الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فإن حقيقته: وإنه في أصل الكتاب، فاستعير لفظ الأم
للأصل، لأن الأولاد تنشأ من الأم كما تنشأ الفروع من الأصول.
وحكمة ذلك تمثيل ما ليس بمرئي حتى يصير مرئياً، فينتقل السامع من حد السماع إلى حد العيان، وذلك أبلغ في البيان.
ومثال إيضاح ما ليس بجلي ليصير جليّاً: (واخْفِضْ لهما جنَاحَ الذّل مِنَ
الرحْمَة) ، فإن المراد أمر الولد بالذل لوالديه رحمة، فاستعير
للذل أولاً جانب ثم للجانب جناحاً.
وتقدير الاستعارة القريبة: واخفض لها جناح الذل، أي اخفض جانبك ذلَاّ.
وحكمة الاستعارة في هذا جعل ما ليس بمرئي مرئياً لأجل حسن البيان.
ولما كان المراد خفض جانب الولد للوالدين بحيث لا يُبقي الولد من الذل لها
والاستكانة ممكناً احتيج في الاستعارة إلى ما هو أبلغ من الأولى، فاستعير لفظ
الجناح لما فيه من المعاني التي لا تحصل من خفض الجانب، لأن مَنْ مَال جانبه إلى جانب السفل أدنى ميل صدق عليه أنه خفض جانبه.
والمراد خفضٌ يلصق الجنب بالأصل ولا يحصل ذلك إلا بذكر الجناح كالطائر.
ومثال المبالغة: (وفَجَّرْنَا الأرضَ عُيوناً) .
وحقيقته: وفجرنا عيون الأرض، ولو عبر بذلك لم يكن فيه من المبالغة ما في الأول المشعر بأن الأرض كلها صارت عيوناً.
فرع
أركان الاستعارة ثلاثة: مستعار، وهو اللفظ المشبه به.
ومستعار منه، وهو اللفظ المشبه.
ومستعار له، وهو المعنى الجامع.
وأقسامها كثيرة باعتبارات، فتنقسم باعتبار الأركان الثلاثة إلى خمسة أقسام:
أحدها: استعارة محسوس لمحسوس بوجه محسوس، نحو: (واشْتَعَلَ الرأس
شَيْباً) ، فالمستعار منه هو النار، والمستعار له الشيب، والوجه هو
الانبساط ومشابهة ضوء النار لبياض الشيب، وكل ذلك محسوس.
وهو أبلغُ مما لو قيل: اشتعل شيب الرأس، لإفادته عموم الشيب لجميع الرأس.
ومثله: (وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ) .
أصل الموج حركة الماء، فاستعمل في حركتهم على سبيل الاستعارة.
والجامع سرعة الاضطراب وتتابعه من الكثرة.
(وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ) ، استعير خروج النفَس شيئاً فشيئا لخروج النور من المشرق عند انشقاق الفجر قليلا قليلا، بجامع التتابع على طريق التدريج.
وكل ذلك محسوس.
الثاني: استعار محسوس لمحسوس بوجه عقلي، قال ابن أبي الإصبع: وهي
ألطف من الأولى، نحو:(وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ) .
فالمستعار منه السلخ الذي هو كشط الجلد عن الشاة، والمستعار له كشف الضوء عن مكان الليل، وهما حسيان، والجامع ما يعقل من ترتب أمر على آخر وحصوله عقب حصوله، كترتب ظهور اللحم على الكشط، وظهور الظلمة على كشف الضوء عن مكان الليل.
والترتب أمر عقلي.
ومثله: (فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ) .
أصل الحصيد النبات، والجامع الهلاك، وهو أمر عقلي.
الثالث: استعارة معقول لمعقول بوجه عقلي.
قال ابن أبي الإصبع: وهي ألطف الاستعارات، نحو:(مَنْ بعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا) .
المستعار منه الرقاد، أي النوم، والمستعار له الموت، والجامع عدم ظهور الفعل، والكل عقلي.
ومثله: (وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ) .
والمستعار السكوت، والمستعار منه الساكت، والمستعار له الغضب.
الرابع: استعارة محسوس لمعقول بوجه عقلي أيضاً، نحو:(مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ) .
استعير المس، وهو حقيقة في الأجسام، وهو محسوس، لمقاساة الشدة، والجامع اللحوق، وها عقليان.
(بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ) .
فالقذف والدمْغ مستعاران، وها محسوسان.
والحق والباطل مستعار لهما، وهما معقولان.
(ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ) .
استعير الحبل المحسوس للعهد وهو معقول.
(فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ) .
استعير الصدع، وهو كسر الزجاجة، وهو محسوس، للتبليغ وهو معقول.
والجامع التأثير وهو أبلغ من بلِّغ، وإن كان بمعناه، لأن تأثير الصدع أبلغ من تأثير التبليغ، فقد لا" يؤثر التبليغ، والصدع يؤثر جزما.
(واخفِضْ لهما جناحَ الذل) .
قال الراغب: لما كان الذل على ضربين: ضرب يَضَع الإنسان، وضرب
يرفعه، وقصد في هذا المكان إلى ما يرفع استعير لفظ الجناح، فكأنه قيل استعمل الذل الذي يرفعك عند الله.
وكذا قوله: (الذينَ يَخوضُون في آياتنا) .
(فَنَبَذُوه ورَاء ظُهورِهم) .
(أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ) .
(وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا) .
(لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) .
(فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا) .
(فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) .
