الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الوجه السابع والعشرون من وجوه إعجازه (وقوع البدائع البليغة فيه)
وقد أنهاها بعضهم إلى مائتي نوع.
وهو علم يعرف به وجوه تحسين الكلام بعد رعاية المطابقة ووضوح الدلالة.
وقد أفرده بالتصنيف ابن أبي الإصبع، وقد قدمنا منها في نوع الفواصل
والمناسبات والفواتح والخواتم وفي الوَجْه الذي قبل هذا ما لا مزيدَ لذكره.
ونذكر هنا بعضَها لتطَّلِع بذلك على أسرار هذا الكلام الذي أعجز عقول ذوي الأفهام عن إدراك عجائبه التي لا تنقضي، لأنه في أحسن نظام، فإن أيقظ المتكلم به أحدَ هذه الأمة المحمدية للنظر في هذا الكتاب فلا يغفل عن أجرة الدلال الموصل له هذه الذخائر التي يعجز عنها كثير من الطلاب - بالدعاء له بمجاورة الموصّل لنا هذا بعد الصلاة والسلام عليه وعلى جميع الآل والأصحاب.
وإن لم يفتح الله له جملة - وهذا ظني لوصف الخلق بأوصاف البَطَلة - فنرده إلى الله ورسوله، ونسأله بمعاقد العز مِنْ عرشه، ومنتهى الرحمة من كتابه واسمه الأعظم أن يجعله لنا وجميع ما ألَّفْنا وقاية وشفيعا من جميع المكلاره ديناً ودنيا، لأنه وليّ ذلك والقادر عليه.
فمن ألقاب علوم البديع:
الإيهام: ويدعى التّورية:
أن يُذكر لفظ له معنيان، إما بالاشتراك، أو
التواطؤ، أو الحقيقة، أو المجاز: أحدهما قريب والآخر بعيد، وئقصد البعيد
وئورّى عنه بالقريب، فيتوهمه السامع في أول وهلة.
قال الزمخشري: لا ترى بابا في البيان أدق ولا ألطفَ من التورية، ولا أنفع
ولا أعون على تعاطي تأويل المتشابهات في كلام الله ورسوله.
قال: ومن أمثلته:
(الرحمنُ على العرش اسْتَوَى)، فإنَّ الاستواء على معنيين: الاستقرار
في المكان - وهو المعنى القريب المورَّى به الذي هو غير مقصود لتنزيهه تعالى
عنه.
والثاني الاستيلاء والملك، وهذا المعنى البعيد المقصود الذي ورّى عنه
بالقريب المذكور. انتهى.
وهذه التورية تسمى مجردة، لأنها لم يذكر فيها شيء من لوازم المورَّى به ولا
المورَّى عنه.
ومنها ما تسمى مرشَّحة، وهي التي ذُكر فيها شيء من لوازم هذا أو هذا.
كقوله تعالى: (والسماء بَنَيْنَاها بأيْدٍ) ، فإنه يحتمل الجارحة
وهو المورَّى به، وقد ذكر من لوازمه على جهة الترشيح البُنْيان.
ويحتمل القدرة والقوة، وهو البعيد المقصود.
وقال ابن أبي الإصبع في كتابه الإعجاز: ومنها: (قالوا تاللهِ إنَّكَ لفي
ضَلَالِكَ القديم) .
فالضلال يحتمل الحب وضد الهدى، فاستعمله
أولادُ يعقوب ضد الهدى تورية عن الحب.
(فاليَوْمَ ننَجِّيك بِبَدَنِكَ) .
على تفسيره بالدرع، فإن البدن يطلق عليه وعلى الجسد، والمراد
البعيد وهو الجسد، قال: ومن ذلك قوله تعالى - بعد ذكر أهل الكتاب من
اليهود والنصارى حيث قال: (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ) .
ولما كان الخطاب لموسى من الجانب الغربي، وتوجهت إليه اليهود، وتوجهت
النصارى إلى المشرق كانت قبلةُ الإسلام وسطاً بين القبلتين، قال تعالى:
(وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) ، أي خياراً، فظاهر اللفظ
يوهم التوسط مع ما يعضده من توسط قبلة المسلمين - صدق على لفظة " وسط " ها هنا أن يسمي تعالى به لاحتمالها المعنيين.
ولما كان المراد أبعدهما - وهو الخيار - صلحت أن تكون من أمثلة التورية.
قلت: وهي مرشحة بلازم الموري عنه، وهو قوله: (لتكونوا شهداءَ على
الناس) ، فإنه من لوازم كونهم خِيَاراً، أى عدولا، والإتيان قبله من قسم
المجردة.
وفي ذلك قوله: (والنَّجْمُ والشَّجَرُ يَسْجُدَان) ، فإن النجم يطلق على الكوكب، ويرشحه له ذكر الشمس والقمر، وعلى ما لا ساق له من
النبات، وهو المعنى البعيد له وهو المقصود في الآية.
ونقلتُ من خط شيخ الإسلام ابن حَجَر أن التّوْرِية في القرآن قوله تعالى:
(وما أرسلْنَاكَ إلَاّ كافةً للناس) ، فإن كافة بمعنى مانع، أي
يكفُّهم عن الكفر والمعصية والهاء للمبالغة، وهذا معنى بعيد، والمعنى القريب
المتبادر أن المراد جامعة، أي جميعاً، لكن منع مِنْ حمله على ذلك أن التأكيد
يتراخى عن المؤكد، فكما لا تقول رأيت جميعاً الناس لا تقول رأيت كافة
الناس.
ومنها الاستخدام، وهو والتورية أشرفُ أنواع البديع، وهما سيّان، بل فضَّله بعضهم عليها، وله فيه عبارتان:
إحداهما: أن ئؤتى بلفظ له معنيان فأكثر مراداً به أحد معانيه، ثم يؤتى
بضميره مرادآَ به المعنى الآخر، وهذه طريقة السكاكي وأتباعه.
والأخرى أن يؤتى بلفظ مشترك ثم بلفظين يُفهم من أحدهما أحد المعنيين.
ومن الآخر الآخر، وهذه طريقةُ بدر الدين بن مالك في المصباح، ومشى عليه ابن أبي الإصبع، ومثّل له بقوله تعالى:(للِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (38) .
فلفظ كتاب يحتمل الأمَدَ المحتوم والكتاب المكتوب، فلفظُ
(أجل) يخدم المعنى الأول، " ويمحو " يخدم المعنى الثاني.
ومثّل غيره بقوله تعالى: (لا تقْرَبُوا الصلاةَ وأنتم سُكَارى) .
فالصلاةُ يُحتمل أن يراد بها فعلها وموضعها.
وقوله تعالى: (حتى تعلَمُوا ما تَقُولون) ، يخدم الأولى، و (إلَاّ عابِري سبيل)
يخدم الثاني.
قال: ولم يقع في القرآن على طريقة السكاكي.
قلت: وقد استخرجتُ بفكري آيات على طريقته: