الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والتضليل في العقائد، وإثارة الشبهات حول القرآن، إبقاء على نفوذهم ومراكزهم.
وهم في النهاية الخاسرون في الدنيا بافتضاحهم وتخبطهم وخزيهم، وفي الآخرة بالعذاب الأليم وغضب الله عليهم، فلا سعادة لهم في دنياهم وأخراهم، لأنهم استبدلوا الضلالة بالهدى، والعذاب بالمغفرة، والنار بالجنة، والنقض بالوفاء، والقطع بالوصل، والفساد بالصلاح، والعقاب بالثواب.
فقه الحياة أو الأحكام:
إن اشتمال القرآن الكريم على ذكر النحل والذباب والعنكبوت والنمل ونحوها من المحقرات مما قد لا يليق-في زعم المشركين-بكلام الفصحاء، لا يقدح في فصاحة القرآن، ولا يخلّ بكونه معجزا، لأن صغر هذه الأشياء لا يقدح في الفصاحة إذا كان ذكرها مشتملا على حكم بالغة. وهذا وجه متناسبة الآية لما قبلها.
وإذا ورد الحياء في حق الله تعالى، فليس المراد منه الخوف الذي هو مبدأ الحياء ومقدمته، بل ترك الفعل الذي هو منتهاه وغايته. وكذلك ليس المراد بالغضب في حقّ الله تعالى شهوة الانتقام وغليان دم القلب، بل المراد تلك النهاية، وهو إنزال العقاب. وهذا هو القانون الكلي في هذا الباب
(1)
.
وكلام الله حقّ مطلق، لا نقص فيه في حدّ ذاته، ولا في جانب من جوانبه، وإنما هو حق، لأنه مبين للحق ومقرر له، وسائق إلى الأخذ به، بما له من التأثير في النفس.
وضرب الأمثال والأشباه في القرآن الكريم يراد به كشف الغوامض، وتنبيه
(1)
تفسير الرازي: 132/ 2 وما بعدها.
الأذهان إلى الحقائق، وإبانة المصالح، وتقرير الحكم البالغة، وهو من الأمور المستحسنة في العقول والتربية والتعليم. وأما الذين كفروا فيجادلون في الحق بعد ما تبيّن، ويمارون بالبرهان وقد تعيّن، فيخرجون من الموضوع، ويعرضون عن الحجة.
وليس الإيمان أو الكفر أمرا وراثيا، أو قهريا جبريا، وإنما للإرادة والاختيار والعقل دخل فيه، وسببه هو استخدام طاقات الإنسان من حواس ومشاعر وأفكار، وليس للمثل-كما يزعم الكفار-تأثير في تفريق الناس إلى ضلالة وهدى، فالله تعالى لا يضلّ أحدا من المؤمنين المهتدين بهداية العقل والدين، وإنما يضلّ الفاسقين الخارجين عن الطاعة وصراط الله السوي، الذين سبق في علم الله تعالى أنهم غير هداة، فيكون إسناد الإضلال إلى الله تعالى من قبيل إسناد الفعل إلى السبب، لأنه لما ضرب المثل، فضلّ به قوم، واهتدى به قوم، كان ذلك سببا في ضلال الناس وهداهم، فكانت علة ضلالهم: هي الفسوق، أي الخروج عن هداية الله تعالى في سننه في خلقه، التي هداهم إليها بالعقل والمشاعر، وبكتابه بالنسبة إلى الذين أوتوه.
وصفات الفاسقين الذين أضلوا أنفسهم بأنفسهم كثيرة منها ما ذكرته الآية (27): نقض عهد الله من بعد توكيده: وهو وصية الله تعالى إلى خلقه، وأمره إياهم بما أمرهم به من طاعته، ونهيه إياهم عما نهاهم عنه من معصيته في كتبه على ألسنة رسله. ونقضهم ذلك: ترك العمل به.
ومنها: قطع ما أمر الله به أن يوصل: وهو الإشارة إلى دين الله وعبادته في الأرض، وإقامة شرائعه وحفظ حدوده، فهي عامة في كل ما أمر الله تعالى به أن يوصل، وهو قول الجمهور. والرحم: جزء من هذا.
ومنها: الإفساد في الأرض: أي عبادة غير الله تعالى، والجور في الأفعال،
واتّباع الشهوات، وهذا غاية الفساد.
والفسق موجب حتما للخسارة، كما أن الطاعة توصل إلى الربح، وليس المراد بالفاسقين هنا ما هو معروف شرعا وهم العصاة بما دون الكفر من المعاصي، فإنه لا يصح هنا.
وفي الآية دليل على أن الوفاء بالعهد والتزامه وكل عهد جائز، ألزم المرء نفسه به، هو أمر واجب شرعا وعقلا، فلا يحلّ له نقضه، سواء أكان بين مسلم أم بين غيره، لذمّ الله تعالى من نقض عهده، وقد قال:{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة 1/ 5]، وقال لنبيه عليه الصلاة والسلام:{وَإِمّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً، فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ، إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ} [الأنفال 58/ 8]، فنهاه عن الغدر، وذلك لا يكون إلا بنقض العهد.
والمؤمنون المهتدون على قلتهم أجل فائدة وأكثر نفعا وأعظم آثارا من أولئك الكفار الفاسقين الضالين، على كثرتهم. فإذا أشعرت الآية بأن المهتدين في الكثرة كالضالين، مع أن هؤلاء أكثر، فليس الظاهر مرادا: لأن العبرة بالكيف لا بالكم، قال تعالى:{وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ 13/ 34].
وقدم الله تعالى الإضلال على الهداية في قوله: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً} لأن سببه ومنشأه من الكفر متقدم في الوجود، فكان ذلك مناسبا لحال الكفرة، ليكون أول ما يقرع سمعهم من الجواب أمرا يفتّ في أعضادهم، ويهزّ جنابهم، وعبّر عن ذلك بصيغة المضارع المفيدة للاستقبال إيذانا بالتجدد والاستمرار.