الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وبالجملة: ففرق بين من أخذ الأحكام والمصطلحات غضة طرية عمن أصلها، وبين من أخذها عمن فهمها منهم، وقد خلطها أو تأثر بمنهج أهل الكلام، والفقه ممن ليس من أهل الحديث.
فالأئمة المتقدمون لا يتكلفون في إطلاق المصطلحات، بل يرسلونها، وقد يريدون في المصطلح الذي أطلقوه جزئية منه لا كله.
2 - تَقْعِيدُ قَواعِد جَافَّة عَرِيَّة عَن القَرَائِن، وعَدَم اعْتِبَار العِلَل:
لا شك أن الضوابط والقواعد إنما وضعت لتقريب علم الحديث لطلابه، وفق ما قرره أئمة الحديث المتقدمين سواء في المصطلحات، أو الأحكام.
فلا تُجعل هذه القواعدُ والضوابطُ أصلًا يُعارضُ به الأئمة المتقدمون، بحجة أن ما قرره المتقدمون يخالف ما تقرر في قواعد المصطلح.
وإنما الواجب عرض (قواعد المصطلح المحدثة) على عمل الأئمة المتقدمين، لا عرض عملهم على (قواعد المصطلح المحدثة).
فالمتقدمون كانت أحكامهم تقوم على السبر والتتبع والاستقراء لحال الراوي والمروي، مع الحفظ والفهم وكثرة المدارسة والمذاكرة.
وأما المتأخرون فغلب على منهجهم الاعتماد على ما قعَّدوه من ضوابط، لتجنب عناء الحفظ والاستقراء، والنظر في أحوال الأسانيد والمتون، فاعتمدوا على من سبقهم ممن قعَّدَ ضوابط المصطلح ثقة به، من دون تحقق من كونه أصاب أو أخطأ، حتى صار يكفي الطالب منهم ليتصدر في هذا الفن أن يقرأ كتابًا في (المصطلح) ويحفظ متنًا مشهورًا.
وليس أدل على ما أقول من النظر في غالب مباحث الحديث كالتدليس، والاختلاط، وتحسين الأحاديث، والشذوذ، والنكارة، وزيادة الثقة، والتفرد، وتعارض الوصل والإرسال، والوقف والرفع، وتعليل الأئمة للأحاديث التي ظاهرها الصحة، ليتبين للناظر بوضوح الفرق بين المنهجين.
قال ابن رجب: وكذا الكلام في العلل والتواريخ قد دونه أئمة الحفاظ، وقد هجر في هذا الزمان ودرس حفظه وفهمه، فلولا التصانيف المتقدمة فيه لما عرف هذا العلم اليوم بالكلية، ففي
التصنيف فيه ونقل كلام الأئمة المتقدمين مصلحة عظيمة جدًّا. وقد كان السلف الصالح مع سعة حفظهم - وكثرة الحفظ في زمانهم - يأمرون بالكتابة للحفظ، فكيف بزماننا هذا الذي هجرت فيه علوم سلف الأمة وأئمتها، ولم يبق منها إلا ما كان مدَّونًا في الكتب، لتشاغل أهل الزمان بمدارسة الآراء وحفظها). اهـ. من "شرح العلل"(1/ 25).
مثال:
الناظر إلى مبحث التدليس، يجد المتقدمين في الغالب يستعملون مصطلح التدليس بمعنى الإرسال، وهو رواية الراوي عمن لم يسمع منه، بل ولم يلقه أو يدركه.
وعند المتأخرين رواية الراوي عن راوٍ سمع منه بعض حديثه، وروى عنه حديثًا لم يسمعه منه أصلًا.
فالزهري مثلًا؛ لم يقل أحد من المتقدمين أنه مدلس، وإجماع الأئمة منعقد على قبول روايته مطلقًا، وهو ممن دارت عليه الأسانيد.
وإنما ذكروا أنه يرسل، وما وصفه بالتدليس غير العلائي وتبعه ابن حجر، فعدوه في الثالثة من مراتب المدلسين، وهم الذين كثر تدليسهم فلم يقبل منهم إلا ما صرحوا فيه بالسماع.
