الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الاختلاف على وجهين:
اختلاف تناقض، وهو ما يدعو فيه أحد الشيئين إلى خلاف الآخر، وهذا هو الممتنع على القرآن.
واختلاف تلازم، وهو ما يوافق الجانبين، كاختلاف وجوه القراءات واختلاف مقادير السور والآيات، واختلاف الأحكام من الناسخ والمنسوخ، والأمر والنهي، والوعد والوعيد.
*******
الوجه الثامن من وجوه إعجازه (وقوع ناسخه ومنسوخه)
وهو مما خصت به هذه الأمة لِحكَم، منها التيسير.
وقد أجمع المسلمون على جوازه! وأنكره اليهود ظنًّا منهم أنه بداء كالذي يرى الرأي ثم يبدو له أنه باطل، لأنه بيان مدة الحكم، كالإحياء بعد الإماتة وعكسه، والمرض بعد الصحة، وعكسه، والفقر بعد الغنى وعكسه، وذلك لا يكون بَدَاءً، فكذا الأمر والنهي.
واختلف العلماء فقيل: لا ينسخ القرآن إلا بقرآن، لقوله تعالى (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا) .
قالوا: ولا يكون مثلَ القرآن وخيراً منه إلا قرآن.
وقيل: بل ينسخ القرآن بالسنة، لأنها أيضاً من عند الله، قال تعالى:(وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) .
وجعل منه آية الوصية الآتية.
والثالث إذا كانت السنة بأمر الله من طريق الوحي نَسخت، وإن كانت
باجتهاد فلا.
حكاه ابن حبيب النيسابوري في كتابه التفسير.
وقال الشافعي: حيث وقع نسخ القرآن بسنة فمعها قرآن عاضد لها، وحيث وقع نسخ السنة بالقرآن فمعه سنة عاضدة له، ليتبين توافق القرآن والسنة.
وقد بسطت هذه المسألة في شرح منظومة جمع الجوامع في الأصول.
وقد أفرد بالتصنيف في هذا الفن خلائق لا تحصى، منهم: أبو عبيد القاسم
ابن سلام
، وأبو داود السجستاني، وأبو جعفر النحاس، وابن الأنباري، ومكي.
وابن العربي، وآخرون.
لكن في هذا النوع مسائل:
الأولى: يَرِد النسخ بمعنى الإزالة، ومنه قوله:(فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ) .
وبمعنى التبديل، ومنه:(وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ) .
وبمعنى التحويل، كتناسخ المواريث، بمعنى تحويل الميراث من واحد إلى
واحد.
وبمعنى النقل من موضع إلى موضع، ومنه نسخت الكتاب: إذا نقلت ما فيه
حاكياً للفظه وخطه.
قال مكي: وهذا الوجه لا يصح أن يكون في القرآن.
وأنكر على النحاس إجازته ذلك محتجّاً بأن الناسخ فيه لا يأتي بلفظ المنسوخ.
وأنه إنما يأتي بلفظ آخر.
وقال السعيدي: يشهد لما قاله النحاس قوله: (إنّا كُنّا نَسْتَنْسِخُ ما كنتُم
تَعْمَلُون) الجاثية: 29.
وقال: (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4) .
ومعلوم أن ما نزل من الوحي نجوماً جميعه في أم الكتاب، وهو اللوح
المحفوظ، كما قال تعالى:(فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) .
الثانية: لا يقع النسخ إلا في الأمر والنهي، ولو بلفظ الخبر، أما الخبر الذي
ليس بمعنى الطلب فلا يدخله النسخ، ومنه الوعد والوعيد.
وإذا عرفت ذلك عرفت فساد صُنْع من أدخل في كتاب النسخ كثيراً من آيات الإخبار والوعد والوعيد.
الثالث: النسخ أقسام:
أحدها: نسخ المأمور به قبل امتثاله، وهو النسخ على الحقيقة، كآية النجوى.
الثاني: ما نُسخ مما كان شرعاً لمن قبلنا كآية شرع القصاص والدية.
أو كان أمر به أمراً جملياً، كنسخ التوجه إلى بيت القدس بالكعبة، وصوم عاشوراء برمضان، وإنما يسمى هذا نسخاً تجوزا.
