الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أتى بلالاً وهو قائم يصلي فأضجعه، ثم لم يزل يهدئه كما يهدأ الصبي حتى نام. ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالاً، فأخبر بلال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل الذي أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر، فقال أبوبكر: أشهد أنك رسول الله)) رواه مالك مرسلاً.
693-
(9) وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خصلتان معلقتان في أعناق المؤذنين للمسلمين: صيامهم وصلاتهم)) رواه ابن ماجه.
(7) باب المساجد ومواضع الصلاة
{الفصل الأول}
ــ
أو الشيطان الكبير. (فأضجعه) أي أسنده لما تقدم في الحديث السابق، ويمكن أنه اضطجع في هذه القضية على أنها غير القضية الأولى. (يهدئه) من الإهداء، أي يسكنه وينومه، من أهدأت الصبي إذا أسكنته بأن تضرب كفك لينًا عليه حتى يسكن وينام. قال الجزري في النهاية: الهدو السكون عن الحركات من المشي والاختلاف في الطريق. (كما يهدأ) بالنباء للمفعول. (ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالاً) أي فسأله عن سبب نومه وعدم إيقاظه إياهم. (فأخبر بلال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل الذي أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبابكر) الخ. قال الطيبي: في الحديث إظهار معجزة، ولذا صدقه الصديق رضي الله عنه بالشهادة. (رواه مالك مرسلاً) لما أن زيد بن أسلم تابعي، ولم يذكر الصحابي. وهذا الحديث وإن كان مرسلاً عند جميع رواة الموطأ لكن روي معناه متصلاً من وجوه صحيحه كما تقدم.
693-
قوله: (معلقتان) صفة لخصلتان وقوله "للمسلمين" خبر، وقوله: صيامهم وصلاتهم. بيان للخصلتين أو بدل منه، شبهت حال المؤذنين وإناطة الخصلتين للمسلمين بحال الأسير الذي في عنقه ربقة الرق لا يخلصه منها إلا المن والفداء، قاله الطيبي. (في أعناق المؤذنين) أي ثابتتان في ذمتهم ليحفظوهما (صيامهم وصلاتهم) فالصيام ابتداء وانتهاء مما يتعلق بالأذان، والصلاة يعرف وقتها به. (رواه ابن ماجه) قال القاري: وسنده حسن. وفيه نظر؛ لأن في سنده بقية بن الوليد وهو مدلس رواه بالعنعنة عن مروان بن سالم الغفاري الجزري، وهو متروك، ورماه الساجي وغيره بالوضع كذا في التقريب.
(باب المساجد ومواضع الصلاة) تعميم بعد تخصيص أو عطف تفسير، والمسجد لغة محل السجود، وشرعاً المحل الموقوف للصلاة فيه.
694-
(1) عن ابن عباس، قال:((لما دخل النبي صلى الله عليه وسلم البيت، دعا في نواحيه كلها ولم يصل حتى خرج منه، فلما خرج ركع ركعتين في قبل الكعبة، وقال: هذه القبلة))
ــ
694-
قوله: (البيت) أي الكعبة وهو بيت الله الحرام. (دعا في نواحيه) أي جوانبه جمع ناحية وهي الجهة. (كلها) وفي رواية فكبر فيها. وفيه دليل على استحباب الدعاء والتكبير في الكعبة، ولا خلاف فيه لأحد. (ولم يصل) أي في البيت. وفي حديث ابن عمر الذي بعده عن بلال: أنه صلى فيه، فأثبت بلال صلاته صلى الله عليه وسلم في الكعبة، وابن عباس نفاها، وقد أجمع أهل الحديث على الأخذ برواية بلال، وتقديم إثباته على نفي غيره لأمرين: أحدهما أن بلالاً كان معه صلى الله عليه وسلم يومئذٍ ولم يكن معه ابن عباس، وإنما استند في نفيه تارة إلى أسامة وتارة إلى أخيه الفضل مع أنه لم يثبت أن الفضل كان معهم إلا في رواية شاذة، وقد روى مسلم عن أسامة نفي الصلاة في الكعبة من طريق ابن عباس كما سيأتي التصريح به من المصنف، ووقع إثبات صلاته فيها عن أسامة من رواية ابن عمر عند أحمد وغيره. فتعارضت الرواية في ذلك عنه، فترجح رواية بلال من جهة أنه مثبت ومعه زيادة علم، وغيره نافٍ. ومن جهة أنه لم يختلف فيه في الإثبات، واختلف على من نفي، ويمكن الجمع بين روايتي أسامة المثبتة والنافية بأنه حيث أثبتها اعتمد في ذلك على خبر غيره، وحيث نفاها أراد ما في علمه لكونه لم يره صلى الله عليه وسلم حين صلى فيها. وقال النووي: يجب ترجيح رواية بلال؛ لأنه مثبت فمعه زيادة علم، وأما نفي أسامة فسببه أنهم لما دخلوا الكعبة أغلقوا الباب واشتغلوا بالدعاء، فرأى أسامة النبي صلى الله عليه وسلم يدعو فاشتغل أسامة بالدعاء في ناحية، والنبي صلى الله عليه وسلم في ناحية، ثم صلى النبي صلى الله عليه وسلم في ناحية فرأه بلال لقربه منه ولم يره أسامة لبعده واشتغاله بالدعاء، ولأن بإغلاق الباب تكون الظلمة مع احتمال أن يحجبه عنه بعض الأعمدة فنفاها عملاً بظنه، وأما بلال فحققها فأخبر بها. وقيل يحتمل أن يكون أسامة غاب عنه بعد دخوله لحاجة لم يشهد صلاته، ويشهد له ما رواه أبوداود الطيالسي في مسنده عن أسامة، قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم الكعبة فرأى صوراً، فدعا بدلو من ماء فأتيته به فضرب به الصور. قال القرطبي: فلعله استصحب النفي لسرعة عوده. وقيل: إنه صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة مرتين، مرة صلى، ومرة دعا وكبر ولم يصل، وقال ابن حبان: الأشبه عندي في الجمع أن يجعل الخبران في وقتين، فيقال: لما دخل الكعبة في الفتح صلى فيها على ما رواه ابن عمر عن بلال، ويجعل نفي ابن عباس الصلاة في الكعبة في حجته التي حج فيها؛ لأن ابن عباس نفاها وأسنده إلى أسامة، وابن عمر أثبتها وأسند إثباته إلى بلال وإلى أسامة أيضاً، فإذا حمل الخبر على ما وصفنا بطل التعارض. (ركع ركعتين) أي صلى فأطلق الجزء وأراد به الكل. (في قبل الكعبة) بضم القاف والموحدة وقد تسكن، أي مقابلها أو ما استقبلك منها وهو وجهها الذي فيه الباب وهذا موافق لرواية ابن عمر عند البخاري فصلى في وجه الكعبة ركعتين. (هذه) أي الكعبة. (القبلة) التي استقر الأمر على استقبالها فلا تنسخ إلى غيرها كما نسخ بيت المقدس،
رواه البخاري.
695-
(2) ورواه مسلم عنه، عن أسامة بن زيد.
696-
(3) وعن عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما، ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة هو وأسامة بن
زيد، وعثمان بن طلحة الحجبي،
ــ
فالمراد بذلك تقرير حكم الانتقال عن بيت المقدس، وقيل: المراد أن حكم من شاهد البيت وجوب مواجهة عينه جزماً بخلاف الغائب، وقيل: المراد أن الذي أمرتم باستقباله ليس هو الحرام كله ولا مكة ولا المسجد الذي حول الكعبة بل الكعبة نفسها، وقيل: الإشارة إلى وجه الكعبة علمهم بذلك سنة موقع الإمام في وجهها دون أركانها وجوانبها الثلاثة وإن كان الكل جائزاً. (رواه البخاري) في الصلاة، وفي المناسك، وفي ذكر الأنبياء، وفي المغازي مطولاً ومختصراً. وأخرجه مسلم والنسائي في المناسك مختصراً، ولفظه عند مسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة وفيه ست سوار، فقام عند كل سارية فدعا ولم يصل. وحديث ابن عباس هذا من مراسيل الصحابة؛ لأنه لم يكن معهم، وأسنده عن غيره ممن دخل مع النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة فيكون مرسلاً.
695-
قوله: (ورواه مسلم عنه) أي عن ابن عباس في المناسك. (عن أسامة بن زيد) وأخرجه أيضاً النسائي في المناسك. وأسامة هذا هو أسامة بن زيد بن حارثة بن شراحيل الكلي الأمير أبومحمد، ويقال: أبوزيد، وأمه أم أيمن واسمها بركة، وهي حاضنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت مولاة لأبيه عبد الله بن عبد المطلب، وأسامة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن مولاه، وحبه وابن حبه، قبض النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن (20) سنة، وقيل:(18) سنة، ونزل وادي القرى، وتوفى به بعد قتل عثمان (رض) . وقيل: سكن المزة مدة ثم انتقل إلى المدينة فمات سنة (54) وهو ابن (75) سنة. استعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم على جيش فيه أبوبكر (رض) وعمر (رض) فلم ينفذ حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعثه أبوبكر إلى الشام. له مائة وثمانية وعشرون حديثاً، اتفقا على خمسة عشر، وانفرد كل منهما بحديثين، روى عنه جماعة.
696-
قوله: (دخل الكعبة) يوم فتح مكة كما وقع مبينا عند البخاري في الجهاد. (وأسامة بن زيد) برفع أسامة على العطف. (وعثمان بن طلحة) بن أبي طلحة بن عبد العزى بن عبد الدار ين بن قصى بن كلاب العبدري، أسلم في الهدنة بعد عمرة القضاء وهاجر مع خالد بن الوليد، ثم سكن مكة إلى أن مات بها سنة (42) وقيل: قتل بأجنادين وأدخله الكعبة لئلا يتوهم الناس عزله عن سدانة البيت وحجابته. (الحجبي) بفتح المهملة والجيم، ويقال لآل بيته الحجبة لحجبهم الكعبة، ويعرفون الآن بالشيبيين نسبة إلى شيبة بن عثمان بن أبي طلحة، وذلك أن عثمان بن طلحة بن أبي طلحة لم يزل بلى فتح البيت إلى أن توفي فدفع إلى شيبة بن عثمان بن أبي طلحة وهو ابن عم عثمان هذا لا ولده، فبقيت الحجابة في بني شيبة، ولشيبة هذا أيضاً
وبلال بن رباح، فأغلقها عليه، ومكث فيها، فسألت بلالاً حين خرج: ماذا صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: جعل عموداً عن يساره، وعمودين عن يمينه، وثلاثة أعمدة وراءه، وكان البيت يومئذٍ على ستة أعمدة، ثم صلى))
ــ
صحبة ورواية، قتل أبوه يوم أحد كافراً، وأسلم شيبة بعد الفتح، وكان ممن صبر بحنين مع النبي صلى الله عليه وسلم. قال مصعب الزبيري دفع النبي صلى الله عليه وسلم المفتاح إليه وإلى عثمان بن طلحة فقال: خذوها يا بني أبي طلحة خالدة تالدة لا يأخذها منكم إلا ظالم. مات شيبة سنة (59) . (وبلال بن رباح) بفتح الراء مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم وخادم أمر صلاته، وأدخل النبي صلى الله عليه وسلم معه أسامة وبلالاً لملازمتهما خدمته. (فأغلقها) أي الكعبة يعني بابها، والفاعل عثمان كما وقع التصريح به في رواية لمسلم، ووقع في الموطأ بلفظ "فأغلقاها" فالضمير لعثمان وبلال، وفي رواية للشيخين "فأغلقوا" والجمع بين الروايات أن عثمان هو المباشر لذلك؛ لأنه من وظيفته، وأما ضم بلال فلعله ساعده في ذلك، ورواية الجمع يدخل فيها الآمر بذلك والراضي به. (عليه) أي على النبي صلى الله عليه وسلم، وفي رواية "عليهم" وهو ظاهر، وإنما أغلق الباب لئلا يزدحم الناس عليه لتوفر دواعيهم على مراعاة أفعاله ليأخذوها عنه، أو ليكون ذلك أسكن لقلبه، وأجمع لخشوعه، وقيل: لئلا يكثر الناس فيصلوا بصلاته، ويكون ذلك عندهم من المناسك كما فعل في صلاة الليل في رمضان. واستدل البخاري بحديث ابن عمر هذا على جواز اتخاذ الغلق للمساجد لأجل صونها عما لا يصلح فيها، ولأجل حفظ ما فيها من الأيدي العادية. (ومكث) بضم الكاف وفتحها أي توقف. (ماذا صنع) أي داخل البيت. (جعل عموداً عن يساره، وعمودين عن يمينه، وثلاثة أعمدة وراءه، وكان البيت يومئذٍ على ستة أعمدة) كذا في هذه الرواية ولا إشكال فيها. ووقع في رواية للبخاري: جعل عموداً عن يساره، وعموداً عن يمينه، وثلاثة أعمدة وراءه، وكان البيت يومئذٍ على ستة أعمدة. ولا يخفى ما فيها من الإشكال إذ في قوله: وكان البيت يومئذٍ على ستة أعمدة، إشعار بكون ما عن يمينه أو يساره اثنين. وأجيب بأن التثنية بالنظر إلى ما كان عليه البيت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، والإفراد بالنظر إلى ما صار إليه بعد، ويؤيده قوله "وكان البيت يومئذٍ"؛ لأن فيه إشعاراً بأنه تغير عن هيئته الأولى. أو يقال لفظ العمود جنس يحتمل الواحد والاثنين، فهو مجمل بيّنته رواية عمودين، أو لم تكن الأعمدة الثلاثة على سمت واحد بل عمودان متسامتان والثالث على غير سمتهما، ولفظ المقدمين في الرواية الأخرى ليشعر به، أو كان هناك ثلاثة أعمدة مصطفة فصلى إلى جنب الأوسط، فمن قال: جعل عموداً عن يمينه وعموداً عن يساره، لم يعتبر الذي صلى إلى جنبه، ومن قال: عمودين اعتبره. وقوله: كان البيت يومئذٍ على ستة أعمدة. إخبار عما كان عليه البيت قبل أن يهدم، ويبنى في زمن ابن الزبير، وأما الآن فعلى ثلاثة أعمدة. (ثم صلى) أي متوجهاً إلى الجدار الغربي المقابل للجدار الشرقي الذي فيه الباب تقريباً بينه صلى الله عليه وسلم وبين الجدار الغربي ثلاثة أذرع. وفي الحديث مشروعية الدخول في الكعبة واستحبابه، وفيه استحباب الصلاة فيها، وهو ظاهر في النفل، ويلتحق به الفرض إذا لا فرق بينهما
متفق عليه.