(ولا تجعَلْ يَدَك مغلولةً إلى عُنقك) .
كلها من استعارة المحسوس للمعقول.
والجامع عقلي.
الخامس: استعارة معقول لمحسوس، والجامع عقلي أيضاً، نحو:(إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11) .
المستعار منه التكبر وهو عقلي، والمستعار له كثرة الماء وهو حسي، والجامع الاستعلاء وهو عقلي أيضاً.
ومنه: (تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ) .
(وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً) .
وتنقسم باعتبار اللفظ إلى: أصلية، وهي ما كان اللفظ المستعار فيها اسم جنس كآية: بحبل الله. من الظلمات إلى النور.
في كل وَادٍ.
وتبعية، وهي ما كان اللفظ فيها غير اسم جنس، كالفعل والمشتقات، كسائر
الآيات السابقة، وكالحروف، نحو:(فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا) .
شبه ترتب العداوة والحزن على الالتقاط بترتب غلبة
الغائية عليه، ثم استعير في المشبه اللام الموضوعة للمشبه به.
وتنقسم باعتبار آخر إلى مرشحَة، ومجَرَّدة، ومطلَقة:
فالأولى: وهي أبلغها - أن تقترن بما يلائم المستعار منه، نحو: (أولئكَ الذين
اشتَرَوُا الضلالةَ بالهُدَى فما رَبِحَتْ تجارتُهم) .
استعير الاشتراء للاستبدال والاختيار، ثم قُرن بما يلائمه من الربح والتجارة.
والثانية: أن تقترن بما يلائم المستعار له، نحو:(فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ) .
استعير اللباس للجوع، ثم قُرن بما يلائم المستعار له
من الإذاقة، ولو أراد الترشيح لقال: فكساها، لكن التجريد أبلغ لما في لفظ
الإذاقة من المبالغة في الألم باطناً.
والثالثة: ألا تقترن بواحد منهما.
وتنقسم باعتبار آخر إلى: تحقيقية، وتخييلية، ومكنية، وتصريحية:
فالأولى: ما تحقق معناها حساً، نحو:(فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ) .
أو عقلا، نحو:(وأنزَلْنَا إليكم نُوراً) .
أى بياناً واضحاً وحجة دامغة.
(اهْدِنا الصراطَ المستقيم) .
أى الدين الحق، فإن كلاًّ منهما متحقق عقلاً.
والثانية: أن يضمر التشبيه في النفس فلا يصرح بشيء من أركانه سوى
المشبه، ويدل على ذلك التشبيه المضمر في النفس بأن يَثْبت للمشبه أمر مختص بالمشبه به، ويسمى ذلك التشبيه المضمر استعارة بالكناية ومكنياً عنها، لأنه لم يصرح به، بل دل عليه بذكر خواصه.
ويقابله التصريحية.
ويسمى إثبات ذلك الأمر المختص بالمشبه به للمشبه
استعارة تخييلية، لأنه قد استعير للمشبه ذلك الأمر المختص بالمشبه به، وبه يكون كمال المشبه وقوامه في وجه الشبه، لتخيل أن المشبَّه من جنس المشبه به.
ومن أمثلة ذلك: (الذين ينقضُونَ عَهْدَ اللَهِ مِنْ بعْدِ ميثاقِه) .
شبه العهد بالحبل، وأضمر في النفس، فلم يصرح بشيء من أركان التشبيه
سوى العهد المشبه، ودل عليه بإثبات النقيض الذي هو من خواص المشبه به، وهو الحبل.
وكذا ة (واشتعل الرأسُ شَيْبا) .
طوى ذكر المشبه به وهو النار، ودل عليه بلازمه وهو الاشتعال.
(فَأَذَاقَهَا اللَّهُ) .
شبه ما يدرك من أثر الضر والألم بما يدرك من طعم المر فأوقع
عليه الإذاقة.
(ختم اللهُ على قلوبهم) .
شبهها في ألا تقبل الحق بالشيء الموثوق المختوم، ثم أثبت لها الختم.
(جِدَاراً يُريدُ أنْ ينْقَضَّ) .
شبه ميلانه للسقوط بانحراف الحي، فأثبت له الإرادة التي هي
من خواص العقلاء.
ومن التصريحية آية: (مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ) .
(مَنْ بعثَنَا مِنْ مَرْقَدِنا) .
وتنقسم باعتبار آخر إلى وفاقية، بأن يكون اجتماعهما في شيء ممكناً، نحو:
(أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ) ، أي ضالاً فهديناه.
استعير الإحياء من جعل الشيء حياً - للهداية التي هي الدلالة على ما يوصل إلى المطلوب، والإحياء والهداية مما يمكن اجتماعهما في شيء.
وعنادية، وهي ما لا يمكن اجتماعهما في شيء، كاستعارة اسم المعدوم
للموجود لعدم نفعه، واجتماع الوجود والعدم في شيء ممتنع.
ومن العنادية التهكمية والتمليحية، وهما ما استعمل في ضد أو نقيض، نحو:(فبَشِّرْهُم بعذابٍ أليم) ، أي أنذرهم.
استُعيرت البشارة وهي في الإخبار بما يسر للإنذار الذي هو ضده بإدخاله في جنسها على سبيل التهكم والاستهزاء، ونحو:(إنَّكَ لأنْتَ الحَلِيمُ الرَّشِيد) .
عنوا الغوى السفيه تهكماً.
(ذُقْ إنكَ أنْتَ العزيزُ الكريم) .