المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

بسم الله الرحمن الرحيم ‌ ‌مقدمة بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على - معترك الأقران في إعجاز القرآن - جـ ١

[الجلال السيوطي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌(من وجوه الإعجاز)

- ‌الوجه الأول من وجوه إعجازه

- ‌الوجه الثاني من وجوه إعجازه

- ‌الوجه الثالث من وجوه إعجازه

- ‌وهل يجوزُ استعمال السجع في القرآن

- ‌ وقد تتبعت الأحكام التي وقعت في آخر الآي مراعاة للمناسبة فعثرتمنها على ما ينيف على الأربعين حكماً:

- ‌تنبيهات

- ‌(فصل)

- ‌تنبيهات

- ‌الوجه الرابع من وجوه إعجازه

- ‌قاعدة

- ‌تنبيه:

- ‌فصل

- ‌الوجه الخامس من وجوه إعجَازه افتتاح السور وخواتمها

- ‌الوجه السادس من وجوه إعجازه (مُشْتَبِهات آياته)

- ‌الوجه السَّابع من وجوه إعجَازه (ووود مشكله حتى يوهم التعارض بين الآيات)

- ‌فصل

- ‌تنبيه:

- ‌الوجه الثامن من وجوه إعجازه (وقوع ناسخه ومنسوخه)

- ‌تنبيه:

- ‌تنبيه:

- ‌تنبيه:

- ‌الوجه التاسع من وجوه إعجازه (انقسامه إلى محكم ومتشابه)

- ‌فصل

- ‌الوجه العاشر من وجوه إعجازه (اختلاف ألفاظه في الحروف وكيفيتها من تخفيف وتشديد وغيرهما)

- ‌تنبيهات:

- ‌الوجه الحادي عشر من وجوه إعجازة (تقديم بعض ألفاظه وتأخيرها في مواضع)

- ‌الوجه الثاني عشر من وجوه إعجازه (إفادة حصره واختصاصه)

- ‌تنبيه:

- ‌الوجه الثالث عشر من وجوه إعجازه (احتواؤه على جميع لغات العرب وبلغة غيرهم من الفرس والروم والحبشة وغيرهم)

- ‌فائدة

- ‌الوجه الرابع عشر من وجوه إعجازه (عموم بعض آياته وخصوص بعضها)

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌(فروع منثورة تتعلق بالعموم والخصوص)

- ‌الوجه الخامس عشر من وجوه إعجازه (ورود بعض آياته مجملة وبعضها مبيّنة)

- ‌فصل

- ‌تنبيه:

- ‌تنبيه:

- ‌الوجه السادس عشر من وجوه إعجازه (الاستدلال بمنطوته أو بمفهومه)

- ‌فصل

- ‌فائدة

- ‌الوجه السابع عشر من وجوه إعجازه (وجوه مخاطباته)

- ‌الوجه الثامن عشر من وجوه إعجازه (ما انطوى عليه من الإخبار بالمغيبات)

- ‌الوجه التاسع عشر من وجوة إعجازه (إخباره بأحوال القرون السالفة والأمم البائدة، والشرائع الداثرة)

- ‌الوجه العشرون من وجوه إعجازه (الروعة التي تلحق قلوبَ سامعيه وأسماعهم عند سماعه)

- ‌الوجه الحادي والعشرون من وجوه إعجازه (أن سامِعَه لا يمجه وقارئه لا يَملة فتلذ له الأسماع وتشغف له القلوب)

- ‌الوجه الثاني والعشرون من وجوه إعجازه (تيسيره تعالى حفظه وتقريبه على متحفظيه)

- ‌الوجه الثالث والعشرون من وجوه إعجازه (وقوع الحقائق والمجاز فيه)

- ‌تنبيه:

- ‌تنبيه:

- ‌فصل في أنواع مختلف في عدها من المجاز

- ‌فصل فيما يوصف بأنه حقيقة أو مجاز باعتبارين

- ‌فصل في الواسطة بين الحقيقة والمجاز

- ‌خاتمة

- ‌الوجه الرابع والعشرون من وجوه إعجازه (تشبيهه واستعاراته وهو من أشرف أنواع البلاغة وأعلاها)

