الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فبالله أيُّهَا الأخ، قُمْ على قدم الاعتذار، واكشف رأس الاستغفار، وناد
بلسان الاضطرار: (رَبَّنَا ظلَمْنَا أنفسنا وإنْ لم تغْفِرْ لنا وتَرْحَمْنَا لنكونَنَّ من
الخاسرين) .
قال بعضهم: بتّ ليلة ألوم نفسي، وأعدّد عليها، ثم نمت، فرأيت كأن
القيامة قد قامت، والناس جَمْع، فجئتُ إلى قوم عليهم ثياب حسنة، ورائحة طيبة، فأردتُ الجلوس معهم، فأخذ بيدي شخص فأزالني، وقال: أين أنت، وما أنت منهم، أين حالك من حالهم، أين نورك من نورهم، فلم أزَلْ اصرف من جمع إلى جمع حتى انتهيت إلى قوم عليهم أطمار رثَّة، ووجوههم مغبرة، فلما رَأوْني قالوا: تقدم إلينا، فأنت من أصحابنا، فعلمت ذُلّي ومقامي، فلزمت الحزن إلى يوم ألقاه.
اللهم إنك أنعمت على هذا العبد بإلزام الحزن قلبه، اخلع علينا بُرد حزن.
حتى أقوم على ساق سبق توبة تكابد الحزن إلى يوم ألقاك بجاه مَنْ أنزلت عليه
هذا الكتاب الشافع المشفّع، الماحل المصدق، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
*******
الوجه الخامس والثلاثون من وجوة إعجازه (ألفاظه المشتركة)
وهذا الوجه من أعظم إعجازه، حيث كانت الكلمة الواحدة تتصرف إلى
عشرين وجهاً، وأكثر وأقل، ولا يوجد ذلك في كلام البشر.
وقد صنّف في هذا النوع وفي عكسه - وهو ما اختلف لفظه واتحد معناه -
كثير من المتقدمين والمتأخرين، منهم ابن الجَوْزِي، وابن أبي المعالي، وأبو الحسين محمد بن عبد الصمد المصري، وابن فارس، وآخرون.
قال مقاتل بن سليمان في صدر كتابه المصنف في هذا المعنى حديثاً مرفوعاً: لا
يكون الرجل فقيهاً كل الفقه حتى يرى للقرآن وجوهاً كثيرة.
قلت: هذا أخرجه ابن سعد وغيره عن أبي الدرداء موقوفاً، ولفظه: لا يفقه
الرجل كل الفقه.
وقد فسره بعضهم بأن المراد أن يرى اللفظ الواحد يحتمل معاني متعددة فيحمله عليها إذا كانت غير متضادة، ولا يقتصر به على معنى واحد.
وأشار آخرون إلى أن المراد به استعمال الإشارات الباطنة، وعدم الاقتصار
على التفسير الظاهر.
وقد أخرجه ابن عساكر من طريق حماد بن زيد عن أيوب، عن أبي قِلَابة.
عن أبي الدرداء، قال: إنك لن تفقه كل الفقه حتى ترى للقرآن وجوهاً.
قال حماد: فقلت لأيوب: أرأيت قوله حتى ترى للقرآن وجوها، أهو أن يرى وجوهاً فيها بالإقدام عليه، قال: نعم، هو هذا.
وأخرج ابن سعد من طريق عكرمة، عن ابن عباس، عن علي بن أبي طالب.
أنه أرسله إلى الخوارج، قال: اذهب إليهم وخاصمهم، ولا تخاصمهم بالقرآن، فإنه ذو وجوه، ولكن خاصمهم بالسنة.
وفي وجه آخر قال له: يا أمير المؤمنين، فأنا أعلم بكتاب الله في بيوتنا نزل.
قال: صدقت، ولكن القرآن حمَّال في وجوه: تقول ويقولون، ولكن حاجّهم بالسُّنن، فإنهم لن يجدوا عنها محيصاً، فاخرج إليهم فحاجهم بالسنن، فلم تبق بأيديهم حجة.
وقد مَنَّ الله علينا في جَلْبِ بعض ألفاظٍ في هذا المعنى، وكان هو السبب في
هذا المبنى، فاشْدد بكلتا يديك على هذا الكتاب المسمّى بإعجاز القرآن ومعترك الأقران، مع أني - علم الله - لست من فرْسان هذا الميْدان، ولا من يجول في هذا الشأن، لكني تطفَّلت على المتقدمين، رجاء أن يضمني جميل الاحتمال معهم، ويسعني من حسن التجاوز ما وسعهم، وأنا أرغب ممن وقع بيده هذا الكتاب أن يدعو للساعي له فيه، لأنه يجد فيه ما لا يجده في كثير من المطولين الصعاب، وكيف لا يذكره عند ربه وقد استخرجْته له منهم سهْلَ المرام، فخفَّ عليه
حَمْله وثمنه، وقرَّبْت عليه الفهم باختصار الكلام، وأيْم الله لو أراد الاستغناء به عن النظر في غيره لكفاه، مع أني زِدت مع اللفظ المشترك تفسيرَ مفردات لا بد له منها، ليتم له معناه.
