الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
{الفصل الأول}
528-
(1) عن حذيفة، قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فضلنا على الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت لنا الأرض كلها مسجداً،
ــ
في المرض والسفر إلى التيمم، ولما كان ذلك كذلك نزل القضاء في الملأ الأعلى بإقامة التيمم مقام الوضوء والغسل، وحصل له وجود تشبيهي أنه طهارة من الطهارات، وهذا القضاء أحد الأمور والعظام التي تميزت به الملة المصطفوية من سائر الملل، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: جعلت تربتها لنا طهوراً إذا لم نجد الماء. قال: إنما خص الأرض لأنها لا تكاد تفقد، فهي أحق ما يرفع به الحرج، ولأنها طهور في بعض الأشياء كالخف والسيف بدلاً عن الغسل بالماء، ولأن فيه تذللاً بمنزلة تعفير الوجه في التراب، وهو يناسب طلب العفو، وإنما لم يفرق بين بدل الغسل والوضوء، ولم يشرع التمرغ لأن من حق ما لا يعقل معناه بادي الرأي: أن يجعل كالمؤثر بالخاصية دون المقدار، فإنه هو الذي اطمأنت نفوسهم به في هذا الباب، ولأن التمرغ فيه بعض الحرج فلا يصلح رافعاً للحرج بالكلية. وفي معنى المرض البرد الضار لحديث عمرو بن العاص، والسفر ليس بقيد، إنما هو صورة لعدم وجدان الماء يتبادر إلى الذهن. وإنما لم يؤمر بمسح الرجل بالتراب لأن الرجل محل الأوساخ، وإنما يؤمر بما ليس حاصلاً ليحصل التنبه – انتهى. وقد يظن من لا يفقه أغراض الشريعة الإسلامية أن التراب قد يكون ملوثاً بالميكروبات الضارة أي: جراثيم الأمراض، فمسح الوجه به ضرر لا نفع فيه. والذي يقول لم يفهم معني التيمم، ولم يدرك الغرض منه لأن الشارع قد اشترط أن يكون التراب طاهراً نظيفاً، ولم يشترط أن يأخذ التراب ويضعه على وجهه، بل المفروض هو أن يأتي بكيفية خاصة تبيح له العبادة الموقوفة على الوضوء والغسل. كذا في كتاب الفقه على المذاهب الأربعة.
528-
قوله: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم) متحدثاً بنعمة الله ومبيناً لأحكام شرعه. (فضلنا على الناس) بصيغة المجهول مشدداً أي: فضلنا الله على جميع الأمم السالفة، وحذف الفاعل للعلم. (بثلاث) أي: بثلاث خصال لم تكن لهم واحدة منها، ومفهوم العدد غير مراد، لأنه قد ثبت أنه فضل بأكثر من ذلك. وقيل: كان تنزل عليه صلى الله عليه وسلم خصائص أمته شيئاً فشيئاً، فيخبر عن كل نزل عليه عند إنزاله بما يناسبه. وقد عد السيوطي خصائص النبي صلى الله عليه وسلم، وفيها خصائص أمته أيضاً في "خصائصه الكبرى" زيادة عن المائتين، وهذا إجمال، فصله قوله:(جعلت صفوفنا) أي: وقوفنا في الصلاة. (كصفوف الملائكة) أي: في الطاعة، أو في الصلاة، وهي أنهم يتمون المقدم، ثم الذي يليه من الصفوف، ثم يراصون الصفوف، كما ورد التصريح بذلك في سنن أبي داود وغيره. بخلاف الأمم الماضية، فإنهم كانوا يقفون في الصلاة كيف ما اتفق. (مسجداً) أي: موضع سجود لا يختص السجود منها بموضع دون غيره، وهذه لم تكن لغير أمته صلى الله عليه وسلم كما صرح به في رواية عمرو بن شعيب عند أحمد: وكان من قبلي إنما يصلون في كنائسهم. وفي رواية ابن عباس عند البزار:
وجعلت تربتها لنا طهوراً إذا لم نجد الماء)) .
