المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌(9) باب السترة ‌ ‌{الفصل الأول} 778- (1) عن ابن عمر، قال: ((كان - مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح - جـ ٢

[عبيد الله الرحماني المباركفوري]

فهرس الكتاب

-

- ‌(3) كتاب الطهارة

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(1) باب ما يوجب الوضوء

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(2) باب آداب الخلاء

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(3) باب السواك

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(4) باب سنن الوضوء

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(5) باب الغسل

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(6) باب مخالطة الجنب وما يباح له

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(7) باب أحكام المياه

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(8) باب تطهير النجاسات

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(9) باب المسح على الخفين

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(10) باب التيمم

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(11) باب الغسل المسنون

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(12) باب الحيض

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(13) (باب المستحاضة)

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

-

- ‌(4) كتاب الصلاة

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(1) باب المواقيت

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(2) باب تعجيل الصلاة

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(3) باب فضائل الصلاة

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(4) باب الأذان

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(5) باب فضل الأذان وإجابة المؤذن

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(6) باب

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(7) باب المساجد ومواضع الصلاة

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(8) باب الستر

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(9) باب السترة

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

الفصل: ‌ ‌(9) باب السترة ‌ ‌{الفصل الأول} 778- (1) عن ابن عمر، قال: ((كان

(9) باب السترة

{الفصل الأول}

778-

(1) عن ابن عمر، قال: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم يغدو إلى المصلى والعنزة بين يديه تحمل، وتنصب بالمصلى بين يديه فيصلي إليها.

ــ

(ج5:ص141) من طريق أبي نضرة بن بقية، قال: قال أبي بن كعب، الخ. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2:ص49) بعد ذكره: رواه عبد الله من زياداته، والطبراني في الكبير بنحوه من رواية زر عنه موقوفا، وأبونضرة لم يسمع من أبي ولا من ابن مسعود-انتهى. وعن ابن عمر، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم (إذا صلى أحدكم فليلبس ثوبيه، فإن الله أحق من يزين له) . رواه الطبراني في الكبير، وإسناده حسن، قاله الهيثمي.

(باب السترة) هي – بالضم – ما يستتر به كائنا ما كان، وقد غلب على ما ينصبه المصلى قدامه من عصا، أو رمح، أو حربه، أو سهم، أو غير ذلك مما يظهر به موضع سجود المصلى كيلا يمر مار بينه وبين موضع سجوده. قال النووي: قال العلماء: الحكمة في السترة كف البصر عما ورائها، ومنع من يجتاز بقربه. وقال ابن الهمام في فتح القدير: المقصود من الستر جمع الخاطر بربط الخيال به كيلا ينتشر. يريد أن في فطرة الإنسان أن خياله ينتشر في كل واد، ويطوف بكل جانب إذا كان في مكان واسع، بخلاف ما إذا كان في مكان ضيق، فإنه لا يكون له جولان وتطواف مثل الأول، بل ينقبض وينحصر فيه، فأراد الشارع بأمر نصب السترة أن يضيق عليه مكان صلاته بجمع خاطره بربط الخيال به كيلا ينتشر. والله أعلم.

778-

قوله: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يغدو) أي: يذهب غدوة (إلى المصلى) أي: مصلى العيد (والعنزة) بفتحات وهي أقصر من الرمح، في طرفها زج كزج الرمح، والزج-بضم الزاي- الحديدة التي في أسفل الرمح، يقابله السنان. وقيل: العنزة أطول من العصا، وأقصر من الرمح، وفيها سنان كسنان الرمح (وتنصب) أي: تغرز (بالمصلى بين يديه) أي: قدامه أي: قبالة أحد حاجبيه لا بين عينيه (فيصلي إليها) زاد ابن ماجه وابن خزيمة، والإسماعيلي "وذلك أن المصلى كان فضاء، ليس فيه شيء يستره". وفي رواية للبخاري: كان إذا خرج يوم العيد أمر بالحربة، فتوضع بين يديه، فيصلي إليها والناس وراءه. وكان يفعل ذلك (أى نصب الحربة بين يديه وحيث لا يكون جدار، والصلاة إليها) في السفر (فليس مختصا بيوم العيد) والحديث يدل على مشروعية اتخاذ السترة في الفضاء، وملازمة ذلك في السفر، وعلى أن السترة تحصل بكل شيء ينصب تجاه المصلى وإن دق إذا كان قدر مؤخرة الرحل وعلى مشروعية المشى بين يدي الإمام بآلة من السلاح. ولا يعارض ذلك ما روى من النهي عن حمل السلاح يوم العيد، لأن ذلك إنما هو عند

ص: 486

رواه البخاري.

779-

(2) وعن أبي جحيفة، قال: ((رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة وهو بالأبطح في قبة حمرآء من أدم، ورأيت بلالاً أخذ وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورأيت الناس يبتدرون ذلك الوضوء، فمن أصاب منه شيئاً تمسح به، ومن لم يصب منه أخذ من بلل يد صاحبه. ثم رأيت بلالاً أخذ عنزة فركزها. وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في حلة حمرآء مشمرًا، صلى إلى العنزة

ــ

خشية التأذى به (رواه البخاري) في العيدين. وأخرجه أيضاً مسلم، وأبوداود والنسائي وابن ماجه بنحوه.

779-

قوله: (وعن أبي جحيفة) بضم الجيم وفتح الحاء المهملة وسكون الياء وبالفاء، اسمه وهب بن عبد الله السوائى – بضم المهملة وخفة الواو والمد – نسبة إلى سواءة بن عامر. ويقال: اسم أبيه وهب أيضا، مشهور بكنيته. ويقال له: وهب الخير، صحابي معروف. قيل: مات النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يبلغ الحلم، ولكنه سمع منه وروى عنه. وكان من كبار أصحاب على وخواصه، وكان على شرطته، واستعمله على خمس المتاع. مات بالكوفة سنة (74) له خمسة وأربعون حديثاً، اتفقا على حديثين، وانفرد البخاري بحديثين، ومسلم بثلاثة. روى عنه جماعة (وهو بالأبطح) بفتح الهمزة، وهو في اللغة مسيل واسع فيه دقاق الحص. والبطيحة والبطحاء مثله، صار علما للمسيل الذي بين مكة ومنى، ينتهى إليه السيل من وادي منى، وهو أقرب إلى مكة، يكون فيه دقاق الحصى، ويسمى البطحاء والمحصب أيضاً فكثرة الحصباء فيه (من أدم) بفتحتين، جمع أديم أي: جلد (وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم) بفتح الواو، أي: الماء الذي توضأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم. والظاهر أن المراد به ما سال من أعضاء وضوءه صلى الله عليه وسلم. وفيه دلالة بينة على طهارة الماء المستعمل (يبتدرون) أي: يتسارعون ويتسابقون (ذلك الوضوء) أي: إلى أخذ ماء وضوئه تبركا بآثاره الشريفة (فمن أصاب) أي: أخذ (منه) أي: من بلال (شيئا) من الماء، أو فمن وجد من ذلك الماء شيئاً قليلا وقدرا يسيرا (تسمح به) أي: مسح به وجهه وأعضائه لينال بركته صلى الله عليه وسلم (ومن لم يصب منه) أي: من بلل يد بلال (أخذ من بلل يد صاحبه) فيه دليل بين على أن الماء المستعمل طاهر، ولا دليل على كونه من خصائصه (فركزها) أي: غرزها (في حلة) أي: حال كونه في حلة. وهي بضم الحاء إزار ورداء، ولا تسمى حلة حتى يكون ثوبين (حمرآء) فيه أظهر دليل على أنه يجوز لبس الأحمر الصرف للرجال وإن كان قانئا، خلافاً للحنفية، فإنهم قالوا: يكره، وتأولوا هذا الحديث بأنها كانت حلة من برود فيها خطوط حمر. وهو تأويل ضعيف أو باطل. وسيأتي الكلام عليه مفصلاً في موضعه (مشمراً) بكسر الميم الثانية من التشمير، وهو ضم الذيل ورفعه للعدو أي: مسرعاً، يقال: فلان شمر عن ساقه، وتشمر في أمره أي: خف، وقيل: المراد رافعاً ثوبه قد كشف شيئاً من ساقيه. قال في مسلم: كأنى أنظر إلى بياض ساقيه (صلى)

ص: 487

بالناس ركعتين. ورأيت الناس والدواب يمرون بين يدي العنزة)) . متفق عليه.

