه. قال تعالى. {رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة} [24: 37] ، والمسلم إذا حافظ عليهما مع ما فيه من التثاقل والشاغل كان الظاهر من حاله أن يحافظ على غيرهما أشد محافظة، وما عسى أن يقع منه تفريط، ولأن الوقتين مشهودان يشهدهما ملائكة الليل والنهار، ويرفعون فيهما أعمال العباد إلى الله تعالى، فبالحري أن من داوم عليهما لا يدخل النار أصلا، ويدخل الجنة لصيرورة ذلك مكفر الذنوب، وإن كان هذا ينافي ما عليه الجمهور من اختصاص كفارة الصلاة بالصغائر، ولكن فضل الله واسع، وقيل: خصتا بالذكر؛ لأن أكرم أهل الجنة على الله من ينظر إلى وجهه غدوة وعشية، كما في حديث ابن عمر عند أحمد والترمذي، وقوله صلى الله عليه وسلم: إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا، الخ. يدل على رؤية الله تعالى والنظر إلى وجهه قد يرجى نيله بالمحافظة على
رواه مسلم.
627-
(2) وعن أبي موسى، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من صلى البردين دخل الجنة)) متفق عليه.
628-
(3) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يتعاقبون
ــ
هاتين الصلاتين اللتين تؤديان طرفي النهار غدوة وعشية. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد وأبوداود والنسائي.
627-
(من صلى البردين) بفتح الموحدة وسكون الراء تثنية برد، قال البغوي: أراد بهما صلاة الفجر والعصر لكونهما في طرفي النهار، وقال الخطابي: سميتا بردين؛ لأنهما تصليان في بردي النهار، وهما طرفاه حين يطيب الهواء وتذهب سورة الحر- انتهى. قال التوربشتي: أراد به المحافظة على صلاتي الصبح والعصر لما في حديث فضالة بن عبيد (عند أبي داود والحاكم) : حافظ على العصرين، قال: وما كانت لغتنا، فقامت: وما العصران؟ قال: صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها. ومن المفهوم الواضح أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخصص هاتين الصلاتين تسهيلاً للأمر في إضاعة غيرهما من الصلوات، أو ترخيصاً لتأخيرها عن أوقاتها، وإنها أمر بأدائهما في الوقت المختار والمحافظة عليهما في جماعة لما فيهما من الفضل والزيادة في الأجر. قال: وهذا الذي ذكرناه من طريق المفهوم في تفسير هذا الحديث، فمعظمه مذكور في حديث فضالة، فإنه لما قال له النبي صلى الله عليه وسلم: حافظ على الصلوات، قال: إن هذه ساعات لي فيها أشغال، فمرني بأمر جامع إذا أنا فعلته أجزأ عني، فقال: حافظ على العصرين، وقد علم صلى الله عليه وسلم أنه إذا حافظ عليهما مع ما في وقتهما من الشواغل والقواطع لم يكن ليضيع غيرهما من الصلوات، والأمر في إقامة ذلك أيسر- انتهى. (دخل الجنة) أي دخولاً أولياً، وهو جواب الشرط وعدل عن الأصل وهو فعل المضارع كأن يقول: يدخل الجنة، إرادة للتأكيد في وقوعه يجعل ما سيقع كالواقع. (متفق عليه) في المحافظة على صلاتي الصبح والعصر أحاديث عن جماعة من الصحابة في الصحيحين وغيرهما، ذكرها المنذري في الترغيب، وعلي المتقي في الكنز، والهيثمي في مجمع الزوائد.
628-
قوله: (يتعاقبون) أي تأتي طائفة عقب طائفة، ثم تعود الأولى عقب الثانية، والواو في يتعاقبون لعلامة جمع الفاعل المذكر على لغة بلحارث، وليس بفاعل، فإن إظهار ضمير الجمع والتثنية في الفعل إذا تقدم جائز عندهم، وهم القائلون أكلوني البراغيث. قال القرطبي: هذه لغة فاشية، ولها وجه في القياس صحيح، وعليها حمل الأخفش قوله تعالى:{وأسروا النجوى الذين ظلموا} [21: 3] وقيل: فاعل "يتعاقبون" مضمر، تقديره ملائكة يتعاقبون، وقوله: ملائكة بالليل، بدل من الضمير الذي فيه، أو بيان، كأنه قيل: من هم؟ فقيل ملائكة. وقيل: "ملائكة بالليل" مبتدأ خبره"يتعاقبون فيكم" تقدم عليه لفظاً، هذا هو المشهور في مثله. ورد بأن في هذا الحديث وقع اختصار من الرواة، ففي رواية البخاري في بدء الخلق "الملائكة يتعاقبون ملائكة بالليل وملائكة بالنهار"، وحينئذٍ ففي سياقه هنا إضمار الفاعل، كأن الراوي اختصر المسوق هنا من المذكور في بدء الخلق، وأخرجه البزار، وابن خزيمة، والسراج من وجه آخر بلفظ: إن لله ملائكة