الثالث: ما أمِرَ به لسبب ثم يزول السبب، كالأمر - حين القلة والضعف -
بالصبر والصلح، ثم نسخ بإيجاب القتال، وهذا في الحقيقة ليس نسخاً، بل من قسم المنْسَأ، كما قال تعالى:(أو نُنْسِها) ، فالمنسأ هو الأمر بالقتال إلى أن يقوى المسلمون.
وفي حال الضعف يكون الحكم وجوب الصبر على الأذى، وبه
يضعف ما لَهجَ به كثيرون من أن الآيات في ذلك منسوخة بآية السيف، وليس كذلك، بل هي من المنسأ، بمعنى أن كل أمر ورَدَ يجب امتثاله في وقت ما لعلة تقتضي ذلك الحكم، ثم ينتقل بانتقال تلك العلة إلى حكم آخر، وليس بنسخ، إنما النسخ الإزالة للحكم حتى لا يجوز امتثاله.
وقال مكي: ذكر جماعة أن ما ورد من الخطاب مُشعراً بالتوقيت والغاية مثل
قوله في البقرة: (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ)
محكم غير منسوخ، لأنه يؤجّل بأجل، والمؤجل بأجل لا نسخ فيه
الرابعة: قال بعضهم: سور القرآن باعتبار الناسخ والمنسوخ أقسام: قسم ليس فيه ناسخ ولا منسوخ، وهي ثلاث وأربعون سورة: الفاتحة، ويوسف، ويس، والحجرات، والرحمن، والحديد، والصف، والجمعة، والتحريم، والملك، والحاقة، ونوح، والجن، والمرسلات، وعم، والنازعات، والانفطار، وثلاث بعدها، والفجر وما بعدها إلى آخر القرآن، إلا التين والعصر والكافرون.
وقسم فيه الناسخ والمنسوخ، وهو خمس وعشرون: البقرة، وثلاث بعدها،
والحج، والنور، وتالياها، والأحزاب، وسبأ، والمؤمن، والشورى، والذاريات، والطور، والواقعة، والمجادلة، والمزمل، والمدثر، وكوّرت، والعصر.
وقسم فيه الناسخ فقط، وهو ستة: الفتح، والحشر، والمنافقون، والتغابن، والطلاق، والأعلى.
وقسم فيه المنسوخ فقط، وهو الأربعون الباقية، كذا قال.
وفيه نظر يُعرف مما يأتي.
الخامسة: قال مكي: الناسخ أقسام: فرضٌ نَسَخَ فَرْضاً، ولا يجوز العمل
بالأول، كنسخ الحبس للزَّوَاني بالحد.
وفرض نسخ فرضاً، ويجوز العمل بالأول كآية المصابرة.
وفرض نسخ ندباً، كالقتال، كان ندباً ثم صار فرضا.
وندب نسخ فرضاً، كالقيام نسِخَ بالقراءة في قوله:(فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) .
السادسة: النسخ في القرآن على ثلاثة أضرب: أحدها ما نسخ تلاوته وحكمه معاً، قالت عائشة: كان فما أنزل عشر رضعات معلومات فنسخن بخمس معلومات، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي فما يقرأ من القرآن.
ورواه الشيخان.
وقد تكلموا في قولها: وهي مما يقرأ من القرآن، فإن ظاهره بقاء التلاوة، وليس كذلك.
وأجيب بأن المراد قارب الوفاة، وأن التلاوة نسخت أيضاً، ولم يبلغ ذلك
كل الناس إلا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فتوفي وبعض الناس يقرؤها.
قال أبو موسى الأشري: نزلت ثم رفعت.
وقال مكي: وهذا المثال فيه المنسوخ غير المتلوّ، والناسخ أيضاً غير متلوّ، ولا أعلم له نظيراً.
الضرب الثاني: ما نسخ حكمه دون تلاوته، وهذا الضرب هو الذي فيه
الكتب المؤلفة، وهو على الحقيقة قليل جداً، وإنْ أكثر الناس من تعديد الآيات فيه، فإن المحققين منهم كالقاضي أبي بكر بن العربي ميز ذلك وأتقنه.