780-

(3) وعن نافع، عن ابن عمر ((أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعرض راحلته فيصلي إليها)) . متفق عليه.

ــ

ولمسلم: تقدم فصلى إلى العنزة (بالناس) أي: إماماً بهم (ركعتين) أي: للظهر كما في رواية (يمرون) فيه تغليب للعقلاء (بين يدي العنزة) أي: وراءها. وفيه استعمال المجاز، وإلا فالعنزة لا يدلها. وفي الحديث من الفوائد: استعمال البركة مما لامسه الصالحون، ووضع السترة للمصلى حيث يخشى المرور بين يديه، والإكتفاء فيها بمثل غلظ العنزة. وفيه تعظيم الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم. وفيه استحباب استصحاب العنزة ونحوها (متفق عليه) أخرجه البخاري مطولاً ومختصراً في الطهارة وفي الصلاة وفي اللباس وفي صفة النبي صلى الله عليه وسلم. وأخرجه مسلم في الصلاة. قال ميرك: ولفظه للبخاري. وأخرجه أيضاً الترمذي وأبوداود في الصلاة، والنسائي في الزينة، وابن ماجه في الصلاة.

780-

قوله: (كان يعرض راحلته) أي: ينيخها بالعرض بينه وبين القبلة حتى تكون معترضة بينه وبين من يمر بين يديه. من عرض العود على الإناء يعرض-بضم الراء وكسرها- وضعه عرضا، قاله التوربشتي. وقال النووي: هو بفتح الياء وكسر الراء، وروى بضم الياء وفتح العين وتشديد الراء المكسورة. ومعناه يجعلها معترضة بينه وبين القبلة-انتهى. والراحلة الناقة التي تصلح لأن يوضع الرحل عليها، قاله الجوهري. وقال الأزهري: الراحلة المركوب النجيب ذكرا كان أو أنثى. والهاء فيها للمبالغة (فيصلي إليها) فيه دليل على جواز الصلاة إلى الحيوان، والاستتار بما يستقر منه من غير كراهة، وجواز الصلاة بقرب البعير، ولا يعارضه النهي عن الصلاة في معاطن الإبل، لأن المعاطن مواضع إقامتها عند الماء، ولا يستلزم من النهي عن الصلاة في معاطن الإبل النهي عن الصلاة إلى البعير الواحد في غير المعاطن. قال ابن حزم: من منع الصلاة إلى البعير فهو مبطل. وقال ابن عبد البر في الاستذكار: أما الاستتار بالراحلة فلا أعلم فيه خلافا. قلت: قال الشافعي: لا يستتر بامرأة ولا دابة. وفي الشرح الكبير للمالكية: وسترة لإمام وفذ بطاهر ثابت لا دابة إما لنجاسة فضلتها كالبغال، وإما لخوف زوالها، وإما لهما. قال الدسوقي: فلا تحصل السنة أو المندوب بالاستتار بها-انتهى. وبهذا علم أن التستر بالدابة والصلاة إليها لا يخلوا عن الكراهة عند الشافعية والمالكية. ولذلك حملوا الحديث على حال الضرورة، فقال الحافظ في الفتح، والزرقاني في شرح الموطأ، وابن رسلان: يحمل ما وقع منه في السفر من الصلاة إليها على حالة الضرورة. ونظيره صلاته إلى السرير الذي عليه المرأة، لكون البيت كان ضيقاً. قال الحافظ: وعلى هذا فقول الشافعي في البويطي "لايستتر بامرأة ولا دابة" في حال الاختيار. وقال النووي: لعل الحديث لم يبلغ الشافعي ومذهبه اتباع الحديث، فتعين العلم به، إذ لا معارض له-انتهى. قال الحافظ: وروى عبد الرزاق، عن ابن عيينة، عن عبد الله بن دينار أن ابن عمر كان يكره أن يصلي إلى البعير إلا وعليه رحل. وكان الحكمة في ذلك أنها في حال شد الرحل عليها أقرب إلى السكون من حال تجريدها-انتهى (متفق عليه) ولفظه للبخاري،

ص: 488

وزاد البخاري، قلت: أفرأيت إذا هبت الركاب. قال: كان يأخذ الرحل فيعدله، فيصلي إلى أخرته.

781-

(4) وعن طلحة بن عبيد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا وضع أحدكم بين يديه مثل مؤخرة الرحل فليصل، ولا يبال

ــ

وأخرجه أيضاً الترمذي وأبوداود (قلت) أي: قال عبيد الله بن عمر: قلت: لنافع، كذا بينه إسماعيلي، وحينئذٍ فيكون مرسلاً لأن فاعل قوله "يأخذ" الآتي هو الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يذكر نافع. قال الحافظ: قوله "قلت أفرأيت" ظاهره أنه كلام نافع والمسؤل ابن عمر، لكن بين الإسماعيلي من طريق عبيدة بن حميد، عن عبيد الله بن عمر أنه كلام عبيد الله، والمسؤل نافع فعلى هذا هو مرسل، لأن فاعل "يأخذ" هو النبي. ولم يدركه نافع-انتهى. قال ميرك شاه: فعلى هذا إيراد محي السنة، وصاحب المشكاة ليس بسديد، لأنهما ذكرا في كتابيهما كلا مالم يذكر قائله فيهما مع أنه يوهم خلاف الواقع-انتهى (إذا هبت الركاب) بكسر الراء، أي: هاجت الإبل. وشوشت على المصلى لعدم استقرارها. يقال: "هب الفحل" إذا هاج، و"هب البعير في السير" إذ نشط. والركاب الإبل التي يسار عليها. ولا واحد لها من لفظها. والمعنى إلى أي: شيء كان يصلي عند هبوب الركاب؟ (قال) أي: نافع (كان يأخذ) أي: النبي صلى الله عليه وسلم (الرحل) بفتح الراء وسكون الحاء، ما يوضع على ظهر البعير ليركب عليه كالسرج للفرس (فيعدله) بضم المثناة التحتية وفتح العين وتشديد الدال، من التعديل وهو تقويم الشيء وتسويته. وضبطه الحافظ وغيره بفتح أوله، وسكون العين، وكسر الدال أي: يقيمه تلقاء وجهه (فيصلي إلى آخرته) بفتح الهمزة والمعجمة والراء من غير مد، ويجوز المد لكن مع كسر الخاء، والمراد بها العود الذي في آخر الرحل الذي يستند إليه الراكب خلاف قادمته.

