الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القسمين، بل تنحصر في المتماثلة والمتقاربة، قال: وبهذا يترجح مذهب الشافعي على مذهب أبي حنيفة في عد الفاتحة سبع آيات من البسملة وجعل صراط الذين
…
إلى آخرها آية، فإن مَنْ جعل آخر الآية:(أنعمت عليهم) مردود بأنه لا يشابه فواصل سائر آيات السورة لا بالمماثلة ولا بالمقاربة، ورعاية المتشابه في الفواصل لازمة.
السابع: كثر في الفواصل التضمين والإيطاء، لأنهما ليسا بعيبين في النثر وإن
كانا عيبين في النظم.
فالتَّضمين أن يكون ما بعد الفاصلة متعلقاً بها، كقوله تعالى:(وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (138) .
والإيطاء تكرر الفاصلة بلفظها، كقوله تعالى: في الإسراء:
(هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93) .
وختم بذلك الآيتين بعدها.
*******
الوجه الرابع من وجوه إعجازه
.
مناسبة آياته وسوره وارتباط بعضها ببعض، حتى تكون كالكلمة الواحدة، متسقة المعاني، منتظمة المباني.
وقد ألف عماؤنا في أسرارها تواليف كثيرة منهم العلامة أبو جعفر بن الزبير
شيخ أبي حيان في كتاب سمَّاه " البرهان " في مناسبة ترتيب سور القرآن.
ومن أهل العصر الشيخ برهان الدين البقاعي في كتاب سمَّاه نظم الدرر في تناسب الآي والسور.
وكتابي الذي صنفته في أسرار التنزيل كافل بذلك، جامع لمناسبات
السور والآيات مع ما تضمَّنه مرتباً من جميع وجوه الإعجاز وأساليب البلاغة، وقد لخصت منه مناسبات السور خاصة في جزء لطيف سميته تناسق الدرر في
تناسب السور.
وعلم المناسبة علم شريف قلّ اعتناء المفسرين به لدقته، وممن أكثر منه الإمام
فخر الدين، وقال في تفسيره: أكثر لطائف القرآن مودعة في الترتيبات والروابط.
وأول من سبق إلى هذا العلم الشيخ أبو بكر النيسابوري، وكان كثير العلم في
الشريعة والأدب وكان يقول على الكرسي إذا قرئت عليه الآية: لم جُعلت هذه الآية إلى جنب هذه، وما الحكمة في جعل هذه السورة إلى جنب هذه السورة، وكان يزري على علماء بغداد، لعدم علمهم بالمناسبة.
وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: المناسبة علم حسن، لكن يشترط في
حسن ارتباط الكلام أن يقع في أمر متّحد مرتبط أوله بآخره، فإن وقع على
أسباب مختلفة لم يقع فيه ارتباط.
ومَنْ ربط ذلك فهو متكلف بما لا يقدر عليه إلا بربط ركيك يصان عن مثله حسن الحديث، فضلاً عن أحسنه، فإن القرآن نزل في نَيّف وعشرين سنة في أحكام مختلفة، شرعت لأسباب مختلفة، وما كان كذلك لا يتأتى ربْطُ بعضه ببعض.
وقال الشيخ ولي الدين الملوي: قد وَهِمَ من قال: لا يطلب للآية الكريمة
مناسبة، لأنها على حسب الوقائع المتفرقة.
وفصلُ الخطاب أنها على حسب الوقائع
تنزيلاً، وعلى حسب الحكمة ترتيباً، وتأصيلاً، فالصحف على وفق اللوح
المحفوظ مرتبة سوره كلها وآياته بالتوقيف، كما أنزل جملة إلى بيت العزة.
ومن المعجز البين أسلوبه، ونظمه الباهر، والذي ينبغي في كل آية أن يبحث أول كل شيء عن كونها تكملة لما قبلها أو مستقلة، ثم المستقلة ما وجه مناسبتها لما قبلها، ففي ذلك علم جم.
وهكذا في السور يطلب وجْه اتصالها بما قبلها وما سيقت له.