فيكم ملائكة في الليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم، فيسألهم ربهم- وهو أعلم بهم- كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون))
ــ
يتعاقبون. (فيكم) أي في المصلين. (ملائكة) هم الحفظة عند الأكثرين، وقال القرطبي: الأظهر عندي أنهم غيرهم، قال الحافظ: ويقويه أنه لم ينقل أن الحفظة يفارقون العبد، ولا أن حفظة الليل غير حفظة النهار، وبأنهم لو كانوا هم الحفظة لم يقع الاكتفاء في السؤال منهم عن حالة الترك دون غيرها في قوله: كيف تركتم عبادي؟ - انتهى. وتنكير ملائكة في الموضعين ليفيد أن الثانية غير الأولى كقوله تعالى: {غدوها شهر ورواحها شهر} [34: 12] . (ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر) أي في وقتهما. فإن قلت: التعاقب يغائر الاجتماع، أجيب بأن تعاقب الصنفين لا يمنع اجتماعهما؛ لأن التعاقب أعم من أن يكون معه اجتماع هكذا، أو لا يكون معه اجتماع كتعاقب الضدين، أو المراد حضورهم معهم الصلاة في الجماعة، فينزل على حالين، وتخصيص اجتماعهم معهم في الورود والصدور بأوقات العبادة تكرمة بالمؤمنين ولطفاً بهم؛ لتكون شهادتهم بأحسن الثناء وأطيب الذكر، ولم يجعل اجتماعهم معهم في حال خلواتهم بلذاتهم وانهماكهم على شهواتهم، فلله الحمد. (الذين باتوا فيكم) وفي رواية للنسائي: الذين كانوا فيكم، وهي أوضح لشمولها لملائكة الليل والنهار، وفي الأولى استعمال لفظ "بات" في الإقامة مجازاً، فلا تختص بليل دون نهار ولا نهار دون ليل، فكل طائفة منهم إذا صعدت سئلت، ويكون قوله "فيسألهم" أي كلا من الطائفتين في الوقت الذي يصعد فيه، والدليل على حمل بات على الإقامة رواية النسائي، بل قد وقع في حديث أبي هريرة هذا من وجه آخر عند ابن خزيمة في صحيحه مرفوعاً التصريح بسؤال كل من الطائفتين، ولفظه: تجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الفجر وصلاة العصر، فيجتمعون في صلاة الفجر، فتصعد ملائكة الليل وتثبت ملائكة النهار، ويجتمعون في صلاة العصر فتصعد ملائكة النهار وتبيت ملائكة الليل، فيسألهم ربهم كيف تركتم عبادي؟ الحديث. فهذه الرواية تزيل الإشكال وتغني عن كثير من الاحتمالات التي ذكرها الشراح، فهي المعتمدة ويحمل ما نقص منها على تقصير بعض الرواة. (فيسألهم) قيل: الحكمة فيه استدعاء شهادتهم لبني آدم بالخير واستنطاقهم بما يقتضي التعطف عليهم، وذلك لإظهار الحكمة في خلق الإنسان في مقابلة من قال من الملائكة:{أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك، قال إني أعلم مالا تعلمون} [2: 30] أي وقد وجد فيهم من يسبح ويقدس مثلكم بنص شهادتكم. وقال عياض: هذا السؤال على سبيل التعبد للملائكة، كما أمروا أن يكتبوا أعمال بني آدم، وهو سبحانه وتعالى أعلم من الجميع بالجميع. (وهو أعلم بهم) أي بالمصلين من الملائكة، فحذف صلة أفعل التفضيل. (كيف تركتم عبادي) وقع السؤال عن آخر الأعمال؛ لأن الأعمال بخواتيمها، قاله ابن أبي جمرة. (تركناهم وهم يصلون وأتيناهم) أي جئناهم ونزلنا عليهم. (وهم يصلون) لم يراعوا الترتيب الوجودي؛ لأنهم بدءوا بالترك قبل الإتيان، والحكمة فيه أنهم
متفق عليه.