781-

قوله: (إذا وضع أحدكم بين يديه) أي: قدامه. وهذا مطلق، وقد ورد في حديث بلال "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في الكعبة وبينه وبين الجدار ثلاثة أذرع" فينبغي للمصلي أن يدنو من السترة ولا يزيد ما بينهما على ثلاثة أذرع. قال البغوي: استحب أهل العلم الدنو من السترة بحيث يكون بينه وبينها قدر إمكان السجود، وكذلك بين الصفوف. وقد ورد الأمر بالدنو منها كما سيأتي (مثل مؤخرة الرحل) أي: سترة مثل آخرة الرحل. وفي المؤخرة لغات: ضم الميم وسكون الهمزة وكسر الخاء المخففة وفتحها. وفتح الهمزة والخاء معا مع تشديد الخاء، وفتح الهمزة وكسر الخاء المشددة. وفتح الميم وسكون الواو من غير همزة وكسر الخاء. وهو العود الذي يستند إليه راكب الرحل، قال الحافظ: اعتبر الفقهاء مؤخرة الرحل في مقدار أقل السترة، واختلفوا في تقديرها بفعل ذلك، فقيل: ذراع، وقيل: ثلثا ذراع. وهو أشهر، لكن في مصنف عبد الرزاق عن نافع: أن مؤخرة رحل ابن عمر كانت قدر ذراع. وقال النووي: في هذا الحديث بيان أن أقل السترة مؤخرة الرحل، وهي قدر عظم الذراع وهو نحو ثلثي ذراع. ويحصل بأي شيء أقامه بين يديه. قال: وليس في هذا الحديث دليل على بطلان الخط-انتهى (ولا يبال) وفي بعض نسخ مسلم "ولا يبالى" من المبالاة، يقال: بالى الأمر

ص: 489

من مر وراءه ذلك)) رواه مسلم.

782-

(5) وعن أبي جهيم، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه، لكان أن يقف أربعين

ــ

وبالأمر، اهتم به وأكترث له (من) أي: بمن أو ممن (مر وراء ذلك) من المرأة ونحوها. ولا يدفعه بالإشارة وغيرها. ولفظ أبي داود "إذا جعلت بين يديك مثل مؤخرة الرحل فلا يضر من مر بين يديك" والمراد بالضرر الضرر الراجع إلى نقصان صلاة المصلى. وفيه إشعار بأنه لا ينقص شيء من صلاة من اتخذ سترة بمرور من مر بين السترة والقبلة. ويحصل النقص إذا لم يتخذ سترة، وكذا إذا مر المار بينه وبين السترة (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً الترمذي، وأبوداود، وابن ماجه.

782-

قوله: (بين يدي المصلي) ظرف الماء، أي: أمامه بالقرب منه. وعبر باليدين لكون أكثر الشغل يقع بهما. واختلف في تحديد ذلك فقيل: ما بين موضع جبهته في سجوده وقدميه، وقال بعض الحنفية: المرور المحرم، المرور بينه وبين موضع سجوده. والمراد بموضع السجود المكان الذي بينه وبين منتهى بصره إذا قام متوجهاً إلى مكان يسجد فيه. وقيل: المراد قدر ما يقع بصره على المار لو صلى بخشوع، أي: رامياً ببصره إلى موضع سجوده. وقال بعضهم: مقدار صف. وقال بعضهم: مقدار صفين. وقال بعضهم: مقدار ثلاثة صفوف. وهذا كله في الصحراء والمسجد الكبير. وأما في المسجد الصغير فما بينه وبين جدار المسجد. وقال ابن العربي: حريم المصلى الذي يمنع المرور فيه مقدار ما يحتاجه لقيامه وركوعه وسجوده. وقيل: إنه قدر رمية الحجر، أو السهم، أو المضاربة بالسيف، أقوال عند المالكية. وقالت الشافعية والحنابلة: مقدار ثلاثة أذرع. قلت: أرجح الأقوال في ذلك عندي أنه قدر ما يقع بصره على المار لو صلى بخشوع، أي: راميا ببصره إلى موضع سجوده من غير تفصيل بين المسجد وغيره. والله أعلم. قال السيوطي: المراد بالمرور أن يمر بين يديه معترضا. أما إذا مشى بين يديه ذاهبا لجهة القبلة فليس داخلا في الوعيد-انتهى. وقال الحافظ: ظاهر الحديث أن الوعيد المذكور يختص بمن مر لا بمن وقف عامداً مثلاً بين يدى المصلى أو قعد، أو رقد لكن إن كانت العلة فيه التشويش على المصلي فهو في معنى المار-انتهى. والحديث عام في كل مصل فرضاً أو نفلاً، سواء كان إماماً أو منفرداً أو مأموماً، والمفرد في ذلك (ماذا عليه) أي: من الإثم أو الضرر بسب مروره بين يديه، وهو في موضع نصب ساد مسد مفعولى يعلم، وجواب "لو" قوله:(لكان أن يقف أربعين) أي: أن المار لو علم مقدار الإثم الذي يلحقه من مروره بين يدي المصلي لاختار أن يقف المدة المذكورة حتى لا يلحقه ذلك الإثم. وقال الكرماني:

ص: 490

خيراً له من أن يمر بين يديه. قال أبوالنضر: لا أدري قال: أربعين يوماً، أو شهراً، أو سنة)) متفق عليه.

ــ

جواب "لو" ليس هو المذكور بل التقدير: لو يعلم ما الذي عليه لوقف أربعين، ولو وقف أربعين لكان خيراً له. قال الحافظ: وليس ما قاله متعيناً. وقال السندي: أي: لكان وقوفه خيراً له من المرور عنده. ولهذا علق بالعلم، وإلا فالوقوف خيراً له سواء علم أو لم يعلم (خيراً له) بالنصب على أنه خبر كان، واسمه قوله: أن يقف. وروى بالرفع، وهي رواية الترمذي. قيل: هو مرفوع على أنه اسم كان، وسوغ الابتداء بالنكرة لكونها موصوفة. ويحتمل أن يقال: اسمها ضمير الشأن، والجملة خبرها. قال الكرماني: أبهم العدد تفخيماً للأمر وتعظيماً له. قال الحافظ: ظاهرالسياق أنه عين المعدود، ولكن شك الراوي فيه. وقد وقع في مسند البزار من حديث أبي جهيم "لكان أن يقف أربعين خريفا" أي: عاماً. أطلق الخريف على العام من إطلاق الجزء على الكل. وسيأتي في الفصل الثالث من حديث أبي هريرة "كان لأن يقيم مائة عام خير له من الخطوة التي خطاها" وهذا مشعر بأن إطلاق الأربعين للمبالغة في تعظيم الأمر لا لخصوص عدد معين. وجنح الطحاوي إلى أن التقييد بالمائة وقع بعد التقييد بالأربعين زيادة في تعظيم الأمر على المار، لأنهما لم يقعا معاً، إذ المائة أكثر من الأربعين، والمقام مقام زجر وتخويف، فلا يناسب أن يتقدم ذكر المائة على الأربعين، بل المناسب أن يتأخر ومميز الأربعين إن كان هو السنة ثبت المدعى، أو ما دونها فمن باب الأولى (من أن يمر) أي: من المرور (بين يديه) أي: المصلي لأن إثم المرور يفضى إلى تعب هو أشد من هذا التعب، فإن عذاب الدنيا وإن عظم يسير (قال أبوالنضر) هذه مقولة مالك، وأبوالنضر-بفتح النون وسكون الضاد المعجمة-اسمه سالم بن أبي أمية المدني مولى عمر بن عبيد الله التيمي، سمع أنساً. قال ابن عبد البر: أجمعوا على أنه ثقة ثبت، وكان ابن عيينة يصفه بالفضل، والعقل، والعبادة. وقال الحافظ: ثقة ثبت، وكان يرسل من صغار التابعين، روى عنه مالك، والسفيانان، وغيرهم. مات سنة (129)(قال) وفي رواية "أقال" بهمزة الاستفهام. والضمير يرجع إلى بسر بن سعيد، وقيل: إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (أربعين يومًا، أو شهراً، أو سنةً) معنى هذا الكلام أن أبالنضر قال: لا أدري-أى لا أحفظ- أن شيخي بسر بن سعيد أقال بعد قوله عن أبي جهيم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يذكر بعد قوله "أربعين" لا يوماً، ولا شهراً، ولا سنة، فلا أدري هل ذكر بعد ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً من هذه الثلاثة أو لم يذكر. والحديث يدل على تحريم المرور بين يدي المصلي، فإن في معنى الحديث النهي الأكيد، والوعيد الشديد على ذلك، قاله النووي. ومقتضى ذلك أن يعد في الكبائر. وظاهره يدل على منع المرور مطلقاً، ولو لم يجد مسلكاً، بل يقف حتى يفرغ المصلى من صلاته (متفق عليه) واللفظ للبخاري، وأخرجه أيضاً مالك، وأحمد والترمذي وأبوداود، والنسائي وابن ماجه.