وقال الإمام الرازي في سورة البقرة: ومَنْ تفكر في لطائف نظم هذه السورة
وفي بدائع ترتيبها علم أن القرآن كما أنه معجز بحسب فصاحة ألفاظه وشرف
معانيه فهو أيضاً معجز بسبب ترتيبه ونظم آياته، ولعل الذين قالوا إنه معجز
بسبب أسلوبه أرادوا ذلك، إلا أني رأيت جمهور المفسرين معرضين عن هذه
اللطائف، غير منتبهين لهذه الأسرار، وليس الأمر في هذا الباب إلا كما قيل:
والنجم تستصغر الأبصارُ صورتَه
…
والذنْبُ للطرف لا لِلنَّجْمِ في الصغَر
المناسبة في اللغة المشاكلة والمقاربة، ومرجعها في الآيات ونحوها إلى معنى
رابط بينهما عام أو خاص، عقلي أو حسي أو خيالي، أو غير ذلك من أنواع
علاقات التلازم الذهنيّ، كالسبب والمسبب، والعلة والمعلول، والنظيرين
والضدين ونحوه.
وفائدته جعل أجزاء الكلام بعضها آخذاً بأعناق بعض، فيقوى بذلك
الارتباط، ويصير التأليف حالته حال البناء المحكم التلائم الأجزاء فنقول:
ذكر الآية بعد الأخرى إما أن يكون ظاهر الارتباط لتعلق الكلام بعضه
ببعض وعدم تمامه في الأولى، فواضح، وكذلك إذا كانت الثانية للأولى على
وجه التأكيد أو التفسير أو الاعتراض أو البدل، وهذا القسم لا كلام فيه.
وإما ألا يظهر الارتباط، بل يظهر أن كل جملة مستقلة عن الأخرى، وأنها
خلاف النوع المبدوء به، فإما أن تكون معطوفة على الأولى بحرف من حروف العطف المشركة في الحكم، أو لا.
فإن كانت معطوفة فلا بد أن يكون بينهما جهة جامعة على ما سبق تقسيمه، كقوله تعالى:(يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا) .
وقوله: (وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245) .
للتضاد بين القبض والبصط، والولوج والخروج، والنزول والعروج، وشبه التضاد بين السماء والأرض.
ومما العلاقة فيه التضاد ذكر الرحمة بعد ذكر العذاب، والرغبة بعد الرهبة.
وقد جرت عادة القرآن العظيم إذا ذكر أحكاماً ذكر بعدها وعداً أو وعيدا.
لتكون باعثاً على العمل بما سبق، ثم يذكر آيات توحيد وتنزيه، ليعلم عِظَم الآمر الناهي.
وتأمَّلْ سورة البقرة والنساء والمائدة تجده كذلك.
وإن لم تكن معطوفة فلا بد من دعامة تؤْذن باتصال الكلام، وهي قرائن
معنوية تؤذن بالربط.
وله أسباب:
أحدها: التنظير، فإن إلحاق النَّظير بالنَّظير من شأن العقلاء،
كقوله: (كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ) - عَقِب قوله: (أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ) ، فإنه تعالى أمر رسوله أن يمضيَ لأمره في الغنائم على
كُرْهٍ من أصحابه، كما مضى لأمره في خروجه من بيته لطلب العِير أو القتال
وهم له كارهون، والقصدُ أن كراهتهم لما فعله من قسم الغنائم ككراهتهم
للخروج.
وقد تَبَين في الخروج الخير من النصر والظفر والغنيمة وعزّ الإسلام.
فكذا يكون فيما فعله في القسمة، فليطيعوا ما أمروا ويتركوا هَوَى أنفسهم.
الثاني: المضادة، كقوله في سورة البقرة:(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ) .
فإن أول السورة كان حديثاً عن القرآن، وأن من شأنه الهدايةَ للقوم الموصوفين بالإيمان.
فلما أكمل وصف المؤمنين عقب بحديث الكافرين، فبينهما جامع وهميّ بالتضاد من هذا الوجه، وحكمته التشويق والثبوت على الأول، كما قيل: وبضدها تتبين الأشياء.
فإن قيل: هذا جامع بعيد، لأن كونه حديثاً عن المؤمنين بالعَرَض لا
بالذات، والمقصود بالذات الذي هو مساق الكلام إنما هو الحديث عن القرآن، لأنه مفتتح القول.
قيل: لا يشترط في الجامع ذلك، بل يكفي التعلق على أي وجه كان، ويكفي في وجه الربط ما ذكرنا، لأن القصد تأكيد أمر القرآن، والعمل به، والحثّ على الإيمان، ولهذا لما فرغ من ذلك قال:(وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا) . - فرجع إلى الأول.