697-
(4) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((صلاة في مسجدي هذا
ــ
في الاستقبال للمقيم، وهو قول الجمهور، ومنع منه مالك لقوله:{فولوا وجوهكم شطره} [2: 144] أي قبالته، ومن فيه مستدبر لبعضه، ولم يثبت أنه صلى الله عليه وسلم صلى الفرض داخله، وإن ثبت أنه صلى النفل، إذ يسامح في النافلة ما لا يسامح في الفريضة. (متفق عليه) فيه أن قوله: جعل عموداً عن يساره وعمودين عن يمينه من إفراد البخاري: ولفظ مسلم: جعل عمودين عن يساره، وعموداً عن يمينه، عكس رواية البخاري، فنسبة المصنف للرواية التي ذكرها هو إلى الشيخين فيه نظر، اللهم! إلا أن يقال: أن مراد المصنف اتفاق الشيخين على أصل الحديث. وجمع بعرض المتأخرين بين هاتين الروايتين باحتمال تعدد الواقعة. قال الحافظ: وهو بعيد لاتحاد مخرج الحديث، وقد جزم البيهقي بترجيح رواية البخاري.
697-
قوله: (صلاة) التنكير للوحدة أي صلاة واحدة فرضاً كانت أو نفلاً، فالتضعيف المذكور في الحديث لا يختص بالفرض بل يعم النفل أيضاً. وقال الطحاوي: إن ذلك مختص بالفرائض لقوله صلى الله عليه وسلم: أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة. قال الحافظ: ويمكن أن يقال: لا مانع من إبقاء الحديث على عمومه فتكون صلاة النافلة في بيت بالمدينة أو مكة تضاعف على صلاتها في البيت بغيرهما، وكذا في المسجدين، وإن كانت في البيوت أفضل مطلقاً. (في مسجدي هذا) أي مسجد المدينة لا مسجد قباء، واختلف هل يدخل في التضعيف ما زيد في المسجد النبوي في زمن الخلفاء الراشدين من بعدهم أم لا؟ إن غلبنا اسم الإشارة انحصر التضعيف فيه ولم يعم ما زيد فيه؛ لأن التضعيف إنما ورد في مسجده وقد أكده بقوله "هذا"، فإن الإشارة لخصوص البقعة الموجودة يومئذٍ فلم تدخل فيه الزيادة، ولا بد في دخولها من دليل، قال النووي: ينبغي أن يحرص المصلي على الصلاة في الموضع الذي كان في زمانه صلى الله عليه وسلم دون ما زيد فيه بعده بخلاف المسجد الحرام، فإنه يشمل جميع مكة بل صحح أنه يعم جميع الحرم، وإن غلبنا التسمية لم يختص التضعيف بما كان في زمنه صلى الله عليه وسلم، وإليه ذهبت الحنفية كما صرح به في الدر المختار، قال ابن عابدين: وأصل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: صلاة في مسجدي هذا. ومعلوم أنه قد زيد في المسجد النبوي، فقد زاد فيه عمر، ثم عثمان، ثم الوليد، ثم المهدي، والإشارة "بهذا" إلى المسجد المضاف المنسوب إليه صلى الله عليه وسلم، ولا شك أن جميع المسجد الموجود الآن يسمى مسجده صلى الله عليه وسلم، فقد اتفقت الإشارة والتسمية على شيء واحد، فلم تلغ التسمية فتحصل المضاعفة المذكورة في الحديث فيما زيد فيه، وخصها الإمام النووي بما كان في زمنه صلى الله عليه وسلم عملاً بالإشارة، قال القاري واعترضه ابن تيمية وأطال فيه، والمحب الطبري، وأوردا آثاراً استدلا بها، وبأنه سلم في مسجد مكة أن المضاعفة لا تخصتص بما كان موجوداً في زمنه صلى الله عليه وسلم، وبأن الإشارة في الحديث إنما هي لإخراج غيره من المساجد المنسوبة إليه صلى الله عليه وسلم، وبأن الإمام مالكاً سئل عن ذلك فأجاب بعدم الخصوصية وقال: لأنه عليه السلام أخبر بما يكون بعده، وزويت له الأرض، فعلم بما يحدث بعده، ولولا هذا ما استجاز الخلفاء الراشدون أن
خير من ألف صلاة فيما سواه، إلا المسجد الحرام))
ــ
يستزيدوا فيه بحضرة الصحابة ولم ينكر ذلك عليهم، وبما في تاريخ المدينة عن عمر رضي الله عنه أنه لما فرغ من الزيادة قال لو انتهى إلى الجبانة – وفي رواية إلى ذي الحليفة – لكان الكل مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبما روي عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لو زيد في هذا المسجد ما زيد كان الكل مسجدي. وفي رواية: لو بني هذا المسجد إلى صنعا كان مسجدي. هذا خلاصة ما ذكره ابن حجر في الجوهر المنظم-انتهى مافي المرقاة. قلت: لو كان حديث أبي هريرة: لو زيد في هذا المسجد، الخ. قابلاً للإحتجاج لكان قاطعاً للنزاع، لكنه ضعيف بجميع طرقه لا يصلح بمجموعها للاستدلال، قال في تمييز الطيب من الخبيث (ص119) : حديث صلاة في مسجدي هذا ولو وسع إلى صنعاء اليمن بألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام. أخرجه ابن أبي شيبة في أخبار المدينة عن أبي هريرة مرفوعاً بلفظ "لو مد مسجدي هذا إلى صنعاء كان مسجدي"، وفي سنده ضعف، وله شواهد لا تقوم الحجة بمجموعها فضلاً عن أفرادها، ولذا خصص النووي اختصاص التضعيف بمسجده الشريف عملاً بالإشارة في الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة-انتهى. وقال ابن عابدين: وأما حديث: لو مد مسجدي هذا إلى صنعاء كان مسجدي. فقد اشتد ضعف طرقه فلا يعمل به في فضائل الأعمال كما ذكره السخاوي في المقاصد الحسنة-انتهى. (خير) أي من جهة الثواب لا من جهة الإجزاء فالتضعيف يرجع إلى الثواب ولا يتعدى إلى الإجزاء بإتفاق العلماء كما نقله النووي وغيره، فلو كان عليه صلاتان فصلى في أحد المسجدين صلاة لم تجزه إلا عن واحدة، وهذا مع قطع النظر عن التضعيف بالجماعة، فإنها تزيد سبعاً وعشرين درجة كما سيأتي في فضل الجماعة لكن هل يجتمع التضعيفان أو لا؟ محل بحث. (من ألف صلاة) تصلي. (فيما سواه) من المساجد. (إلا المسجد الحرام) بالنصب على الاستثناء ويجوز الجر على أن إلا بمعنى غير أي فإن الصلاة فيه خير من الصلاة في مسجدي، ويدل له حديث عبد الله بن الزبير أخرجه أحمد، وصححه ابن حبان من طريق عطاء عن عبد الله بن الزبير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة في هذا. وفي رواية ابن حبان: وصلاة في ذلك أفضل من مائة صلاة في مسجد المدينة. قال ابن عبد البر: اختلف على ابن الزبير في رفعه ووقفه، ومن رفعه أحفظ وأثبت، ومثله لا يقال بالرأي. ويدل له أيضاً حديث جابر أخرجه ابن ماجه مرفوعاً، وفيه: وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه. قال الحافظ: وفي بعض النسخ "من مائة صلاة فيما سواه"، فعلى الأول معناه في ما سواه إلا مسجد المدينة، وعلى الثاني معناه من مائة صلاة في مسجد المدينة. ورجال إسناده ثقات، لكنه من رواية عطاء في ذلك عنه قال ابن عبد البر: جائز أن يكون عند عطاء في ذلك عنهما، وعلى ذلك يحمله أهل الحديث، ويؤيده أن عطاء إمام واسع الرواية، معروف بالرواية عن جابر وابن الزبير، ويدل لذلك أيضاً حديث أبي الدرداء، أخرجه البزار والطبراني
متفق عليه.
698-
(5) وعن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجد الحرام،
ــ
مرفوعاً: الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة، والصلاة في مسجدي بألف صلاة، والصلاة في بيت المقدس بخمس مائة صلاة. قال الحافظ في الفتح: قال البزار: إسناده حسن، ففي هذه الأحاديث الثلاثة دلالة واضحة على أن المراد بالاستثناء في حديث أبي هريرة تفضيل المسجد الحرام، ورد صريح على من حمل الاستثناء على المساواة، أو على أن المراد أن الصلاة في مسجدي لا تفضل الصلاة في المسجد الحرام بألف بل بدونها. قال القاري: لا تنافي بين الروايات المختلفة في التضعيف لاحتمال أن حديث الأقل قبل حديث الأكثر، ثم تفضل الله تعالى بالأكثر شيئاً بعد شيء، ويحتمل أن يكون تفاوت الأعداد لتفاوت الأحوال لما جاء: أن الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعين إلى سبعمائة إلى غير نهاية-انتهى. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً الترمذي وابن ماجه في الصلاة والنسائي في المناسك، وفي الباب عن جماعة من الصحابة ذكر أحاديثهم الحافظ المنذري والعيني.
جمادى ثان رمضان شعبان ذو القعدة قوله. (لا تشد الرحال) بضم التاء على البناء للمفعول بلفظ النفي، والمراد النهي عن المسافرة إلى غيرها، قال الطيبي: وهو أبلغ مما لو قيل: لا تسافر لأنه صور حالة المسافرة وتهيئة أسبابها من الراكب وفعل الشد، ثم أخرج النهي مخرج الإخبار، أي لا ينبغي ولا يستقيم أنيقصد الزيارة بالرحلة إلا إلى هذه البقاع الشريفة لاختصاصها بالمزايا والفضائل؛ لأن إحداها بيت الله وقبلتهم، رفع قواعدها الخليل عليه السلام، والثانية قبلة الأمم السالفة، عمرها سليمان عليه السلام، والثالثة أسست على التقوى، عمرها خير البريه، فكأن المسافرة إليها وفادة إلى بانيها – انتهى. والرحال – بكسر الراء – جمع رحل بالفتح وهو للبعير كالسرج للفرس، وهو أصغر من القتب، وشده كناية عن السفر لأنه لازمه، والتعبير بشدها خرج مخرج الغالب في ركوبها للمسافر في بلاد العرب إذ ذاك، فلا فرق بين ركوب الرواحل والخيل والبغال والحمير والقطار الحديدي، والسيارات والدراجات والعربات في البر، والسفن والبواخر في البحر، والطيارات في الجو، والمشي على الأقدام في هذا المعنى، ويدل لذلك قوله في بعض طرقه: إنما يسافره. أخره مسلم. (إلا إلى ثلاثة مساجد) الاستثناء مفرغ، والتقدير لا تشد الرحال إلى موضع. ولازمه منع السفر إلى كل موضع غيرها؛ لأن المستثنى منه في المفرغ مقدر بأعم العام، لكن يمكن أن يكون المراد بالعموم ههنا الموضع المخصوص وهو المسجد، قاله الحافظ. (مسجد الحرام) بإضافة الموصوف إلى الصفة، والحرام بمعنى المحرم كالكتاب بمعنى المكتوب. والمسجد - يخفض الدال- بدل من ثلاثة، ويجوز الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أى هي المسجد الحرام، والتاليان عطف عليه، ويجوز النصب بتقدير أعني، قيل: المراد به جميع الحرم، وقيل: يختص بالموضع الذي يصلي
والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا))
ــ
فيه دون البيوت وغيرها من أجزاء الحرم. (والمسجد الأقصى) أي بيت المقدس وهو من إضافة الموصوف إلى الصفة عند الكوفيين كقوله تعالى: {وماكنت بجانب الغربي} [28: 44] . والبصريون يؤولونه بإضمار المكان، الذي بجانب المكان الغربي ومسجد المكان الأقصى، وسمي به لبعده عن مسجد مكة في المسافة، أو لأنه لم يكن وراءه مسجد. (ومسجدي هذا) أي مسجد المدينة، وفي رواية مسجد الرسول. وفي الحديث مزية هذه المساجد وفضيلتها على غيرها لكونها مساجد الأنبياء، ولأن الأول قبلة الناس وإليه حجهم، والثاني كان قبلة الأمم الماضية، والثالث أسس على التقوى واختلف في شد الرحال إلى غيرها كالذهاب إلى زيارة الصالحين أحياء وأمواتاً، وإلى الموضع الفاضلة لقصد التبرك بها والصلاة فيها، فقال الشيخ أبومحمد الجويني: يحرم شد الرحال إلى غيرها عملاً بظاهر هذا الحديث، وأشار القاضي حسين إلى اختياره، وبه قال عياض وطائفة، ويدل عليه ما رواه أصحاب السنن من إنكار بصرة الغفاري على أبي هريرة خروجه إلى الطور، وقال له: لو أدركت قبل أن تخرج ما خرجت. واستدل بهذا الحديث، فدل على أنه يرى حمل الحديث على عمومه، ووافقه أبوهريرة. والصحيح عند إمام الحرمين وغيره من الشافعية أنه لا يحرم، وأجابوا عن الحديث بأجوبة لا يخلو واحد منها عن النظر، وأحسنها وأقواها عندهم أن المراد حكم المساجد فقط، وأنه لا تشد الرحال إلى مسجد من المساجد للصلاة فيه غير هذه الثلاثة، وأما قصد غير المساجد لزيارة صالح أو قبر أو طلب علم أو تجارة أو نزهة فلا يدخل في النهي، وقد ورد ذلك مصرحاً في بعض طرق الحديث في مسند أحمد برواية أبي سعيد الخدري، وذكر عنده صلاة في الطور فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا ينبغي للمصلى أن يشد رحاله إلى مسجد يبتغى فيه الصلاة غير المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا، وفي سنده شهر بن حوشب وهو حسن الحديث وإن كان فيه بعض الضعف، وقال بعضهم: قوله: إلا إلى ثلاثة مساجد. المستثنى منه محذوف، فإما أن يقدر عاماً فيصير: لا تشد الرحال إلى مكان في أي أمر كان إلا إلى الثلاثة. أو أخص من ذلك، لا سبيل إلى الأول لإفضائه إلى سد باب السفر للتجارة وصلة الرحم وطلب العلم وغيرها فتعين الثاني، والأولى أن يقدر ما هو أكثر مناسبة، وهو لا تشد الرحال إلى مسجد للصلاة فيه إلا إلى الثلاثة. قال شيخنا في شرح الترمذي بعد ذكر هذا الجواب: إن قولهم: المراد حكم المساجد فقط وأنه لا تشد الرحال إلى مسجد من المساجد
…
الخ، غير مسلم، بل ظاهر الحديث العموم وأن المراد لا تشد الرحال إلى موضع إلا إلى ثلاثة مساجد، فإن الاستثناء مفرغ، والمستثنى منه في المفرغ يقدر بأعم العام، نعم لو صح رواية أحمد بلفظ: لا ينبغي للمصلي أن يشد رحاله إلى مسجد
…
الخ. لاستقام هذا الجواب، لكنه تفرد بهذا اللفظ شهر بن حوشب ولم يزد لفظ "مسجد" أحد غيره فيما أعلم، وهو كثير الأوهام كما صرح به الحافظ في التقريب، ففي ثبوت لفظ "مسجد" في هذا الحديث كلام، فظاهر الحديث هو العموم وأن المراد: لا يجوز السفر إلى موضع للتبرك به والصلاة فيه إلا إلى ثلاثة
متفق عليه.