نعم له أحاديث دلسها، وهي معروفة محفوظة، فمثلها إذا ثبت تدليسه فيها عن ضعيف رُدَّت.
ولهذا قال الذهبي: كان يدلس في النادر.
فمثل الزهري ممن وصف بالتدليس عند المتأخرين، لا يُنْظر في روايته إلى (العنعنة أصلًا).
بل يُنظر فيها إلى مطلق سماعه ممن فوقه، فإن ثبت سماعه منه بالجملة فمتصل، وإنْ لم يصرح بالسماع.
وعلى هذا تحمل مرويات الحسن البصري، وابن أبي عروبة، وقتادة، وأبي إسحاق السَّبِيعِيّ، وابن جريج، والوليد بن مسلم (1).
فالأصل في روايات هؤلاء عمن رووا عنهم الاتصال، وإن رويت بالعنعنة، حتى يثبت أنهم لم يسمعوا منه أصلًا.
(1) إلا في روايته عن الأوزاعي كما تقدم.
ولهذا فالنظر منصرف إلى كتب المراسيل، في البحث عن أحوال مروياتهم، لا إلى كتب التدليس.
هذا والعنعنة عند المتقدمين في الأصل من تصرف الرواة الذين هم دون الراوي الذي جاءت أداة العنعنة (عن) بعده، وأما المتأخرون فلا تتجاوز كونها من صنيع الراوي نفسه.
قال الحاكم: قرأت بخط محمد بن يحيى، سألت أبا الوليد: أكان شعبة يفرق بين أخبرني وعن؟ فقال: أدركت العلماء وهم لا يفرقون بينهما. اهـ. "شرح العلل"(1/ 364).
بل منهم من كان يتساهل في التحديث، فلا بد للباحث من التمعن وعدم الأخذ بالظاهر.
فقد ذكر الإسماعيلي عن الشاميين والمصريين أنهم يتساهلون في التحديث. "فتح الباري" لابن رجب (3/ 54).
وقال ابن رجب رحمه الله: وكان أحمد يستنكر دخول التحديث في كثير من الأسانيد، ويقول: هو خطأ - يعني: ذكر السماع - ثم ذكر لذلك أمثلة، وقال: وحينئذ فينبغي التفطن لهذه الأمور، ولا يغتر بمجرد ذكر السماع والتحديث في الأسانيد "شرح العلل"(1/ 369).
قلت: فانظر بعد هذا فقد ذكرت لك سبعة ممن وصفوا بكثرة التدليس عند المتأخرين كالعلائي وابن حجر وسبط ابن العجمي، واعتمدهم من بعدهم من غير تفتيش ولا تحرٍّ - وهؤلاء السبعة ممن أكثروا من المرويات، فهل مثل هؤلاء يرد حديثهم لمجرد وصف خاطئ وُصفوا به، بناء على فهم سقيم، وبناء على عنعنة وقعت ممن دونهم لا منهم.
وبالجملة: فالأئمة المتقدمون إذا قالوا: (فلان يدلس) فيريدون أحد أمرين:
إما أنه بمعنى الإرسال وهو الغالب، أو أنه بمعنى ندرة التدليس، وفق اصطلاح المتأخرين.
وكذلك في مسألة: تعارض الوصل والإرسال.
فالمتأخرون عادة إذا كان ظاهر الإسنادين المتصل والمرسل صحيحًا يرجحون المتصل، ولا يعتبرون الإسناد المرسل علة يرد بها الإسناد المتصل.
أما المتقدمون، فلا يحكمون على هذا بشيء مقدمًا، بل يدرسون الإسنادين، وينظرون القرائن المحتفة بهما، فيرجحون ما دلت القرينة على ترجيحه، وقد يَصِحُّحون كلا الإسنادين، لقرائن.
فمثلًا:
حديث يرويه بعض أصحاب الزهري عن الزهري، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ويرويه بعض أصحاب الزهري، عن الزهري، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
فالمتقدمون ينظرون، إلى الرواة عن الزهري من حيث كثرتهم، ومن حيث تقديمهم في الحفظ، ومن حيث تقديمهم في ملازمة الزهري، ومن حيث قربهم من الزهري. ثم يرجحون.