- ‌ذكر أقسامه

- ‌قاعدة

- ‌قاعدة أخرى

- ‌فائدة

- ‌فرع

- ‌تنبيه

- ‌فائدة

- ‌فائدة ثانية

- ‌خاتمة

- ‌الوجه الخامس والعشرون من وجوه إعجازه (وقوع الكناية والتعريض)

- ‌تذنيب

- ‌ فصل

- ‌الوجه السادس والعشرون من وجوه إعجازه (إعجازه في آية وإطنابه في أخرى)

- ‌تنبيه:

- ‌فصل

- ‌تنبيهات

- ‌القسم الثاني من قسمي الإيجاز إيجاز الحذف، وله فوائد

- ‌فائدة

- ‌قاعدة

- ‌ذكر شروطه

- ‌تنبيه:

- ‌فائدة

- ‌‌‌قاعدة

- ‌قاعدة

- ‌قاعدة

- ‌فصل

- ‌الحذف على أنواع

- ‌النوع الثاني: ما يسمّى بالاكتفاء

- ‌النوع الثالث: ما يسمى بالاحتباك

- ‌النوع الرابع: ما يسمى بالاختزال

- ‌خاتمة

- ‌فصل

- ‌فائدة

- ‌النوع الثاني: دخول الأحرف الزائدة:

- ‌النوع الثالث: التأكيد الصناعي

- ‌النوع الرابع: التكرير

- ‌النوع الخامس: الصفة

- ‌‌‌قاعدة

- ‌قاعدة

- ‌‌‌فائدة

- ‌فائدة

- ‌النوع السادس - البدل:

- ‌النوع السابع: - عطف البيان:

- ‌النوع الثامن: عطف أحد المترادفين على الآخر:

- ‌النوع التاسع: عطف الخاص على العام:

- ‌تنبيه

- ‌النوع العاشر: عطف العام على الخاص:

- ‌النوع الحادي عشر: الإيضاح بعد الإبهام:

- ‌النوع الثاني عشر: التفسير:

- ‌النوع الثالث عشر: وضع الظاهر موضع المضمر:

- ‌تنبيه:

- ‌النوع الرابع عشر: الإيغال:

- ‌النوع الخامس عشر - التذييل:

- ‌النوع السادس عشر: الطرد والعكس:

- ‌النوع السابع عشر: التكميل:

- ‌النوع الثامن عشر: التتميم:

- ‌النوع التاسع عشر: الاستقصاء:

- ‌النوع العشرون: الاعتراض:

- ‌النوع الحادي والعشرون: التعليل:

- ‌الوجه السابع والعشرون من وجوه إعجازه (وقوع البدائع البليغة فيه)

- ‌الإيهام: ويدعى التّورية:

- ‌ومنها الالتفات

- ‌تنبيهات:

- ‌الإطراد

- ‌الانسجام

- ‌الافتنان

- ‌الاقتدار

- ‌ائتلاف اللفظ مع اللفظ وائتلافه مع المعنى

- ‌الاستدراك والاستثناء

- ‌الاقتناص

- ‌الإبدال

- ‌تاكيد المدح بما يشبه الذم

- ‌التفويف

- ‌التقسيم

- ‌التدبيج

- ‌التنكيت

- ‌التجريد

- ‌التعديد

- ‌الترديد

- ‌التضمين

- ‌الجناس

- ‌تنبيه:

- ‌الجمع

- ‌الجمع والتفريق

- ‌الجمع والتقسيم

- ‌الجمع والتفريق والتقسيم

- ‌جع المؤتلف والمختلف

- ‌حسن النسق

- ‌عتاب المرء نفسه

- ‌العكس

- ‌العنوان

- ‌الفرائد

- ‌القسم

- ‌اللف والنشر

- ‌المشاكلة

- ‌المزاوجة

- ‌المبالغة

- ‌‌‌فائدة

- ‌فائدة

- ‌المطابقة

- ‌المواربة

- ‌المراجعة

- ‌النزاهة

- ‌الإبداع

- ‌الوجه الثامن والعشرون من وجوه إعجازه (احتواؤه على الخبر والإنشاء)

