الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولأهل الكتاب من الإعراض عن دعوة الإسلام، فالله تعالى خص طلب الرزق للمؤمنين، إشارة إلى جدارتهم واستحقاقهم له.
فقه الحياة أو الأحكام:
النبوة أو الإمامة في الدين الصالحة الدائمة الأثر تتطلب الاستقامة على أوامر الله واجتناب نواهيه، والإمامة المؤقتة القائمة على الانحراف والظلم تحفر لنفسها قبرها بيدها، وتدمر كيانها، وتقوض عرش وجودها. فالظلم مانع من الإمامة ومن اتخاذ الظالم قدوة للناس. ولا تكون الإمامة الصالحة أو النبوة إلا للأفاضل الذين يعملون الصالحات، ويرشدون إلى الخير، ويزجرون أنفسهم وغيرهم عن الشر والآثام، ولا حظّ للظالمين في شيء من هذا، لأن الظلم مؤذن بخراب المدنيات، وتدمير الحضارة والعمران.
واستدل جماعة بهذه الآية على أن الإمام يكون من أهل العدل والإحسان والفضل، مع القوة على القيام بذلك. فأما أهل الفسوق والجور والظلم، فليسوا له بأهل، لقوله تعالى:{لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِمِينَ} .
والذي عليه أكثر العلماء: أن الصبر على طاعة الإمام الجائر أولى من الخروج عليه، لأن في منازعته والخروج عليه استبدال الأمن بالخوف، وإراقة الدماء، وانطلاق أيدي السفهاء، وشن الغارات على المسلمين، والفساد في الأرض.
وإن تعظيم البيت الحرام بالطواف حوله والسعي فيه أمر قديم من عهد أبينا إبراهيم عليه السلام، وتخصيصه بالاتجاه إليه رمز لوجوده تعالى هناك، مع أن ذاته العلية لا تتحدد بمكان، وحضوره تعالى معناه حضور رحمته، وإفاضة فضله، وإسباغ نعمه، وإجابة الدعاء فيه.
والجدير بالرزق الإلهي: من آمن بالله واليوم الآخر، وأطاع ربه، واستقام على أوامر الله، واجتنب ما نهى الله عنه.
والإنسان مخير في اختيار الحق والطيّب والتزام جادة الاستقامة، وترك الباطل والخبيث، بما أعطاه الله من العقل، وبما أرشده به من الوحي، فمن حاد عن ذلك، فقد ظلم نفسه، وعرّضها للعذاب والشقاء، ويكون ذلك سببا لحملة على العذاب، وإلجائه إليه، وصب السخط عليه والانتقام منه.
وأما الكلمات التي اختبر الله بها إبراهيم: فهي الوظائف التي كلفه بها، ولما كان تكليفها بالكلام سميت به، كما يسمى عيسى بالكلمة، لأنه صدر عن الكلمة، وهي كن، وتسمية الشيء بمقدمته أحد قسمي المجاز.
واختلف العلماء في بيان المراد من الكلمات على أقوال، منها ما يأتي:
أحدها-أنها شرائع الإسلام، وقد أكملها إبراهيم عليه السلام، فما قام أحد بوظائف الدين مثله، ثم قام بها بعده كثير من الأنبياء عليهم السلام، وخصوصا محمدا صلى الله عليه وسلم. قال ابن عباس: ما ابتلى الله أحدا بهن، فقام بها كلها إلا إبراهيم عليه السلام، ابتلي بالإسلام، فأتمه، فكتب الله له البراءة، فقال:{وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفّى} [النجم 37/ 53].
الثاني-أنها الفطرة التي أقامها الله تعالى فيه.
روت عائشة في الصحيح عن النّبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «عشر من الفطرة: قص الشارب، وإعفاء اللّحية، والسواك، واستنشاق الماء، وقص الأظفار، وغسل البراجم (غسل عقد ظهور الأصابع لاجتماع الوسخ فيها)، وحلق العانة، ونتف الإبط، وانتقاص الماء أي الاغتراف منه، ونسيت العاشرة، إلا أن تكون المضمضة» .
الثالث-أنها الكوكب والشمس والقمر، التي رآها واستدل بأفولها على وجود الله تعالى ووحدانيته. وهذا القول هو الذي فسر به ابن كثير (الكلمات) ثم أورد قول ابن جرير الطبري وحاصله: أنه يجوز أن يكون المراد بالكلمات جميع ما ذكر، وجائز أن يكون بعض ذلك، ولا يجوز الجزم بشيء منها أنه أنه المراد على
التعيين إلا بحديث أو إجماع. ثم قال: ولم يصح في ذلك خبر، بنقل الواحد، ولا بنقل الجماعة الذي يجب التسليم له.
الرابع-قال ابن عباس: «الكلمات التي ابتلى الله بهن إبراهيم فأتمهن: فراق قومه في الله حين أمر بمفارقتهم، ومحاجة نمرود في الله، وصبره على قذفهم إياه في النار ليحرقوه، والهجرة من وطنه حين أمر بالخروج عنهم، وما ابتلي به من ذبح ابنه حين أمر بذبحه» ويظهر أن هذا أصح الأقوال.
واختلف العلماء أيضا في تفسير الأمن على أربعة أقوال:
الأول-أنه أمن من عذاب الله تعالى، والمعنى أن من دخله معظّما له، وقصده محتسبا الأجر، سلم من العذاب، ويعضده
قول النّبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح:
«من حج فلم يرفث ولم يفسق، خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه» .