ــ
ولم يكن أحد من الأنبياء يصلي حتى يبلغ محرابه. (وجعلت تربتها) أي: ترابها كما في حديث علي عند أحمد والبيهقي. والتراب أعم من أن يكون سبخاً أو غيره لأن المدينة سبخة، وقد كانوا يتيممون منها. (لنا طهوراً) أي: مطهراً. فيه دليل على أن التراب يرفع الحدث كالماء لاشتراكهما في الطهورية. (إذا لم نجد الماء) هذا القيد قرآني معتبر في الأحاديث المطلقة. واستدل بالحديث على أن التراب متعين للتيمم دون بقية الجامدات من أجزاء الأرض كالحجر، والكحل، والزرنيخ، والجص، والنورة، والإثمد، والمرجان، والآجر، والملح معدنياً كان أو مائياً، وكالحديد والنحاس والصفر والذهب والفضة، ونحوها مما يذاب بالنار متميزاً عن التراب. قال الحافظ: دل الافتراق في اللفظ حيث حصل التأكيد في جعلها مسجداً دون الآخر على الافتراق في الحكم، أي: بتعين التراب للتيمم دون السجود، وإلا لعطف أحدهما على الآخر نسقاً كما وقع في حديث جابر عند الشيخين بلفظ: وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً – انتهى. وقال الشوكاني في السيل الجرار: ومما يعين التراب ويقيد أنه المراد أن جماعة من أهل اللغة كصاحب القاموس وغيره فسروا الصعيد بالتراب، وما صعد على وجه الأرض، فجعلوا التراب أحد معنى الصعيد، فالروايات المصرحة بالتراب هي معينة لأحد معنى الصعيد انتهى. وقال العلامة القنوجي في تفسير سورة النساء من فتح البيان (ج2:ص228) بعد ذكر حديث حذيفة هذا ما لفظه: فهذا مبين لمعنى الصعيد المذكور في الآية، أو مخصص لعمومه، أو مقيد لإطلاقه. ويؤيد هذا ما حكاه ابن فارس عن كتاب الخليل: تيمم بالصعيد أي: خذ من غباره - انتهى. والحجر الصلد لا غبار عليه. قلت: ويقوى كون المراد التراب قوله تعالى في المائدة: {فامسحوا بوجوهكم وأيدكم منه} [6:5] وذلك أن كلمة "من" للتبعيض كما قال في الكشاف حيث قال: إنه لا يفهم أحد من العرب قول القائل: مسحت برأسه من الدهن ومن التراب، إلا معنى التبعيض والتبعيض لا يتحقق إلا في المسح بالتراب لا من الحجارة ونحوها. وأيضاً التنصيص على التراب في الأحاديث يدل على أن ذلك البعض هو التراب. قال الشوكاني في السيل الجرار: ولا يعارض هذا تيممه صلى الله عليه وسلم من الحائط، فإنه لم يرو أنه كان معموراً من الحجر، بل الظاهر أنه معمور بالطين، وإذا كان كذلك فالضرب فيه لا يبعد أن يعلق باليد من تربته ما له أثر يمسح به. وقد أخرج الشافعي أنه حته أي: الحائط الذي تيمم منه، وقد أخرج هذه الزيادة البيهقي من طريق الشافعي، ثم قال: وفي إسنادها يعني هذه الزيادة إبراهيم بن أبي يحيى شيخ الشافعي، عن أبي الحويرث- وهو متكلم فيهما - عن الأعرج، عن أبي الصمة، وهو يعني الأعرج لم يسمع منه – انتهى. قلت: ويلتحق بالتراب الرمل، فيجوز التيمم به أيضاً كالتراب. قال ابن القيم في زاد المعاد (ج1:ص51) : صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: حيثما أدركت رجلاً من أمتي الصلاة، فعنده مسجده وطهوره. وهذا نص صريح في أن من أدركته الصلاة في الرمل له طهور. ولما سافر هو وأصحابه في غزوة تبوك قطعوا تلك الرمال في طريقهم، وماءهم في غاية القلة، ولم يرو عنه أنه حمل معه التراب ولا أمر به، ولا فعله أحد من أصحابه مع القطع بأن في المفاوز الرمال أكثر من التراب، وكذلك أرض الحجاز وغيره.