- ‌فصل

- ‌فرع

- ‌قاعدة

- ‌فرع

- ‌تنبيهات

- ‌قاعدة

- ‌فائدة

- ‌فصل

- ‌تنبيهات

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌قاعدة

- ‌فائدة

- ‌فصل

- ‌الوجه التاسع والعشرون من وجوه إعجازه (إقسامه تعالى في مواضع لإقامة الحجة وتأكيدها)

- ‌الوجه الثلاثون من وجوه إعجازه (اشتماله على جميع أنواع البراهين والأدلة)

- ‌فصل

- ‌الوجه الحادي والثلاثون من وجوه إعجازه (ضَرْب الأمثَالِ فيهِ ظاهرة ومضْمَرة)

- ‌فائدة

- ‌الوجه الثاني والثلاثون من وجوه إعجازه (ما فيه من الآيات الجامعة للرَّجاء والعدْل والتَخْويف)

- ‌الوجه الثالث والثلاثون من وجوه إعجازه (ورود آيات مُبهمة يحِيرُ العقل فيها)

- ‌ذكر المجموع من المبهمات الذين عرف أسماء بعضهم

- ‌تنبيه:

- ‌الوجه الرابع والثلاثون من وجوه إعجازه (احتواؤها على أسماء الأشياء والملائكة والكُنى والألقاب وأسماء القبائل والبلاد والجبال والكواكب)

- ‌الوجه الخامس والثلاثون من وجوة إعجازه (ألفاظه المشتركة)

الفصل: بسم الله الرحمن الرحيم ‌ ‌مقدمة بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على

بسم الله الرحمن الرحيم

‌مقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

يقول عبيد الله سبحانه عبد الرحمن بن جال الدين السيوطي عفا الله عنه وغفر له ولوالديه ولجميع المسلمين إنه أرحم الراحمين:

الحمد لله الذي جعل معْجزَاتِ هذه الأمَّةِ عَقْلِيَّةً؛ لفَرْطِ ذَكائهم، وكمال

أفهامهم، وفَضْلِهم على مَنْ تقدمهم، إذ معجزاتهم حِسيّة لبلَادتهم، وقلَّةِ

بَصِيرتهم، نَحْمَده سبحانه على قوله لرسوله:(وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) ، وخَصّه بالإعانةِ على التبليغ فلم يقدر أحدٌ منهم

على معارَضَتِه بعد تَحَدِّيهم، وكانوا أَفصحَ الفصحاءِ وأبلَغ البلغاء، وأمهلهم طولَ السنين فعجزوا.

وقالوا: (لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ) .

فأخبر تعالى أَنَّ الكتابَ آية من آياتِه قائمٌ مقامَ معجزاتِ غيره من الأنبياء

لفَنَائها بفَنَائهم.

وكانوا أحرصَ الناسِ على إطفاء نُورِه، وإخفاء، أمْرِهِ، فلو كان

في مقدرتهم معارضَتُه لعدلوا إليها تقويةً لحججهم، بل عَدلوا إلى العِنَادِ تارةً

وإلى الاستهزاء أخرى، فتارةً قالوا: ساحِر، وتارة قالوا: أساطيرالأولين.

كلّ ذلك مِنْ تَحَيّرِهم، ثم رضوا بتحكيم السَّيْفِ في أعناقهم، وسَبْيِ ذَرَارِيهم، وحُرمهم، واستباحة أموالهم، فنصب لهم الحَرْبَ ونصبوا له، وقتَل مِنْ عِلْيَتِهمْ

ص: 3

وأعلامهم وأعمامهم وبني أعمامهم، وهو في ذلك يحتجّ عليهم بأن يَاتُوا بسورةٍ واحدة وآياتٍ يسيرة، إذ هي أنْقَض لقوله، وأفسد لأمره، وأبلغُ في تكذيبه، وأسرع في تفريق أتباعِهِ مِنْ بَذْلِ نفوسهم وخروجهم من أوطانهم، مع أنهم أشدّ الخَلْق أَنَفَةً، وأكثرهم مفاخرة، والكلام سَيِّدُ عملهم، فحين لم يجدوا حِيلَةً ولا حجًّة قالوا له: أنْتَ تعرف مِنْ حال الأمم ما لا نَعْرِف، فلذلك يمكنُك ما لا يمكننا.