629-
(4) وعن جندب القسري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
ــ
طابقوا السؤال؛ لأنه قال: كيف تركتم، ولأن المخبر به صلاة العباد والأعمال بخواتيمها، فناسب ذلك إخبارهم عن آخر عملهم قبل أوله، وقوله: تركناهم وهو يصلون، ظاهره أنهم فارقوهم عند شروعهم في العصر، سواء تمت أم منع مانع من إتمامها، وسواء شرع الجميع فيها أم لا؛ لأن المنتظر في حكم المصلي، ويحتمل أن يكون المراد بقوله "وهم يصلون" أي ينتظرون المغرب، وقال ابن التين: الواو في قوله "وهم يصلون" واو للحال أي تركناهم على هذه الحال، ولا يقال: يلزم منه أنهم فارقوهم قبل انقضاء الصلاة فلم يشهدوها معهم، والخبر ناطق بأنهم يشهدونها؛ لأنا نقول: هو محمول على أنهم شهدوا الصلاة مع من صلاها في أول وقتها، وشهدوا من دخل فيها بعد ذلك، ومن شرع في أسباب ذلك، فإن قيل: فما الفائدة في قولهم "وأتيناهم" وكان السؤال عن كيفية الترك؟ أجيب بأنهم أجابوا بأكثر مما سئلوا؛ لأنهم علموا أنه سؤال يستدعي التعطف على بني آدم فزادوا في الجواب إظهاراً لبيان فضيلة المصلين، وحرصاً على ذكر ما يوجب مغفرة ذنوبهم، كما هو وظيفتهم فيما أخبر الله عنهم:{ويستغفرون للذين آمنوا} . ووقع في صحيح ابن خزيمة في آخر هذا الحديث: فاغفر لهم يوم الدين، ويستفاد من الحديث أن الصلاة أعلى العبادات؛ لأنه عليها وقع السؤال والجواب. وفيه التنبيه على أن الفجر والعصر من أعظم الصلوات لكونهما تجتمع فيهما الطائفتان، وفي غيرهما طائفة واحدة، والإشارة إلى شرف الوقتين المذكورين، وقد ورد أن الرزق يقسم بعد صلاة الصبح، وأن الأعمال ترفع آخر النهار، فمن كان حينئذٍ في طاعة بورك له في رزقه وفي عمله، ويترتب عليه حكمة الأمر بالحافظة عليهما والاهتمام بهما. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الصلاة، وفي بدء الخلق، وفي التوحيد، ومسلم في الصلاة، وأخرجه أيضاً أحمد والنسائي وغيرهما.
629-
قوله: (وعن جندب) بضم أوله، والدال تفتح وتضم، هو جندب بن عبد الله بن سفيان البجلي ثم العلقي، يكنى أبا عبد الله، وربما نسب إلى جده، وصحابي، وقال البغوي عن أحمد: ليست له صحبة قديمة. مات بعد الستين، وتقدم ذكره. (القسري) بفتح القاف وسكون السين المهملة، قال القارئ: هو كذلك في جميع النسخ المقروأة المصححة الحاضرة من نسخ المشكاة، وقال التوربشتي: في سائر نسخ المصابيح: القشري بضم القاف والشين والمعجمة وهو غلط، نقله الطيبي- انتهى. وقال النووي: القسري هو بفتح القاف وإسكان السين المهملة، وقد توقف بعضهم في صحة قولهم القسري؛ لأن جندباً ليس من بني قسر إنما هو بجلي علقي، وعلقة بطن من بجيلة، هكذا ذكره أهل التواريخ والأنساب والأسماء، وقسر هو أخو علقة. قال القاضي: لعل لجندب حلفاً في بني قسر أو سكناً أو جواراً فنسب إليهم لذلك، أو لعل بني علقة ينسبون إلى بني عمهم قسر كغير واحدة من القبائل ينسبون بنسبة بني عمهم لكثرتهم أو شهرتهم- انتهى.
من صلى صلاة الصبح؛ فهو في ذمة الله، فلا يطلبكم الله من ذمته بشيء؛ فإنه من يطلبه من ذمته بشيء يدركه ثم يكبه على وجهه في نار جهنم)) رواه مسلم. وفي بعض النسخ المصابيح: القشيري. بدل القسري.
630-
(5) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول،
ثم لم يجدوا
ــ
(من صلى صلاة الصبح) أي في جماعة. (فهو في ذمة الله) أي في عهده أو في ضمانه، أو أمانه في الدنيا والآخرة، وهذا غير الأمان الذي ثبت بكلمة التوحيد. (فلا يطلبنكم الله) أي لا يؤاخذكم من باب لا أرينك، المراد نهيهم عن أذيته والتعرض لما يوجب مطالبة الله إياهم. (من ذمته) من بمعنى لأجل، والضمير في ذمته إما لله وإما لمن، والمضاف محذوف أي لأجل ترك ذمته (بشيء) أي يسير، وفي المصابيح: بشيء من ذمته. قيل: أي بنقض عهده بالتعرض لمن له ذمة بالأذى، أو المراد بالذمة الصلاة الموجبة للأمان، أي لا تتركوا صلاة الصبح فينتقض به العهد الذي بينكم وبين ربكم فيطلبكم به. (فإنه من يطلبه) بالجزم أي الله تعالى. (من ذمته) أي من أجل ذمته. (بشيء يدركه) بالجزم أي يأخذه الله. (ثم يكبه) بالرفع أي هو يكبه، وبالفتح عطفاً على يدركه، ويمكن أن يكون بالضم مجزوماً أيضاً، والمعنى لا تتعرضوا له بشيء ولو يسيراً، فإنكم إن تعرضتم له يدرككم الله ويكبكم في النار، قال الطيبي: وإنما خص صلاة الصبح لما فيها من الكلفة والمشقة، وأدائها مظنة خلوص الرجل ومئنة إيمانه أي علامته، ومن كان خالصاً كان في ذمة الله. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد (ج4: ص312، 313) والترمذي، وفي الباب عن ابن عمر عند أحمد، والبزار، والطبراني في الكبير، وعن أنس عند أبي يعلى، وعن أبي بكرة عند الطبراني في الكبير، وعن أبي مالك الأشجعي عن أبيه عند الطبراني أيضاً. (وفي بعض نسخ المصابيح القشيري) بضم الكاف وفتح المعجمة بعدها تحتية، قال القاري: وفي نسخة يعني من المشكاة القشري. (بدل القسري) وقد تقدم ضبطهما.