ص: 491

783-

(6) وعن أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس، فأراد أحد أن يجتاز بين يديه، فليدفعه، فإن أبى فليقاتله، فإنما هو الشيطان)) .

ــ

783-

قوله: (إلى شيء يستره من الناس) مما سلف تعيينه من السترة، وقدرها، وقدركم يكون بينها وبين المصلي. وفيه أنه لا يجوز الدفع والمقاتلة إلا لمن كان له سترة. قال النووي: اتفقوا على أن هذا كله لمن لم يفرط في صلاته بل احتاط وصلى إلى سترة، أو في مكان يأمن المرور بين يديه (أن يجتاز) من الجواز أي: يعبر ويمر ويتجاوز (بين يديه) وليدرأه ما استطاع، قيل: ندبا. وقال أهل الظاهر: وجوبا، وهو الظاهر. قال القرطبي: أي: بالإشارة ولطيف المنع، أو بوضع اليد على نحره كما في رواية. وقيل: بالتسبيح أو الجهر بآية في الصلاة السرية، فإن كانت الصلاة جهرية يرفع بها صوته أزيد من قرأته. قال عياض: اتفقوا على أنه لا يجوز له المشى إليه من موضعه ليرده، إنما يرده ويدفعه من موقفه لأن مفسدة المشي في صلاته أعظم من مروره من بعيد بين يديه. وإنما أبيح له قدر ما تناله يده من موقفه. ولهذا أمر بالقرب من سترته، وإنما يرده إذا كان بعيدا منه بالإشارة والتسبيح-انتهى (فإن أبى) أي: امتنع من الاندفاع (فليقاتل) حملوه على أشد الدفع، وقالوا: يزيد في دفعه الثاني أشد من الدفع الأول. قال القرطبي: اجمعوا على أنه لا يلزمه أن يقاتله بالسلاح لمخالفة ذلك لقاعدة الإقبال على الصلاة، والإشتغال بها، والخشوع فيها – انتهى. وقال الحافظ: وقد رواه الإسماعيلي بلفظ "فإن أبى فليجعل يده في صدره ويدفعه، " وهو صريح في الدفع باليد، قال: وقال أصحابنا يرده بأسهل الوجوه، فإن أبى فبأشدها ولو أدى إلى قتله، فلو قلته فلا شيء عليه، لأن الشارع أباح له مقاتلته، والمقاتلة المباحة لا ضمان فيها. ونقل عياض وغيره أن عندهم خلافاً في وجوب الدية في هذه الحالة (فإنما هو شيطان) تعليل للأمر بقتاله، أو لعدم اندفاعه، أولهما. أي: مطيع له فيما يفعل من المرور. وإطلاق الشيطان على مارد الإنس شائع ذائع. وقد جاء في القرآن قوله تعالى: {شياطين الإنس والجن} [111:6] وسبب إطلاقه عليه أنه فعل فعل الشيطان في إرادة التشويش على المصلي. وقيل المراد: إنما الحامل له على ذلك شيطان. وقد وقع في رواية للإسماعيلي "فإن معه الشيطان" ونحوه لمسلم من حديث ابن عمر بلفظ "فإن معه القرين" أي: الشيطان المقرون بالإنسان لا يفارقه، الحامل له هذا الفعل، يعني فينبغي منعه مهما أمكن عن ذلك الفعل الذي الحامل عليه الشيطان. وقد اختلف في الحكمة المقتضية للدفع، فقيل: لدفع الإثم عن المار. وقيل: لدفع الخلل الواقع بالمرور في الصلاة. وهذا الأرجح لأن عناية المصلى بصيانة صلاته أهم من دفعه الإثم عن غيره. قال الأمير اليماني، ولو قيل: إنه لهما معا لما بعد، فيكون لدفع الإثم عن المار الذي أفاده حديث "لو يعلم المار" ولصيانة الصلاة عن النقصان من أجرها، فقد أخرج أبونعيم عن عمر "لو يعلم المصلى ما ينقص من صلاته بالمرور بين يديه ما صلى إلا

ص: 492

هذا لفظ البخاري، ولمسلم معناه.

784-

(7) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب. ويقى ذلك مثل مؤخرة الرحل)) .

ــ

إلى شيء يستره من الناس، وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن مسعود: أن المرور بين يدي المصلي يقطع نصف صلاته. ولهما حكم الرفع وإن كانا موقوفين لأن مثلهما لا يقال بالرأي. وهذان الأثران مقتضاهما أن الدفع لخلل يتعلق بصلاة المصلي ولا يختص بالمار (هذا لفظ البخاري) أي: في كتاب الصلاة، وأخرجه أيضاً في صفة إبليس (ولمسلم معناه) وأخرجه أيضاً أحمد وأبوداود والنسائي وابن ماجه مطولاً ومختصراً.

784-

قوله: (تقطع) بالتأنيث (الصلاة) أي: تفسدها وتبطلها، أو تقلل ثوابها وتنقص أجرها بقطع حضورها وخشوعها وكمالها. وهذا إذا لم يكن بين يديه سترة كما سيأتي (المرأة) هو فاعل تقطع، أي: مرور المرأة إذا مرور هو محل النزاع. ولأبي داود وابن ماجه من حديث ابن عباس "يقطع الصلاة المرأة الحائض". قال السندي: يحتمل أن المراد ما بلغت سن الحيض أي: البالغة وهي المتبادرة من لفظ المرأة. وعلى هذا فالصغيرة لا تقطع. قلت: تقييد المرأة بالحائض يقتضي حمل المطلق على المقيد، فلا تقطع الصلاة إلا الحائض، كما أنه أطلق الكلب عن وصفه بالأسود في حديث أبي هريرة هذا، وقيد به في حديث أبي ذر عند مسلم وغيره، فحملوا المطلق على المقيد، وقالوا: لا يقطع إلا الأسود، فتعين في المرأة الحائض حمل المطلق على المقيد (والحمار الكلب) وجه تخصيص هذه الأشياء مفوض إلى رأى الشارع، والله أعلم (ويقى) أي: يحفظ (ذلك) أي: القطع (مثل مؤخرة الرحل) أي: مثلا، وإلا فقد أجزأ السهم كما رواه الحاكم من حديث سبرة بن معبد مرفوعاً"يستتر أحدكم في الصلاة ولو بسهم". وفي قطع الصلاة بمرور هذه الأشياء أحاديث عن جماعة من الصحابة: عن عبد الله بن مغفل عند أحمد وابن ماجه. أبي ذر عند أحمد ومسلم والترمذي وأبي داود والنسائي وابن ماجه. والحكم الغفاري عند الطبراني في الكبير. قال الهيثمي: وفيه عمر بن دريج، ضعفه أبوحاتم، ووثقه ابن معين وابن حبان، وبقية رجاله ثقات. وأنس عند البزار. قال العراقي: رجاله ثقات. وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح. وابن عباس عند أبي داود وابن ماجه. وعبد الله بن عمرو عند أحمد. قال الهيثمي: رجاله موثقون، وقال العراقي: إسناده صحيح. وعائشة عند أحمد قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يقطع صلاة المسلم شيء إلا الحمار، والكافر والكلب والمرأة، فقالت عائشة: يارسول الله! لقدر قرنا بدواب سوء. قال العراقي والهيثمي: رجاله ثقات. وهذه الأحاديث نص في أن الأشياء المذكورة فيها تقطع صلاة من لا سترة له. وظاهر القطع الإبطال. وقد عارضها حديث "لا يقطع الصلاة شيء" أخرجه أبوداود من حديث أبي سعيد، وسيأتي الكلام فيه في الفصل الثاني. وروى أيضاً من حديث أنس عند الدارقطني، قال الحافظ في الدراية: إسناده حسن. ومن حديث أبي أمامة عند الدارقطني