فقال لهم: هاتوها مفتريات لتَبْكِيتهم، فلم يرُمْ ذلك خطيبٌ، ولا طمع فيه شاعر، ولا طبع منه أو تكلّفه، ولو تكلَّفَة لظهر ذلك، ولو ظهر لوجد مَن يستجيره ويحميه، نصْرَةً لدِينهم، بل أظهر الله دينَه، وخرق العادةَ في أسلوبِ كلامهِ وبلاغته وحلاوتهِ، حتى التَذوا بسماعه ألذّ من أهل اللهْوِ في لهوِهم، وأبقى ذلك فيه إلى صفحات الدهر ليراها ذوو البصائر، كما قال صلى الله عليه وسلم: " ما مِن الأنبياء نَبِيءٌ إلاّ أعطي من الآيات، ما مثْله آمَنَ عليه البَشَر، وإنما كان الذي

أوتيته وَحْياً أوْحَاه إليَّ، فأرجو أن أكونَ أكثرهم تابعاً يَوْمَ القيامة ".

فصلوات الله وسلامه على هذا النبي الكريم الذي أدى الأمانةَ، ونصح أمّتَه

إلى رشدهم وهدايتهم، فهو أوْلَى بالمؤمنين من أنفسهم، ورضِيَ الله تعالى عن

أصحابه وأتباعِه الذين نَصَروة بأنفسهم وأموالهم.

أما بعد فإنَّ إطلاقَ السَّلَفِ رضي الله عنهم على كلامِ اللهِ أنه محفوظ في

الصّدور، مقروءٌ، بالألسنة، مكتوب في المصاحف هو بطريق الحقيقة لا بطريق المجاز، وليس يعنون بذلك حلولَ كلام الله تعالى القديم في هذه الأجرام، تعالى الله عن ذلك، وإنما يريدون أنَّ كلامَه جلّ وعلا مذكور مدلول عليه بتلاوة اللسان، وكلام الجَنَان، وكتابة البنَان، فهو موجود فيها حقيقة وعِلْماً لا مدلولاً، لأنَّ الشيءَ له وجودات أربع: وجود في الأذهان، ووجود في الأعيان، ووجود في اللسان، ووجود بالبَنَان، أي بالكتابة بالأصابع، فالوجودُ الأول الذات الحقيقي، وسائر الوجَودات إنما هي باعتبار الدلالة والفَهْم.

وبهذا تعرف أنَّ التلاوةَ غير المتلوّ، والقراءة غير المقروء، والكتابة غير المكتوب، لأنَّ الأول من كل قسمين من هذه الأقسام حادث، والثاني منها قديم لا نهاية له.

ص: 4

وقد أفرد علماؤنا رضي الله عنهم بتصنيف إعجاز القرآن، وخاضوا في وجوهِ إعجازِه كثيراً، منهم الخطابي، والرمّاني، والزَّمْلَكاني، والإمام الرازي، وابن سراقة، والقاضي أبو بكر الباقِلاني، وأنهى بعضهم وجوه إعجازه إلى ثمانين.

والصواب أنه لا نهاية لوجوه إعجازه كما قال السكاكي في المفتاح: اعلم أن

إعجاز القرآن يدرك ولا يمكن وصفه، كاستقامة الوزن تدرك ولا يمكن

وصفها، وكالملاحة.

وكما يدرك طيب النغم العارض لهذا الصوت، ولا يدرك تحصيله لغير ذوي الفطر السليمة إلا بإتقان علمي المعاني والبيان والتمرين فيهما.

وقال الأصبهاني في تفسيره: اعلم أن إعجاز القرآن ذكر من وجهين:

أحدهما إعجاز يتعلق بنفسه.

