الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الوجه الثالث من وجوه إعجازه
حُسْن تأليفه، والتئام كلمه، فصاحتها، ووجوه إيجازه وبلاغته الخارقة عادةَ
العرب الذين هم فرسانُ الكلام وأربابُ هذا الشأن.
فجاء نطقه العجيب، وأسلوبه الغريب مخالفاً لأساليب كلام العرب ومنهاج نظمها ونثرها الذي جاءت عليه، ووقفت عليه مقاطع آياته، وانتهت إليه فواصلُ كلماته، ولم يوجد قبله ولا بعده نظير له.
قال ابن عطية: الصحيح والذي عليه الجمهور والحذاق في وجوه إعجازه أنه
بِنَظْمِهِ وصحة معانيه وتوالي فصاحة ألفاظه، وذلك أن الله أحاط بكل شيء
علماً، وأحاط بالكلام كلِّه علماً، فإذا ترتبَت اللفظة من القرآن علم بإحاطته أىَّ لفظة تصلح أن تلي الأولى وتبين المعنى بعد المعنى، ثم كذلك من أول القرآن إلى آخره.
والبشَرُ محل الجهل والنسيان والذهول، ومعلوم ضرورة أن أحدًا من البشر
لا يحيط بذلك، فلذلك جاء نظمُ القرآن في الغاية القصوى من الفصاحة، وبهذا يبطل قول من قال: إن العرب كان في قدرتها الإتيانُ بذلك، فصُرِفوا عن ذلك.
والصحيح أنه لم يكن في قدرة أحد قط، ولهذا ترى البليغ ينقّح القصيدة أو
الخطبة حَوْلاً، ثم ينظر فيها، ثم يغير فيها، وهلمّ جرّا.
وكتابُ الله سبحانه لو نزعت منه لفظة ثم أدير لسان العرب على لفظة أحسن منها لم يوجد، ونحن تتبين لنا البراعة في أكثره، ويخفَى علينا وجهها في مواضع، لقصورنا عن مرتبة العرب يومئذ في سلامة الذوق وجودة القريحة.
وقامت الحجةُ على العالم بالعرب، إذ كانوا أرباب الفصاحة وفطنة المعارضة، كما كانت الحجة في معجزة موسى بالسحرة، وفي معجزة.
عيسى بالأطباء، فإن الله إنما جعل معجزات الأنبياء بالوجه الشهير أبدع ما تكون في زمان النبي الذي أراد إظهاره، فكان السحر في مدة موسى إلى غايته، وكذلك الطب في زمان عيسى، والفصاحة في زمان محمد صلى الله عليه وسلم -
وقال حازم في منهاج البلغاء: وجه الإعجاز في القرآن من حيث استمرت
الفصاحة والبلاغة فيه في جميع أنحائها في جميعه استمرارا لا يوجد له فترة، ولا
يقدِرُ عليه أحد من البشر.
وكلام العرب ومَنْ تكلم بلغتهم لا تستمر الفصاحة والبلاغة في جميع أنحائها في العالي منه إلا في الشيء اليسير المعدود، ثم تعترض
الفترات الإنسانية، فينقطع طيب الكلام ورونقهُ، فلا تستمر لذلك الفصاحة في جميعه، بل توجد في تفاريق وأجزاء منه.
قال الجَعْبَرِي: لمعرفة فواصل الآي طريقان: توقيفي وقياسي، أما التوقيفي
فما ثبت أنه صلى الله عليه وسلم وقف عليه دائماً تحققنا أنه فاصلة، وما وصله دائماً تحققنا أنه ليس بفاصلة، وما وقف عليه مرة ووصله أخرى احتمل الوقف أن يكون لتعريف الفاصلة أو لتعريف الوقف التام أو للاستراحة.
والوصلُ أن يكون غير فاصلة، أو فاصلة وصلها لتقدم تعريفها.
وأما القياسي فهو ما ألحق من المحتمل غير المنصوص بالمنصوص لمناسب، ولا
محذورَ في ذلك، لأنه لا زيادة فيه ولا نقصان، وإنما غايته أنه محل فَصْل أو
وصل.
والوقف على كل كلمة جائز، ووصل القرآن كله جائز، فاحتاج القياسي
إلى طريق تعرفه، فنقول: فاصلة الآية كقرينة السجع في النثر، وقافية البيت في الشعر.
ومما يذكر من عيوب القافية من اختلاف المد والإشباع والتَّوْجيه، فليس
بعيب في الفاصلة، وجاز الانتقال في الفاصلة والقَرِينة وقافية الأرجوزة من نوع إلى آخر بخلاف قافية القصيدة.
ومن ثم ترى "يرجعون" مع "عليم" و"الميعاد"
مع "الثواب"، و"الطارق" مع "الثاقب".
والأصل في الفاصلة والقرينة المتجردة في الآية والسجعة المساواة، ومِنْ ثمَّ
أجمع العادُّون على تَرْك عَدّ: (ويَاْتِ بآخرين) النساء: 133.
(ولا الملائكةُ الْمُقَرَّبُون) النساء: 172، و (كَذَّب بها الأوَّلُون)
الإسراء: 59، و (لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ) : 97، بمريم)