رواه مسلم.
529-
(2) وعن عمران، قال:((كنا في سفر مع النبي صلى الله عليه وسلم، فصلى بالناس، فلما انفتل من صلاته، إذا هو برجل معتزل لم يصل مع القوم، فقال: ما منعك يا فلان أن تصلي مع القوم؟) . قال: أصابتني جنابة، ولا ماء. قال: عليك بالصعيد، فإنه يكفيك)) . متفق عليه.
530-
(3) وعن عمار، قال: ((جاء رجل إلى عمر بن الخطاب، فقال: إني أجنبت، فلم أصب الماء.
ــ
ومن تدبر هذا قطع بأنه كان تيمم بالرمل- انتهى. هذا والخصلة الثالثة مبهمة، وقد بينها ابن خزيمة والنسائي وهي: وأعطيت هذه الآيات من آخر سورة البقرة من كنز تحت العرض، يشير إلى ما حطه الله عن أمته من الإصر وتحميل ما لا طاقة لهم به، ورفع الخطأ والنسيان. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً ابن خزيمة والنسائي.
529-
قوله: (كنا في سفر) أي: عند رجوعهم من خيبر، أو الحديبية، أو في طريق مكة، أو بطريق تبوك. (فصلى بالناس) أي: إماماً لهم. (فلما انفتل) أي: انصرف وفرغ. (إذا هو) أي: النبي صلى الله عليه وسلم، وهو مبتدأ خبره قوله:(برجل) لم يسم، وقيل: هو خلاد بن رافع أخو رفاعة، ولكن وهموا قائله. (معتزل) أي: منفرد عن القوم، خارج من بينهم، واقف في ناحية. والجملة جواب لما، أي: فلما انفتل فاجأه رؤية رجل معتزل غير مصل. (ولا ماء) موجود بالكلية. وماء بفتح الهمزة، ويحتمل أن تكون لا ههنا بمعنى ليس، فيرتفع الماء حينئذ، ويكون المعنى ليس ماء عندي. (عليك بالصعيد) اسم فعل بمعنى خذ والزم، والباء زائدة، واللام للعهد المذكور في الآية. (فإنه) أي: الصعيد. (يكفيك) أي: لصحة الصلاة، ويجزئك عن الماء عند عدمه. والحديث نص في جواز التيمم للجنب، وهو مجمع عليه، لم يخالف فيه أحد من الخلف ولا من السلف إلا ما جاء عن عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود، وحكى مثله عن إبراهيم النخعي من عدم جوازه للجنب. وقيل: إن عمر وعبد الله رجعا عن ذلك، وقد جاءت في جوازه للجنب الأحاديث الصحيحة. واستدل بالحديث على كون التيمم طهارة مطلقة. قال الحافظ: احتج البخاري لعدم وجوب التيمم لكل صلاة بعموم قوله: صلى الله عليه وسلم عليك بالصعيد، فإنه يكفيك. قال: وهذه المسألة وافق فيها البخاري الكوفيين والجمهور – انتهى. قلت: وهو الراجح عندي. (متفق عليه) أخرجه البخاري في التيمم، وفي علامات النبوة، ومسلم في الصلاة مطولاً، وأخرجه أيضاً النسائي في الطهارة مختصراً.
530-
قوله: (وعن عمار) فيه: أن الذي وقع في الصحيحين وغيرهما أن عبد الرحمن بن أبزى هو الذي روى أول القصة، أعنى قوله: جاء رجل إلى عمر بن الخطاب. فقال: إن أجنبت، فلم أصب الماء. فهذا القدر إنما هو رواية عبد الرحمن دون عمار، فالصواب أن يقول المصنف: عن عبد الرحمن بن أبزى بدل عن عمار، ويدل على ما قلنا قوله: فقال: عمار لعمر. (جاء رجل) لم يسم. (إني أجنبت) أي: صرت جنباً. (فلم أصب الماء) من الإصابة أي: لم أجده، فقال
فقال عمار لعمر: أما تذكر أنا كنا في سفر أنا وأنت؟ فأما أنت فلم تصل، وأما أنا فتمعكت فصليت، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إنما كان يكفيك هكذا، فضرب النبي صلى الله عليه وسلم بكفيه الأرض، ونفخ فيهما، ثم مسح بهما وجهه وكفيه.
