الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من التّيه، وقولوا: يا ربّنا، حطّ عنا ذنوبنا واغفر لنا خطايانا، وسنزيد المحسنين ثوابا من فضلنا وأجرا جزيلا. والمحسن: من صحح أساس توحيده، وأحسن سياسة نفسه، وأقبل على أداء فرائضه، وكفى المسلمين شرّه.
فخالف الظالمون الأمر ولم يتبعوه، معبرا عن المخالفة بالتبديل، إشارة إلى أن المخالف كأنه أنكر الأمر وادعى أنه أمر بغيره، ودخلوا زاحفين على أستاههم، أي أدبارهم، غير خاضعين لله، فكان جزاؤهم إنزال العذاب الشديد من السماء وهو الرجز، وهو في رأي جماعة من المفسّرين، الطاعون، بسبب فسقهم وخروجهم عن طاعة الله، قيل: هلك منهم سبعون ألفا بالطاعون.
10 -
واذكروا يا بني إسرائيل نعمة أخرى حين عطش آباؤكم من شدّة الحرّ في التّيه، وطلبوا من موسى عليه السلام السقيا، فأمره الله أن يضرب بعصاه أي حجر، فضرب فانفجرت منه المياه المتدفقة بقوة، وخرجت منه اثنتا عشرة عينا، لكل جماعة منهم عين يشربون منها حتى لا تقع بينهم الشحناء، وكانوا اثني عشر سبطا، وهم ذرية أبناء يعقوب الاثني عشر، وقال الله لهم: كلوا من المنّ والسلوى، واشربوا من هذا الماء، من غير تعب، ولا تفسدوا في الأرض بأن تنشروا الفساد في الأرض، وتكونوا قدوة لغيركم فيه، أو لا تتمادوا في الفساد في حالة إفسادكم.
وكان تفجير الماء بعصا موسى معجزة ظاهرة له، وهي لا تكون لغير نبي، والمراد بالحجر الجنس، أي اضرب الشيء الذي يقال له الحجر، قال الحسن البصري: لم يأمره أن يضرب حجرا بعينه، وهذا أظهر في الحجة، وأبين في القدرة.
فقه الحياة أو الأحكام:
إن مخاطبة بني إسرائيل المعاصرين لنزول القرآن وتذكيرهم بالنّعم التي أنعم
الله بها على أصولهم، دليل واضح على وحدة الأمة، وتكافل أفرادها، وأن السعادة والشقاوة تعم الجميع من أصول وفروع، وإن لم يسأل الفرع عما فعل أصله، لكنه يتضرر بسوء أصله، وينتفع باستقامة أصله، كما قال تعالى في تعميم العذاب:{وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال 25/ 8]، وقال سبحانه في كنز الغلامين اليتيمين تحت الجدار:{وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً} [الكهف 82/ 18]، فكان صلاح الأب أو الجدّ سببا في صلاح الابن أو الحفيد نفسه، وفي حفظ المال لذريته، أي أن الصلاح يفيد في النفس والمال.
وفي قوله تعالى: {وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [البقرة 57/ 2]، إيماء إلى أن كل ما يأمر به الله من عبادة فإنما نفعه لهم، وما ينهاهم عنه، فإنما ذلك لدفع ضرّ يقع بهم، وهو بمعنى قوله تعالى:{يا أَيُّهَا النّاسُ، إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ} [يونس 23/ 10]، وقوله:{لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة 286/ 2].
أما تفجير الماء من الحجر فكان معجزة لموسى عليه السلام، والمعجزات كلها من صنع الله، وهي سنة جديدة غير ما نشاهد من العادات كل يوم، أما المخترعات العلمية فهي مبنية على السّنن العلمية باستخدام طاقات الكون من الأثير والهواء والنفط والكهرباء وغير ذلك. وكان الله قادرا على تفجير الماء وفلق البحر بلا ضرب عصا، ولكنه جلّت قدرته أراد أن يعلم عباده ربط المسببات بأسبابها، ليسعوا في الحصول على تلك الأسباب بقدر الطاقة. ومثل ذلك أيضا معجزات عيسى عليه السلام، كان الله قديرا على أن يخلق الطير من الطين ومن غير الطين، ولم يكن هناك داع لنفخ الملك في مريم، لأن طريق القدرة {كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران 47/ 3]، ولكن شاء الله أن تظهر قدرته بطريق التدرّج، ليتبين الفرق بين الطين والطير بالحياة، وكان خلق عيسى عليه السلام من نطفة الأم فقط، ونفخ الروح كان بإذن الله وقدرته:{كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران 47/ 3] وكل ذلك تقريب لفهم المعجزة.