699-
(6) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة،
ومنبري على حوضي))
ــ
مساجد، وأما السفر إلى موضع للتجارة أو لطلب العلم أو لغرض آخر صحيح مما ثبت جوازه بأدلة أخرى فهو مستثنى من حكم هذا الحديث- انتهى كلام الشيخ. وقال الشاه عبد العزيز الدهلوي في تعليقه على البخاري في شرح هذا الحديث: المستثنى منه المحذوف في هذا الحديث إما جنس قريب أو جنس بعيد، فعلى الأول تقدير الكلام: لا تشد الرحال إلى المساجد إلا إلى ثلاثة مساجد. وحينئذٍ ما سوى المساجد مسكوت عنه، وعلى الوجه الثاني، لا تشد الرحال إلى موضع يتقرب به إلا إلى ثلاثة مساجد، فحينئذٍ شد الرحال إلى غير المساجد الثلاثة المعظمة منهي عنه بظاهر سياق الحديث، ويؤيده ما روى أبوهريرة عن بصرة الغفاري حين رجح عن الطور، وتمامه في الموطأ. وهذا الوجه قوي من جهة مدلول حديث بصرة انتهى، كذا في عون المعبود. وقال الشاه ولي الله الدهلوي في حجة الله (ج1: ص153) : كان أهل الجاهلية يقصدون مواضع معظمة بزعمهم يزورونها ويتبركون بها، وفيه من التحريف والفساد ما لا يخفى، فسد النبي صلى الله عليه وسلم الفساد بهذا الحديث لئلا يلتحق غير الشعائر بالشعائر، ولئلا يصير ذريعة لعبادة غير الله، والحق عندي أن القبر ومحل عبادة ولي من أولياء الله والطور كل ذلك سواء في النهي-انتهى. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً الترمذي وابن ماجه في الصلاة.
699-
قوله: (ما بين بيتي ومنبري) الموصول مبتدأ وخبره قوله: روضة
…
الخ. والمراد بالبيت البيت المعهود وهو بيت عائشة الذي صار فيه قبره صلى الله عليه وسلم، وفي رواية الطبراني: ما بين المنبر وبيت عائشة. وفي حديث سعد بن أبي وقاص عند البزار بسند رجاله ثقات، وعند الطبراني من حديث ابن عمر بلفظ: ما بين قبري ومنبري. (روضة) بفتح الراء، أرض مخضرة بأنواع النباتات، وروضات الجنة أطيب بقاعها وأنزهها. (من رياض الجنة) اختلف في تأويله فقيل: المعنى أن العبادة فيه تؤدي إلى الجنة، فهو مجاز باعتبار المآل كقوله: الجنة تحت ظلال السيوف. أي الجهاد مآله الجنة. وقيل: المعنى أي كروضة الجنة في نزول الرحمة وحصول السعادة بما يحصل من ملازمة حلق الذكر لا سيما في عهده صلى الله عليه وسلم، فيكون تشبيهاً بغير أداة، وهذا القول لا يخلو عن بعد؛ لأنه خلاف الظاهر يشترك فيه سائر المساجد وبقاع الخير. وقال أهل التحقيق: إن الكلام محمول على الحقيقة بأن ينقل هذا المكان يوم القيامة إلى الفردوس الأعلى، ولا يفنى ولا يهلك مثل سائر البقاع. ويحتمل أن يكون عين هذه البقعة روضة من رياض الجنة أنزلت منها إلى المسجد كما ورد في الحجر الأسود ومقام إبراهيم، وبعد قيام الساعة ينقل إلى مقامه الأصلي. (ومنبري على حوضي) أي على حافته والمراد بالحوض نهر الكوثر الكائن داخل الجنة لا حوضه الذي خارجها بجانبها المستمد من الكوثر. قيل: هذا إخبار
متفق عليه.
700-
(7) وعن ابن عمر، قال: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم يأتي مسجد قباء كل سبت ماشياً وراكباً، ويصلي
فيه ركعتين)) متفق عليه.
ــ
عن المنبر الذي يكون له صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، يوضع عليه بأمر ربه، يدعو الناس عليه إليه، لا هذا المنبر في المسجد الشريف، وهذا القول بعيد من سياق الحديث. والراجح ما قال به الأكثر من أن المراد منبره بعينه الذي قال هذه المقالة وهو فوقه. فينقله الله بعينه ويضعه عليه، ويؤيده حديث أم سلمة عند النسائي مرفوعاً: إن قوائم منبري هذا رواتب في الجنة. وقيل: معناه أن قصد منبره والحضور عنده لملازمة الأعمال الصالحة يورد صاحبه إلى الحوض، ويقتضي شربه منه. ونقل ابن زبالة أن ذرع ما بين المنبر والبيت الذي فيه القبر الآن ثلاث وخمسون ذراعاً، وقيل: أربع وخمسون وسدس. وقيل: خمسون إلا ثلثي ذراع، وهو الآن كذلك، فكأنه نقص لما أدخل من الحجرة في الجدار. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الصلاة، وفي أواخر الحج، وفي الحوض، والاعتصام، ومسلم في الحج.
700-
قوله: (مسجد قباء) بضم القاف ممدوداً وقد يقصر، ويذكر على أنه اسم موضع، ويؤنث على أنه اسم بقعة، وبينه وبين المدينة ثلاثة أميال أو ميلان على يسار قاصد مكة، وهو من عوالى المدينة وسمي باسم بئر هناك، والمسجد المذكور هو مسجد بني عمرو بن عوف وهو أول مسجد أسسه رسول الله صلى الله عليه وسلم. (كل سبت) خص السبت لأجل مواصلته لأهل قباء، وتفقد حال من تأخر منهم عن حضور الجمعة معه في مسجده بالمدينة، وفيه دلالة على جواز تخصيص بعض الأيام ببعض الأعمال الصالحة والمداومة على ذلك. (ماشياً) تارة. (وراكباً) أخرى بحسب ما تيسر، والواو بمعنى أو (ويصلي فيه ركعتين) ادعى الطحاوي أن هذه الزيادة مدرجة، قالها أحد الرواة من عنده لعلمه أنه عليه الصلاة والسلام كان من عادته أنه لا يجلس حتى يصلي، وقد روى النسائي من حديث سهل بن حنيف مرفوعاً: من خرج حتى يأتي مسجد قباء فيصلي فيه كان له عدل عمرة. وعند الترمذي من حديث أسيد بن حضير رفعه: الصلاة في مسجد قباء كعمرة. وعند عمر بن شبة في أخبار المدينة بإسناد صحيح عن سعد بن أبي وقاص قال: لأن أصلي في مسجد قباء ركعتين أحب إلى من أن آتي بيت المقدس مرتين، لو يعلمون ما في قباء لضربوا إليه أكباد الإبل. وفي هذه الأحاديث مع حديث الباب دلالة على فضل قباء، وفضل مسجده، وفضل الصلاة فيه، لكن لم يثبت في ذلك تضعيف بخلاف المساجد الثلاثة. قال بعضهم حديث ابن عمر يدل على أن النهي عن شد الرحال لغير المساجد الثلاثة ليس على التحريم لكون النبي صلى الله عليه وسلم يأتي قباء ماشياً وراكباً، وتعقب بأن مجيئه صلى الله عليه وسلم إلى قباء إنما كان بلا سفر، فهو غير مخالف لحديث النهي، فلا يكون قرينة على كون النهي فيه للتنزيه. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الصلاة، ومسلم في الحج، وأخرجه أيضاً أبوداود في الحج.
701-
(8) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أحب البلاد إلى الله مساجدها، وأبغض البلاد إلى الله أسواقها)) رواه مسلم.
702-
(9) وعن عثمان رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من بنى لله مسجدا، بنى الله له بيتاً في الجنة)) متفق عليه.
ــ
701-
قوله: (أحب البلاد) أي أحب أماكن البلاد وبقاعها، ويمكن أن يراد بالبلد مأوى الإنسان فلا تقدير. (إلى الله مساجدها) ؛ لأنها بيوت الطاعة، وأساس التقوى، ومحل تنزل الرحمة، وموضع التقرب إلى الله تعالى. (وأبغض البلاد إلى الله أسواقها) ؛ لأنها محل أفعال الشياطين من الحرص والطمع والخيانة والغش والخداع والربا والأيمان الكاذبة، وإخلاف الوعد، والفتن والغفلة، فالمراد محبة وبغض ما يقع فيهما. وقيل: المعنى أي من يمكث في المساجد أحب إلى الله ممن يمكث في غيرها إذ المحبة الإثابة، ولا معنى لإثابة نفس المساجد، فالمراد الماكث فيها لذكر الله أو اعتكاف أو نحوهما. وكذا المراد بغض من في الأسواق لتعاطيه الأيمان الكاذبة، والغش، والأعراض الفانية لا بغض نفس الأسواق، نظير ما ورد في مدح الدنيا وذمها، فالمراد مدح من قام بحقوق الله تعالى فيها وذم ضده. وقال النووي: الحب والبغض من الله تعالى إرادته الخير والشر، أو فعله ذلك بمن أسعده أو أشقاه. والمساجد محل نزول الرحمة والأسواق ضدها، وهي جمع سوق سمى به لأن الأشياء تساق للبيع، أو لأن الناس تمشي فيه للبيع والشراء على سوقها جمع ساق. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً ابن حبان وأخرجه أحمد والحاكم عن جبير بن مطعم.
702-
قوله: (من بنى) حقيقة أو مجازاً. (لله) أي يبتغي به وجه الله لا رياء وسمعة. قال ابن الجوزي: من كتب اسمه على المسجد الذي يبنيه كان بعيداً من الإخلاص- انتهى. ومن بناه بالأجرة لا يحصل له هذا الوعد المخصوص لعدم الإخلاص وإن كان يؤجر في الجملة، وهل يحصل الثواب المذكور لمن جعل بقعة من الأرض مسجداً بأن يكتفي بتحويطها من غير بناء؟ وكذا من عمد إلى بناء كان يملكه فوقفه مسجدا؟ وإن وقفنا مع ظاهر اللفظ فلا، وإن نظرنا إلى المعنى فنعم، وهو المتجه. وكذا قوله "بنى" حقيقة في المباشرة بشرطها لكن المعنى يقتضي دخول الأمر بذلك أيضاً، قاله الحافظ. (مسجداً) أي كبيراً كان أو صغيراً، فقد رواه الترمذي عن أنس مرفوعاً بزيادة لفظ "صغيراً كان أو كبيراً"، ويدل لذلك رواية "كمفحص قطاة"، وهي مرفوعة ثابتة عند ابن أبي شيبة عن عثمان، وابن حبان والبزار عن أبي ذر، وأبي مسلم الكجي من حديث ابن عباس، والطبراني عن أبي بكر، وابن خزيمة عن جابر. وحمل ذلك العلماء على المبالغة وقيل: هي على ظاهرها. (بنى الله) إسناد البناء إلى الله تعالى مجاز أي أمر الملائكة ببنائه، أو البناء مجاز عن الخلق والإسناد حقيقة، وأبرز الفاعل تعظيماً وافتخاراً. (بيتاً في الجنة) زاد الشيخان في رواية "مثله" وكذا الترمذي، وقد اختلف في معنى المماثلة، فقيل: مثله في الشرف والفضل والتوقير؛ لأنه جزاء المسجد فيكون مثلاً له في صفات الشرف. وقيل: مثله في مسمى
703-
(10) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من غدا إلى المسجد أو راح، أعد الله له نزله من الجنة كلما غدا أو راح)) متفق عليه.