والثاني بصرف الناس عن معارضته، فالأول إما أن يتعلق بفصاحته وبلاغته أو بمعناه.

أما الإعجاز المتعلق بفصاحته وبلاغته فلا يتعلق بعنصره الذي هو اللفظ والمعنى، فإن ألفاظه ألفاظهم، قال تعالى:(قرْآناً عَرَبِيًّا) .

(بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ) . ولا بمعانيه، فإن كثيراً منها موجود في الكتب المتقدمة، قال تعالى:(وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ) .

وما هو في القرآن من المعارف الإلهية وبيان المبدأ والمعاد،والإخبار بالغيب، فإعجازه ليس براجع إلى القرآن من حيث هو قرآن، بل لكونها حاصلة من غير سبق تعليم وتعلم، ولكون الإخبار بالغيب إخبارا بالمغيب

سواء كان بهذا النظم أو بغيره، مورَداً بالعربية أو بلغة أخرى، بعبارة أو إشارة، فإذاً فالنظم المخصوص صورة القرآن، واللفظ والمعنى عنصره، وباختلاف الصور يختلف حكم الشيء واسمه لا بعنصره، كالقرط والخاتم والسوار، فإنه باختلاف صورها اختلفت أسماؤها، لا بعنصرها الذي هو الذهب والفضة والحديد، فإن الخاتم المتخذ من الذهب ومن الفضة ومن الحديد يسمى خاتماً،وإن كان العنصر مختلفاً.

وإن اتخذ خاتم وقرْط وسوار من ذهب اختلفت أسماؤها باختلاف صورها وإن كان العنصر واحدا.

قال: فظهر من هذا أن الإعجاز المختص بالقرآن يتعلق بالنظم المحصوص.

ص: 5

وبيان كون النظم معجزاً يتوقف على بيان نظم الكلام، ثم بيان أن هذا النظم

مخالف لما عداه من النظم.

فنقول: مراتب تأليف الكلام خمس:

الأول: ضم الحروف المبسوطة بعضها إلى بعض لتحصل الكلمات الثلاث

الاسم والفعل والحرف.

والثانية: تأليف هذه الكلمات بعضها إلى بعض، فتحصل الجمل المفيدة، وهو النوع الذي يتداوله الناس جيعأ في مخاطباتهم وقضاء حوائجهم، ويقال له المنثور من الكلام.

والثالثة: ضم بعض ذلك إلى بعض ضما له مَبَادٍ ومقاطع، ومداخل ومخارج، ويقال له المنظوم.

والرابعة: أن يعتبر في أواخر الكلام مع ذلك تسجيع، ويقال له السجع.

والخامسة: أن يجعل له مع ذلك وزن، ويقال له الشعر.

والمنظوم إما محاورة، ويقال له الخطابة، وإما مكاتبة ويقال له الرسالة، فأنواع الكلام لا تخرج عن هذه الأقسام، ولكل من ذلك نظم مخصوص.

والقرآن جامع لمحاسن الجميع على غير نظم لشيء منها، يدل على ذلك أنه لا يصح أن يقال له رسالة أو خطابة أو شعر أو سجع، كما يصح أن يقال هو كلام، والبليغ إذا قرع سمعه فصل بينه وبين ما عداه من النظم.

ولهذا قال تعالى: (وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) .

تنبيهاً على أن تأليفه ليس على هيئة نظْم يتعاطاه البشر، فيمكن أن يغير بالزيادة والنقصان كحالة الكتب الأخرى.

قال: وأما الإعجاز المتعلق بصرف الناس عن معارضته فظاهر أيضاً إذا

اعتبر، وذلك أنه ما من صناعة كانت محمودة أو مذمومة إلا وبينها وبين قوم

مناسبات خفية واتفاقات فعلية، بدليل أن الواحد يؤثر حرفة من الحرف

ص: 6

فينشرح صدره بملابستها، وتطيعه قواه في مباشرتها، فيقبلها بانشراح صدر

ويزاولها بقلبه.

