الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بعدم اشتهار تلاوتها وكتابتها في المصحف وإن كان حكمها باقياً، لأنه أثقل
الأحكام وأشدها، وأغلظ الحدود، وفيه الإشارة إلى ندب الستر.
وأخرج النسائي أن مروان بن الحكم قال لزيد بن ثابت: ألا تكتبها في
المصحف، قال: لا، ألا ترى أن الشابين الثَّيِّبَيْن يرجمان، وقد ذكرنا ذلك، فقال عمر: وأنا أكفيكم، فقال: يا رسول الله، أكتبني آية الرجم.
قال: لا أستطيع.
قوله: أكتبني، أي ائْذَنْ لي في كتابتها، ومكنّي من ذلك.
وأخرج ابن الضرَيْس في فضائل القرآن، عن يعلى بن حكيم، عن زيد بن
أسلم، أن عمر خطب الناس، فقال: لا تشكوا في الرجم، فإنه حق، وقد هممت أن أكتبه في المصحف، فسألت أبيّ بن كعب، فقال: ألست أتيتني وأنا أستقرئها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدفعت في صدري وقلت تستقرىء آية الرجم وهم يَتَسَافَدون تسافُدَ الحمر.
قال ابن حجر: وفيه إشارة إلى بيان السبب في رفع تلاوتها، وهو الاختلاف.
تنبيه:
قال الأئمة: لا يجوز لأحد أن يفسر كتاب الله إلا بعد أن يعرف منه الناسخ
والمنسوخ، وجميع هذه الأوجه، مع علم اللغة والنحو والتصريف وعلم البيان وأصول الفقه والقراءات، ويحتاج لمعرفة أسباب النزول.
قال علي رضي الله عنه لقاض: أتعرف الناسخ من المنسوخ، قال: لا.
قال: هلكت وأهلكت.
قال الخوَيِّي: علم التفسير علم غير يسير، أما عسره فظاهر من وجوه، أظهرها أنه كلام متكلم لم يصل الناس إلى مراده بالسماع منه، ولا إمكان الوصول إليه، بخلاف الأمثال والأشعار ونحوها، فإن الإنسان يمكن علمه منه إذا تكلم بأن يسمع منه.
وأما القرآن فتفسيره على وجه القطع لا يُعلم إلا بأن يسمع من الرسول
صلى الله عليه وسلم، وذلك متعذر إلا في آيات قلائل، فالعلم بالمراد مستنبط بأمارات ودلائل.
والحكمة فيه أن الله أراد أن يتفكر عباده في كتابه فلم يأمر نبيّه بالتنصيص
على المراد في جميع آياته.
وقد كان الصحابة يتحاشون عن تفسير القرآن بالرأي، ويتوقّفون عن أشياء
لم يبلغهم فيها شيء من النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد ظهر لي تفصيلٌ حسن أخذته مما رواه ابن جرير عن ابن عباس، موقوفاً من طريق، مرفوعاً من أخرى:
التفسير على أربعة أوجه: وجه تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يعرفه
أحد بجهالته، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله، فما كان عن
الصحابة مما هو من الوجهين الأولين فليس بمرفوع، لأنهم أخذوه من معرفتهم
بلسان العرب، وما كان من الوجه الثالث فهو مرفوع إذ لم يكونوا يقولون في القرآن بالرأي.
وأخرج ابن أبي حاتم وغيره من طريق ابن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله:
(يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ) .
قال: المعرفة بالقرآن ناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، ومقدمه ومؤخره، وحلاله وحرامه، وأمثاله.
وأخرج ابن مردويه من طريق جويبر، عن الضحاك، عن ابن عباس -
مرفوعاً: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ.
قال: القرآن.
قال ابن عباس: يعني تفسيره فإنه قد قرأه البَرُّ والفاجر.
وأخرج ابن أبي حاتم عن عمرو بن مرة، قال: ما مررت بآية لا أعرفها إلا
أحزنتْني، لأني سمعت الله يقول:(وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43) .
قال ابن عباس: الذي يقرأ القرآن ولا يحسن تفسيره كالأعرابي يهذّ الشِّعْرَ
هذًّا.
وأخرج أبو عبيد، عن الحسن، قال: ما أنزل الله آية إلا وهو يحب أن يعلم
فِيْمَ أنْزلت، وما أراد بها.
وأخرج ابن الأنباري عن أبي بكر الصديق، قال: لأنْ أعرب آية من القرآن
أحب إليّ من أن أحفظ آية.
وأخرج أيضاً عن عبد الله بن بُريدة عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: لو أعلم أني إذا سافرت أربعين ليلة أعربت آية من كتاب الله لفعلت.