704-
(11) وعن أبي موسى الأشعري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أعظم الناس أجرا في الصلاة، أبعدهم فأبعدهم ممشى،
ــ
البيت، وأما صفته في السعة وغيرها فمعلوم فضلها، فإنها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. وقيل: المراد أن فضله على بيوت الجنة كفضل المسجد على بيوت الدنيا، وقيل: غير ذلك. وقوله "في الجنة" متعلق ببنى أو بمحذوف صفة لبيتاً. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي وابن ماجه، وفي الباب عن جماعة من الصحابة. ذكر أحاديثهم مع تخريجها شيخنا في شرح الترمذي.
703-
قوله: (من غدا إلى المسجد أو راح) قيل: المراد بالغدو هنا مطلق الذهاب للمسجد في أي وقت كان، وبالرواح الرجوع منه، أي من ذهب للصلاة في المسجد ورجع، والأصل في الغدو المضي من بكرة النهار، والرواح بعد الزوال، ثم قد يستعملان في كل ذهاب ورجوع توسعاً. وظاهر الحديث حصول الفضل لمن أتى المسجد مطلقاً، لكن المقصود منه اختصاصه بمن يأتيه للعبادة، والصلاة رأسها. (أعد) أي هيأ من الإعداد. (نزله) بضم النون والزاي: المكان الذي يهيأ للنزول فيه. وبسكون الزاي: ما يهيأ للقادم من الضيافة ونحوها. فعلى هذا "من" في قوله: (من الجنة) للتبعيض على الأول، وللتبيين على الثاني. (كلما غدا أو راح) قال الطيبي: النزل ما هيأ للنزيل، و"كلما غدا" ظرف وجوابه ما دل عليه ما قبله، وهو عامل فيه، والمعنى: كلما استمر غدوه ورواحه استمر إعداد نزله في الجنة، فالغدو والرواح في الحديث كالبكرة والعشي في قوله تعالى:{ولهم رزقهم فيها بكرة وعشياً} [19: 62] يراد بها الديمومة لا الوقتان المعلومان. قال المظهر: من عادة الناس أن يقدموا طعاماً إلى من دخل بيوتهم، والمسجد بيت الله، فمن دخله أي وقت كان من ليل أو نهار يعطيه الله أجره من الجنة؛ لأن الله أكرم الأكرمين فلا يضيع أجر المحسنين- انتهى. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد.
704-
قوله: (أعظم الناس أجراً) أي أكثرهم ثواباً. (في الصلاة) أي في الإتيان إليها. (أبعدهم فأبعدهم ممشى) بفتح الميم الأولى وسكون الثانية أي مسافة، وهو منصوب على التمييز يعني أبعدهم مسافة إلى المسجد، وإنما كان أعظم أجراً لما يحصل في بعيد الدار عن المسجد من كثرة الخطا، وفي كل خطوة عشر حسنات كما رواه أحمد. فإن قيل: روى أحمد في مسنده (ج5: ص387، 399) عن حذيفة مرفوعاً: أن فضل الدار القريبة يعني من المسجد على الدار البعيدة
والذي ينتظر الصلاة حتى يصليها مع الإمام أعظم أجراً من الذي يصلي ثم ينام)) متفق عليه.
705-
(12) وعن جابر، قال:((خلت البقاع حول المسجد، فأراد بنو سلمة أن ينتقلوا قرب المسجد، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لهم: بلغني أنكم تريدون أن تنتقلوا قرب المسجد. قالوا: نعم يا رسول الله! قد أردنا ذلك. فقال: يا بني سلمة! دياركم، تكتب آثاركم، دياركم، تكتب آثاركم))
ــ
كفضل الغازي على القاعد. أي من الجهاد. فالجواب أن هذا في نفس البقعة، وذاك في الفعل، فالبعيد داراً مشيه أكثر وثوابه أعظم، والبيت القريب أفضل من البعيد، قاله العلقمي. قلت: حديث حذيفة هذا ضعيف لضعف علي بن يزيد أبي عبد الملك الدمشقي، وقد رواه عن حذيفة بلاغاً. وفاء "فأبعدهم" قال البرماوي كالكرماني والطيبي: للاستمرار نحو الأمثل فالأمثل والأكمل فالأكمل. وتعقبه العيني بأنه لم يذكر أحد من النحاة أن الفاء تجيء بمعنى الاستمرار، ثم رجح كونها بمعنى ثم أي أبعدهم ثم أبعدهم ممشى. وقال السندي في حاشية ابن ماجه: الفاء للترتيب أي الأبعد على مراتب البعد أعظم أجراً من الأقرب على مراتب القرب، فكل من كان أبعد فهو أكثر أجراً ممن كان أقرب منه، ولو كان هذا الأقرب أبعد من غيره، فأجره أكثر من ذلك الغير. والمراد أنه إذا حضر المسجد مع ذلك البعد ولم يمنعه البعد عن الحضور. (حتى يصليها مع الإمام) زاد مسلم "في جماعة". (أعظم أجراً من الذي يصلي) أي وحده. (ثم ينام) أي يستريح بخروجه من عهدة ما عليه، فكما أن بعد المكان مؤثر في زيادة الأجر كذلك طول الزمان، للمشقة فيهما، فأجر منتظر الإمام أعظم من أجر من صلى منفرداً من غير انتظار، وفائدة قوله "ثم ينام" الإشارة إلى الاستراحة المقابلة للمشقة التي في ضمن الانتظار، وقيل: الحديث في صلاة العشاء لقوله: ثم ينام. وظاهر الحديث يقضى أن تأخير الصلاة للجماعة أفضل من تقديمها أول الوقت ولو مع الجماعة لزيادة أجره بمشقة الانتظار، وليس مراداً إذ يعارضه الأخبار الدالة على طلب الصلاة أول الوقت. وقد استنبط من الحديث بعضهم استحباب قصد المسجد البعيد ولو كان بجنبه مسجد قريب، وإنما يتم ذلك إذ لم يلزم من ذهابه إلى البعيد هجر القريب، وإلا فإحياءه بذكر الله أولى، وكذا إذا كان في البعيد مانع من الكمال كأن يكون إمامه مبتدعاً. (متفق عليه) وأخرجه أحمد وأبوداود وابن ماجه والحاكم عن أبي هريرة مرفوعاً بلفظ: الأبعد فالأبعد من المسجد أعظم أجرا.
705-
قوله: (خلت البقاع) بكسر الباء. (حول المسجد) أي أطرافه قريبا منه. (فأراد بنو سلمة) بكسر اللام، قبيلة معروفة من الأنصار. (قرب المسجد) منصوب بنزع الخافض، أي إلى مكان بقربه. (فبلغ ذلك) أي انتقالهم. (دياركم) نصب على الإغراء، أي الزموا دياركم. (تكتب) يروي بالجزم على جواب الزموا ويجوز الرفع على الاستئناف. (آثاركم) جمع أثر، يعني الزموا دياركم فإنكم إذا لزمتموها كتبت خطاكم الكثيرة إلى المسجد. قال الطيبي: بنو سلمة بطن
رواه مسلم.
706-
(13) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا
ظله:
ــ
من الأنصار، وليس في العرب سلمة- بكسر اللام- غيرهم، كانت ديارهم بعيدة من المسجد، وكان يجهدهم في سواد الليل وعند وقوع الأمطار واشتداد البرد، فأرادوا أن يتحولوا قرب المسجد، فكره النبي صلى الله عليه وسلم أن تعرى جوانب المدينة، فرغبهم فيما عند الله من الأجر على نقل الخطا. والمراد بالكتابة أن تكتب في صحف الأعمال، أي كثرة الخطا سبب لزيادة الأجر- انتهى. وفي الحديث أن أعمال البر إذا كانت خالصة تكتب آثارها حسنات. وفيه استحباب السكنى بقرب المسجد للفضل إلا لمن حصلت به منفعة أخرى، أو أراد تكثير الأجر بكثرة المشي ما لم يحمل على نفسه، ووجهه أنهم طلبوا السكنى بقرب المسجد للفضل الذي علموه منه فما أنكر عليهم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بل رجح درء المفسدة بإخلائهم جوانب المدينة على المصلحة المذكورة، وأعلمهم بأن لهم في التردد إلى المسجد من الفضل ما يقوم مقام السكنى بقرب المسجد أو يزيد عليه. (رواه مسلم) وأخرج البخاري قريباً من معناه من حديث أنس، وروى ابن ماجه وغيره عن ابن عباس بسند قوي، قال: كانت الأنصار بعيدة منازلهم من المسجد فأرادوا أن يقتربوا فنزلت: {ونكتب ما قدموا وآثارهم} [36: 12] قال فثبتوا.
706-
قوله: (سبعة) أي سبعة أشخاص أو سبعة من الناس، وهذا العدد لا مفهوم له، فقد وردت أحاديث بزيادة على ذلك لا تخفى على من تتبع دواوين الحديث، وقد أفردها الحافظ بتأليف سماه معرفة الخصال الموصلة إلى الظلال، وتتبعها السيوطي فأوصلها إلى سبعين خصلة، وأفردها في المؤلف بالأسانيد ثم اختصره. (يظلهم الله) جملة في محل الرفع على أنها خبر للمبتدأ أعني قوله: سبعة، أي يدخلهم (في ظله) إضافة تشريف ليحصل امتياز هذا عن غيره كما يقال للكعبة: بيت الله. مع أن المساجد كلها ملكه، وقيل: المراد بظله كرامته وحمايته وكنفه، يقال: فلان في ظل الملك أي في كنفه وحمايته، والمعنى يحفظهم من كرب الآخرة ويكنفهم في رحمته. قال عياض: وهو أولى الأقوال. وقيل المراد ظل عرشه. ويدل عليه ما رواه سعيد بن منصور بإسناد حسن من حديث سلمان: سبعة يظلهم الله في ظل عرشه- فذكر الحديث، ثم كونهم في ظل عرشه يستلزم ما ذكر من كونهم في كنف الله وكرامته من غير عكس، فهو أرجح وبه جزم القرطبي، ويؤيده أيضاً تقييد ذلك بيوم القيامة كما صرح به في رواية. (يوم لا ظل إلا ظله) أي ظل عرشه على حذف المضاف، والمراد يوم القيامة إذا قام الناس لرب العالمين، وقربت الشمس من الرؤوس، واشتد عليهم حرها، وأخذهم العرق ولا ظل هناك لشيء إلا العرش. قيل: المراد إن ظل العرش يغلب على الشمس بالنسبة إليه فلا يبقى لها
إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه، ورجلان تحابا في الله، اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه،
ــ
تأثير الحرارة. (إمام عادل) أي أحدهم إمام عادل، والمراد به صاحب الولاية العظمى، ويلتحق به كل من ولي شيئاً من أمور المسلمين، فعدل فيه لحديث:"إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن الذي يعدلون في حكمهم وأهلهم وما ولوا" رواه مسلم. وأحسن ما فسر به العادل أنه الذي يتبع أمر الله بوضع كل شيء في موضعه من غير إفراط ولا تفريط. وقدمه في الذكر على تاليه لكثرة مصالحه وعموم نفعه. (وشاب) خص الشاب؛ لأن العبادة في الشباب أشق لكثرة الدواعي وغلبة الشهوات وقوة البواعث على إتباع الهوى، فملازمة العبادة مع ذلك أشد وأدل على غلبة التقوى. وفي الحديث:"يعجب ربك من شاب ليست له صبوة". (نشأ) أي نما وتربى وشب. (في عبادة الله) أي حتى توفي على ذلك كما في رواية الجوزقي. وفي حديث سلمان: "أفنى شبابه ونشاطه في عبادة الله". (معلق) بفتح اللام. (بالمسجد) قال القاري: وفي نسخة يعني من المشكاة "في المسجد". قال الحافظ: قوله "معلق في المساجد" هكذا في الصحيحين، وظاهره أنه من التعليق كأنه شبهه بالشيء المعلق في المسجد كالقنديل مثلاً إشارة إلى طول الملازمة بقلبه، وإن كان جسده خارجاً عنه، ويحتمل أن يكون من العلاقة، وهي شدة الحب، ويدل عليه رواية أحمد: معلق بالمساجد. وكذا رواية سلمان: من حبها. قال النووي: معناه شديد الحب لها والملازمة فيها، وليس معناه دوام القعود فيها، يعني أنه كنى به عن انتظاره أوقات الصلاة، فلا يصلي صلاة في المسجد ويخرج منه إلا وهو ينتظر الأخرى ليصليها فيه، يعني أنه كنى به عن انتظاره أوقات الصلاة، فلا يصلي صلاة في المسجد ويخرج منه إلا وهو ينتظر الأخرى ليصليها فيه، فهو ملازم للمسجد بقلبه وإن عرض لجسده عارض، وهذه الخصلة هي المقصودة من هذا الحديث للباب. (ورجلان) مثلاً. (تحابا) بتشديد الباء وأصله تحابيا من التفاعل، أي اشتركا في جنس المحبة وأحب كل منهما الآخر حقيقة لا إظهاراً فقط. (في الله) أي في طلب رضاه أو لأجله لا لغرض دنياوي. (اجتمعا عليه) أي على الحب في الله إن اجتمعا. (وتفرقا عليه) أي على الحب إن تفرقا، يعني يحفظان الحب في الحضور والغيبة. وقال الحافظ: والمراد أنهما داما على المحبة الدينية ولم يقطعاها بعارض دنيوي سواء اجتمعا حقيقة أم لا. حتى فرق بينهما الموت. وذكر المتحابين لا يصير العدد ثمانية؛ لأن معناه: رجل يحب غيره في الله والمحبة أمر نسبي فلا بد لها من المنتسبين، فلذلك قال: رجلان، أو المراد عد الخصال لا عد المتصفين بها. (ورجل ذكر الله) بلسانه أو بقلبه. (خالياً) من الخلو، أي من الناس؛ لأنه أقرب إلى الإخلاص وأبعد من الرياء، أو المراد خالياً من الالتفات إلى غير الله تعالى ولو كان في ملأ، ويؤيده رواية البيهقي: ذكر الله بين يديه، ويؤيد الأول ما وقع في رواية للبخاري وغيره: ذكر الله في خلاء، أي في موضع خال من الناس. (ففاضت عيناه) من الدمع لرقة قلبه، وشدة خوفه من جلاله، أو مزيد شوقه إلى جماله. والفيض انصباب عن امتلاء فوضع موضع الامتلاء للمبالغة، أو المعنى: فاضت أي سالت
ورجل دعته امرأة ذات حسب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها
حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه)) متفق عليه.