وكان إمداد اليهود بالنّعم من أجل شدهم إلى منهج الاستقامة، وتخليصهم بالتوبة من الخطايا التي كانوا يرتكبونها، وذلك كله على سبيل العظة والعبرة.
وكان إبقاء اليهود في التّيه أربعين سنة من أجل خروج جيل جديد يتربى على العقائد الحقة وفضائل الأخلاق، وانقراض ذلك الجيل الذي تأصلت فيه جذور الوثنية وعبادة العجل.
وحينما أمر الله اليهود بالدخول في باب القرية سجّدا قائلين: حطّة، بدلوا ودخلوا الباب، يزحفون على أستاههم، وقالوا: حبّة في شعرة، وكان قصدهم خلاف ما أمرهم الله به، فعصوا وتمردوا واستهزءوا، فعاقبهم الله بالرجز وهو العذاب. وفي هذا دليل على أن تبديل الأقوال المنصوص عليها في الشريعة لا يجوز إن كان التّعبد بلفظها، لذمّ الله تعالى من بدّل ما أمر به بقوله. أما إن كان التّعبد بمعناها فيجوز تبديلها بما يؤدّي ذلك المعنى، ولا يجوز تبديلها بما يخرج عنه. وبناء عليه أجاز جمهور العلماء للعالم بمواقع الخطاب البصير بآحاد كلماته رواية الحديث النّبوي بالمعنى، لكن بشرط المطابقة للمعنى بكماله. واتّفق العلماء على جواز نقل الشرع للأعاجم غير العرب بلسانهم وترجمته لهم، وذلك هو النقل بالمعنى. وقد فعل الله ذلك في كتابه فيما قصّ من أنباء ما قد سلف، فقصّ قصصا ذكر بعضها في مواضع بألفاظ مختلفة والمعنى واحد، ونقلها من ألسنتهم إلى اللسان العربي، وهو مخالف لها في التقديم والتأخير، والحذف والإلغاء، والزيادة والنقصان. وإذا جاز إبدال العربية بالعجمية، فلأن يجوز بالعربية أولى. وأما
حديث «نضّر الله وجه امرئ سمع مقالتي، فبلّغها كما سمعها» فالمراد حكمها، لا لفظها، لأن اللفظ غير معتدّ به
(1)
.
وأما تعذيب بني إسرائيل بإنزال الرجز (أي العذاب) من السماء، فكان
(1)
تفسير القرطبي: 411/ 1 - 413
بسبب فسقهم كما قال تعالى: {بِما كانُوا يَفْسُقُونَ} ، وفي سورة الأعراف:{بِما كانُوا يَظْلِمُونَ} (162)، والفسق في الشرع: عبارة عن الخروج من طاعة الله إلى معصيته. وهذا الفسق هو الظلم المذكور في قوله تعالى: {عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} وفائدة التكرار: التأكيد، والحق كما قال الرازي
(1)
: أنه غير مكرر لوجهين: الأول: أن الظلم قد يكون من الصغائر، وقد يكون من الكبائر.
الثاني: يحتمل أنهم استحقوا اسم الظالم بسبب ذلك التبديل، فنزل الرجز عليهم من السماء، بسبب ذلك التبديل، بل للفسق الذي كانوا فعلوه قبل ذلك التبديل، وعلى هذا الوجه يزول التكرار.
وأفادت آية {وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ} تقرير سنة الاستسقاء، بإظهار العبودية والفقر والمسكنة والذّلة مع التوبة النصوح. وقد أقرت شريعتنا سنة الاستسقاء بالخروج إلى المصلى والخطبة والصلاة في رأي جمهور العلماء، لأن نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم استسقى، فخرج إلى المصلّى متواضعا متذلّلا مترسلا متضرعا. وذهب أبو حنيفة إلى أنه ليس من سنّة الاستسقاء صلاة ولا خروج، وإنما هو دعاء لا غير، واحتج بحديث أنس في صحيحي البخاري ومسلم. قال القرطبي:
ولا حجة له فيه، فإن ذلك كان دعاء عجّلت إجابته، فاكتفى به عما سواه، ولم يقصد بذلك بيان سنته، ولما قصد البيان بيّن بفعله، حسبما
رواه مسلم عن عبد الله بن زيد المازني، قال:«خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المصلى، فاستسقى، وحوّل رداءه، ثم صلّى ركعتين»
(2)
.
ودلّ قوله تعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا} ، و {وَلا تَعْثَوْا} ، على إباحة النّعم وتعدادها، والنهي عن المعاصي والإنذار بعقوبتها وأضرارها.
(1)
تفسير الرازي: 91/ 3 - 92
(2)
تفسير القرطبي: 418/ 1