فلما دعا الله أهل البلاغة والخطابة الذين يهيمون في كل واد من المعاني

بسلاطة لسانهم إلى معارضة القرآن، وعجزوا عن الإتيان بمثله، ولم يقصدوا

لمعارضته، فلم يخف على ذوي البلاغة أن صارفا إلهياً صرفهم عن ذلك.

وأيُّ إعجاز أعظم من أن يكون كافة البلغاء عجزوا في الظاهر عن معارضة، مصروفة في الباطن عنها.

فإن قلت: هل يعلم إعجاز القرآن ضرورة أم لا؟

فالجواب ظهور ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم يعلم ذلك، ضرورة، وكونه معجزا يعلم بالاستدلال.

قال أبو الحسن الأشعري: والذي نقوله إن الأعجمي لا يمكنه أن يعلم

إعجازه إلا استدلالاً، وكذلك من ليس ببليغ.

فأما البليغ الذي أحاط بمذاهب العرب وغرائب الصنعة فإنه يعلم من نفسه ضرورة عجزه وعجز غيره عن الإتيان بمثله.

فإن قلت: إنما وقع العجز في الإنس دون الجن؟

فالجواب أن الجن ليسوا من أهل اللسان العربي الذي جاء القرآن على أساليبه، وإنما ذكروا في قوله تعالى: (قلْ لَئِن اجْتَمَعَت الإنْس وَالْجِنّ.

..

) تعظيما لشأنه، لأن للهيئة الاجتماعية من القوة ما ليس للأفراد، فإذا فرِض إجماع الثقلين، وظاهر بعضهم بعضا، وعجزوا عن المعارضة كان الفريق الواحد أعجز.

وقال بعضهم: بل وقع للجن أيضاً والملائكة منويون في الآية، لأنهم لا

يقدرون أيضاً على الإتيان بمثل القرآن.

وقال الرُّماني في غرائب التفسير: إنما اقتصر في الآية على ذكر الجن

والإنس، لأنه صلى الله عليه وسلم كان مبعوثاً إلى الثقلين دون الملائكة.

ص: 7

فإن قلت: قد قال تعالى: (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82) .

وقد وجدنا فيه اختلافا وتفاوتا في الفصاحة، بل نجد فيه الأفصح والفصيح.

والجواب أنه لو جاء القرآن على غير ذلك لكان على غير

النمَط المعتاد في كلام العرب من الجمع بين الأفصح والفصيح، فلا تتم الحجة في الإعجاز، فجاء على نمط كلامهم المعتاد ليتم ظهور العجز عن معارضته ولا يقولوا مثلاً: أتيت بما لا قدرة لنا على جنسه، كما لا يصح للبصير أن يقول للأعمى: قد غلبتك بنظري، لأنه يقول له: إنما تتم لك الغلبة لو كنت قادراً على النظر، وكان نظري أقوى من نظرك، فأما إذا فقد أصل النظر فكيف تصح مني المعارضة.

وقيل: إن الحكمة في تنزيه القرآن عن الشعر الموزون - مع أن الشعر الموزون من الكلام رتْبَته فوق رتبة غيره - إن القرآن منبع الحق، وجمع الصدق، وقصارى أمر الشاعر التخييل بتصور الباطل في صورة الحق، والإفراط في الإطراء، والمبالغة في الذم والإيذاء، دون إظهار الحق، وإثبات الصدق، ولهذا نزه الله نبيه صلى الله عليه وسلم عنه، ولأجل شهرة الشعر بالكذب سمى أصحاب البرهان القياسات المؤدية في أكثر الأمر إلى البطلان والكذب: شِعْريّة.

وقال بعض الحكماء: لم يُرَ متَدَيِّن صادق اللهجة مُفْلق في شعره، وأما ما

وجِد في القرآن مما صورته صورة الموزون

فالجواب عنه أنْ ذلك لا يسمى شعراً، لأن من شرط الشعر القصد، ولو كان شعراً لكان من اتفق له في كلامه شيء موزون شاعراً، فكان الناس كلهم شعراء، لأنه قل أن يخلو كلام أحد عن ذلك.