630-
قوله: (ما في النداء) أي الأذان، وقد روى بهذا اللفظ عند السراج. (والصف الأول) زاد أبوالشيخ في روايته: من الخير والبركة، وقال الطيبي: أطلق مفعول "يعلم" وهو"ما"ولم يبين الفضيلة ما هي؟ ليفيد ضرباً من المبالغة وأنه مما لا يدخل تحت الوصف، والإطلاق إنما هو في قدر الفضيلة، وإلا فقد بينت في الرواية الأخرى بالخير والبركة. قال القرطبي: اختلف في الصف الأول هل هو الذي يلي الإمام أو المكبر؟ والصحيح الأول. (ثم لم يجدوا) أي لم يجدوا شيئاً من وجوه الأولوية، أما في الأذان فبأن يستووا في معرفة الوقت وحسن الصوت ونحو ذلك من شرائط المؤذن وتكملاته، وأما في الصف الأول فبأن يصلوا دفعة واحدة ويستووا في الفضل فيقرع بينهم إذا لم يتراضوا فيما بينهم في
إلا أن يستهموا عليه، لاستهموا؛ ولو يعلمون ما في التهجير، لاستبقوا إليه؛ ولو يعلمون ما في العتمة
ــ
الحالين. (إلا أن يستهموا) أي بأن يقترعوا، والاستهام الاقتراع، يدل على هذا ما في رواية لمسلم: لكانت قرعة. قيل: سمي بذلك؛ لأنهم كانوا يكتبون أسماءهم على سهام إذا اختلفوا في الشيء، فمن خرج له منها سهم فاز بالحظ المقسوم وغلب. والتقدير إلا بالاستهام وطلب السهم بالقرعة عليه. (عليه) أي على ما ذكر ليشمل الأمرين الأذان والصف الأول، وقد رواه عبد الرزاق بلفظ: لاستهموا عليهما، فهذا مفصح بالمراد من غير تكلف، وقيل: عليه أي على السبق إليه أو على الاستحقاق فيهما. قال السندي: فيه تجهيل للمتساهلين في هذا الأمر، فلا يرد أنهم قد علموا بخبر الصادق وهم بسعة من تحصليه بلا استهام، ومع هذا لا يحصلونه، فكيف يصدق الخبر بأنهم لو علموا لاستهموا. (التهجير) أي التبكير إلى الصلاة مطلقاً أي صلاة كانت، قاله الهروي، وصوبه النووي، واختاره ابن عبد البر إذ قال: هو البدار إلى الصلاة أول وقتها، وحمله الخليل وغيره على ظاهره، فقالوا: المراد الإتيان إلى صلاة الظهر في أول الوقت؛ لأن التهجير مشتق من الهاجرة، وهي شدة الحر نصف النهار، وهو أول وقت الظهر، وإلى ذلك مال البخاري إذ بوب على هذا الحديث في جامعه الصحيح ترجمة بلفظ: باب فضل التهجير إلى الظهر. ولا يرد على ذلك مشروعية الإبراد؛ لأنه أريد به الرفق، وأما من ترك قائلته وقصد إلى المسجد لينتظر الصلاة فلا يخفى ماله من الفضل. (لاستبقوا إليه) أي سبق بعضهم بعضاً إليه لا بسرعة في المشي في الطريق فإنه ممنوع، بل بالخروج إليه والانتظار في المسجد قبل الآخر، قال ابن أبي جمرة: المراد بالاستباق معنى لا حساً؛ لأن المسابقة على الأقدام حساً تقتضي السرعة في المشي وهو ممنوع منه. والحديث يدل على استحباب القيام بوظيفة الأذان، والملازمة للصف الأول، والمسارعة إلى جماعة العشاء والفجر. (العتمة) أي صلاة العشاء الآخرة في الجماعة. فيه دليل على جواز تسمية العشاء بالعتمة، وقد استشكل الجمع بين هذا الحديث وبين حديث ابن عمر الآتي، فقال النووي وغيره: الجواب من وجهين: أحدهما أنه استعمل لبيان الجواز، وأن النهي عن العتمة للتنزيه لا للتحريم. والثاني أنه يحتمل أنه خوطب بالعتمة من لا يعرف العشاء فخوطب بما يعرفه، فهو لقصد التعريف لا لقصد التسمية، أو استعمل لفظ العتمة؛ لأنه أشهر عند العرب، وإنما كانوا يطلقون العشاء على المغرب كما سيأتي، فلو قال: لو يعلمون ما في الصبح والعشاء. لتوهموا أن المراد المغرب. قال الحافظ: وهو ضعيف؛ لأنه قد ثبت في نفس هذا الحديث: لو يعلمون ما في الصبح والعشاء، فالظاهر أن التعبير بالعشاء تارة، وبالعتمة تارة من تصرف الرواة. وقيل: إن النهي عن تسمية العشاء عتمة نسخ الجواز، وفيه نظر للاحتياج في مثل ذلك إلى التاريخ. قال الحافظ: ولا يبعد أن ذلك كان جائزاً، فلما كثر إطلاقهم له نهوا عنه لئلا تغلب السنة الجاهلية على السنة الإسلامية، ومع ذلك فلا يحرم ذلك بدليل أن الصحابة الذين رووا النهي استعملوا التسمية المذكورة، وأما استعمالها في مثل حديث أبي هريرة فلدفع الالتباس بالمغرب- انتهى.