وأعقبت كل حَرْفٍ بحروف تشاكلها منها من الأسماء
والظروف، لأن معرفة ذلك من الهمات المطلوبة، لاختلاف مواقعها، ولهذا
يختلف الكلام والاستنباط بحسبها، كما في قوله تعالى:(وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) .
فاستعْمِلَت "على" في جانب الحق و" في " في جانب الضلَال، لأن جانب الحق كأنه مستَعْلٍ يصرِّف نظره كيف شاء، وصاحب الباطل كأنه في ظلام منخفض لا يدري أين يتوجه.
وقوله تعالى: (فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ) .
عطف الجمل الأولى بالفاء، والأخيرة بالواو لما انقطع نظام الرّتب، لأن التلطّف غير مرتب على الإتيان بالطعام، كما كان الإتيان به مرتبا على النظر فيه، والنظر فيه مرتباً على التوجه في طلبه، والتوجه في طلبه مرتباً على قطع الجدال في المسألة عن مدة اللبث وتسليم العلم له تعالى.
وقوله: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ) .
عَدَل عن اللام، إلى " في " في الأربعة الأخيرة، إيذاناً بأنهم أكثر استحقاقاً للتّصدّق عليهم ممن سبق ذكره باللام، لأن " في " لِلْوعَاء، فنبَّه باستعمالها، على أنهم أحقّ بأن يجعلوا مظنّة لوضع الصدقات بهم، كما يُوضع الشيء في وعائه مستقرّاً فيه.
وقال الفارسي: إنما قال: " في الرقاب) ولم يقل للرقاب، ليدل على أن العبد لا يملك.
وعن ابن عباس قال: الحمد للهِ الذي قال: (عن صلاتهم ساهون) ، ولم يقل في صلاتهم.
فقد علمت من هذا أنه لا بد مِنْ ذكر معاني هذه الأدوات وتوجيهها.
وقد أفردها بالتصنيف خلائق من المتقدمين والمتأخرين،
كالهروي، وابن أم قاسم، وابن هشام، وأنفعها هذا الكتاب البديع المثال، المنيع المقال، بنيت لك مصاعد ترتقي عليها إلى مقاصد، وتطَّلع فيه على فهم الكتاب المنزل، وفتحت لك من كنوزه كل باب مقفل.
فخُذْه كقرصة نِقْي منقى من كل خلط رديء، وكلْ إنْ كنت آكلاً، وإلا فلا تمنعه من الناقل إن لم تكن ناقلاً.
على أني ليس لي فيه مزيَّة، وإنما الفضل لمتقدمي علماء الأمة المحمدية، ملأ
اللَه قبورَهم نوراً، وزاد قلوبهم حبوراً، وأفاض من بركاتهم يوم نُلقَّى كتابنا
منشوراً، فنظرنا إليه لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، ولا خفيّة محرفة
عندنا إلا عَدَّها واستقصاها، وأسمعنا تعالى عظيم كلامه، وخاطبنا بعِتابه
ومَلَامه.
وقال: عبدي، ادنُ مني، فدنوت منه بقَلْبٍ خافق وَجِل، فيقول:
عبدي طالماً أمرتُك فعصيتني، وأمهلتُك فا راعيتني، وخوّفتك عقابي فما خِفْتَني، وتسترتَ بالقبيح عن عبادي، وبه بارزتَني.
ألم أكن على قلبك وجوارحك رقيبا.
أقرأ كتابَك كفَى بنفسك الْيَوْمَ عليك حسيباً.
فهناك يخرس اللسان، وتطيش العقول والأذهان، ولا تطيق من الهيبة البيان.
بل تشهد جوارحُ الإنسان.
اللهم إنك تعلم أنه ليس لي مَنْ ينقذني مِن والد علم ولا وَلَدِ علم في ذلك الموقف العظيم غير الاشتغال بخدمة كتابك، واستخراج زُبَده ودُرَره، واقتطاف ثمره وأزهاره.
فاجعله لنا شافعا مشفّعاً، وخصوصاً هذا الكتاب، فإني أودعت فيه فنون العلوم على تنوُّعها، ومررْتُ على رياض التفاسير على كثرة عددها، وختمته بأقوال كلية، فخلصت سبائكها، وفوائد مهمة
سبكت تِبْرَها، وأقوال محمدية على بعض آياتك رجاء بركتها، لأن بركة الكتاب خَتْمه.
فختمته بما صحَّ من التفسير عن نبيك البشير النذير، السراج المنير، راجياً
منك حُسْنَ الخاتمة على دينك المستقيم، فلا تُزغْ قلوبنا بعد إذْ هَدَيْتَنَا على
صراطك القويم، بجاه سيدنا ومولانا الفاتح الخاتم منقذنا من العذاب الأليم.
صلى اللَّهُ عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وأمته أفضل صلاة وأزكى تسليم.
تم الجزء الأوَّل، ويليه إن شاء الله الجزء الثاني وأوَّله حرف الهمزة.