ــ
عمر: لا تصل حتى تجد الماء. (في سفر) ولمسلم: في سرية، وزاد: فأجنبنا. (أنا وأنت) تأكيد وبيان لضمير كنا، فالمعنى فأجنبنا كلنا. (فأما أنت فلم تصل) لأنه كان يتوقع الوصول إلى الماء قبل خروج الوقت، أو لاعتقاد أن التيمم إنما هو عن الحديث الأصغر لا الأكبر، وهذا هو الأظهر، وقاس عمار الحدث الأكبر على الأصغر. (فتمعكت) أي: تمرغت وتقلبت في التراب، كأنه ظن أن إيصال التراب إلى جميع الأعضاء واجب في تيمم الجنابة كإيصال الماء في غسلها. وبه يظهر أن المجتهد يخطئ ويصيب. (فذكرت ذلك) أي: ما ذكر من امتناع عمر عن الصلاة، وتمعكي في التراب. (إنما كان يكفيك هذا) مجمل تفسيره. (فضرب النبي صلى الله عليه وسلم بكفيه الأرض) فيه أن تعليمه صلى الله عليه وسلم لعمار كيفية التيمم كان بالفعل، والرواية الآتية تدل على أنه كان بالقول. قال القاري: والجمع بين الحديثين: أنه عليه الصلاة والسلام جمع في التعليم بين القول والفعل تأكيداً للإعلام وتنبيها على الإهتمام. (ونفخ فيهما) يحتمل أن يكون النفخ لشيء علق بيده خشي أن يصيب وجهه الكريم، أو علق بيده من التراب شيء له كثرة، فأراد تخفيفه لئلا يبقى له أثر في وجهه. (ثم مسح بهما وجهه وكفيه) أي: ظاهرهما. والحديث فيه دليل على أنه يكفي في التيمم ضربة واحدة، ويكفي في اليدين مسح الكفين، وأن الآية مجملة بينها النبي صلى الله عليه وسلم بالاقتصار على الكفين. والاكتفاء بالضربة الواحدة، وبمسح الراحتين وظاهر الكفين، هو مذهب جمهور العلماء، وأهل الحديث عملاً بحديث عمار هذا، فإنه أصح حديث في الباب، كما أقر به التوربشتي والخطابي وابن دقيق العيد وغيرهم قال الشيخ عبد الحى اللكنوي: أقوى الأقوال فيه من حيث الدليل هو الاكتفاء بمسح اليدين إلى الرسغين لما ثبت في روايات حديث عمار الصحيحة: أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه كيفية التيمم حين بلغه تمعكه في التراب، واكتفى فيه على مسح الوجه والكفين – انتهى. وقال الحافظ في الفتح: - وما أحسن ما قال! - إن الأحاديث الواردة في التيمم لم يصح منها سوى حديث أبي جهيم، وعمار. وما عداهما، فضعيف أو مختلف في رفعه ووقفه، والراجح عدم رفعه. فأما حديث أبي جهيم فورد بذكر اليدين مجملاً، وأما حديث عمار فورد بذكر الكفين في الصحيحين، وبذكر المرفقين في السنن، وفي رواية إلى نصف الذراع، وفي رواية إلى الآباط. فأما رواية المرفقين، وكذا نصف الذراع، ففيهما مقال، وأما رواية الآباط أي الآتية في الفصل الثالث، فقال الشافعي وغيره: إن كان ذلك وقع بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، فكل تيمم صح للنبي صلى الله عليه وسلم بعده فهو ناسخ له، وإن كان بغير أمره فالحجة فيما أمر به. ومما يقوى رواية الصحيحين في الاقتصار على الوجه والكفين كون عمار يفتى بعد النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وراوي الحديث أعرف بالمراد به من غيره، ولا سيما الصحابي المجتهد - انتهى.