والصبح، لأتوهما ولو حبواً)) متفق عليه.
631-
(6) وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس صلاة أثقل على المنافقين من الفجر والعشاء،
ولو يعلمون ما فيهما، لأتوهما ولو حبواً)) متفق عليه.
632-
(7) وعن عثمان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من صلى العشاء في جماعة؛ فكأنما قام نصف
الليل، ومن صلى الصبح في جماعة؛ فكأنما صلى الليل كله))
ــ
(والصبح) أي صلاة الصبح في الجماعة يعني من مزيد الفضل وكثرة الأجر. (لأتوهما) أي الصلاتين، والمراد المحل الذي يصليان فيه جماعة وهو المسجد. (ولو حبواً) أي ولو كان الإتيان حبواً أي زحفاً، وهو مشى الصبي على أربع أو دبيبه على إسته. وقيل: التقدير ولو كانوا حابين يعني يزحفون إذا منعهم مانع من المشي كما يزحف الصغير، ولابن أبي شيبة من حديث أبي الدرداء: ولو حبواً على المرافق والركب. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الصلاة، وفي الشهادات، ومسلم في الصلاة، وأخرجه أيضاً مالك وأحمد والنسائي، وأخرج الترمذي القطعة الأول فقط.
631-
قوله: (ليس صلاة أثقل) بالنصب خبر ليس. (على المنافقين) فيه دليل على أن الصلاة كلها ثقيلة على المنافقين، ومنه قوله تعالى:{ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى} [9: 54] وقوله: {إذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراؤن} [4: 142] . وإنما كانت العشاء والفجر أثقل عليهم من غيرهما لقوة الداعي إلى تركهما؛ لأن العشاء وقت السكون والاستراحة والشروع في النوم، والصبح وقت طعم النوم ولذته، والمقصود أن الكسل فيهما من عادة المنافقين، فمن كان مخلصاً في إيمانه فعليه أن يحترز من عادتهم. (ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما) أي لحضروا المسجد لأجلهما ولو مع كلفة، وفيه تنزيل من يعلم ولا يعمل بعلمه منزلة من لا يعلم، وإلا فكم ممن يعلم ذلك بخبر الشارع ولا يحضر بلا كلفة. (متفق عليه) واللفظ للبخاري، وأخرجه أيضاً ابن ماجه، وفي الباب عن أبيّ بن كعب عند أحمد، وأبي داود، والنسائي وغيرهم.
632-
قوله: (فكأنما قام نصف الليل) قال القرطبي: معناه أنه قام نصف ليلة لم يصل فيها العشاء في جماعة، إذ لو صلى ذلك في جماعة لحصل له فضلها وفضل القيام. وقال البيضاوي: نزل صلاة كل من طرفي الليل منزلة نوافل نصفه، ولا يلزم منه أن يبلغ ثواب من قام الليل كله؛ لأن هذا تشبيه مطلق مقدار الثواب، ولا يلزم من تشبيه الشيء بالشيء أخذه بجميع أحكامه، ولو كان قدر الثواب سواء لم يكن لمصلى العشاء والصبح جماعة منفعة في قيام الليل غير التعب-انتهى. (ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما صلى الليل كله) عبر ههنا بـ"صلى" وفيما سبق بـ"قام" تفنناً وإيماء إلى أن صلاة الليل تسمى قياما وظاهره يقتضي أن صلاة الفجر في الجماعة أفضل من صلاة العشاء في الجماعة، وأن فضلها في الجماعة ضعفا فضل العشاء في
رواه مسلم.
633-
(8) وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم
المغرب، قال: وتقول الأعراب: هي العشاء.
ــ
الجماعة، فمن صلى العشاء والفجر في جماعة كان له قيام ليلة ونصف، وهذا ينافي رواية الترمذي وأبي داود بلفظ: ومن صلى العشاء والفجر في جماعة كان كقيام ليلة. وأجيب بأن المراد بقوله: ومن صلى الصبح في جماعة، في رواية مسلم أي منضماً لصلاة العشاء جماعة، قاله المناوى. وقال الطيبي في شرح قوله فكأنما صلى الليل كله: أي بانضمام ذلك النصف، فكأنه أحي نصف الليل الأخير-انتهى. وقال المنذري في تلخيص السنن: اللفظ الذي أخرجه أبوداود تفسير لفظ مسلم، ويبين أن المراد بقوله: ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما صلى الليل كله، يعني ومن صلى الصبح والعشاء، وطرق هذا الحديث مصرحة بذلك، وأن كل واحد منهما يقوم مقام نصف ليلة، وأن اجتماعهما يقوم مقام ليلة. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد، والترمذي، وأبوداود، وأخرجه مالك موقوفاً على عثمان من قوله.