والذي أقوله: إن الذي أورده المكثرون أقسام:
قسم ليس من النسخ في شيء، ولا من التخصيص، ولا له علاقة بهما بوجه
من الوجوه، وذلك مثل قوله تعالى:(وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) .
(أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ) .
ونحو ذلك، قالوا: إنه منسوخ بآية الزكاة، وليس كذلك، بل هو باق.
أما الأولى فإنها خبر في معرض الثناء عليهم
بالإنفاق، وذلك يصلح أن يفسر بالزكاة وبالإنفاق على الأهل وبالإنفاق في
الأمور المندوبة، كالإعانة والضيافة، وليس في الآية ما يدل على أنها نفقة واجبة غير الزكاة.
والآية الثانية تصح كلها على الزكاة، وقد فسرت بذلك.
وكذا قوله: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8.
قيل: إنها مما نسخ بآية السيف، وليس كذلك، لأنه تعالى أحكم الحاكمين أبدا، لا يقبل هذا الكلام النسخ، وإن كان معناه الأمر بالتفويض وترك المعاقبة.
وقوله في البقرة: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا) .
عده بعضهم من المنسوخ بآية السيف.
وقد غلطه ابن الحَصَّار بأن الآية حكاية عما أخذه على بني
إسرائيل من الميثاق، فهو خبر، فلا نسخ فيه.
فقس على ذلك.
وقسم هو من قسم المخصوص لا من قسم المنسوخ.
وقد اعتنى ابن العربي بتجريده، فأجاد، كقوله: (إنَّ الإنسان لفي خسْر.
إلا الذين آمَنوا)
(وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) .
(إلا الذين آمنوا) . الشعراء: 224، 227.
(فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ) .
وغير ذلك من الآيات التي خصت باستثناء أو غاية.
وقد أخطأ من أدخلها في المنسوخ،
ومنه قوله تعالى: (وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ) .
قيل نسخ بقوله: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) .
وإنما هو مخصوص به.
وقسم رَفع ما كان عليه من الأمر في الجاهلية أو في شرائع من قبلنا، أو في
أول الإسلام ولم ينزل في القرآن، كإبطال نكاح نساء الآباء، ومشروعية
القصاص، والدية، وحصر الطلاق في الثالث.
وهذا إدخاله في قسم الناسخ قريب، ولكن عدم إدخاله أقرب، وهو الذي رجّحه مكي وغيره، ووجهوه بأن ذلك لوْ عدّ في الناسخ لعد جميع القرآن منه، إذ كله أو أكثره رافع لما كان عليه الكفار وأهل الكتاب.
وقالوا: وإنما حق الناسخ والمنسوخ أن تكون آية نسخت آية
…
انتهى.
نعم النوع الآخر منه - وهو رافع ما كان في أول الإسلام - إدخاله أوجب من القسمين قبله.
إذا علمت ذلك فقد خرج من الآيات التي أوردها المكثرون من الجمّ الغفير
مع آيات الصلح والعفو إن قلنا إن آية السيف لم ينسخها، وبقي ما يصلح لذلك عدد يسير.
وقد أفردته بأدلته في تأليف لطيف، وها أنا أورده هنا محرراً:
من البقرة قوله تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ) .
قيل منسوخة بآية الميراث، وقيل بحديث: لا وصية لوارث.
وقيل بالإجماع، حكاه ابن العربي.
قوله تعالى: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) .
قيل منسوخة بقوله: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) .
وقيل محكمة و" لا " مقَدّرَة.
قوله تعالى: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ) .
ناسخة لقوله: (كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) ،
لأن مقتضاها الموافقة فما كان عليهم من تحريم الأكل والوطء بعد النوم.
ذكره ابن العربي، وحكى قولاً آخر أنه نسخٌ لما كان بالسنة.
قوله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ) .
منسوخة بقوله: (وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً) .
أخرجه ابن جرير عن عطاء ابن ميسرة.
قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا) .
إلى قوله: (متاعاً إلى الحَوْلِ) .
منسوخة بآية: (أربعة أشْهُر وعَشْراً) .
والوصيةُ منسوخة بالميراث.
والسكنى ثابتة عند قوم منسوخة عند آخرين بحديث: ولا سكنَى.
قوله تعالى: (وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ) .
