الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأتمه، بما لا يدع مجالا للشك لدى طالبي الحق بالدليل والبرهان، ولديهم الاستعداد للعلم واليقين، وعندهم الفهم الصحيح بسبب إنصافهم وصفاء نفوسهم، وبعدهم عن العناد والمكابرة، وقد كان هذا شأن الصحابة يسألون النّبي صلى الله عليه وسلم فيما لم يعرفوا دليله، لمحبتهم الحق، ووقوفهم عند البينة والدليل، فهم نماذج المنصفين الموقنين الذين اتبعوا الرسل بقناعة وعقل، وفهموا ما جاءوا به عن الله تبارك وتعالى.
وأما من ختم الله على قلبه وسمعه وجعل على بصره غشاوة، فأولئك قال الله فيهم:{إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ. وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ، حَتّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ} [يونس 96/ 10 - 97].
فقه الحياة أو الأحكام:
إن الاستجابة لنداء الإيمان تتطلب إعمال العقل وتفتح الكفر، وصفاء النفس، وإدراك حقائق الكون، ولو إدراكا بسيطا، وتقتضي تجردا عن الحظوظ النفسية، والأهواء الشخصية، وترك العناد. فإذا توافرت هذه الاستعدادات، تسارع نور الإيمان إلى القلب، فملأ النفس بهجة وسعادة وطمأنينة:{أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد 28/ 13].
أما نسبة الولد لله فهذا جهل بحقيقة الألوهية التي تمتاز بسمو الاتصاف بشيء فيه نقص من خصال البشر، ولا تحتاج إلى أحد من الخلق، فالله هو الأحد الواحد الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد. ولا يكون الولد إلاّ من جنس الوالد، فكيف يكون للحق سبحانه أن يتخذ ولدا من مخلوقاته:{مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ، وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ، إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ، وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ، سُبْحانَ اللهِ عَمّا يَصِفُونَ} [المؤمنون 91/ 23] فالولدية تقتضي الجنسية والحدوث، والقدم يقتضي الوحدانية والثبوت، فهو سبحانه القديم الأزلي، الواحد الأحد، الفرد الصمد، كما ذكر.
والمخلوقات كلها تقنت لله، أي تخضع وتطيع، والجمادات قنوتهم في ظهور الصنعة عليهم وفيهم.
قال الجصاص عن قوله تعالى: {بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} : فيه دلالة على أن ملك الإنسان لا يبقى على ولده، لأنه نفى الولد بإثبات الملك بقوله تعالى:{بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} يعني ملكه، وليس بولده
(1)
.
وقال القرطبي: والله تعالى مبدع السموات والأرض أي منشئها وموجدها ومبدعها ومخترعها على غير حد ولا مثال سبق. وكل من أنشأ ما لم يسبق إليه قيل له: مبدع. ومنه أصحاب البدع، وسميت البدعة بدعة، لأن قائلها ابتدعها من غير فعل أو مقال إمام، وفي البخاري:«ونعمت البدعة هذه» يعنى قيام رمضان.
وكل بدعة صدرت من مخلوق، فلا يخلو إما أن يكون لها أصل في الشرع أو لا، فإن كان لها أصل، كانت واقعة تحت عموم ما ندب الله إليه، وحض رسوله عليه، فهي في حيّز المدح. وإن لم يكن مثاله موجودا كنوع من الجود والسخاء وفعل المعروف، فهذا فعله من الأفعال المحمودة، وإن لم يكن الفاعل قد سبق إليه. ويعضد هذا قول عمر رضي الله عنه:«نعمت البدعة هذه» لمّا كانت من أفعال الخير وداخلة في حيّز المدح. وإن كانت في خلاف ما أمر الله به ورسوله، فهي في حيز الذم والإنكار. وهو معنى
قوله صلى الله عليه وسلم في خطبته: «وشرّ الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة» يريد ما لم يوافق كتابا أو سنة، أو عمل الصحابة رضي الله عنهم. وقد بيّن هذا
بقوله صلى الله عليه وسلم: «من سنّ في الإسلام سنة حسنة، كان له أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء.