633-
قوله: (لا يغلبنكم) بالتحتية، وروي بالفوقية أيضاً. (الأعراب) هم سكان البوادي خاصة، والمراد أعراب الجاهلية. (على اسم صلاتكم المغرب) بالجر، صفة للصلاة، ويجوز رفعه على أنه خبر المبتدأ أي هي، ونصبه بتقدير أعني، وإنما شرع لها التسمية بالمغرب؛ لأنه اسم يشعر بمسماها، وبابتداء وقتها. قيل: معنى الغلبة أنكم تسمونها أسماء، وهم يسمونها أسماء، فإن سميتموها بالاسم الذي يسمونها به وافقتموهم، وإذا وافق الخصم خصمه صار كأنه انقطع له حتى غلبه، والمقصود النهي عن تسمية المغرب بالعشاء كما تفعل الأعراب، فإنه إذا وقعت الموافقة لهم فقد غلبتهم الأعراب عليها، إذ من رجع إليه خصمه فقد غلبه، وقد اختلف في علة النهي، فقيل: إن لفظ العشاء لغة هو أول ظلام الليل، وذلك من غيبوبة الشفق، فلو قيل للمغرب عشاء لأدى إلى أن أول وقتها غيبوبة الشفق، وقيل: هي خوف التباس المغرب بالعشاء، وعلى هذا لا يكره أن يقال للمغرب العشاء الأولى، ويؤيده قولهم: العشاء الآخرة، كما ثبت في الصحيح، وكذا لا يكره تسمية المغرب عشاء على سبيل التغليب، كمن قال مثلا: صليت العشاءين. لزوال اللبس في الصيغتين المذكورتين، وقيل: العلة الجامعة أن تسميتها بالعشاء مخالفة لإذن الله، فإنه سمى الأولى المغرب والثانية العشاء، وقيل غير ذلك، والله أعلم. (قال: وتقول الأعراب) قد جزم الكرماني أن فاعل "قال" هو عبد الله بن مغفل المزني الصحابي راوي الحديث، على ما في صحيح البخاري. قال الحافظ: ويحتاج إلى نقل خاص لذلك، وإلا فظاهر إيراد الإسماعيلي أنه من تتمة الحديث، فإنه أورده بلفظ: فإن الأعراب تسميها، والأصل في مثل هذا أن يكون كلاماً واحداً حتى يقوم دليل على إدراجه-انتهى. (هي) أي المغرب. (العشاء) ؛ لأن العشاء، لغة: أول ظلام الليل.
634-
(9) وقال: ((لا يغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم العشاء فإنها في كتاب الله العشاء، فإنها
تعتم بحلاب الإبل)) رواه مسلم.
ــ
634-
قوله: (وقال) أي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم العشاء) قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: المعنى فيه أن العادة أن العظماء إذا سموا شيئاً باسم فلا يليق العدول عنه إلى غيره؛ لأن ذلك تنقيص لهم. ورغبة عن صنيعهم، وترجيح لغيره عليه، وذلك لا يليق، والله سبحانه وتعالى سماها في كتابه العشاء في قوله:{ومن بعد صلاة العشاء} [24: 58] فيقبح بعد تسمية ذي الجلال والإكرام العدول إلى غيره، انتهى. والحديث يدل على كراهة تسمية العشاء العتمة، وقد ذهب إلى ذلك ابن عمر راوي الحديث. ومنهم من أطلق جوازه، نقله ابن أبي شيبة عن أبي بكر الصديق وغيره، ومنهم من جعله خلاف الأولى، نقله ابن المنذر عن مالك، والشافعي، واختاره، واليه ذهب البخاري حيث قال في صحيحه: والاختيار أن يقول العشاء؛ لقوله تعالى. {من بعد صلاة العشاء} قال الحافظ: وهو الراجح. قلت: قد تقدم وجه التوفيق بين حديث ابن عمر هذا وبين الحديث السابق عن أبي هريرة، فتذكر. وقال السندي: قوله: فلا تغلبنكم الأعراب، الخ. أي الإسم الذي ذكر الله تعالى لهذه الصلاة اسم العشاء، والأعراب يسمونها العتمة، فلا تكثروا استعمال ذلك الاسم لما فيه من غلبة الأعراب عليكم، بل أكثروا استعمال اسم العشاء موافقة للقرآن، فالمراد النهي عن إكثار اسم العتمة لا عن إستعماله أصلاً، فاندفع ما يتوهم من التنافي بين أحاديث المنع والثبوت في استعمالاته صلى الله عليه وسلم انتهى. (فإنها في كتاب الله العشاء) الفاء فيه علة للنهي، وفي قوله:(فإنها تعتم) علة للتسمية، أي لا يغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم العشاء؛ لأن اسمها في كتاب الله العشاء، وهم يسمونها بالعتمة؛ لأنها تعتم. (بحلاب الإبل) بكسر الحاء، أي بسبب حلبها، فالباء للسببية. قال ابن الملك: قوله: فإنها تعتم، روى مجهولاً فالضميران للصلاة، ومعلوماً فهما للأعراب. وقال السيد: تعتم معروف لرواية: فإنهم يعتمون بالإبل، ويجوز كونه مجهولاً، والضمير للصلاة- انتهى. قلت: رواه ابن ماجه بلفظ: وإنهم ليعتمون بالإبل، وعند النسائي: فإنهم يعتمون على الإبل، قال السندي: من أعتم إذا دخل في العتمة وهي الظلمة، وعلى بمعنى اللام، أي يؤخرون الصلاة ويدخلون