707-
(14) وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((صلاة الرجل في الجماعة تضعف على صلاته في بيته
وفي سوقه
ــ
وجرت دموع عينيه، وأسند إلى العين مبالغة، جعلت من فرط البكاء كأنها تفيض بنفسها. (ورجل دعته امرأة) أي إلى الزنا بها. (ذات حسب) بفتحتين، وهو ما يعده الإنسان من مفاخر آبائه، وقيل: الخصال الحميدة له ولآبائه. قال الحافظ: الحسب يطلق على الأصل والمال أيضاً. وفي رواية ذات منصب- بكسر الصاد- أي حسب ونسب شريف ومال. (وجمال) أي مزيد حسن. (فقال) بلسانه زاجراً لها عن الفاحشة، ومعتذراً إليها، أو المراد قال بقلبه زاجراً لنفسه. (إني أخاف الله) زاد في رواية: رب العالمين. قال عياض: خص ذات المنصب والجمال لكثرة الرغبة فيها وعسر حصولها، وهي جامعة للمنصب والجمال لا سيما وهي داعية إلى نفسها، طالبة لذلك، قد أغنت عن مشاق التوصل إلى مراودة ونحوها، فالصبر عنها لخوف الله تعالى- وقد دعت إلى نفسها مع جمعها المنصب والجمال- من أكمل المراتب وأعظم الطاعات، فرتب الله تعالى عليه أن يظله في ظله. (بصدقة) نكرها ليشمل كل ما يتصدق به من قليل وكثير، وظاهره أيضاً يشمل المندوبة والمفروضة، لكن نقل النووي عن العلماء أن إظهار المفروضة أولى من إخفائها. (فأخفاها) قال ابن الملك: هذا محمول على التطوع؛ لأن إعلان الزكاة أفضل. قلت: في كل من الصدقة المندوبة والمفروضة عندي تفصيل. (حتى لا تعلم شماله) الخ. ذكره للمبالغة في إخفاء الصدقة والإسرار بها، وضرب المثل بهما لقربهما وملازمتهما أي لو قدر أن الشمال رجل متيقظ لما علم صدقة اليمين للمبالغة في الإخفاء، فهو من مجاز التشبيه، أو من مجاز الحذف أي حتى لا يعلم ملك شماله، أو حتى لا يعلم من على شماله من الناس، أو هو من باب التسمية الكل بالجزء، فالمراد بشماله نفسه، أي إن نفسه لا تعلم ما تنفق يمينه، ووقع في صحيح مسلم: حتى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله. وهو مقلوب سهو عند المحققين. وذكر الرجال في هذا الحديث لا مفهوم له، فتدخل النساء، نعم لا يدخلن في الإمامة العظمى، ولا في خصلة ملازمة المسجد؛ لأن صلاتهن في بيتهن أفضل، لكن يمكن في الإمامة حيث يكن ذوات عيال فيعدلن، ولا يقال: لا يدخلن في خصلة من دعته امرأة؛ لأنا نقول إنه يتصور في امرأة دعاها ملك جميل مثلاً للزنا فامتنعت خوفاً من الله مع حاجتها. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الصلاة والزكاة والرقاق، وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي في الزهد والنسائي في القضاء.
707-
قوله: (صلاة الرجل) أي ثواب صلاته. (تضعف) بضم الفوقية وتشديد العين أي تزاد، يقال: ضعف الشيء، إذا زاد. وضعفته وأضعفته بمعنى، كذا في النهاية. (على صلاته في بيته وفي سوقه) أي منفرداً، إذ الغالب
خمساً وعشرين ضعفاً، وذلك أنه إذا توضأ فأحسن الوضوء، ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة، لم يخط خطوة إلا رفعت له بها درجة وحط عنه بها خطيئة، فإذا صلى، لم تزل الملائكة تصلي عليه مادام في مصلاه: اللهم صل عليه، اللهم ارحمه. ولا يزال أحدكم في صلاة ما انتظر الصلاة)) . وفي رواية: قال: ((إذا دخل المسجد كانت الصلاة تحبسه)) .
ــ
أن من لم يحضر الجماعة في المسجد صلى منفرداً، ولا يلزم من استواء الصلاة في البيت والسوق في المفضولية عن المسجد أن لا يكون أحدهما أفضل من الآخر، وكذا لا يلزم منه أن الصلاة جماعة في البيت أو السوق لا فضل فيها على الصلاة منفرداً، بل الظاهر أن التضعيف المذكور مختص بالجماعة في المسجد، والصلاة في البيت مطلقاً أولى منها في السوق لما ورد من أن الأسواق موضع الشياطين، والصلاة جماعة في البيت وفي السوق أولى من الانفراد. (خمساً وعشرين ضعفاً) بكسر الضاد أي مثلاً، ووجه حذف التاء من "خمساً" بتأويل الضعف بالدرجة أو بالصلاة، وتوضيحه أن ضعفاً مميز مذكر فتجب التاء فقيل بالتأويل المذكور، وفي المصابيح: خمسة وعشرين ضعفاً. وكذا وقع في بعض نسخ البخاري، والمرجع في سر الأعداد إلى علوم النبوة التي قصرت عقول الألباء عن إدراك جملها وتفاصيلها. (وذلك) إشارة إلى التضعيف الذي يدل عليه قوله: تضعف. (أنه إذا توضأ) قال الحافظ: هذا ظاهر في أن الأمور المذكورة علة للتضعيف المذكور، إذ التقدير: وذلك لأنه. فكأنه يقول: التضعيف المذكور سببه كيت وكيت. وإذا كان كذلك فما رتب على موضوعات متعددة لا يوجد بوجود بعضها إلا إذا دل دليل على إلغاء ما ليس معتبراً، أو ليس مقصوداً لذاته، وهذه الزيادة التي في حديث أبي هريرة معقولة المعنى، فالأخذ بها متوجه، والروايات المطلقة لا تنافيها بل يحمل مطلقها على هذه المقيدة. (فأحسن الوضوء) أي أسبغه برعاية السنن والآداب. (لا يخرجه إلا الصلاة) أي قصد الصلاة المكتوبة في جماعة، جملة حالية، والمضارع المنفي إذا وقع حالاً يجوز فيه الواو وتركه. (لم يخط) بفتح أوله وضم الطاء من خطا يخطو خطوا: فتح ما بين قدميه ومشى. (خطوة) بضم أوله ويجوز الفتح، قال الجوهري: الخطوة بالضم ما بين القدمين، وبالفتح المرة الواحدة. وجزم اليعمري: أنها هنا بالفتح، وقال القرطبي: إنها في روايات مسلم بالضم. (تصلي عليه) أي تدعو له بالخير وتستغفر من ذنوبه، وتطلب له الرحمة. (مادام) أي مدة دوامه. (في مصلاه) بضم الميم، أي في المكان الذي أوقع فيه الصلاة من المسجد، وكذا لو قام إلى موضع آخر من المسجد مع دوام نية انتظاره للصلاة، فالأول خرج مخرج الغالب. (اللهم صل عليه) أي لم تزل الملائكة تصلي عليه حال كونهم قائلين ذلك. (اللهم ارحمه) قال الطيبي: طلب الرحمة بعد طلب المغفرة؛ لأن صلاة الملائكة استغفار لهم. (في الصلاة) أي في ثواب صلاة. (ما انتظر الصلاة) أي مادام ينتظرها سواء ثبت في مجلسه الذي صلى فيه من المسجد أم تحول إلى غيره. (وفي رواية: إذا دخل المسجد كانت الصلاة تحبسه) أي تمنعه
وزاد في دعاء الملائكة: ((اللهم اغفر له، اللهم تب عليه. ما لم يؤذ فيه، ما لم يحدث فيه)) . متفق عليه.
708-
(15) وعن أبي أسيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
ــ
من الخروج من المسجد، ولم أجد هذه الرواية في الصحيحين، نعم وقع في رواية لهما: إذا دخل المسجد كان في صلاة ما كانت الصلاة هي تحبسه. أي مدة كون الصلاة حابسة له بأن كان جالساً لانتظار الصلاة، أما جلوسه بعد الصلاة لذكر أو اعتكاف مثلاً، فلا يترتب عليه خصوص هذا الثواب وإن كان فيه ثواب عظيم. (وزاد) أي في هذه الرواية، وهذه الزيادة من إفراد مسلم. (اللهم تب عليه) أي وفقه للتوبة وتقبلها منه، أو ثبته عليها. (ما لم يؤذ فيه) أي لا تزال الملائكة داعين له مادام في مصلاه منتظراً للصلاة ما لم يؤذ في مجلسه أحداً من المسلمين بقوله أو فعله. وقيل: أي ما لم يؤذ الملائكة، وإيذاءه إياهم بالحدث في المسجد، وهو معنى قوله. (ما لم يحدث) من أحدث أي ما لم ينقض وضوءه. وظاهره عموم النقض لغير الاختيار أيضاً، ويحتمل الخصوص، ولفظ البخاري: اللهم اغفر له اللهم ارحمه، ما لم يؤذ يحدث فيه. قال الحافظ: كذا للأكثر بالفعل المجزوم على البدلية، ويجوز بالرفع على الاستئناف. وللكشمهيني: ما لم يؤذ بحدث فيه. بلفظ الجار والمجرور متعلقاً بيؤذ. وقال الكرماني: وفي بعض النسخ: ما لم يحدث فيه. بطرح لفظ يؤذ، أي ما لم ينقض الوضوء، فالمراد بالحدث الناقض للوضوء، ويدل عليه ما روي: أن أبا هريرة لما روى هذا الحديث قال له أبورافع: ما يحدث؟ قال: يفسو أو يضرط، وهو في بعض طرق الحديث عند مسلم، وقيل: يحتمل أن يكون المراد بالحدث هنا أعم من الحدث الناقض للوضوء، أي ما لم يحدث سوء، ويدل عليه رواية أبي داود: ما لم يؤذ فيه أو يحدث فيه؛ لأنه عطف قوله: أو يحدث. على قوله: لم يؤذ فيه. قال ابن المهلب: معنى الحديث أن الحدث في المسجد خطيئة يحرم بها المحدث استغفار الملائكة ودعائهم المرجو بركته. وقيل: إخراج الريح من الدبر لا يحرم، لكن الأولى اجتنابه؛ لأن الملائكة تتأذى بما يتأذى منه بنو آدم، كما يأتي في الحديث، ويؤخذ منه أن الحدث الأصغر وإن منع دعاء الملائكة لا يمنع جواز الجلوس في المسجد، كذا في المرقاة. قال الحافظ: في الحديث دليل على أن الحدث في المسجد أشد من النخامة؛ لأن لها كفارة ولم يذكر لهذا كفارة بل عومل صاحبه بحرمان استغفار الملائكة، ودعاء الملائكة مرجو الإجابة، لقوله تعالى:{ولا يشفعون إلا لمن ارتضى} [21: 28] قال: واستدل بالحديث على أفضلية الصلاة على غيرها من الأعمال لما ذكر من صلاة الملائكة عليه، ودعائهم له بالرحمة والمغفرة والتوبة. (متفق عليه) واللفظ إلى قوله: ما انتظر الصلاة. للبخاري، ولمسلم معناه. وأما قوله: اللهم تب عليه، الخ. فهو من إفراد مسلم كما تقدم، والحديث أخرجه أيضاً أحمد وأبوداود، وابن ماجه بنحوه.
708-
قوله: (عن أبي أسيد) بضم الهمزة وفتح السين المهملة وسكون الياء، اسمه مالك بن ربيعة بن البدن الساعدي الخزرجي مشهور بكنيته، صحابي جليل، شهد بدراً والمشاهد كلها، له ثمانية وعشرون حديثاً، اتفقا على حديث
إذا دخل أحدكم المسجد فليقل: اللهم افتح لي أبواب رحمتك. وإذا خرج فليقل: اللهم إني
أسألك من فضلك)) رواه مسلم.