ص: 493

والطبراني في الكبير، قال الهيثمي: إسناده حسن. وقال الشوكاني: في إسناده عفير بن معدان، وهو ضعيف. ومن حديث جابر عند الطبراني في الأوسط. قال الهيثمي: وفيه يحيى بن ميمون التمار، وهو ضعيف، وقد ذكره ابن حبان في الثقات. ومن حديث أبي هريرة عند الدارقطني، وفيه إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة، وهو متروك. ومن حديث ابن عمر عند الدارقطني أيضا، وفيه إبراهيم بن يزيد الخوزي، وهو ضعيف. قال العراقي: والصحيح ما رواه مالك في الموطأ من قوله. وقد أخرج سعيد بن منصور، عن علي وعثمان وغيرهما من أقوالهم نحو هذا الحديث بأسانيد صحيحة. قيل ويعارض أحاديث القطع حديث عائشة، وحديث ابن عباس التاليان، وحديث الفضل بن عباس في الفصل الثاني، وحديث عائشة في الفصل الثالث. وقد اختلف العلماء في العمل بهذه الأحاديث، واختلفت آراؤهم في الكلام على هذه الروايات وتعارضها: فقال بقطع الصلاة بالمرأة والكلب والحمار أبوهريرة وأنس من الصحابة، والحسن البصري وأبوالأحوص من التابعين، وأحمد بن حنبل من الأئمة فيما حكاه عنه ابن حزم الظاهري. وحكى الترمذي عنه أنه يخصصه بالكلب الأسود، ويتوقف في الحمار والمرأة. ووجهه ابن دقيق العيد وغيره بأنه لم يجد في الكلب الأسود ما يعارضه، ووجد في الحمار حديث ابن عباس، وفي المرأة حديث عائشة يعني الذين يليان حديث أبي هريرة وسيأتي الكلام في دلالتهما على ذلك. وقال عطاء وابن جرير: يقطعها الكلب الأسود والمرأة الحائض دون الحمار لحديث ابن عباس الآتي. وذهب أهل الظاهر- كما قال ابن حزم في المحلى- إلى أنه يقطع الصلاة كون الكلب والحمار بين يدي المصلي مارا أو غير مار، صغيرا أو كبيرا، حيا أو ميتا، وكذا كون المرأة بين يدي الرجل مارة أو غير مارة، صغيرة أو كبيرة، إلا أن تكون مضطجعة معترضة فقط. ثم اختلف القائلون بالقطع بمعنى الإبطال بالثلاثة في الجواب عن أحاديث عدم القطع، فقال بعضهم: الأحاديث التي تعارض حديث أبي ذر ومن وافقه بعضها صحيحة لكنها غير صريحة في عدم القطع كحديث عائشة وابن عباس، فإن في دلالتهما على ذلك نظرا قويا كما ستعرف، فلا يترك العمل بحديث أبي ذر الصريح بالمحتمل. وبعضها صريحة كحديث أبي سعيد ومن وافقه، لكنها ضعيفة لا تنهض للاحتجاج، ولو سلم انتهاضها فهي عامة مخصصة بأحاديث القطع. أمل عند من يقول إنه يبني العام على الخاص مطلقاً فظاهر. وأما عند من يقول إن العام المتأخر ناسخ فلا تأخر لعدم العلم بالتاريخ، ومع عدم العلم يبني العام الخاص عند الجمهور. وأما على القول بالتعارض بين العام والخاص مع جهل التاريخ كما هو مذهب الحنفية فلا شك أن الأحاديث الخاصة- أي: أحاديث أبي ذر ومن وافقه- أرجح وأقوى وأصح من هذه الأحاديث العامة، فالأخذ بالأقوى أولى. وقال بعضهم: أحاديث عدم القطع منسوخة بحديث أبي ذر ومن وافقه. قال ابن حزم في المحلى (ج4:ص 14) : لو صحت هذه الآثار- وهي لا تصح- لكان حكمه صلى الله عليه وسلم بأن الكلب والحمار والمرأة يقطعون الصلاة، هو الناسخ بلا شك لما كانوا عليه قبل من أن لا يقطع الصلاة شيء من الحيوان كما لا يقطعها الفرس والسنور والخنزير وغير ذلك، فمن الباطل الذي لا يخفي، ولا يحل ترك الناسخ المتيقن والأخذ بالمنسوخ المتيقن. ومن المحال أن تعود الحالة المنسوخة ثم لا يبين

ص: 494

عليه السلام عودها- انتهى. وذهب الجمهور مالك والشافعي وأبوحنيفة وغيرهم من السلف والخلف إلى أنه لا يقطعها شتى. ثم اختلف هؤلاء في تأويل أحاديث القطع، فمال بعضهم إلى النسخ. قال الطحاوي وابن عبد البر: إن حديث أبي ذر ومن وافقه منسوخ بحديث عائشة وحديث ابن عباس الآتيين، واستدلا على تأخر تاريخ حديث ابن عباس بأنه كان في حجة الوداع، وهي في سنة عشر، وفي آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى تأخر حديث عائشة بأن ما حكاه عائشة عنه يعلم تأخره لكونه صلاته بالليل عندها، ولم يزل على ذلك حتى مات مع تكرر قيامه في كل ليلة، فلو حدث شيء مما يخالف ذلك لعلمت به. وفي هذا الاستدلال نظر لا يخفى على المتأمل، وعلى تسليم صحته لا يتم به المطلوب من النسخ لوجوه ذكرها الشوكاني في النيل، وسنورد بعضها في شرح حديث ابن عباس وعائشة. ووجه النسخ بعضهم بأن ابن عمر وابن عباس من رواة حديث القطع وقد حكما بعدم قطع شيء وهو من أمارات النسخ. وفيه أن عمل الراوي خلاف ما رواه لا يدل على نسخ مروية على ما هو الحق في ذلك. وقال العلامة الشيخ أحمد في تعليقه على الترمذي (ج2:ص164) : والصحيح الذي أرضاه وأختاره أن أحاديث القطع منسوخة بحديث "لا يقطع الصلاة شيء" الذي رواه أبوداود، وقد ضعفه ابن حزم في المحلى (ج4:ص13) بأن أبا الوداك ومجالدا ضعيفان. وأبوالوداك هو جبر بن نوف البكالي، وهو ثقة، وثقة ابن معين، وابن حبان. واختلف فيه قول النسائي، فمرة قال "صالح" ومرة قال "ليس بالقوي" ومثل هذا لا يطلق عليه الحكم بالضعف. وقد أخرج له مسلم في الصحيح. ومجالد هو ابن سعيد الهمداني الكوفي ضعفه أحمد وغيره. وقال يعقوب بن سفيان: تكلم الناس فيه وهو صدوق. وقال البخاري: صدوق، وأخرج له مسلم مقرونا بغيره، ومثله أيضاً لا يطرح حديثه، وقد ورد أيضاً عن أبي أمامة مرفوعاًرواه الطبراني في الكبير. قال في مجمع الزوائد: إسناده حسن. قال: وقد حققت ترجيح النسخ في تعليقي على المحلى لابن حزم (ج4:ص15، 14) وقلت: إن قول النبي صلى الله عليه وسلم "لا يقطع الصلاة شيء" فيه إشارة إلى أنه كان معروفا عند السامعين قطعها بأشياء من هذا النوع بل هو يكاد يكون كالصريح فيه لمن تأمل وفكر في معنى الحديث. ثم قد ورد ما يؤيد هذا، فروى الدارقطني (ص141، 140) والبيهقي (ج2:ص278، 277) من طريق إبراهيم بن منقذ الخولاني، ثنا إدريس بن يحيى أبوعمرو المعروف بالخولاني، عن بكر بن مضر، عن صخر بن عبد الله بن حرملة أنه سمع عمر بن عبد العزيز يقول عن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بالناس فمر بين أيديهم حمار، فقال عياش بن أبي ربيعة: سبحان الله، سبحان الله، سبحان الله. فلما سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(من المسبح آنفاً سبحان الله؟ قال: أنا يارسول الله! إني سمعت أن الحمار يقطع الصلاة. قال: لا يقطع الصلاة شيء) . قال: ولم أجد ترجمة لإدريس بن يحيى، وما أظن أحداً ضعفه، ولذلك لما أراد ابن الجوزي أن ينصر مذهبه ضعف الحديث بصخر بن عبد الله فأخطأ جداً، لأنه زعمه صخر بن عبد الله الحاجي المنقري، وهو كوفي متأخر، روى عن مالك والليث، وبقي في حدود سنة (230) وأما الذي في الإسناد، فهو صخر ابن عبد الله بن حرملة المدلجي، وهو حجازي قديم، كان في حدود سنة (130) وهو ثقة. قال: وهذا صريح في