منسوخة بقوله بعده: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) .
ومن آل عمران قوله تعالى: (اتَقُوا الله حقَّ تُقَاته) .
قيل إنه منسوخ بقوله: (فاتَقُوا اللَهَ ما استَطَعْتُمْ) .
وقيل: لا، بل هو محكم، وليس فيها آية يصح فيها دعوى النسخ غير هذه الآية.
ومن النساء قوله تعالى: (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ) .
منسوخة بقوله: (وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ) .
قوله تعالى: (وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ) .
منسوخة. وقيل: لا، ولكن تهاون الناس في العمل بها.
قوله تعالى: (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ) .
منسوخة بآية النور.
ومن المائدة قوله تعالى: (وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ) .
منسوخة بإباحة القتال فيه.
قوله تعالى: (فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ) .
منسوخة بقوله: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ) .
قوله تعالى: (أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) .
منسوخ بقوله: (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) الطلاق: 2.
ومن الأنفال قوله تعالى: (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ) .
منسوخة بالآية بعدها.
ومن بَرَاءَةَ قوله تعالى: (انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا) .
منسوخة بآية العذر، وهي قوله:(لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ) .
وقوله: (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ)
…
. التوبة: 91، الاآيتين
وبقوله: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) .
ومن النور قوله تعالى: (الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً) .
منسوخ بقوله: (وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ) .
قوله تعالى: (لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) .
قيل: منسوخة.
وقيل: لا، ولكن تهاون الناس في العمل بها.
ومن الأحزاب قوله تعالى: (لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ) .
منسوخة بقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ) .
ومن المجادلة قوله تعالى: (إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً) .
منسوخة بما بعدها.
ومن الممتحنة قوله تعالى: (فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا) .
قيل منسوخ بآية السيف.
وقيل بآية الغنيمة.
وقيل محكم.
ومن المزمل قوله تعالى: (قُمِ اللَّيْلَ إلا قليلا) . المزمل: 2.
منسوخ بآخر السورة، ثم نسخ الآخر بالصلوات الخمس.
فهذه إحدى وعشرون آية منسوخة على خلافٍ في بعضها لا يصح دعوى
النسخ في غيرها.
والأصح في آية الاستئذان والقسمة الإحكام، فصارت تسع عشرة.
ويضم إليها قوله تعالى: (فأيْنَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) البقرة: 165.
على رأي ابن عباس أنها منسوخة بقوله: (فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ السجدِ الحرام) .
فتتم عشرين.
وقد نظمتها فقلت:
قد أكثر الناسُ في المنسوخ من عدد
…
وأدخلوا فيه آياً ليْسَ تنحصِرُ
وهاك تحرير آي لا مزيدَ لها
…
عشرينَ حرَّرَها الحُذّاقُ والكُبَرُ
آي التوجّه حيث المرء كان وأن
…
يُوصي لأهليه عند الموت محتَضر
وحرمة الأكل بعد النوم مع رفَث
…
وفدية لمُطيق الصوم مشتهر
وحقّ تقواه فما صحّ في أثر
…
وفي الحرام قتالٌ للألي كفروا
والاعتداد بحَوْل مَعْ وصيتها
…
وأن يدَان حديثُ النفس والفكر
والحلف والحبس للزاني وترك ألي
…
كُفر، وإشهادهم والصبر والنّفَر
ومنع عقدٍ لزان أو لزانيةٍ
…
وما على المصطفى في العقد محتظر
ودفع مهر لمن جاءَتْ وآية نجـ
…
واه كذاك قيامُ الليل مُسْتَطِرُ
وزيد آية الاستئذان من ملكت
…
وآية القسمة الفضلى لمن حَضَرُوا
فإن قلت: ما الحكمة في رفع الحكم وإبقاء التلاوة، فالجواب من وجهين:
أحدهما: أن الفرقان كما يتلى ليعرف الحكم منه والعمل به فيُتلى لكونه كتاب الله، فيثاب عليه، فتركت التلاوة لهذه الحكمة.
والثاني: أن النسخ غالباً يكون للتخفيف.
فأبقيت التلاوة تذكيراً للرحمة ورفع الشقة.