709-
(16) وعن أبي قتادة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين
ــ
وانفرد البخاري بحديثين، ومسلم بآخر، مات سنة (30) وقيل: بعد ذلك حتى قال المدائني: مات سنة (60) وله. (87) سنة بعد ما ذهب بصره، قال: هو آخر من مات من البدريين. (إذا دخل أحدكم المسجد) أي أراد دخوله عند وصول بابه. (فليقل: اللهم افتح لي أبواب رحمتك) وفي رواية أي داود: فليسلم على النبي صلى الله عليه وسلم ثم ليقل: اللهم افتح لي، الخ.. (وإذا خرج فليقل: اللهم إني أسألك من فضلك) قال النووي: في الحديث استحباب هذا الذكر، وقد جاءت فيه أذكار كثيرة غير هذا في سنن أبي داود وغيره ومختصر مجموعها: أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم، بسم الله والحمدلله، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وسلم، اللهم اغفرلي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك. وفي الخروج يقوله لكن يقول: اللهم إني أسألك من فضلك-انتهى. وتخصيص الرحمة بالدخول والفضل بالخروج؛ لأن الرحمة في كتاب الله أريد به النعم النفسانية والأخروية. قال تعالى: {ورحمة ربك خير مما يجمعون} [43: 32] ، والفضل على النعم الدنيوية، قال تعالى:{لا جناح عليكم أن تبتغوا فضلاً من ربكم} [2: 198] وقال. {فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله} [62: 10] ومن دخل المسجد يطلب القرب من الله، ويشتغل بما يزلفه إلى ثوابه وجنته فيناسب ذكر الرحمة، والخروج وقت ابتغاء الرزق فناسب ذكر الفضل. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أبوداود، وكلاهما من حديث أبي حميد. (اسمه عبد الرحمن بن سعد الساعدي) أو أبي أسيد على الشك، والنسائي عنهما من غير شك، وابن ماجه عن أبي حميد وحده.
709-
قوله: (إذا دخل أحدكم المسجد) عمومه يشمل أوقات الكراهة أيضاً. فقيل: هذا الحديث مخصوص بغير أوقات الكراهة، وقيل: بل محمول على عمومه، والكراهة في تلك الأوقات مخصوصة بالصلاة التي لا يكون لها سبب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بعد العصر قضاء سنة الظهر فخص وقت النهي، وصلى به ذات السبب، ولم يترك التحية في حال من الأحوال بل أمر الذي دخل المسجد يوم الجمعة وهو يخطب فجلس أن يقوم فيركع ركعتين مع أن الصلاة في حال الخطبة ممنوع منها إلا التحية، فلو كانت التحية تترك في حال من الأحوال لتركت الآن؛ لأنه قعد وهي مشروعية قبل القعود، ولأنه كان يجهل حكمها، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قطع خطبته وكلمه وأمره أن يصلي التحية، فلولا شدة الاهتمام بالتحية في جميع الأوقات لما اهتم هذا الاهتمام، قاله النووي. (فليركع ركعتين) أي فليصل ركعتين يعني تحية المسجد أو ما يقوم مقامهما من صلاة فرض أو سنة تعظيماً للمسجد. قال النووي: لا يشترط أن ينوي التحية بل تكفيه ركعتان من فرض
قبل أن يجلس)) متفق عليه.
ــ
وسنة راتبة أو غيرهما، ولو نوى بصلاته التحية والمكتوبة انعقدت صلاته وحصلتا له –انتهى. قال الحافظ: قوله: ركعتين. هذا العدد لا مفهوم لأكثره بالاتفاق، واختلف في أقله، والصحيح اعتباره فلا تتأدى هذه السنة بأقل من ركعتين. واتفق أئمة الفتوى على أن الأمر في ذلك للندب. ونقل ابن بطال عن أهل الظاهر: الوجوب، والذي صرح به ابن حزم عدمه، ومن أدلة عدم الوجوب قوله صلى الله عليه وسلم للذي رآه يتخطى: اجلس فقد آذيت. ولم يأمره بصلاة، كذا استدل به الطحاوي وغيره، وفيه نظر-انتهى. قال شيخنا: لعل وجه النظر أنه لا مانع له من أن يكون قد فعلها في جانب من المسجد قبل وقوع التخطي منه، أو أنه كان ذلك قبل وقوع الأمر بها والنهي عن تركها. ومن أدلة عدم الوجوب ما أخرجه ابن أبي شيبة عن زيد بن أسلم، قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلون المسجد، ثم يخرجون ولا يصلون. ومشروعية تحية المسجد لا تختص بمن قصد الجلوس في المسجد بل تسن لكل من دخل أراد الجلوس فيه أو لا. ومن أدلة عدم الوجوب حديث كعب بن مالك في تخلفه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، وفيه حتى جئت أي إلى المسجد فلما سلمت أي على رسول الله صلى الله عليه وسلم تبسم تبسم المغضب، ثم قال: تعالى، فجئت حتى جلست بين يديه. الحديث، وفيه: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما هذا فقد صدق فقم حتى يقضي الله فيك، فقمت فمضيت. فقوله: حتى جئت، الخ. يدل بظاهره على أنه جلس بلا صلاة، وقوله: فمضيت. على أنه خرج بلا صلاة، وقد استنبط منه النسائي في سننه الرخصة في الجلوس في المسجد والخروج منه بغير صلاة. قال الخطابي: في حديث أبي قتادة من الفقة أنه إذا دخل المسجد كان عليه أن يصلي ركعتين تحية المسجد قبل أن يجلس، سواء كان ذلك في جمعة أو غيرها، كان الإمام على المنبر أو لم يكن؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم عم ولم يخص. قلت: هذا هو الصحيح، وقد جاء مصرحاً في حديث جابر أن رجلاً جاء والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب، فقال: أصليت يا فلان؟ قال: لا، قال: قم فاركع. وقد تقدم الإشارة إليه في كلام النووي. واختلفوا فيمن جاء المسجد وقد ركع ركعتي الفجر في بيته، هل يركع عند دخوله المسجد أم لا؟ فقال الشافعي: يركع. وهي رواية أشهب عن مالك. وقال أبوحنيفة: لا يركع. وهي رواية ابن القاسم عن مالك. قال ابن رشد: وسبب اختلافهم معارضة الأمر قوله عليه السلام: لا صلاة بعد الفجر إلا ركعتي الصبح. فههنا عمومان وخصوصان: أحدهما في الزمان والآخر في الصلاة، وذلك أن حديث الأمر بالصلاة عام في الزمان، خاص في الصلاة، وحديث النهي عام في الصلاة، خاص في الزمان، فمن استثنى خاص الصلاة من عامها رأى الركوع بعد ركعتي الفجر، ومن استثنى خاص الزمان من عامه لم يوجب ذلك –انتهى. (قبل أن يجلس) الظاهر أنه خرج مخرج الغالب من فعل الصلاة من قيام، فلو جلس ليأتي بها وأتى بها فوراً من قعود جاز، وكذا لو أحرم بها قائماً ثم أراد القعود لإتمامها. قال ابن رسلان: المراد بالركعتين الإحرام بهما حتى لو صلاهما قاعداً كفى سواء أحرم قائماً ثم جلس أو أحرم جالساً
710-
(17) وعن كعب بن مالك، قال:((كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يقدم من سفر إلا نهاراً في الضحى، فإذا قدم بدأ بالمسجد، فصلى فيه ركعتين، ثم جلس فيه)) متفق عليه.
711-
(18) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سمع رجلاً ينشد ضالة في المسجد، فليقل: لا ردها الله عليك،
ــ
واتصل إحرامه بأول جلوسه؛ لأن النهي عن جلوس في غير صلاة-انتهى. ثم إنه إذا خالف وجلس قبل أن يصلي يشرع له التدارك ولا تفوت بالجلوس؛ لما روى ابن حبان في صحيحه من حديث أي ذر أنه دخل المسجد فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أركعت ركعتين؟ قال: لا، قال: قم فأركعهما. ترجم عليه ابن حبان أن تحية المسجد لا تفوت بالجلوس، ومثله قصة سليك الغطفاني. ويحتمل أن تحمل مشروعيتهما بعد الجلوس على ما إذا لم يطل الفصل. قال القاري: وما يفعله بعض العوام من الجلوس أولاً ثم القيام للصلاة ثانياً باطل لا أصل له. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً مالك وأحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه.
710-
قوله: (لا يقدم) بفتح الدال أي لا يرجع. (إلا نهاراً في الضحى) بضم المعجمة والقصر، وهو وقت تشرق الشمس، قيل: الحكمة في ذلك أنه وقت نشاط فلا مشقة على أصحابه في المجيء إليه بخلاف نصف النهار فإنه وقت نوم وراحة، وبخلاف أواخره لأنه وقت اشتغال بأسباب العشاء ونحوه، وبخلاف الليل فإنه يشق الحركة فيه. (بدأ بالمسجد) أي بدخوله. (فصلى فيه ركعتين) هذا فعله صلى الله عليه وسلم، ولا يتوهم أنه من خصائصه؛ لأنه قد أمر جابراً بصلاة القدوم من السفر، وحديثه عند الشيخين وغيرهما، وفي الحديثين استحباب ركعتين للقادم من سفره في المسجد أول قدومه، وهذه الصلاة مقصودة للقدوم من السفر ينوي بها صلاة القدوم، لا أنها تحية المسجد التي أمر الداخل بها قبل أن يجلس لكن تحصل التحية بها. (ثم جلس فيه) قبل أن يدخل بيته ليزوره المسلمون شفقة على خلق الله. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أبوداود والنسائي، وهو طرف من حديث طويل لكعب بن مالك في قصة تخلفه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك وتوبته.
711-
قوله: (ينشد ضالة) أي يطلبها برفع الصوت، وينشد بفتح الياء وضم الشين، يقال: نشد الضالة أي نادى وسأل عنها وطلبها، وهو من النشد رفع الصوت، والضالة تطلق على الذكر والأنثى، والجمع ضوال كدابة ودواب، وهي مختصة بالحيوان الضائع، ويقال لغير الحيوان ضائع ولقيط. (في المسجد) متعلق بينشد. (فليقل) أي السامع يعني عقوبة له لارتكابه في المسجد ما لا يجوز، وظاهره أنه يقوله جهراً. (لا ردها الله عليك) معناه ما رد الله الضالة إليك
فإن المساجد لا تبن لهذا)) رواه مسلم.
712-
(19) وعن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أكل من هذه الشجرة المنتنة،
ــ
وما وجدتها. قال السندي: يحتمل أنه دعاء عليه، فكلمة لا لنفي الماضي، ودخولها على الماضي بلا تكرار جائز في الدعاء، وفي غير الدعاء الغالب هو التكرار كقوله تعالى:{فلا صدق ولا صلى} [75: 31] ويحتمل أن لا ناهية أي لا تنشد، وقوله: ردها الله عليك، دعاء له لإظهار أن النهي عنه نصح له، إذا الداعي بالخير لا ينهى إلا نصحاً، لكن اللائق حينئذٍ الفصل بأن يقال: لا، وردها الله عليك، بالواو؛ لأن تركها يوهم، إلا أن يقال: الموضع موضع زجر، ولا يضر به الإبهام لكونه إيهام شيء هو آكد في الزجر-انتهى. (فإن المساجد لم تبن لهذا) أي لنشدان الضالة ونحوه، بل بنيت لذكرالله والصلاة، والعلم والمذاكرة في الخير، ونحوهما. وقوله: فإن المساجد، الخ. يحتمل أنه في حيز القول فلا بد أن يقوله القائل تعليلاً لقوله، ويؤيده حديث بريدة عند مسلم: أن رجلاً نشد في المسجد فقال: من دعا إلى الجمل الأحمر فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا وجدته، إنما بنيت المساجد لما بنيت له. ويحتمل أنه تعليل لقوله فليقل، فلا حاجة إلى أن يقول. والحديث دليل على تحريم السؤال برفع الصوت عن ضالة الحيوان في المسجد، وهل يلحق به السؤال عن غيرها من المتاع ولو ذهب في المسجد؟ قيل: يلحق للعلة، وهي قوله: فإن المساجد لم تبن لهذا، وإن من ذهب عليه متاع فيه أو في غيره قعد في باب المسجد يسأل الخارجين والداخلين إليه. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد وأبوداود وابن ماجه.
712-
قوله: (من هذه الشجرة المنتنة) بضم الميم وكسر التاء الفوقية من أنتن الشيء أي خبثت رائحته، يعني بها الثوم كما وقع في رواية للشيخين، وفي رواية لمسلم: من أكل البصل والثوم والكراث. وفي قوله: شجرة، مجاز؛ لأن المعروف في اللغة أن الشجرة ما كان لها ساق، وما لا ساق له يقال له: نجم، وبهذا فسر ابن عباس قوله تعالى. {والنجم والشجر يسجدان} [55: 6] ومن أهل اللغة من قال: كل ما ثبت له أرومة أي أصل في الأرض يخلف ما قطع من ظاهرها فهو شجر، وما ليس لها أرومة تبقى فهو نجم. قال العيني: فإن قلت على ما ذكر: كيف أطلق الشجر على الثوم ونحوه، قلت: قد يطلق كل منهما على الآخر، وتكلم أفصح الفصحاء به من أقوى الدلائل-انتهى. والمراد بالثوم في الحديث النيئ منه، وأما المطبوخ فلا كراهة فيه لما روى أبوداود والترمذي من حديث علي قال: نهى عن أكل الثوم إلا مطبوخاً، ولما يأتي في الفصل الثاني من حديث معاوية بن قرة، عن أبيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن هاتين الشجرتين-الحديث. وفيه: إن كنتم لابد آكليهما فأميتوهما طبخاً. فهذان الحديثان يفيدان تقييد ما ورد من الأحاديث المطلقة في النهي. ويلحق بما نص عليه في الحديث من الثوم في رواية، والبصل والكراث في أخرى، والفجل في رواية
فلا يقربن مسجدنا، فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه الإنس)) .