الثالث: الاستطراد: كقوله تعالى: (يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ) .
قال الزمخشري: هذه الآية واردة على سبيل الاستطراد عقب ذكر بدوّ
السَّوْءات، وخَصْف الورق عليها، إظهاراً للمنة فيما خلق من اللباس، ولما في العراء وكشف العورة من المهانة والفضيحة، وإشعاراً بأن الستر باب عظيم من أبواب التقى.
وقد خرجت على الاستطراد قوله تعالى: (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) ، فإن أول الكلام ذكر فيه الرد
على النصارى الزاعمين بنوّة المسيح، ثم استطراد الرد على العرب الزاعمين بنوة الملائكة.
ويقرب من الاستطراد حتى لا يكادان يفترقان حسن التخلص، وهو أن
ينتقل مما ابتدأ به الكلام إلى المقصود على وجه سهل يختلسه اختلاساً دقيق
المعنى، بحيث لا يشعر السامع بالانتقال من المعنى الأول إلا وقد وقع عليه الثاني لشدة الالتئام بينهما.
وقد غلط أبو العلاء بن غانم في قوله: لم يقَعْ منه في القرآن شيء لما فيه من
التكلف، وقال: إن القرآن إنما وقع رداً كل الاقتضاب الذي هو طريق العرب من الانتقال إلى غير ملائم.
وليس كما قال، ففيه من التخلصات العجيبة ما يحيّر العقول.
وانظر إلى سورة الأعراف كيف ذكر فيها الأنبياء والقرون الماضية والأمم السالفة، ثم ذكر موسى إلى أن قص حكاية السبعين رجلا ودعائه لهم ولسائر أمته بقوله:(وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ) .
وجوابه تعالى عنه، ثم تخلص بمناقب سيد المرسلين بعد تخلصه بقوله لأمته:(قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) ، من صفاتهم كيت وكيت، وهم الذين يتبعون الرسول النبي الأمي، وأخذ في صفاته الكريمة وفضائله.
وفي سورة الشعراء حكى قول إبراهيم: (وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) .
فتخلص منه إلى وصف المعاد بقوله: (ييَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) .
وفي سورة الكهف حكى سدّ " ذو القرنين " بقوله: (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ) ، فتخلَّص منه إلى وصف حالهم بعد ذكر الذى
هو من أشراط الساعة ثم النفخ في الصور، وذكر الحَشْر، ووصف حال الكفار والمؤمنين.
وقال بعضهم: الفرق بين التخلص والاستطراد أنك في التخلص تركت ما
كنتَ فيه بالكلية، وأقبلت على ما تخلصت إليه.
وفي الاستطراد تمر بذكر الأمر الذي استطردت إليه مروراً كالبرق الخاطف ثم تتركه إلى ما كنت فيه، كأنك لم تقصده، وإنما عرض عروضاً.
قال: وبهذا يظهر أن ما في سورة الأعراف والشعراء من باب الاستطراد لا
التخلص، لعَوْدِه في الأعراف إلى قصة موسى بقوله:(وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ) .
وفي الشعراء إلى ذكر الأنبياء والأمم.
ويقرب من حسن التخلص الانتقال من حديث إلى آخر تنشيطاً للسامع
مفصولاً بهذا كقوله في سورة ص - بعد ذكر الأنبياء: (هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49) .
قال: هذا القرآن نوع من الذكر لَمّا انتهى ذكر الأنبياء، وهو نوع من التنزيل، أراد أن يذكر نوعاً آخر وهو ذكر الجنة
وأهلها، تم لما فرغ قال:(هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) .
فذكر النار وأهلها.
قال ابن الأثير: هذا في هذا المقام من الفصل هو أحسن من الوصل، وهي
علاقة وكيدة بين الخروج من كلام إلى آخر.
ويقرب منه أيضاً حسن الطلب.
قال الزنجاني والطيبي: وهو أن يخرج إلى الغرض بعد تقدمة الوسيلة، كقولك:(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) .
قال الطيبي: وما اجتمع فيه حسن التخلص والمطلب معا قوله تعالى - حكاية
عن إبراهيم: (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي)
…
إلى قوله (رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) .