في ظلمة الليل بسبب الإبل وحلبها انتهى. وقيل: كانوا يؤخرون الحلاب إلى الظلمة، ويسمون ذلك الوقت العتمة، فهو من باب تسمية الشيء باسم وقته. (رواه مسلم) فيه نظر فإنه يوهم أنه حديث واحد من رواية ابن عمر، وأنه عند مسلم بهذا التمام، وليس كذلك، فإن الجملة الأولى مروية في صحيح البخاري من حديث عبد الله بن مغفل المزني عن النبي صلى الله عليه وسلم في باب من كره أن يقال للمغرب العشاء، وهي كما ترى في صلاة المغرب. قال ميرك: قال صاحب التخريج: ولم أره في غير البخاري، وكذا قال الشيخ الجزري، رواه البخاري من حديث عبد الله بن مغفل. قلت: الحديث من إفراد البخاري، كما قال العيني ثم القسطلاني، وذكره الشيخ عبد الغني النابلسي في ذخائر المواريث في مسند عبد الله بن مغفل، وعزاه للبخاري فقط، وهو يدل على أنه لم يروه
635-
(10) وعن علي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم الخندق: ((حبسونا عن صلاة الوسطى:
ــ
من أصحاب الكتب الستة إلا البخاري وحده، وقد أخرجه أحمد في مسنده (ج5: ص55) وأبونعيم في مستخرجه، وابن خزيمة في صحيحه، وأما الجملة الثانية أي قوله "لا يغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم العشاء" الخ. فهي في صلاة العشاء لا في صلاة المغرب، وهي مما تفرد به مسلم عن البخاري، وأخرجه أيضاً أحمد (ج2: ص10، 18، 49، 144) وأبوداود والنسائي وابن ماجه كلهم من حديث ابن عمر، ولم يخرج البخاري في هذا شيئاً، وتوهم صاحب المشكاة أن الجميع حديث واحد مروي عن ابن عمر عند مسلم، ولم أقف على منشأ توهمه، فإن محي السنة أورد الجملة الأولى في المصابيح، وقال عقبها: رواه عبد الله المزني، ثم أورد الجملة الثانية أي الحديث الثاني، وقال في آخره: رواه ابن عمر. على ما في أيدينا من نسخة المصابيح المطبوعة بمصر، وقال ميرك: ومنشأ توهم صاحب المشكاة أن محي السنة أودر الحديثين في المصابيح: أحدهما عقيب الآخر، وقال في الآخر: رواه ابن عمر، فظن المصنف أنه حديث واحد مروي عن ابن عمر فوقع فيما وقع، والله أعلم. قلت: هذا يدل على اختلاف نسخ المصابيح في ذكر قوله: رواه عبد الله المزني.
635-
قوله: (يوم الخندق) وهو يوم الأحزاب، وكان في شوال سنة أربع من الهجرة، قاله موسى بن عقبة، واختاره البخاري، وقيل: سنة خمس، وعليه كثيرون. وسميت الغزوة بالخندق لأجل الخندق الذي حفر بأمره صلى الله عليه وسلم حول المدينة لما أشار به سلمان الفارسي، فإنه من مكايد الفرس دون العرب. وعمل فيه عليه الصلاة والسلام بنفسه ترغيباً للمسلمين، فإنهم قاسوا في حفره شدائد، منها شدة الجوع، والبرد، وكثرة الحفر، والتعب، وأقاموا في عمل الحفر عشرين ليلة، أو خمسة عشر يوماً، أو أربعاً وعشرين، أو شهراً على أقوال. وسميت بالأحزاب لاجتماع طوائف من المشركين: قريش، وغطفان، وبني أسد، وبني سليم، وبني سعد، واليهود، على حرب المسلمين، وهم كانوا ثلاثة آلاف، والمشركون عشرة آلاف، وقيل: أربعة وعشرون ألفاً. (حبسونا) أي منعونا وشغلونا عن فعل الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس، وكان ذلك قبل نزول صلاة الخوف. (عن صلاة الوسطى) بإضافة الصلاة إلى الوسطى، وهو من باب قول الله تعالى:{وما كنت بجانب الغربي} [28: 44] وفيه المذهبان المعروفان: مذهب الكوفيين جواز إضافة الموصوف إلى صفته، ومذهب البصريين منعه، ويقدرون فيه محذوفاً، وتقديره هنا: عن صلاة الصلاة الوسطى، أي عن فعل الصلاة الوسطى، وهي تأنيث الأوسط كالفضلى تأنيث الأفضل، والأوسط الأعدل من كل شيء، قال أعرابي يمدح النبي صلى الله عليه وسلم:
يا أوسط الناس طرا في مفاخرهم
…
وأكرم الناس أماً برة وأباً
وقال تعالى: {قال أوسطهم} [68: 28] أي أفضلهم وليست من الوسط الذي معناه المتوسط بين شيئين؛ لأن فعلى أفعل التفضيل، ولا يبنى منه إلا ما يقبل الزيادة والنقصان، والوسط بمعنى العدل والخيار يقبلهما، بخلاف المتوسط بين الشيئين فإنه لا يقبلهما، فلا يبنى منه أفعل التفضيل، قاله القسطلاني، ورجح الرازي في تفسيره كونه من التوسط بين الشيئين، وقال: المراد من الوسطى ما تكون وسطى في العدد لا ما تكون وسطى بسبب الفضيلة-انتهى. وذكره الزمخشري
صلاة العصر، ملأ الله بيوتهم وقبورهم ناراً)) متفق عليه.