وقد ورد ذلك على الفصحاء، فلو اعتقدوه شعرا لبادروا إلى معارضته

والطعن عليه، لأنهم كانوا أحرص شيء على ذلك، وإنما يقع ذلك لبلوغ الكلام الغاية القصْوى في الانسجام.

وقيل البيت الواحد وما كان على وزنه لا يسمى شعراً.

وأقل الشعر بيتان "فصاعدا.

وقِيل الرجز لا يسمى شعراً أصلا.

وقيل:أقل ما يكون من الرجز شعراً أربعة أبيات، وليس ذلك في القرآن بحال.

ص: 8

قال الغزالي: الاختلاف لفظ مشترك بين معان، وليس المراد نفي اختلاف

الناس فيه، بل نفي الاختلاف عن ذات القرآن، يقال: هذا كلام مختلف، أي لا يشبه بعضه بعضاً، أو لا يشبه أوله آخره، أو بعضه يدعو إلى الدين وبعضه يدعو إلى الدنيا، وهو مختلف النّظْم، فبعضه على وزن الشعر وبعضه منزحف، وبعضه على أسلوب مخصوص في الجزالة، وبعضه على أسلوب يخالفه، وكلام الله منَزة عن هذه الاختلافات، فإنه على منهاج واحد في النظم يناسب أوله آخره، وعلى درجة واحدة في الفصاحة، فليس يشتمل على الغث والسمين، ومسوق بمعنى واحد، وهو دعوة الخلق إلى الله تعالى، وصرفُهم عن الدنيا إلى الدين، وكلام الآدميين يتطرق إليه هذه الاختلافات، إذ كلام الشعراء والمراسلين إذا قيس عليه وجِد فيه اختلاف في منهج النظم، ثم اختلاف في درجات الفصاحة، ثم في أصل الفصاحة، حتى يشتمل على الغَثّ والسمين، ولا تتساوى رسالتان ولا قصيدتان، بل تشتمل قصيدة على أبيات فصيحة وأبيات سخيفة، وكذلك تشتمل القصائد والأغراض على أغراض مختلفة، لأن الشعراء والفصحاء في كل واد يهيمون، فتارة يمدحون الدنيا، وتارة يذمونها، وتارة يذمون الجبْنَ ويسمونه ضَعْفاً، وتارة يمدحونه ويسمونه حزماً، وتارة يمدحون الشجاعة ويسمونها

صرامة، وتارة يذمونها ويسمونها تهوراً.

ولا ينفك كلام آدمي عن هذه الاختلافات، لأن منشأها اختلاف

الأغراض والأحوال.

والإنسان تختلف أحواله فتسعده الفصاحة عند انبساط الطبع وفرحه، وتتعذر

عليه عند الانقباض، وكذلك تختلف أغراضه فيميل إلى الشيء مرة ويميل عنه

أخرى، فيوجب ذلك اختلافاً في كلامه بالضرورة، فلا يصادَف إنسان يتكلم في ثلاث وعشرين سنة - وفي مدة نزول القرآن - فيتكلم على غرض واحد ومنهاج واحد.

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم بشراً تختلف أحواله، فلو كان هذا كلامه أو كلام غيره من البشر لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً.

ص: 9

فإن قلت: هل يقال إن غير القرآن من كلام الله معجز كالتوراة والإنجيل؟

فالجواب ليس شيء من ذلك معجزاً في النظم والتأليف، وإن كان معجزاً

كالقرآن فيما يتضمن من الإخبار بالغيوب.

وإنما لم يكن معجزاً لأن الله لم يصفه بما وصف به القرآن، ولأنّا قد علمنا أنه لم يقع التحدي إليه كما وقع في القرآن، ولأن ذلك اللسان لا يتأتى فيه من وجوه الفصاحة ما يقع به التفاضل الذي ينتهي إلى حد الإعجاز.

وقد ذكر ابن جنيّ في الخاطريات في قوله تعالى: (يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65) .

أن العدول عن قوله: وإما أن نلقي لغرضين:

أحدهما - لفظي، وهو المزاوجة لرؤوس الآي.