الثاني-معناه: من دخله كان آمنا من التشفي والانتقام، كما كانت العرب تفعله فيمن أناب إليه، من تركها لحق يكون لها عليه.
الثالث-أنه أمن من حد يقام عليه، فلا يقتل به الكافر، ولا يقتص فيه من القاتل، ولا يقام الحد على المحصن والسارق، قاله أبو حنيفة وغيره.
الرابع-أنه أمن من القتال،
لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «إن الله حبس عن مكة الفيل، وسلّط عليها رسوله والمؤمنين، ولم تحل لأحد قبلي، ولا تحل لأحد بعدي، وإنما أحلت لي ساعة من نهار» .
قال ابن العربي: والصحيح فيه القول الثاني، وهذا إخبار من الله تعالى عن منّته على عباده، حيث قرر في قلوب العرب تعظيم هذا البيت، وتأمين من لجأ إليه، إجابة لدعوة إبراهيم صلى الله عليه وسلم، حين أنزل به أهله وولده، فتوقع عليهم الاستطالة، أي الاعتداء، فدعا أن يكون أمنا لهم، فاستجيب دعاؤه
(1)
.
(1)
أحكام القرآن لابن العربي: 38/ 1 - 39
والصحيح من اتخاذ مقام إبراهيم مصلّى معناه: موضعا للصلاة المعهودة، كما بان في سبب نزول الآية السابق ذكره عن عمر رضي الله عنه، واتضح منه أربعة أمور: وهي أن ذلك الموضع هو المقام المراد في الآية، وأن المراد به الصلاة المتضمنة للركوع والسجود، لا مطلق الدعاء، وأن الصلاة عقب الطواف، وأن ركعتي الطواف مطلوبتان، وهما عند المالكية: واجبتان، فمن تركهما، فعليه دم.
وقال الجصاص الحنفي عن قوله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى} هو أمر ظاهره الإيجاب، والمراد بالآية فعل الصلاة بعد الطواف،
وقد روي أن النّبي صلى الله عليه وسلم قد صلاهما عند البيت. فدلت هذه الآية على وجوب صلاة الطواف، ودل فعل النّبي صلى الله عليه وسلم لها تارة عند المقام، وتارة عند غيره على أن فعلها عنده ليس بواجب.
ويفهم من قوله تعالى: {لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِمِينَ} عدم جواز تولية الظالم، أو الفاسق، ولا فرق بين القاضي وبين الخليفة في أن شرط كل واحد منهما العدالة، وأن الفاسق لا يكون خليفة ولا يكون حاكما، كما لا تقبل شهادته ولا خبره لو روى خبرا عن النّبي عليه السلام.
قال ابن خويز منداد: وكل من كان ظالما لم يكن نبيا ولا خليفة ولا حاكما ولا مفتيا، ولا إمام صلاة، ولا يقبل عنه ما يرويه عن صاحب الشريعة، ولا تقبل شهادته في الأحكام، غير أنه لا يعزل بفسقه، حتى يعزله أهل الحل والعقد.
وقال أيضا: وأما أخذ الأرزاق (المخصصات المالية) من الأئمة الظلمة فله ثلاث أحوال: إن كان جميع ما في أيديهم مأخوذا على موجب الشريعة فجائز أخذه، وقد أخذت الصحابة والتابعون من يد الحجاج وغيره. وإن كان مختلطا
حلالا وظلما، فالورع تركه، ويجوز للمحتاج. وإن كان ما في أيديهم ظلما صراحا فلا يجوز أن يؤخذ من أيديهم
(1)
.
وقال الجصاص: دل قوله تعالى: {لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِمِينَ} على أن الإجابة وقعت له في أن ذرية إبراهيم أئمة.
واستدل أبو حنيفة بقوله تعالى: {وَأَمْناً} على ترك إقامة الحد في الحرم على الزاني المحصن والسارق إذا لجأ إليه، وعضدوا ذلك بقوله تعالى:{وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً} [آل عمران 97/ 3]. والصحيح-كما قال القرطبي-إقامة الحدود في الحرم، وأن ترك إقامتها من المنسوخ؛ لأن الاتفاق حاصل أنه لا يقتل في البيت، ويقتل خارج البيت.
وآية: {أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} استدل بها أبو حنيفة والشافعي والثوري على جواز صلاة الفرض والنفل داخل البيت الحرام، قال الشافعي رحمه الله: إن صلى في جوفها مستقبلا حائطا من حيطانها، فصلاته جائزة، وإن صلى نحو الباب، والباب مفتوح، فصلاته باطلة، وكذلك من صلى على ظهرها، لأنه لم يستقبل منها شيئا.
وقال مالك: لا يصلي في البيت الفرض ولا السّنن، ويصلي فيه التطوع (غير الرواتب)، غير أنه إن صلى فيه الفرض، أعاد في الوقت، ودليله: ما
رواه مسلم عن ابن عباس قال: أخبرني أسامة بن زيد أن النّبي صلى الله عليه وسلم لما دخل البيت، دعا في نواحيه كلها، ولم يصلّ فيه حتى خرج منه، فلما خرج ركع في قبل الكعبة ركعتين.
والحاصل: لا خلاف في صحة التطوع في الكعبة، وأما الفرض فلا يصح عند المالكية، لأن الله تعالى عين الجهة بقوله تعالى:{فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة 150/ 2].
(1)
تفسير القرطبي: 109/ 2 وما بعدها.