ص: 495

رواه مسلم.

ــ

الدلالة على أن الأحاديث التي فيها الحكم بقطع الصلاة بالمرأة، والحمار، والكلب منسوخة، فقد سمع عياش أن الحمار يقطع الصلاة، وعياش من السابقين الذين هاجروا الهجرتين، ثم حبس بمكة. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوا له في القنوت كما ثبت في الصحيحين، فعلم الحكم الأول، ثم غاب عنه نسخة، فأعلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الصلاة لا يقطعها شيء- انتهى كلامه ملخصا مختصراً. ومال بعضهم إلى الترجيح، فقال: أحاديث الجمهور مثل حديث عائشة، وحديث ابن عباس أقوى وأصح من الأحاديث التي فيها الحكم بالقطع، فالأخذ بالأقوى أولى. قال الشيخ أحمد في تعليقه بعد نقل كلام الشافعي من "اختلاف الحديث" المطبوع بحاشيته كتاب الأم (ج7:ص164، 163) : وكأن الشافعي يريد تضعيف الحديث الذي فيه قطع الصلاة بأنه حديث يخالف أحاديث أثبت منه وأقوى، كأنه يقول شاذ، ولكن القطع ثابت بأحاديث صحيحة من غير وجه، فلا تكون شاذة. واختار بعضهم للترجيح مسلكا آخر، قال: لما اختلفت أحاديث الباب، ولم يتبين الراجح منها نظرنا إلى ما عمل به الصحابة بعد النبي صلى الله عليه وسلم، فرجحنا به أحد الجانبين. قال أبوداود في سننه بعد رواية حديث أبي سعيد: إذا تنازع الخبران عن النبي صلى الله عليه وسلم نظر إلى ما عمل به أصحابه من بعده، يعني وقد ذهب أكثرهم مثل عائشة، وابن عباس، وابن عمر، وعلى، وعثمان، وحذيفة إلى عدم القطع فليكن هو الراجح. ومال بعضهم إلى التأويل، فقال الخطابي والنووي وغيرهما: المراد بالقطع في حديث أبي ذر نقص الصلاة بشغل القلب بمرور هذه الأشياء عن مراعاة الصلاة، وبعدم القطع في حديث أبي سعيد عدم البطلان، أي: أنه لا يبطلها شيء وإن نقص ثوابها بمرور ما ذكر في حديث أبي ذر وأبي هريرة. قال الحافظ: ويؤيد ذلك أن الصحابي راوى الحديث سأل عن الحكمة في التقييد بالأسود، فأجيب بأنه شيطان. وقد علم أن الشيطان لو مر بين يدى المصلي لم تفسد عليه صلاته. وقال القرطبي: هذا مبالغة في الخوف على قطعها بالشغل بهذه المذكورات، فإن المرأة تفتن، والحمار ينهق، والكلب يخوف، فيشوش المتفكر في ذلك حتى تنقطع عليه الصلاة. فلما كانت هذه الأمور آئلة إلى القطع جعلها قاطعة- انتهى. وفيه ما قال السندي: من أن شغل القلب لا يرتفع بمؤخرة الرحل، إذ المار وراء مؤخرة الحل في شغل القلب قريب من المار في شغل القلب إن لم يكن مؤخرة الرحل فيما يظهر، فالوقاية بمؤخرة الرحل على هذا المعنى غير ظاهر- انتهى. قلت: الراجح عندي أنه لا يقطع الصلاة مرور شيء وإن لم يكن بين يديه مثل مؤخرة الرحل. وأقرب المسالك في الأحاديث التي فيها الحكم بقطع الصلاة أنها منسوخة بحديث "لا يقطع الصلاة شيء" وإن لم يرتض بذلك النووي. وهذا لأن الجمع بما تأول به الخطابي والنووي لا يخلو عن تكلف وخفاء كما أشار إليه السندي. ولا شك في أن الجميع المذكور خلاف الظاهر. وقد علم تأخر حديث "لا يقطع الصلاة شيء" بما حققه الشيخ في تعليقه على المحلى، وهو تحقيق جيد فهو أحق وأحرى بالقبول، والله أعلم (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد وابن ماجه.

ص: 496

785-

(8) وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل وأنا معترضة بينه

وبين القبلة كاعتراض الجنازة)) .