والثاني - معنوي، وهو أنه تعالى أراد أن يخبر عن قوة أنفس السحرة واستطالتهم على موسى، فجاء عنهم باللفظ أتم وأوفى منهم في إسنادهم الفعل إليه.

تم أورد سؤالا، وهو أنا نعلم أن السحرة لم يكونوا أهل لسان، فنذهب بهم

هذا المذهب من صنعَة الكلام.

وأجاب بأن جميع ما ورد في القرآن حكاية عن غير أهل اللسان من القرون

الخالية إنما هو معرَّب عن معانيهم، وليس هو بحقيقة ألفاظهم.

ولهذا لا يشك أن قوله تعالى: (قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى (63) .

إن هذه الفصاحة لم تجر على لغة العجم.

قال أبو حيان التوحيدي: سئل بُندار الفارسي عن موضع الإعجاز من

القرآن، فقال: هذه مسألة فيها حَيْف على المفتي، وذلك أنه شبيه بقولكم موضع الإنسان من الإنسان، فليس للإنسان موضع من الإنسان، بل متى أشرت إلى جملته فقدت حقيقته ودللت على ذاته، كذلك القرآن لشرفه لا ئشار إلى شيء منه إلا وكان ذلك المعنى آية في نفسه ومعجزة لمحاوِله، وأهدى لقائله، وليس

ص: 10

في طاقة البشر الإحاطة بأغراض الله في كتابه، فلذلك حارت العقول وتاهت

البصائر عنده.

فإذا علمت عَجْزَ الخلق عن تحصيل وجوه إعجازه فما فائدة ذكرها؟

لكنا نذكر بعضها تَطَفلآَ على من سبق، فإن كنتُ لا ممن أجول في ميدانهم، ولا أعَدّ من فرسانهم لعَمْرك إن دار كريم أبناء الدنيا تتحمل من تطفّل عليه فكيف

بأكرم الأكرمين وأرحم الراحمين، وإن كانت بعض الأوجه لا تعد عن إعجازه

فإنما ذكرتها للاطلاع على بعض معانيه، فيثلج له صدرك، وتبتهج نفسك.

فإن وجدت له حلاوة فلا تنس أخاك الغريق بدعوة أن يتفضل عليه سبحانه في دار كرامته بخلق سَمْع وقوة حتى يدرك به كلامه القديم، فإنه منعه في هذه الحياة الدنيوية لذيذَ المناجاة له بسبب ذنوبه، مصداقه قوله تعالى:(سأصْرِف عَنْ آياتِي الّذِينَ يتَكَبَّرونَ فِي الْأرْضِ بِغَيْرِ الْحَق) .

وانظر إلى ما صح عن كليمه موسى عليه السلام أنه كان يسد أذنيه لئلا

يسمع كلام الخلق، إذ صار عنده أشد ما يكون من أصوات البهائم المنكرة، حتى لم يكن يستطيع سماعه بِحِدْثان ما ذاق من اللذات التي لا يحاطنها ولا

تكيَّف عند سماع كلام من ليس كمثله شيء جل وعلا.

ولولا أنه سبحانه يغيّبه عما ذاق عند مناجاته مما لا يقدر على وصفه لما أمكن

أن يأنس إلى شيء من المخلوقات أبداً، ولما انتفع به أحد، فسبحانه من لطيف، ما أوسع كرمه وأعظم جلاله!

ومن أعجب الأمر في هذا عدم ذوبان اللذات وتلاشيها حتى تصير عدماً

محضاً عند اطلاعها من ذي الجلال عما اطلعت عليه، لولا أنه أثبتها وأمسكها، يشهد لهذا ما صح عن ابن الأسمر - وإن من الأبدال - أنه رأى مرة في نومه حوراء كلمته فبقي نحو شهرين أو ثلاثة لا يستطيع أن يسمع كلاماً إلا تقيأه.

فانظر هذا الأمر كيف صار كلام الناس بالنسبة إلى كلام الحوراء الذي هو

من جنس كلامهم أدنى وأقبح من صوت الحمير والكلاب بالنسبة إلى كلام

ص: 11