وأخرج أيضاً من طريق الشعبي، قال: قال عمر: من قرأ القرآن وأعربه كان له عند الله أجر شهيد.
قلت: معنى هذه الآثار عندي إرادة البيان والتعبير، لأن إطلاق الإعراب
على الحكم النحوي اصطلاح حادث، ولأنه كان في سليقتهم لا يحتاجون إلى
تعليمه، ثم رأيت ابن النقيب جنح إلى ما ذكرته وقال بجواز أن يكون المراد
الإعراب الصناعي، وفيه بعْدٌ.
وقد يستدل له بما أخرجه السّلَفي في الطيوريات من حديث ابن عمر -
مرفوعاً: أعربوا القرآن يدلكم على تأويله.
وقد أجمعوا على أن التفسير من فروض الكفاية، وأجَلُّ العلوم الشرعية.
قال الأصبهاني: أشرف صناعة يتعاطاها الإنسان تفسير القرآن، بيان ذلك
أن شرف الصنعة إما لشرف موضوعها مثل الصياغة، فإنها أشرف من الدباغة، لأن موضوع الصياغة الذهب والفضة، وهما أشرف من موضوع الدباغة الذي هو جلد الميْتَة.
وإما بشرف غرضها، مثل صناعة الطب، فإنها أشرف من صناعة
الكِنَاسة، لأن غرض الطب إفادة الصحة، وغرض الكناسة تنظيف المستراح.
وإما بشدة الحاجة إليها، كالفقه، فإن الحاجة إليه أشد من الحاجة إلى الطب، إذ ما من واقعة في الكون من أحد من الخلق إلا وهي مفتقرة إلى الفقه، لأن به انتظام صلاح أحوال الدنيا والدين، بخلاف الطب فإنه يحتاج إليه بعضُ الناس في بعض الأوقات.
إذ عُرِف ذلك فصناعة التفسير قد حازت الشرف من الجهات الثلاثة، أما
من جهة الموضوع فلأن موضوعه كلام الله تعالى الذي هو ينبوع كل حكمة.
ومَعْدِنُ كل فضيلة، فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، لا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه.
وأما من جهة الغرض فلأن الغرض منه هو الاعتصام بالعروة الوثقى، والوصول إلى السعادة الحقيقية التي لا تفنى.
وأما من جهة شدة الحاجة فلأن كل كمال ديني أو دنيويّ عاجلي أو آجلي
مفتقر إلى العلوم الشرعية والمعارف الدينية، وهي متوقفة على العلم بكتاب الله.
والكلام هنا عريض تكفّل بجمعه أئمتنا رضي الله عنهم.
وإنما ذكرتُ في هذا المجموع بعض ما يحتاج إليه بعد تقرير قاعدة، وهي
أن كل من وَضَع من البشر كتاباً فإنما وضعه ليُفْهَمَ بذاته من غير شرح، وإنما
احتيج إلى الشرُوح لأمور ثلاثة:
أحدها: كمال فضيلة كلام المصنف، فإنه لقوته العلمية يجمع المعاني الدقيقة
في اللفظ الوجيز، فربما عَسُرَ فَهْمُ مراده، فقصد بالشرح ظهور تلك المعاني
الخفية، ومن هاهنا كان شرح بعض الأئمة تصنيفه أدل على المراد من شرح
غيره.
وثانيها: إغفاله بعض تتمّات المسائل، أو شروط لها، اعتماداً على وضوحها، أو لأنها من علم آخر، فيحتاج الشارح لبيان المحذوف ومراتبها.
وثالثها: احتمال اللفظ لمعان، كما في المجاز، والاشتراك، ودلالة الالتزام، فيحتاج الشارحُ لبيان غرض المصنف وترجيحه.
وقد يقع في التصانيف ما لا يخلو عنه بَشَر من السهو والغلط، أو تكرار
الشيء، أو حذف المهم، أو غير ذلك، فيحتاج الشارح للتنبيه على ذلك.
وإذا تقرر هذا فنقول: إن القرآن إنما نزل بلسان عربي في زمان أفصح
العرب، وكانوا يعلمون ظاهره، وأحكامه، أما دقائق باطنه فإنما كان يظهر لهم بعد البحث والنظر مع سؤالهم النبي صلى الله عليه وسلم في الأكثر، كسؤالهم لما نزل:(وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ) الأنعام: 82) ، فقالوا: وأينَا لم يظلم نفسه، ففسره النبي صلى الله عليه وسلم بالشرْك، واستدل عليه بقوله:(إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) .