ــ

785-

قوله: (وأنا معترضة بينه وبين القبلة) قال ابن الملك: الاعتراض صيرورة الشيء حائلا بين شيئين، ومعناه ههنا مضطجعة (كاعتراض الجنازة) بفتح الجيم وكسرها. والمراد أنها تكون نائمة بين يديه من جهة يمينه إلى جهة شماله كما تكون الجنازة بين يدي المصلي عليها. وفي رواية للبخاري: ذكر عند عائشة ما يقطع الصلاة، فقالوا: يقطعها الكلب والحمار، والمرأة، فقالت: لقد جعلتمونا كلابا، وفي رواية: ذكر عندها ما يقطع الصلاة، الكلب والحمار، والمرأة، فقالت شبهتمونا بالحمر والكلاب، والله لقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي وإني على السرير بينه وبين القبلة مضطجعة، فتبدو لي الحاجة، فأكره أن أجلس فأوذي النبي صلى الله عليه وسلم، فأنسل (أي أمضى وأخرج بتأن وتدريج) من عند رجليه. والحديث استدلت به عائشة والجمهور بعدها على أن المرأة لا تقطع صلاة الرجل لأنها إذا كانت لا تقطع في حالة كونها معترضة مضطجعة- وهذه الحالة أقوى من المرور- ففي المرور بالأولى. وفيه أنه ليس فيما ذكرت مرور امرأة بين يدي المصلى، ومحمل حديث"يقطع الصلاة الكلب" الخ. هو المرور. قال السندي: لا دلالة في حديث عائشة أنها مرت بين يديه، وقال ابن بطال: هذا الحديث وشبهه من الأحاديث التي فيها اعتراض امرأة بين المصلي وقبلته تدل على جواز القعود لا على جواز المرور- انتهى. لا يقال: إن قولها "أنسل" صريح في المرور، فإن الانسلال هو المرور. لأن المرور المتنازع فيه هو أن يمر المار بين يدي المصلي معترضا، لا أن يمشي ذاهبا لجة القبلة أو لجهة الرجلين، ولم يتحقق ههنا إلا المضيء إلى جهة الرجلين كما يدل عليه قولها "فأنسل من عند رجليه" وأما ما قيل: من أن اعتراض المرأة أشد من المرور، فإذا لم يقطع الصلاة الاعتراض لا يقطع المرور أيضاً بالأولى، ففيه أن الظاهر أن حصول التشويش بالمرأة من جهة الحركة والسكون، وعى هذا فمرورها أشد من اعتراضها واضطجاعها وجلوسها. وفي النسائي في هذا الحديث "فإذا أردت أن أقوم كرهت أن أقوم فأمر بين يديه انسللت انسلالا". فالظاهر أن عائشة إنما أنكرت إطلاق كون المرأة تقطع الصلاة في جميع الحالات لا المرور بخصوصه. وأما إنكار عائشة على من ذكر المرأة مع الكلب والحمار فيما يقطع الصلاة مع أنها روت الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ "لا يقطع صلاة المسلم إلا الحمار، والكافر، والكلب، والمرأة" فقالت عائشة: يا رسول الله! لقد قرنا بدواب سوء. أخرجه أحمد. فيحتمل أنها نسيت حديث القطع عند الإنكار، ويمكن أن يكون عندها معنى القطع بمرور المرأة فيما روت، وهو قطع الخشوع بمرورها. وأما حديث الاعتراض فذكرته للرد على من قال بقطع الصلاة بالمرأة بمعنى إبطالها بالكلية. وقيل: أنكرت كون الحكم باقيا هكذا فلعلها كانت ترى نسخه. وروى البخاري أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم فيصلي من الليل وإني لمعترضة بينه وبين القبلة على فراشه. قال الحافظ: وجه الدلالة من حديث عائشة الذي احتج به ابن شهاب أن حديث "يقطع الصلاة المرأة" إلى

ص: 497

متفق عليه.

786-

(9) وعن ابن عباس، قال: ((أقبلت راكباً على أتان، وأنا يومئذ قد ناهزت الاحتلام، ورسول الله صلى الله عليه وسلم

ــ

آخره، يشمل ما إذا كانت مارة أو قائمة أو قاعدة أو مضطجعة، فلما ثبت أنه صلى الله عليه وسلم صلى وهي مضطجعة أمامه دل ذلك على نسخ الحكم في المضطجع، وفي الباقي بالقياس عليه (ولما كان ذلك كذلك مع أن النفوس جبلت على الإشغال بها فغيرها من الكلب والحمار كذلك بل أولى) قال: وهذا يتوقف على إثبات المساواة بين الأمور المذكورة، وقد تقدم ما فيه، فلو ثبت أن حديثها متأخر عن حديث أبي ذر لم يدل إلا على نسخ الاضطجاع فقط. وقد نازع بعضهم في الاستلال به مع ذلك من أوجه أخرى، أحدها: أن العلة في قطع الصلاة فيها ما يحصل من التشويش، وقد قالت "إن البيوت يومئذ لم يكن فيها مصابيح" فانتفى المعلول بانتفاء علته. ثانيها: أن المرأة في حديث أبي ذر مطلقة، وفي حديث عائشة مقيدة بكونها زوجته، فقد يحمل المطلق على المقيد ويقال يتقيد القطع بالأجنبية لخشية الافتتان بها بخلاف الزوجة، فإنها حاصلة. ثالثها أن حديث عائشة واقعة حال يتطرق الاحتمال بخلاف حديث أبي ذر فإنه مسوق مساق التشريع العام. وقال بعض النابلة: يعارض حديث أبي ذر وما وافقه أحاديث صحيحة غير صريحة، وصريحة غير صحيحة، فلا يترك العمل بحديث أبي ذر الصريح بالمحتمل، يعني حديث عائشة وما وافقه. والفرق بين المار وبين النائم في القبلة أن المرور حرام بخلاف الاستقرار نائما كان أم غيره، فهكذا المرأة يقطع مرورها لا لبثها- انتهى. ومن وجوه المنازعة أيضاً ما قيل: إنه يحمل على أن ذلك وقع في غير حالة الحيض، والحكم بقطع المرأة للصلاة إنما هو إذا كانت حائضا كما تقدم (متفق عليه) واللفظ لمسلم، وأخرجه أيضاً أحمد وأبوداود، والنسائي وابن ماجه بألفاظ متقاربة.

786-

قوله: (على أتان) متعلق بقوله "راكباً" وأتان- بفتح الهمزة، وبالمثناه الفوقية، وفي آخره نون، وشد كسر الهمزة كما حكاه الصغاني، وهي الأنثى من الحمير، ولا يقال "أتانة" والحمار يطلق على الذكر والأنثى. وفي بعض طرق البخاري عل حمار أتان- بالتنوين فيهما- على أن قوله "أتان" صفة للحمار، أو بدل منه بدل بعض من كل، لأن الحمار يطلق على الجنس فيشمل الذكر والأنثى، أو بدل كل من كل نحو شجرة زيتونة، وروى بالإضافة، أي: حمار أنثى كفحل أتن (وأنا يومئذ) الواو للحال، وأنا مبتدأ وخبره قوله (قد ناهزت الاحتلام) أي: قاربت، يقال: ناهز الصبي البلوغ إذا قاربه وداناه. قال صاحب الأفعال: ناهز الصبي الفطام دنا منه، ونهز الشيء أي: قرب. والمراد بالاحتلام البلوغ الشرعي، وهو مشتق من الحلم بالضم. وقد أخرج البزار بإسناد صحيح أن هذه القصة كانت في حجة الوداع، ففيه دليل على أن ابن عباس كان في حجة الوداع دون البلوغ. وقد اختلف في سنه حين توفي النبي صلى الله عليه وسلم، فقيل: ثلاث عشرة، ويدل له قولهم "إنه ولد في الشعب قبل الهجرة بثلاث سنين". وقيل: كان عمره عشر سنين وهو ضعيف، وقيل:

ص: 498

يصلي بالناس بمنأ إلى غير جدار، فمررت بين يدي بعض الصف، فنزلت وأرسلت الأتان ترتع، ودخلت في الصف، فلم ينكر ذلك على أحد.