ــ
المعجم الصغير للطبراني، كل ما له رائحة كريهة من المأكولات وغيرها لاسيما التتن والتبغ والتنباك والسيجارة، وإنما خص الثوم والبصل والكراث والفجل بالذكر لكثرة أكلهم بها. (قلا يقربن) بفتح الراء والباء الموحدة وبنون التأكيد المشددة. (مسجدنا) يريد به المكان الذي أعد ليصلى فيه مدة إقامته بخيبر، لأن القول المذكور صدر منه صلى الله عليه وسلم عقب فتح خيبر، أو المراد بالمسجد الجنس، والإضافة إلى المسلمين أي فلا يقربن مسجد المسلمين، ويؤيده رواية أحمد بلفظ "فلا يقربن المساجد" ونحوه لمسلم، وهذا يدفع قول من خص النهي بمسجد النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن لفظ المساجد لا يساعده، وكذا التعليل يتأذى الملائكة؛ لأن ذلك يوجد في المساجد كلها، ثم إن ظاهر التقييد بالمساجد يقتضي أن قربهم في الأسواق غير منهي عنه، ويؤيده التعليل؛ لأن المساجد محل اجتماع الملائكة دون الأسواق، وكان المقصود مراعاة الملائكة الحاضرين في المساجد الخيرات، وإلا فالإنسان لا يخلو عن صحبة ملك فينبغي له دوام الترك لهذه العلة، قاله السندي. قلت: قد وقع في حديث أنس عند الشيخين "فلا يقربنا" قال الحافظ: ليس في هذا تقييد النهي بالمسجد فيستدل بعمومه على إلحاق المجامع بالمساجد كمصلى العيد والجنازة، ومكان الوليمة، وقد ألحقها بعضهم بالقياس، والتمسك بهذا العموم أولى، ونظيره قوله: وليقعد في بيته. لكن قد علل المنع في الحديث بترك أذى الملائكة وترك أذى المسلمين. (كما في حديث أبي هريرة عند مسلم: "فلا يقربن مسجدنا ولا يؤذينا بريح الثوم" فإن كان كل منهما جزء علة اختص النهي بالمساجد وما في معناها، وهذا هو الأظهر، وإلا لعم النهي كل مجمع كالأسواق-انتهى. وقال ابن دقيق العيد: والظاهر أن كل واحد منهما علة مستقلة- انتهى. وعلى هذا الأسواق كغيرها من مجامع العبادات. (فإن الملائكة تتأذى) أريد بهم الحاضرون مواضع العبادات عامة، ويدل هذا التعليل على أنه لا يدخل المسجد وإن كان خالياً عن الإنسان؛ لأنه محل ملائكة، فقوله: مما يتأذى منه الإنس-بكسر الهمزة- يكون محمولاً على تقدير وجودهم فيه. والحديث يدل على جواز أكل الثوم وغيره من البقول مما فيه رائحة كريهة مطبوخاً كان أو غير مطبوخ لمن قعد في بيته، وعند حضور المسجد إذا كان مطبوخاً لئلا يؤذي برائحته الخبيثة من يحضره من الملائكة وبني آدم، فالنهي إنما هو عن حضور المسجد بعد أكل الثوم النيئ ونحوه لا عن أكل الثوم والبصل ونحوهما، فهذه البقول حلال لقوله صلى الله عليه وسلم: كل فإني أناجي من لا تناجي. وقوله صلى الله عليه وسلم: أيها الناس ليس لي تحريم ما أحل الله لي. وشذ أهل الظاهر فحرموا هذه الأشياء لإفضائها إلى ترك الجماعة، وهي عندهم فرض عين، وتقريره أن يقال: صلاة الجماعة فرض، ولا تتم إلا بترك أكلها وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فترك أكلها واجب، فتكون حراماً، كذا نقله ابن دقيق العيد وغيره عن أهل الظاهر، لكن صرح ابن حزم منهم بان أكلها حلال مع قوله: بأن الجماعة فرض عين، وانفصل عن اللزوم المذكور بأن المنع من أكلها مختص بمن علم بخروج الوقت قبل زوال الرائحة، ونظيره أن صلاة الجمعة فرض عين بشروطها ومع ذلك تسقط بالسفر، وهو في أصله مباح لكن يحرم
متفق عليه.
713-
(20) وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((البزاق في المسجد خطيئة،
ــ
على من أنشأه بعد سماع النداء، قلت: الحديث قد استدل به على أن صلاة الجماعة ليست فرض عين، قال ابن دقيق العيد: وتقريره أن يقال: أكل هذه الأمور جائز، ومن لوازمه ترك صلاة الجماعة في حق آكلها، ولازم الجائز جائز، فيكون ترك صلاة الجماعة في حق آكلها جائزاً، وذلك ينافي الوجوب، قال: وقد يستدل بهذا الحديث على أن أكل هذه الأمور من الأعذار المرخصة في ترك حضور الجماعة، وقد يقال: إن هذا الكلام خرج مخرج الزجر عنها فلا يقتضي ذلك أن يكون عذراً في تركها إلا أن تدعو إلى أكلها ضرورة، قال: ويبعد هذا من وجه تقريبه إلى بعض أصحابه فإن ذلك ينفي الزجر-انتهى. (متفق عليه) واللفظ لمسلم، وأخرجه أيضاً أحمد، والترمذي في الأطعمة والنسائي في الصلاة وفي الباب روايات عن جماعة من الصحابة عند الشيخين وغيرهما بألفاظ متقاربة.
713-
قوله: (البزاق) أي إلقاءه، وهو بضم الباء بعدها زاي، وفي رواية لمسلم "التفل" بدل البزاق، وفي رواية النسائي: البصاق بالصاد والتفل بفتح المثناة فوق وسكون الفاء هو البزاق والبصاق، وهما ماء الفم إذا خرج منه، ومادام فيه فهو ريق. (في المسجد) أي في أرضه وجدرانه، قال الحافظ: قوله: في المسجد. ظرف للفعل فلا يشترط كون الفاعل فيه حتى لو بصق من هو خارج المسجد فيه تناوله النهي. (خطيئة) بالهمزة أي إثم وفي رواية لأحمد: سيئة، ومثل البزاق المخاط والنخامة بل أولى. قال القاضي عياض: إنما يكون خطيئة إن لم يدفنه، فمن أراد دفنه فلا، ورده النووي فقال: هو خلاف صريح الحديث، فالبزاق في المسجد عنده خطيئة مطلقاً أراد دفنه أو لا. قال الحافظ: وحاصل النزاع أن ههنا عمومين تعارضا وهما قوله: البزاق في المسجد خطيئة. وقوله: وليبصق عن يساره أو تحت قدمه، فالنووي يجعل الأول عاماً ويخص الثاني بما إذا لم يكن في المسجد، والقاضي بخلافه يجعل الثاني عاماً ويخص الأول بمن لم يرد دفنها. وقد وافق القاضي جماعة منهم ابن مكي في التنقيب، والقرطبي في المفهم، ويشهد لهم ما رواه أحمد والطبراني بإسناد حسن من حديث أبي أمامة مرفوعاً، قال: من تنخع في المسجد فلم يدفنه فسيئة، وإن دفنه فحسنة، فلم يجعله سيئة إلا بقيد عدم الدفن، ونحوه حديث أبي ذر عند مسلم مرفوعاً قال: وجدت في مساوئ أعمال أمتي النخاعة تكون في المسجد لا تدفن. قال القرطبي: فلم يثبت لها حكم السيئة بمجرد إيقاعها في المسجد بل به وبتركها غير مدفونة-انتهى. ومما يدل على أن عمومه مخصوص جواز ذلك في الثواب ولو كان في المسجد بلا خلاف، وعند أبي داود من حديث عبد الله بن الشخير أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم فبصق تحت قدمه اليسرى ثم دلكه بنعله. إسناده صحيح، وأصله في مسلم، والظاهر أن ذلك كان في المسجد فيؤيد ما تقدم. وتوسط بعضهم فحمل الجواز على ما إذا كان له عذر كأن لم يتمكن من الخروج من المسجد، والمنع على ما إذا لم يكن له عذر،
وكفارة دفنها)) متفق عليه.
714-
(21) وعن أبي ذر، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عرضت على أعمال أمتي حسنها وسيئها، فوجدت في محاسن أعمالها الأذى يماط عن الطريق، ووجدت في مساوي أعمالها النخاعة تكون في المسجد لا تدفن)) رواه مسلم.
715-
(22) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يبصق أمامه،
ــ
وهو تفصيل حسن-انتهى كلام الحافظ باختصار يسير. (وكفارتها) أي كفارة الخطيئة إذا فعلها. (دفنها) أي في تراب المسجد ورمله وحصياته إن كان، وإلا فيخرجها يعني أنه إذا أزال ذلك البزاق أو ستره بشيء طاهر عقيب الإلقاء زال منه تلك الخطيئة، قال الحافظ: قال ابن أبي جمرة: لم يقل: وكفارتها تغطيتها؛ لأن التغطية يستمر الضرر بها إذ لا يأمن أن يجلس غيره عليها فتؤذيه بخلاف الدفن فإنه يفهم منه التعميق في باطن الأرض-انتهى. قيل: إن لم يكن المسجد ذا تراب وكان ذا حصير لا يجوز إلقاء البزاق فيه احتراماً للمالية. قلت: إذا احتاج إلى دفع البزاق وكان المسجد مجصصاً ومبلطاً فألقى البزاق تحت قدمه اليسرى ودلكه بحيث لم يبق في المسجد للبزاق أثر فلا حرج، وعلى هذا يحمل حديث عبد الله بن الشخير الذي تقدم في كلام الحافظ. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً الترمذي، وأبوداود والنسائي.
714-
قوله: (عرضت على) أي إجمالاً أو تفصيلاً. (حسنها وسيئها) بالرفع عطف بيان للأعمال أو بدل اشتمال. (في محاسن أعمالها) جمع حسن بالضم والسكون على غير قياس. (الأذى) أي المؤذي يعني إزالته، واللام فيه للجنس. (يماط) أي يزال. (عن الطريق) صفة الأذى، قاله الطيبي. وفيه التنبيه على أن كل ما نفع المسلمين أو أزال عنهم ضراراً كان من حسن الأعمال. (مساوي أعمالها) جمع سوء على غير قياس والياء منقلبة عن الهمزة. (النخاعة) بضم النون أي البزاقة التي تخرج من أصل الفم والمراد إلقائها، وقيل: المراد بها البزاق. (تكون في المسجد) صفة النخاعة. (لا تدفن) قال ابن الملك: الجملتان صفتان أو حالان أي متداخلتان أو مترادفتان. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد، وابن ماجه وابن حبان.
715-
قوله: (إذا قام أحدكم إلى الصلاة) أي شرع فيها ففي حديث أنس عند الشيخين: إذا كان أحدكم في الصلاة. وفي حديث عبد الله بن عمر عندهما أيضاً: إذا كان أحدكم يصلي. (فلا يبصق) بالصاد والجزم على النهي، وقيل: نفي معناه النهي. (أمامه) بفتح الهمزة أي قدامه، وظاهر الإطلاق يعم المسجد وغيره، بل الواقعة كانت في المسجد
فإنما يناجي الله ما دام في مصلاه، ولا عن يمينه، فإن عن يمينه ملكاً. وليبصق عن يساره أو تحت قدمه فيدفنها)) .
ــ
كما يدل عليه سبب الحديث فيدل على أن الحكم ليس معللاً بتعظيم المسجد وإلا لكان اليمين واليسار سواء، بل المنع عن تلقاء الوجه للتعظيم بحالة المناجاة مع الرب تعالى، وعن اليمين للتأدب مع ملك اليمين كما يفهم من الأحاديث، قاله السندي. (فإنما يناجي الله) والمناجاة من قبل العبد حقيقة، ومن قبل الله إقباله تعالى عليه بالرحمة والرضوان فمناجاة الله مجاز، إذ المناجاة هي المسارة بين الاثنين، ولا كلام محسوساً إلا من طرف العبد فيكون المراد لازم المناجاة وهو إرادة الخير. (مادام في مصلاه) أي ومن يناجي أحداً مثلاً لا يبصق نحوه، وظاهره يقتضي تخصيص المنع بحالة الصلاة لكن التعليل بتأذي المسلم في حديث سعد بن أبي وقاص مرفوعاً عند أحمد بإسناد حسن: من تنخم في المسجد فليغيب نخامته أن تصيب جلد مؤمن أو ثوبه فتؤذيه، يقتضي المنع في جدار المسجد مطلقاً، ولو لم يكن في الصلاة، فيجمع بأن يقال: كونه في الصلاة أشد إثماً مطلقاً، وكونه في جدار القبلة أشد إثماً من كونه في غيرها من جدار المسجد. (ولا عن يمينه) تعظيماً لليمين وزيادة لشرفها. (فإن عن يمينه ملكاً) لا بد من وجه يقتضي اختصاص المنع باليمين لأجل الملك، إذا الملك في يساره أيضاً، وذلك الوجه هو أن يقال: أن ملك اليمين يكتب حسنات المصلى في حالة صلاته، والصلاة هي أم الحسنات البدنية، وهي أيضاً تنهى عن الفحشاء والمنكر، فلا دخل لكاتب السيأت الكائن عن اليسار فيها، ويكون هو فارغاً. وأحسن ما قيل فيه: أن لكل أحد قريناً أي شيطاناً، وموقعه يساره كما في حديث أبي أمامة عند الطبراني، فإنه يقوم بين يدي الله، وملكه عن يمينه وقرينه على يساره، فلعل المصلي إذا تفل عن يساره يقع على قرينه وهو الشيطان، ولعل ملك اليسار حينئذٍ يكون بحيث لا يصيبه شيء من ذلك، أو أنه يتحول في الصلاة إلى اليمين. وقيل: التنكير في ملكاً للتعظيم أي ملكاً عظيماً، فلا يشكل بأن على اليسار أيضاً ملكاً. وقال الطيبي: يحتمل أن يراد ملك آخر غير الحفظة يحضر عند الصلاة للتائيد والإلهام والتأمين على دعائه، فسبيله سبيل الزائر فيجب أن يكرم زائره فوق من يحفظه من الكرام الكاتبين. (وليبصق عن يساره) أي إن كان فارغاً. قال الخطابي: إن كان عن يساره أحد فلا يبزق في واحد من الجهتين لكن تحت قدمه أو ثوبه. ويؤيده ما رواه أبوداود من حديث طارق المحاربي مرفوعاً، فإنه قال فيه: ولكن عن تلقاء يساره إن كان فارغاً، أو تحت قدمه اليسرى، ثم ليقل به. وفي رواية النسائي: أو تلقاء شمالك إن كان فارغاً، وإلا فهكذا وبزق تحت رجله ودلكه، ومعنى قوله "فارغاً" أي متمكناً من البزق في يساره، وقوله "ثم ليقل به" أي ليدفنه إذا بزقه تحت قدمه اليسرى. (أو تحت قدمه) أي اليسرى وأو للتنويع أي إذا تعذر في جهة اليسار لوجود مصل فيها بصق تحت قدمه. (فيدفنها) بنصب النون؛ لأنه جواب الأمر، وبرفعها على أنها خبر مبتدأ محذوف، أي فهو يدفنها، ويجوز الجزم عطفاً على الأمر،
716-
(23) وفي رواية أبي سعيد: ((تحت قدمه اليسرى)) متفق عليه.
716-
(24) وعن عائشة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في مرضه الذي لم يقم منه:((لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد))
ــ
وتأنيث الضمير في "فيدفنها" بتأويل البصقة التي يدل عليها قوله "وليبصق" أي فيغيب البصقة بالتعميق في باطن أرض المسجد بحيث يأمن الجالس عليها من الإيذاء، فلو كان المسجد غير ترابي فيدلكها بشيء حتى يذهب أثرها ألبتة، وإذا بدره البزاق ولم يكن يساره فارغاً وكان تحت قدمه فراش من ثوب ونحوه تعين الثوب للبزق فيتفل فيه ثم يرد بعضه على بعض، ولو فقد الثوب مثلاً فلعل بلعه أولى من ارتكاب المنهي عنه.
716-
قوله: (وفي رواية أبي سعيد) أي عند الشيخين. (متفق عليه) واللفظ للبخاري، وفي الباب عن أنس، وابن عمر، وأبي سعيد عند الشيخين، وجابر بن عبد الله عند أبي داود وغيره.
717-
قوله: (قال في مرضه الذي لم يقم منه) كأنه صلى الله عليه وسلم علم أنه مرتحل من ذلك المرض، فخاف أن يعظم قبره كما فعل اليهود والنصارى، فعرض بلعنهم إشارة إلى ذم من يفعل فعلهم كيلا يعامل معه ذلك، فقال:(لعن الله اليهود والنصارى) واللعن أمارة الكبيرة المحرمة أشد التحريم فيكون الفعل الذي أوجب اللعن حراماً. (اتخذوا قبور أنبياءهم مساجد) جملة مستأنفة على سبيل البيان لموجب اللعن، كأنه قيل: ما سبب لعنهم؟ فأجيب بقوله: اتخذوا. زاد في رواية: يحذر ما صنعوا. وهي جملة مستأنفة أخرى من كلام الراوي، كأنه سئل عن حكمة ذكر ذلك في ذلك الوقت، فقالك ليحذر أمته أن يصنعوا بقبره مثل ما صنع اليهود والنصارى بقبور أنبيائهم. واتخاذ القبور مساجد أعم من أن يكون بمعنى الصلاة إليها، أو بمعنى الصلاة عليها. وفي مسلم: لا تجلسوا على القبور، ولا تصلوا إليها، ولا عليها. والظاهر أن العلة سد الذريعة والبعد عن التشبه بعبدة الأوثان الذين يعظمون الجمادات التي لا تسمع ولا تنفع ولا تضر، ولما في إنفاق المال في ذلك من العبث والتبذير الخالي عن النفع بالكلية، ولأنه سبب لإيقاد سرج عليها الملعون فاعله، ومفاسد ما يبنى على القبور من المشاهد والقباب لا تحصر. وقال التوربشتي الحنفي في شرح المصابيح: معنى إنكار النبي صلى الله عليه وسلم على اليهود والنصارى صنيعهم هذا مخرج على وجهين: أحدهما أنهم كانوا يسجدون لقبور الأنبياء تعظيماً لهم، والثاني أنهم كانوا يتحرون الصلاة في مدافن الأنبياء، والسجود على مقابرهم، والتوجه إلى قبورهم حالة الصلاة نظراً منهم بأن ذلك الصنيع أعظم موقعاً عند الله لاشتماله على الأمرين: عبادة الله سبحانه، والمبالغة في تعظيم الأنبياء، وذهاباً إلى أن تلك البقاع بإقامة الصلاة والتوسل بالعبادة فيها إلى الله لاختصاصها بقبور الأنبياء، وكلا الطريقين غير مرضية، أما الأولى فلأنها من الشرك الجلي، أما الثانية فلأنها متضمنة معنى ما من الإشراك في عبادة الله حيث أتى بها على صنعة
متفق عليه.
718-
(25) وعن جندب، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد. ألا فلا تتخذوا القبور مساجد،
ــ
الإشراك أو التبعية لمخلوق. والدليل على ذم الوجهين قوله صلى الله عليه وسلم: لا تجعل قبري وثناً يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد. والوجه الأول أشبه به. وأما نهي النبي صلى الله عليه وسلم أمته عن الصلاة في المقابر فإنه لمعنيين: أحدهما لمشابهة ذلك الفعل سنة اليهود، وإن كان القصدان مختلفين، والثاني لما يتضمنه من الشرك الخفي حيث أتى في عبادة الله بما يرجع إلى تعظيم مخلوق فيما لم يؤذن له. قال: والصلاة في المواضع المتبركة بها من مقابر الصالحين داخلة في جملة هذا النهي، لا سيما إذا كان الباعث تعظيم هؤلاء، وتخصيص تلك الموضع لما أشرنا إليه من الشرك الخفي-انتهى كلام التوربشتي بقدر الضرورة. قلت: ويدخل أيضاً في هذا النهي والوعيد اتخاذ مسجد بجوار نبي أو صالح، والصلاة عند قبره لا لتعظيمه، ولا بالتوجه نحوه بل لحصول مدد منه، ورجاء كمال عبادته ببركة مجاورته لتلك الروح، وهذا لأن اتخاذ المسجد بقربه وقصد التبرك به تعظيم له، ولأن في هذا الصنيع أيضاً من المفاسد ما لا يخفى، ولأنه لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم أحداً من أمته بالاستفاضة بقبره أو بقبر أحد من صلحاء أمته، ولا بالاستمداد منه، ولا بالمجاورة به، ولا التبرك به، وإنما أمر أمته بالسلام على أهل القبور والدعاء والاستغفار لهم عند زيارة القبور وحث على الاعتبار بهم، فالاستفاضة بالقبور، والاستمداد منها، والتبرك بها ولو كان بدون التوجه إليها حرام عندنا لكونه داخلاً في الشرك الخفي. واعلم أنه قد استشكل ذكر النصارى في الحديث؛ لأنه ليس لهم نبي إلا عيسى عليه السلام، إذ لا نبي بينه وبين محمد صلى الله عليه وسلم، وهو حي في السماء لم يمت، فليس له قبر، وأجيب بأن ضمير الجمع في قوله "أنبيائهم" للمجموع من اليهود والنصارى، فإن اليهود لهم أنبياء، أو المراد الأنبياء وكبار أتباعهم، فاكتفى بذكر الأنبياء، ويؤيده رواية جندب التالية حيث قال: كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ولهذا أفرد النصارى، كما في رواية لعائشة رضي الله عنها عند الشيخين. قال: إذا مات فيهم الرجل الصالح، ولما أفرد اليهود كما في حديث أبي هريرة قال: قبور أنبيائهم، أو أنه كان فيهم أنبياء أيضاً لكنهم غير مرسلين كالحواريين، أو يقال: أنبياء اليهود أنبياء النصارى؛ لأن النصارى مأمورون بالإيمان بكل رسول، فرسل بني إسرائيل يسمون أنبياء في حق الفريقين، والمراد من الإتخاذ أعم من أن يكون ابتداعاً أو إتباعاً، فاليهود ابتدعت، والنصارى اتبعت، ولا ريب أن النصارى تعظم قبور كثير من الأنبياء الذين تعظمهم اليهود، وخصص اليهود بالذكر في حديث أبي هريرة لكونهم ابتدعوا هذا الاتخاذ فهم أظلم. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الصلاة، والجنائز، والمغازي، ومسلم في الصلاة، وأخرجه أيضاً النسائي.
718-
قوله: (ألا) للتنبيه. (وإن) بالكسر على تقدير أنبهكم وأقول إن. قال القاري: وروى بالفتح، فالتقدير: تنبهوا واعلموا أن. (من كان قبلكم) أي اليهود والنصارى، أو أعم منها. (ألا فلا تتخذوا القبور مساجد) كرر التنبيه
إني أنهاكم عن ذلك)) رواه مسلم.
719-
(26) وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اجعلوا في بيوتكم من صلاتكم، ولا تتخذوها قبوراً))
ــ
بإقحام أداته بين السبب والمسبب مبالغة، وكرر النهي أيضاً كما كرر التنبيه بقوله. (إني أنهاكم عن ذلك) وفي الصحيحين عن عائشة: أن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا كنيسة رأينها بالحبشة فيها تصاوير، فذكرتا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح، فمات بنوا على قبره مسجداً وصوروا فيه تلك الصور، وأولئك شرار الخلق عندالله يوم القيامة. قال الحافظ: وإنما فعل ذلك أوائلهم ليتأنسوا برؤية تلك الصور، ويتذكروا أحوالهم الصالحة فيجتهدون كاجتهادهم، ثم خلف من بعدهم خلوف جهلوا مرادهم، ووسوس لهم الشيطان أن أسلافكم كانوا يعبدون هذه الصور ويعظمونها فاعبدوها، فحذر النبي صلى الله عليه وسلم عن مثل ذلك سداً للذريعة المؤدية إلى ذلك. (رواه مسلم) ....
719-
قوله: (اجعلوا في بيوتكم من صلاتكم) قيل من زائدة، والمراد من الصلاة النوافل، والتقدير: اجعلوا صلاتكم أي نوافلكم في بيوتكم، يدل على هذا ما رواه مسلم من حديث جابر مرفوعاً: إذا قضى أحدكم الصلاة في مسجده فليجعل لبيته نصيباً من صلاته. وفي الصحيحين حديث: صلوا أيها الناس في بيوتكم، فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة. وإنما شرع ذلك لكونه أبعد من الرياء، وليتبرك به البيت، وتنزل الرحمة فيه والملائكة، وتنفر الشياطين منه، لكن استثنى منه ركعتا الطواف والإحرام، وتراويح رمضان، وصلاة الكسوف والاستسقاء وتحية المسجد، وصلاة القدوم من السفر، وما ورد من صلاته صلى الله عليه وسلم بعض النوافل في المسجد- كركعتين بعد المغرب مثلاً – فهو لبيان الجواز، وقيل: من للتبعيض، والمراد من الصلاة مطلق الصلاة، والمعنى: اجعلوا بعض صلاتكم وهو النفل من الصلاة المطلقة في بيوتكم، والصلاة المطلقة تشمل النفل والفرض، قال القاري:"من صلاتكم" مفعول أول و"في بيوتكم" مفعول ثان، قدم على الأول للإهتمام بشأن البيوت، أي اجعلوا بعض صلاتكم التي هي النوافل مؤداة في بيوتكم، وإن من حقها أن يجعل لها نصيباً من الطاعات لتصير منورة؛ لأنها مأواكم ومنقلبكم، وليست كقبوركم التي لا تصلح لصلاتكم، ولذا قال:(لاتتخذوها) أي بيوتكم. (قبوراً) بأن تتركوا الصلاة فيها كما تتركون في المقابر، والمعنى: أعطوا البيوت حظها من الصلاة، ولا تجعلوها كالمقابر حيث لا يصلى فيها، فأحال على المقابر لكونها معهودة معروفة بهذه الصفة بحسب الحس والمشاهدة والشرع، ويؤيده ما رواه مسلم من حديث أبي هريرة بلفظ: لا تجعلوا بيوتكم مقابر. فالحديث فيه دليل على كراهة الصلاة في المقابر، وعليه حمله البخاري في صحيحه حيث عقد عليه "باب كراهية الصلاة في المقابر"، وقد نقل ابن المنذر عن أكثر أهل العلم أنهم استدلوا بهذا الحديث على أن المقبرة ليست بموضع الصلاة، وكذا قال البغوي في شرح السنة