رواه البخاري.
ولمسلم نحوه، وفيه قال:((إنما يكفيك أن تضرب بيديك الأرض، ثم تنفخ ثم تمسح بهما وجهك وكفيك)) .
ــ
وقال الشوكاني في السيل الجرار: إن جميع الأحاديث الصحيحة ليس فيها إلا ضربة واحدة للوجه والكفين فقط. وجمع ما ورد في الضربتين أو كون المسح إلى المرفقين لا يخلو عن ضعف يسقط به عن درجة الاعتبار، ولا يصلح للعمل عليه، حتى يقال: إنه مشتمل على زيادة، والزيادة يجب قبولها، فالواجب الاقتصار على ما دلت عليه الأحاديث الصحيحة - انتهى. قال ابن رشد في البداية: إن الصواب هو أن يعتقد أن الفرض إنما هو الكفان فقط، وذلك أن اسم اليد لا يخلو أن يكون في الكف أظهر منه في سائر الأجزاء، أو يكون دلالته على سائر أجزاء الذراع والعضد بالسواء، فإن كان أظهر فيجب المصير إليه على ما يجب المصير إلى الأخذ بالظاهر، وإن لم يكن أظهر، فيجب المصير إلى الأخذ بالأثر الثابت، فأما أن يغلب القياس ههنا على الأثر فلا معنى له، ولا أن ترجح به أيضاً أحاديث لم تثبت بعد، فالقول في هذه المسألة بين من الكتاب والسنة - انتهى. وفي الحديث أن مسح الوجه واليدين بدل في الجنابة عن كل البدن، وإنما لم يأمر عماراً بالإعادة لأنه عمل أكثر مما كان يجب عليه في التيمم. (رواه البخاري) أي: بهذا اللفظ في "باب هل ينفخ في يديه بعد ما يضرب بهما الصعيد للتيمم" وأخرجه أيضاً مسلم كما ذكره المصنف والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه بألفاظ مطولاً ومختصراً.
قوله: (إنما يكفيك أن تضرب بيدك الأرض ثم تنفخ) الخ. فيه رد صريح على من أجاب عن رواية عمار المتقدمة بأن تعليمه له وقع بالفعل، وقد ورد في الأحاديث القولية المسح إلى المرفقين، ومن المعلوم أن القول مقدم على الفعل. ووجه الرد أن رواية مسلم هذه تدل صريحاً على أن التعليم وقع بالقول أيضاً، كما يدل على ذلك ما وقع في رواية للبخاري: يكفيك الوجه والكفان. وقد تفوه بعض أهل الأهواء أن قوله: يكفيك الوجه والكفان، لعله رواية بالمعنى، وحكاية للفعل بالقول، وإنما كان أشار إليه كما في الرواية المارة؛ إنما كان يكفيك هكذا، وكانت تلك إشارة إلى المعهود. وقال تلميذه الذي لا يتحاشى مثل شيخه عن استطالة اللسان على فقهاء أصحاب الحديث وإساءة الأدب في شأنهم نصرة لقول هذا البعض، والقرينة على أن الأصل في روايته هو التعليم بالإشارة، وأن التعليم بالقول رواية بالمعنى، ما عنه عند البخاري: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنما كان يكفيك هكذا، فضرب النبي صلى الله عليه وسلم بكفيه الأرض، الخ. ففيه ذكر التعليم القولي مع فعله صلى الله عليه وسلم بالكفين، فلما كان ذكر الكفين جرى في ذيل فعله، وكان بياناً لقوله: أخذ بعض الرواة في بيان القول، ثم رفعه - انتهى. قلت: من عادة هؤلاء المشغوفين بآراء الرجال والأقيسة والأهواء أنهم إذا رأوا حديثاً مرفوعاً صحيحاً مخالفاً لقول إمامهم اشمأزوا منه، واخترعوا لرده تأويلات متبجحين بها، فتارة يجعلونه منسوخاً، وأخرى رواية بالمعنى، وتارة يحاولون
531-