ــ

خمس عشرة. قال أحمد: إنه الصواب (بمنأ) مذكر مصروف إن قلت علم للمكان، وغير منصرف إن قلت علم للبقعة. قال النووي: فيه لغتان الصرف والمنع، ولهذا يكتب بالألف والياء، والأجود صرفها وكتابتها بالألف، سميت بها لما يمنى بها من الدماء أي: تراق (إلى غير جدار) في محل النصب على الحال، والتقدير يضلى متوجها إلى غير جدار، يعني إلى غير سترة، نقله البيهقي عن الشافعي، وبوب عليه "باب من صلى إلى غير سترة" ويؤيده رواية البزار بلفظ "والنبي صلى الله عليه وسلم يصلي المكتوبة، ليس شيء يستره" لكن البخاري بوب على حديث ابن عباس هذا "باب سترة الإمام سترة لمن خلفه" وهذا مصير منه إلى أن الحديث محمول على أنه كان هناك سترة. قال الحافظ: كأن البخاري حمل الأمر في ذلك على المألوف المعروف من عادته صلى الله عليه وسلم أنه كان لا يصلي في الفضاء إلا والعنزة أمامه. ثم أيد ذلك بحديثي ابن عمر وأبي جحيفة، (يعني المذكورين أول الباب) وأوردهما عقيب حديث ابن عباس هذا. وقال العيني: استنبط البخاري ذلك من قوله "إلى غير جدار" لأن لفظ غير يشعر بأن ثمة سترة لأنها تقع دائماً صفة، وتقديره" إلى شيء غير جدار" وهو أعم من أن يكون عصا أو عنزة أو غير ذلك- انتهى. قلت: حمل البخاري لفظ الغير على النعت، والبيهقي على النفي المحض، وما اختاره البخاري هنا أولى، فإن التعرض لنفى الجدار خاصة يدل على أنه كان هناك شيء مغاير للجدار، لأنه إذا لم يكن هناك جدار ولا غيره لم يكن في التعرض لنفى الجدار خاصة فائدة. وقال الطيبي: فإن قلت: قوله "إلى غير جدار" لا ينفي شيئاً فكيف فسره (الشافعي) بالسترة، قات: إخبار ابن عباس عن مروره بالقوم، وعن عدم جدار مع أنهم لم ينكروا عليه وأنه مظنة إنكار، يدل على حدوث أمر لم يعهد قبل ذلك من كون المرور مع عدم السترة غير منكر، فلو فرض سترة أخرى لم يكن لهذا الإخبار فائدة، إذ مروره حينئذٍ لا ينكره أحد أصلا- انتهى. قال القاري: يمكن إفادته أن سترة الإمام سترة للقوم كما فهم البخاري- انتهى. وأما رواية البزار التي فيها "ليس شيء يستره" فليس المراد فيها نفي السترة مطلقاً، بل أراد نفى السترة التي تحول بينهم وبينه كالجدار المرتفع الذي يمنع الرؤية وقد صرح بمثل هذا العراقي (فمررت) أي: راكبا (بين يدي بعض الصف) هو مجاز عن القدام لأن الصف لا يد له. والمراد الصف الأول، ففي البخاري في الحج "حتى سرت بين يدي بعض الصف الأول"(ترتع) بمثناتين فوقيتين مفتوحتين وضم العين، أي: تأكل ما تشاء، من رتعت الماشية ترتع رتوعا. وقيل تسرع في المشي (فلم ينكر) على صيغة المعلوم (ذلك) أي: مشية بأتانه وبنفسه بين يدي بعض الصف (على أحد) أي: لا النبي صلى الله عليه وسلم ولا غيره ممن كانوا معه، لا في الصلاة ولا في بعدها. قال ابن دقيق العيد: استدل ابن عباس بترك الإنكار على الجواز، ولم يستدل بترك إعادتهم للصلاة، لأن ترك الإنكار أكثر فائدة. قال الحافظ: وتوجيهه أن ترك الإعادة يدل على صحتها فقط لا على جواز المرور، وترك الإنكار يدل على جواز المرور وصحة الصلاة معا. ويستفاد منه أن ترك الإنكار حجة على الجواز بشرطه، وهو انتفاء الموانع من الإنكار وثبوت العلم بالإطلاع على الفعل. ولا يقال:

ص: 499

متفق عليه.

ــ

لا يلزم مما ذكره إطلاع النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك لاحتمال أن يكون الصف حائلاً دون رؤية النبي صلى الله عليه وسلم له، لأنا نقول قد تقدم أي: في البخاري "أنه صلى الله عليه وسلم كان يرى في الصلاة من ورائه كما يرى من أمامه". وتقدم أنه مر بين يدي بعض الصف الأول، فلم يكن هناك حائل دون الرؤية، ولو لم يرو شيء من ذلك لكان توفر دواعيهم على سؤاله صلى الله عليه وسلم عما يحدث لهم كافيا في الدلالة على إطلاعه على ذلك. واستدل به على أن مرور الحمار لا يقطع الصلاة، وأنه ناسخ للحديث الذي فيه الحكم بقطع الصلاة لكون هذه القصة في حجة الوداع. وتعقب بأنه لا دلالة فيه على ذلك لما تقدم أن صلاته صلى الله عليه وسلم كانت إلى سترة، وقد تقرر أن سترة الإمام سترة للقوم، فلا يتحقق المرور المضر في حق الإمام والقوم إلا إذا مرت بين يدي الإمام ما بينه وبين السترة، ولا دلالة لحديث ابن عباس على ذلك، قاله السندي. وقال ابن العربي: يحتمل أنه لم تقطع عليهم لأن الصلاة لا يقطعها شيء، ويحتمل أن تكون لم تقطع صلاة الإمام وسترته سترة لهم، وإذا مر ما يقطع الصلاة من وراء السترة لم يبال به بلا خلاف. ولا حجة بهذا الحديث بحال- انتهى. قلت: لا شك أن الحديث ليس حجة لمن قال بعدم القطع، لأنه صريح في أن الأتان مرت بين يدي الصف فلم تدخل بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين سترته فلم تقطع صلاته، وسترة الإمام سترة لمن خلفه. وقيل: منع المرور مختص بالإمام والمنفرد، ويختص منه حكم المأموم. قال ابن عبد البر: حديث ابن عباس هذا يخص حديث أبي سعيد "إذا كان أحدكم يصلي فلا يدع أحداً يمر بين يديه". قال: فحديث أبي سعيد هذا يحمل على الإمام والمنفرد. فأما المأموم فلا يضره من بين يديه لحديث ابن عباس هذا. قال: والمرور بين يدي المصلي مكروه إذا كان إماماً أو منفردا. وأما المأموم فلا يضره من مر بين يديه كما أن الإمام أو المنفرد لا يضر واحدا منهما ما مر من وراء سترته لأن سترة الإمام سترة لمن خلفه. وقد قيل: إن الإمام نفسه سترة لمن خلفه- انتهى. ويظهر أثر هذا الخلاف فيما لو مر بين يدي الإمام أحد فعلى قول من يقول: إن سترة الإمام سترة من خلفه يضر صلاته وصلاتهم معا. وعلى قول من يقول: إن الإمام نفسه سترة لمن خلفه يضر صلاته ولا يضر صلاتهم. وقيل: إن حكم منع المرور يستثنى منه ضرورة، فقد بوب على حديث ابن عباس هذا مالك في الموطأ بلفظ "الرخصة في المرور بين يدي المصلي" وعقد عليه الشاه ولي الله الدهلوي في المصفى "باب الرخصة في المرور بين يدي الصف إذا أقيمت الصلاة" وقال مالك بعد ذكر حديث ابن عباس: وأنا أرى ذلك واسعا إذا أقيمت الصلاة، وبعد أن يحرم الإمام، ولم يجد المرأ مدخلا إلى المسجد إلا بين الصفوف. قال ابن عبد البر: هذا مع الترجمة يقتضي أن الرخصة عنده لمن لم يجد من ذلك بدا. وغيره لا يرى بذلك بأسا للآثار الدالة على أن سترة الإمام سترة لمن خلفه- انتهى. قلت: واستنبط بعضهم من الحديث نظرا إلى ما قاله مالك جواز تقديم المصلحة الراجحة على المفسدة الخفيفة، أي: احتمال بعض المفاسد لمصلحة أرجح منها، فإن المرور أمام المصلين مفسدة خفيفة. والدخول في الصلاة وفي الصف مصلحة راجحة فاغتفرت المفسدة للمصلحة الراجحة من غير إنكار (متفق عليه) وهذا لفظ البخاري، قاله ميرك. والحديث أخرجه البخاري في

ص: 500