وأما ما ورد في القرآن ناسخاً لما كان عليه الجاهلية، أو كان في
شرع من قبلنا، أو في أول الإسلام، فهو أيضاً قليل العدد، كنسخ استقبال بيت المقدس بآية القبلة، وصوم عاشوراء بصوم رمضان، في أشياء أخر حررتها في كتابي المشار إليه.
قال بعضهم: ليس في القرآن ناسخ إلا والمنسويخ قبله في الترتيب إلا آيتين:
آية العِدَّة في البقرة، وقوله:(لا يَحِلّ لكَ النساء) ، كما تقدم.
وزاد بعضهم ثالثة، وهي آية الحشر في الفيء على رأي من قال إنها منسوخة
بآية الأنفال: (واعْلَموا أنما غَنِمْتم مِنْ شَيْء) .
وزاد قوم رابعة، وهي قوله:(خُذِ العَفْوَ) . الأعراف: 198، - يعني
الفضْل من أموالهم على رأي من قال إنها منسوخة بآية الزكاة.
وقال ابن العربي: كل ما في القرآن من الصفح عن الكفار والتولي والإعراض
والكف عنهم فهو منسوخ بآية السيف، وهي:(فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) .
نسخت مائة وأربعاً وعشرين آية، ثم نسخ آخرها أولها.
وقال أيضاً: من عجيب المنسوخ قوله تعالى: (خذِ العَفْوَ) .
فإن أولها وآخرها - وهو: وأعرض عن الجاهلين - منسوخ، ووسطه
محكم، وهو: وأمر با لعرْف.
وقال: من عجيبه أيضاً آية أولها منسوخ وآخرها ناسخ، ولا نظير لها، وهي
قوله: (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) المائدة: 105.
- يعني بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهذا ناسخ لقوله: (عليكم
أنفسكم) المائدة: 105.
وقال السعدي: لم يمكث منسوخٌ مدة أكثر من قوله تعالى: (قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ) .
مكثت ست عشرة سنة حتى نسخها أول الفتح عام الحديبية.
وذكر هبة الله بن سلامة الضرير أنه قال في قوله تعالى: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) .
أن المنسوخ من هذه
الجملة وأسيراً، والمراد بذلك أسير المشركين، فقريء عليه الكتاب وابنته تسمع، فلما انتهى إلى هذا الموضع قالت له: أخطأت يا أبت.
قال: وكيف، قالت: أجمع المسلمون على أن الأسير يطعَم ولا يقتل جوعا.
فقال: صدقت.
وقال شَيْذَلة في البرهان: يجوز نسخ الناسخ فيصير منسوخاً، كقوله:(لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6) .
نسخها قوله: (فاقْتُلُوا المشركين) .
ثم نسخ هذه بقوله: (حتى يعْطُوا الْجِزْيَةَ) .
كذا قال، وفيه نظر من وجهين:
أحدهما ما تقدمت الإشارة إليه.
والآخر أن قوله: (حتى يعْطُوا الْجِزْيَةَ)
- مخصِّص للآية لا ناسخ، نعم يمثل له بآخر سورة المزمل، فإنه ناسخ لأولها
منسوخ بفرض الصلوات الخمس.
وقوله: (انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا) ، ناسخ لآية الكفّ، منسوخ بآية العُذْر.
وأخرج أبو عبيد عن الحسن وأبي ميسرة، قالا: ليس في المائدة منسوخ.
ويشكل بما في المستدرك عن ابن عباس أن قوله: (فاحْكمْ بينهم أو أعْرِضْ
عنهم) المائدة: 42، - منسوخ بقوله:(وأنِ احكم بينهم بما أنزل الله) .
وأخرج أبو عبيد وغيره، عن ابن عباس، قال: أول ما نسخ من القرآن شأن القبلة.
وأخرج أبو داود في ناسخه من وجه آخر عنه، قال: أول آية نسخت من
القرآن القبلة، ثم الصيام الأول.
قال مكي: وعلى هذا فلم يقع في المكي ناسخ.
قال: وقد ذكر أنه وقع فيه في آيات، منه قوله تعالى في سورة غافر:(يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) . غافر: 7.
فإنه ناسخ لقوله تعالى: (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ) الشورى: هـ.