(4) وعن أبي الجهيم بن الحارث بن الصمة، قال: ((مررت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبول، فسلمت عليه، فلم يرد علي حتى قام إلى جدار، فحته بعصاً كانت معه، ثم وضع يديه على الجدار،
ــ
تضعيفه، وأخرى ينسبون إلى الصحابي فهم خطاب النبي صلى الله عليه وسلم، ونحو ذلك من الوجوه الباطلة التي هي تحريفات معنوية للحديث الصحيح. وعندنا لا تخالف بين هذه الروايات، فقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم في تعليمه لعمار كيفية التيمم بين الإشارة والقول والفعل، مبالغة في الإعلام، كما أقربه القاري، والشيخ اللكنوي. فالظاهر أنه أشار صلى الله عليه وسلم أولاً، ثم فسر إشارته بفعله، وعلم مع ذلك بالقول أيضاً. وأما رواية البخاري هذه فالأظهر أن الراوي اكتفى فيها بذكر التعليم بالإشارة والفعل دون القول فلا دلالة فيها على أن الرواية الأخرى التي فيها ذكر القول رواية بالمعنى، فإنها تحمل على أن الراوي اقتصر مرة على ذكر الإشارة والفعل، وأخرى على ذكر القول، ولا بعد فيه عند من له خبرة وإطلاع على الأحاديث. وأما من أعمى الله قلبه وبصيرته فهو معذور. هذا، وقد أجاب القائلون بمسح اليدين إلى المرفقين، وتعدد الضربة عن حديث عمار هذا بوجوه أخرى كلها واهية، قد ردها وأبطلها شيخنا في شرح الترمذي (ج1:ص 134، 135) فارجع إليه لتقف على ما تعللوا به لرد هذا الحديث الصحيح من الأعذار الباردة، وتعتبر. وقد استدل هؤلاء على ما ذهبوا إليه بأحاديث لا تصلح للاحتجاج لما لا يخلوا واحد منها من المقال، كما تقدم إليه الإشارة في كلام الحافظ. واحتجوا أيضاً بآثار الصحابة، وأنت تعلم أن الأثر لا يقاوم الحديث المرفوع. وقد ذكر شيخنا في شرح الترمذي وفي أبكار المنن (ص63-65) أحاديث الضربتين، وبين ما فيها من الكلام، فعليك أن تراجعهما.
531-
قوله: (وعن أبي الجهيم) بضم الجيم وفتح الهاء وسكون الياء. (بن الحارث بن الصمة) بكسر الصاد المهملة وتشديد الميم، ابن عمرو الأنصاري الخزرجي ابن أخت أبي بن كعب، صحابي معروف، بقى إلى خلافة معاوية. واختلف في اسمه، فقيل: هو عبد الله بن الحارث بن الصمة. وقيل: هو عبد الله بن الجهيم بن الحارث بن الصمة، نسب إلى جده. وقيل: إنه الحارث بن الصمة. ولفظ "ابن" بين أبي الجهيم والحارث غلط. وقيل: الحارث بن الصمة رجل آخر غير أبي الجهيم. ولأبي الجهيم حديثان في الصحيحين، أحدهما في التيمم على الجدار، والثاني في المار بين يدي المصلي. وسيأتي في باب السترة. وقال ابن الأثير، وابن عبد البر: راوي حديث التيمم غير راوي حديث المرور، فالأول هو أبوالجهيم بن الحارث بن الصمة، والثاني أبوالجهيم عبد الله بن الجهيم الأنصاري، وجعلهما ابن مندة وأبو نعيم والحافظ واحداً. وأبوالجهيم راوي حديث التيمم وحديث المرور غير أبي الجهم صاحب الأنبجانية المذكور في حديث عائشة الآتي في باب الستر، واسمه عامر بن حذيفة. (فحته) بالتاء الفوقية أي: خدشه حتى يحصل منه التراب. وفيه دليل على أنه لا بد في التيمم من التراب. وقيل: حته لتحصيل التراب قصداً إلى الأفضل، وهو محمول على أنه كان جداراً مباحاً أو مملوكاً لإنسان يعرف رضاه. (ثم وضع يديه على الجدار)