(1)
أحكام القرآن للجصاص الرازي: 65/ 1
ومن سن في الإسلام سنة سيئة، كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء»
(1)
.
أما الخلق والإيجاد فيحدث بمجرد الأمر الإلهي، فإذا قضى أمرا أوجده فورا، أي إذا أراد إحكام أمر وإتقانه-كما سبق في علمه-قال له: كن. قال ابن عرفة: قضاء الشيء: إحكامه وإمضاؤه والفراغ منه، ومنه سمي القاضي، لأنه إذا حكم، فقد فرغ مما بين الخصمين.
ويلاحظ أن «قضى» لفظ مشترك، يكون بمعنى الخلق، كما في قوله تعالى:{فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ} [فصّلت 12/ 41] أي خلقهن، ويكون بمعنى الاعلام، كما قال تعالى:{وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ} [الإسراء 4/ 17] أي أعلمنا، ويكون بمعنى الأمر، كقوله تعالى:{وَقَضى رَبُّكَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيّاهُ} [الإسراء 23/ 17]، ويكون بمعنى الإلزام وإمضاء الأحكام، ومنه سمي الحاكم قاضيا. ويكون بمعنى توفية الحق، قال الله تعالى:{فَلَمّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ} [القصص 29/ 28]، ويكون بمعنى الإرادة، كقوله تعالى:{فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ} أي إذا أراد خلق شيء.
قال ابن عطية: «قضى» معناه قدّر، وقد يجيء بمعنى أمضى
(2)
.
وبمناسبة قوله سبحانه {إِذا قَضى أَمْراً} ذكر العلماء أن الأمر يأتي في القرآن على أربعة عشر وجها:
الأول-الدّين، قال الله تعالى:{حَتّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ} [التوبة 48/ 9] يعني دين الإسلام.
(1)
تفسير القرطبي: 86/ 2 - 87
(2)
المصدر السابق: 88/ 2
الثاني-القول، ومنه قوله تعالى:{إِذا جاءَ أَمْرُنا} [هود 40/ 11] يعني قولنا، وقوله:{فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} [طه 62/ 20] يعني قولهم.
الثالث-العذاب، ومنه قوله تعالى:{لَمّا قُضِيَ الْأَمْرُ} [إبراهيم 22/ 14] يعني: لما وجب العذاب بأهل النار.
الرابع-عيسى عليه السلام، قال الله تعالى:{إِذا قَضى أَمْراً} [مريم 35/ 19] يعني عيسى من غير أب.
الخامس-القتل ببدر، قال الله تعالى:{فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللهِ} [غافر 78/ 40] يعني القتل ببدر، وقوله تعالى:{لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً} [الأنفال 42/ 8] يعني قتل كفار مكة.
السادس-فتح مكة، قال الله تعالى:{فَتَرَبَّصُوا حَتّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ} [التوبة 24/ 9] يعني فتح مكة.
السابع-قتل بني قريظة وجلاء بني النضير، قال الله تعالى:{فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ} [البقرة 109/ 2].
الثامن-القيامة، قال الله تعالى:{أَتى أَمْرُ اللهِ} [النحل 1/ 16].
التاسع-القضاء، قال الله تعالى:{يُدَبِّرُ الْأَمْرَ} [الرعد 2/ 13] يعني القضاء.
العاشر-الوحي، قال الله تعالى:{يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ} [السجدة 5/ 32] أي ينزل الوحي من السماء إلى الأرض، وقوله:{يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ} [الطلاق 12/ 65] يعني الوحي.
الحادي عشر-أمر الخلق، قال الله تعالى:{أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} [الشورى 53/ 42] يعني أمور الخلائق.
الثاني عشر-النصر، قال الله تعالى:{يَقُولُونَ: هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ} [آل عمران 154/ 3] يعنون النصر، {قُلْ: إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلّهِ} يعني النصر.
الثالث عشر-الذنب، قال الله تعالى:{فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها} [الطلاق