ــ
وابن العربي القولين على احتمال (صلاة العصر) بالجر بدل من صلاة الوسطى، أو عطف بيان لها. والحديث نص في أن الصلاة الوسطى هي العصر، وقد اختلف الناس في تعيين الوسطى على أكثر من عشرين قولاً، أشهرها ثلاثة: أحدها أنها الصبح، قال به مالك والشافعي. والثاني: أنها الظهر، قال به زيد بن ثابت، وعروة. والثالث: أنها العصر، ذهب إليه أكثر علماء الصحابة وجمهور التابعين وأكثر أهل الأثر، قاله الترمذي والبغوي والماوردي وابن عبد البر والطيبي، وهو مذهب أحمد، وأبي حنيفة. واحتجوا بالأحاديث الصحيحة الصريحة، ذكرها الحافظ في الفتح، وابن كثير في تفسيره والمجد بن تيمية في المنتقى، منها حديث علي هذا، ولا يساويه سائر الأحاديث، والآثار الدالة على خلاف ذلك، فهو أصح الأقوال في ذلك، والمذهب الحق الذي يتعين المصير إليه، قال النووي: الذي يقتضيه الأحاديث الصحيحة أنها العصر وهو المختار. وقال الحافظ: كونها العصر هو المعتمد. (ملأ الله) دعاء عليهم، وأخرجه في صورة الخبر تأكيداً وإشعاراً بأنه من الدعوات المجابة سريعاً، وعبر بالماضي ثقة بالاستجابة فكأنه أجيب سؤاله فأخبر عن وجود إجابته ووقوعها. (بيوتهم وقبورهم ناراً) قال الأشرف: خصهما بالذكر؛ لأن أحدهما مسكن الأحياء والآخر مضجع الأموات، أي جعل النار ملازمة لهم بحيث لا تنفك عنهم لا في حياتهم ولا في مماتهم. قال الطيبي: دعا عليهم بعذاب الدارين من خراب بيوتهم في الدنيا بنهب أموالهم، وسبى ذراريهم، وهدم دورهم، ومن عقاب في الآخرة باشتعال قبورهم ناراً-انتهى. قال الحافظ: وقد استشكل هذا الحديث بأنه تضمن دعاء صدر من النبي صلى الله عليه وسلم على من يستحقه، وهو من مات منهم مشركاً، ولم يقع أحد الشقين وهو البيوت، أما القبور فوقع في حق من مات منهم مشركاً لا محالة، ويجاب بأن يحمل على سكانها، وبه يتبين رحجان الرواية بلفظ: قلوبهم أو أجوافهم أي بدل بيوتهم-انتهى. واعلم أنه وقع في هذا الحديث أن الصلاة الفائتة كانت صلاة العصر، وظاهره أنه لم يفت غيرها، وفي المؤطا: أنها الظهر والعصر، وفي غيره: أنه أخر أربع صلوات: الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء حتى ذهب هوى من الليل، وطريق الجمع بين هذه الروايات أن وقعة الخندق بقيت أياماً، فكان هذا في بعض الأيام، وهذا في بعضها. (متفق عليه) أي على أصل الحديث، وإلا فقوله "صلاة العصر" ليس عند البخاري، قد تفرد به مسلم، قال الزيلعي في نصب الراية (ج2: ص200) وظيفة المحدث أن يبحث عن أصل الحديث فينظر من خرجه، ولا يضره تغير بعض ألفاظه، ولا الزيادة فيه ولا النقص. والحديث أخرجه البخاري في الجهاد، والمغازي، والتفسير، والدعوات، ومسلم في الصلاة، وأخرجه أيضاً أحمد، والترمذي، وأبوداود، والنسائي، وابن ماجه، وغيرهم.