وقد يصححون كلا الإسنادين فيقولون: إن الزهري كان مرة ينشط فيرويه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومرة يكون في حال مذاكرة أو فتيا، فيرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة لا يذكر أبا هريرة في السند.
أما المتأخرون، فلا يعتبرون هذا كله، فإذا كان كلا المُخْتَلِفَينِ في الزهري ثقات، قالوا: المتصل زيادة ثقة، وهي مقبولة.
فلا يلتفتون إلى منزلة الرواة عن الزهري، من هو الأحفظ! من هو الأوثق! من هو الأكثر ملازمة! من هو بلدي الزهري! . وغالبهم يعتبر المرسل صحيحًا كذلك، لكنه لا يؤثر في المتصل.
قال البقاعي: إن ابن الصلاح خلط هنا طريقة المحدِّثين بطريقة الأصوليين، فإن للحذاق من المحدثين في هذه المسألة نظرًا آخر لم يحكه، وهو الذي لا ينبغي أن يعدل عنه: وذلك أنهم لا يحكمون بحكم مطرد، وإنما يدورون في ذلك مع القرائن. انظر "النكت الوفية بما في شرح الألفية"(ص 99).
ومن الأمثلة على صنيع المتأخرين في هذا:
حديث معمر، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم:"أنَّ غيلان أسلم وعنده عشرة نسوة".
وهذا حديث معل بالإرسال.
فإن معمرًا حدَّث به في اليمن فأرسله، ولما حدَّث به بالبصرة أخطأ فيه فوصله.
وحديث معمر باليمن أصح من حديثه بالبصرة.
وقد خالف الحفاظ من أصحاب الزهري معمرًا في هذا الحديث.
قال أحمد: ليس بصحيح والعمل عليه، كان عبد الرزاق يقول: عن معمر عن الزهري مرسلًا.
وقال: أبو زُرْعَة وأبو حاتم: المرسل أصح.
وقال البخاري: هذا الحديث غير محفوظ.
وقال مسلم: وهِمَ فيه معمر. انظر "تلخيص الحبير"(3/ 192).
وصححه ابن القطان الفاسي، وابن كثير، والألباني.
وكذلك في مسألة تعارض الوقف والرفع.
قال ابن رجب: وكلام أحمد وغيره من الحفاظ يدور على اعتبار قول الأوثق في ذلك والأحفظ - أيضًا
…
اهـ. "شرح العلل"(2/ 82).
وبالجملة: فمن أمعن النظر وجد أن هذا الاختلاف مبني على اختلافهم في تقرير الضوابط التي عليها مدار التصحيح والتضعيف، فالمتقدمون يسيرون على قواعد، هذبت عند المتأخرين بناء على فهمهم، أو أغفلت، وحل محلها قواعد جديدة.
وذلك أن المتأخرين من بعد الخطيب البغدادي، جل معتمدهم كتابه "الكفاية".
والخطيب (1) أول من اشتهر عنه أنه غيَّر منهج المتقدمين، فخلطه بأقوال غير أهل الحديث، من الفقهاء والأصوليين والمتكلمة، ومعلوم أن هذه القواعد إنما تؤخذ عن المحدثين النقاد، ولطالما قلنا: إنما يؤخذ كل علم عن أهله.
قال ابن رجب: (ثم إن الخطيب تناقض فذكر في كتاب "الكفاية" للناس مذاهب في اختلاف الرواة في إرسال الحديث ووصله، كلها لا تعرف عن أحد من متقدمي الحفاظ، إنما هي مأخوذة من كتب المتكلمين، ثم إنه اختار أن الزيادة من الثقة تقبل مطلقًا، كما نصره المتكلمون وكثير من الفقهاء، وهذا يخالف تصرفه في كتاب "تمييز المزيد". اهـ. "شرح العلل" (2/ 82).
قلت: وهؤلاء ليسوا أهل هذا الشأن.
(1) ولعلَّ أول من كان قدوة المتأخرين في منهجهم هو ابن جَرِير الطبري رحمه الله، ومن أهل العلم من يعدُّه في الفقهاء لا يجعله في صعيد المحدثين.