الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حاشدا هذه الوسائل لبيان الصدق التاريخى للقصة القرآنية وإظهار وجوه الإعجاز فيها من حيث الإخبار عن حوادثها وأشخاصها، ومن حيث تكرار بعض عناصرها فى أكثر من سورة، وفى كل مرة نجد لونا جديدا من التصريف البيانى أعجز العرب عن محاكاته، فضلا عن استخلاص العبر والحكم والحث على النظر والتأمل فى نهاية الجبابرة وجزاء المكابرين، وسير الأنبياء وما لاقوه من صنوف الغرور والعنت من أجل التوحيد والعدالة والأخلاق، وانتصار الحق، وانتصار المؤمنين به، وتثبيت قلب الرسول الكريم وقلب من آمن بدعوته.
وكان ابن عاشور فى تقديمه كل سورة تتحدث آياتها عن قصة أو أكثر مفصلة أو مجملة يذكر أغراضها وما تحويه من مثل وتذكير وإشعار، ثم يتناول تفسيرها لغة وإعرابا، ثم يسرد أحداثها وما تحويه من إخبار عن حوادث سابقة كقصة أصحاب الأخدود، وأمم غابرة كقوم تبّع وعاد وثمود، وأنبياء يدعون وملوك يستكبرون كقصة فرعون مع موسى عليه السلام، وأقوام يعاندون ويضمرون الغدر كالمنافقين، وانهيار صفوفهم وتخاذل أعوانهم ثم انتصار مسلمى صدر الدعوة المحمدية عليهم على النحو الذى رأيناه فى المثال الأخير من الأمثلة السابقة.
7 - التفسير بالناسخ والمنسوخ:
يتفق المسلمون على وقوع النسخ فى بعض آيات القرآن الكريم، كما يتفق علماؤهم على أهمية معرفة الناسخ والمنسوخ فى كتاب الله، «فأول ما ينبغى لمن أحب أن يتعلم شيئا من علم هذا الكتاب الابتداء فى علم الناسخ والمنسوخ اتباعا لما جاء عن أئمة السلف رضى الله عنهم أجمعين، لأن كل من
تكلم فى شىء من هذا الكتاب العزيز ولم يعلم الناسخ والمنسوخ كان ناقصا» (1).
ويقول الخوئى: «لا خلاف بين المسلمين فى وقوع النسخ، فإن كثيرا من أحكام الشرائع السابقة قد نسخت بأحكام الشريعة الإسلامية، وإن جملة من هذه الشريعة قد نسخت
بأحكام أخرى من هذه الشريعة نفسها» (2).
ويحدد ابن الجوزى المواطن التى يقع فيها النسخ فى القرآن الكريم بقوله: «والنسخ إنما يقع فى الأمر والنهى دون الخبر المحض، والاستثناء ليس بنسخ، ولا التخصيص، وأجاز بعض من لا يعتد بخلافه وقوع النسخ فى الخبر المحض، وسمى الاستثناء والتخصيص نسخا، والفقهاء على خلافه» (3).
وذكر السيوطى: «قال ابن الحصار: إنما يرجع فى النسخ إلى نقل صريح عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم أو عن صحابى يقول آية كذا نسخت كذا. قال: وقد يحكم به عند وجود التعارض المقطوع به مع علم التاريخ ليعرف المتقدم والمتأخر، ولا يعتمد فى النسخ قول عوام المفسرين، بل ولا اجتهادا لمجتهدين، من غير نقل صحيح، ولا معارضة بينة، لأن النسخ يتضمن رفع حكم وإثبات حكم تقرر فى عهده (ص) والمعتمد فيه النقل والتاريخ دون الرأى والاجتهاد. قال: والناس فى هذا بين طرفى نقيض، فمن
(1) أبو القاسم هبة الله بن سلامة، الناسخ والمنسوخ، ص 4، مكتبة ومطبعة مصطفى البابى الحلبى، ط 2، 1387 هـ- 1967 م.
(2)
أبو القاسم الموسوى الخوئى، البيان فى تفسير القرآن، المجلد الأول، ص 303، منشورات دار التوحيد للنشر والتوزيع، ط 2، الكويت، 1399 هـ- 1979 م.
(3)
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن الجوزى، المصفى بأكف أهل الرسوخ من علم الناسخ والمنسوخ، ص 16، تحقيق د. حاتم صالح الضامن، مؤسسة الرسالة، بيروت، لبنان، ط 2، 1406 هـ- 1986 م.
قائل لا يقبل فى النسخ أخبار أحاد العدول، ومن متساهل يكتفى بقول مفسر أو مجتهد والصواب خلاف قولهما» (1).
ويفهم من أقوال ابن الحصار فى الفقرة السابقة أن من شروط تحديد الآيات الناسخة والآيات المنسوخة:
1 -
الرجوع فى النسخ إلى نقل صريح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
2 -
يحكم بالنسخ عند وجود تعارض مقطوع به من علم التاريخ الذى يمكن به معرفة الآيات المتقدمة فى النزول عن الآيات المتأخرة أى (أن يكون حكم المنسوخ ثابتا قبل ثبوت حكم الناسخ)(2).
3 -
قبول أخبار آحاد العدول (3).
4 -
لا اجتهاد فى النسخ، ولا قبول لقول مفسر واحد فيه، وإنما المعتمد فى ذلك النقل والتاريخ.
وفى تفسير ابن عاشور لقوله تعالى: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها سورة البقرة: الآية 106.
يقول عن معنى النسخ:
(1) الإتقان، ج 2، ص 32.
وانظر التسهيل فى علوم التنزيل، ابن جزى، ص 10، (الباب السابع فى الناسخ والمنسوخ).
(2)
ابن الجوزى، المصفى بأكف أهل الرسوخ، ص 12.
(3)
انظر محمد بن إدريس الشافعى، الرسالة، ص 404، مطابع المختار الإسلامى، ط 2، 1976 م.
وانظر: سيف الدين على بن محمد الآمدى، الإحكام فى أصول الأحكام، ج 2، ص 47، دار الكتب العلمية، بيروت- لبنان، 1400 هـ- 1980 م.
وانظر: ابن حجر العسقلانى، فتح البارى بشرح صحيح البخارى، ج 13، ص 231، ط 1، 1384 هـ.
ويقول فى تفسير الآية السابقة: «والمراد من النسخ هنا الإزالة وإثبات العوض بدليل قوله نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها» (4).
(1) سورة الجاثية، الآية 29.
(2)
سورة الأعراف، الآية 154.
(3)
التحرير والتنوير، ج 1، ص 654.
(4)
التحرير والتنوير، ج 1، ص 654.
وذكر هبة الله بن سلامة: «المنسوخ فى كتاب الله على ثلاثة أضرب، فمنه ما نسخ خطه وحكمه، ومنه ما نسخ خطه وبقى حكمه ومنه ما نسخ حكمه وبقى خطه» الناسخ والمنسوخ، ص 5.
والمقصود بالإزالة وإثبات العوض تبعا لهذا القول هو رفع حكم شرعى سابق بحكم شرعى آخر متأخر عنه، سواء أكان حكما أخف أم مماثل أم أثقل (1) مراعاة لمصلحة العباد. وما تحتاجه الدعوة من تدرج وتأسيس.
ويقول صاحب التحرير والتنوير فى تفسير قوله تعالى: وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ سورة النحل، الآية 101.
وقوله تعالى: وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ
…
الآية وهى من سورة الإسراء، وكان نزولها فى مكة، وقوله تعالى: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ
…
الآية، وهى من سورة الحجر مكية أيضا، والنسخ إنما كثر فى السور المدينة حيث
(1) انظر التفسير الكبير، الفخر الرازى، ج 3، ص 232.
ومما ذكره فى تفسير قوله تعالى نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها: «إن الذى يدل على وقوعه" الأثقل" أن الله سبحانه نسخ فى حق الزناة الحبس فى البيوت إلى" الجلد والرجم"، ونسخ صوم عاشوراء بصوم رمضان
…
».
(2)
سورة الإسراء، الآية 110.
(3)
سورة الحجر، الآية 94.
تختلف فى مميزاتها عن السور المكية من حيث الأسلوب والخصائص والظروف، وكون الآية الثانية ناسخة للأولى فهو نسخ الحكم وبقاء التلاوة، وأما نسخ التلاوة وبقاء الحكم فليس هناك- كما ذكر ابن عاشور- مما يؤيده من آثار تقتضى وقوعه، وما نقل عن مجاهد فى هذا الشأن مما يوجب التباسا فى الفهم.
ويشمل التعارض بالعموم والخصوص ونحو ذلك من التعارض الذى يحمل بعضه على بعض، فيفسر بعضه بعضا، ويؤول بعضه بعضا، كقوله تعالى:
وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ (1) فى سورة الشورى مع قوله تعالى: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا (2) فى سورة المؤمنين فيأخذوا بعموم وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فيزعمونه إعراضا عن أحد الأمرين إلى الأخير منهما.
وكذلك قوله تعالى: وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا (3) يأخذون من ظاهره أنه أمر بمشاركتهم فإذا جاءت آيات بعد ذلك لدعوتهم وتهديدهم زعموا أنه انتقض كلامه وبدا له ما لم يكن يبدو له من قبل.
وكذلك قوله تعالى: وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ (4) مع آيات وصف عذاب المشركين وثواب المؤمنين.
(1) سورة الشورى، الآية 5.
(2)
سورة غافر، الآية 7.
(3)
سورة المزمل، الآية 10.
(4)
سورة الأحقاف، الآية 9.
وكذلك قوله تعالى: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى (1) مع قوله تعالى لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ (2) ومن هذا ما يبدو من تخالف بادئ الأمر كقوله بعد ذكر خلق الأرض ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ (3) فى سورة فصلت مع قوله تعالى وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (4) من سورة النازعات، فيحسبونه تناقضا مع الغفلة عن محمل" بعد ذلك"، من جعل (بعد) بمعنى (مع) وهو استعمال كثير، فهم يتوهمون التناقض مع جهلهم أو تجاهلهم بالوحدات الثمانية المقررة فى المنطق.
فالتبديل فى قوله تعالى" بَدَّلْنا" هو التعويض ببدل، أو عوض.
والتعويض لا يقتضى إبطال المعوض- بفتح الواو- بل تقتضى أن يجعل شىء عوضا عن شىء. وقد يبدو للسامع أن مثل لفظ المعوض- بفتح الواو- جعل عوضا عن مثل لفظ العوض- بالكسر- فى آيات مختلفة باختلاف الأغراض من تبشير وإنذار أو ترغيب وترهيب، أو إجمال وبيان، فيجعله الطاعنون اضطرابا لأن مثله قد كان بدل ولا يتأملون فى اختلاف الأغراض» (5).
ويدفع ابن عاشور تلك الدعاوى الباطلة التى قالها المشركون، فإذا نزلت آية ما، ثم أنزل الله آية أخرى يحمل معناها تعارضا على النحو الذى ذكره مفسرنا، أبدوا سخطهم وأظهروا سخريتهم، وقالوا على ما حكت الآية
(1) سورة الأنعام، الآية 164.
(2)
سورة النحل، الآية 25.
(3)
سورة فصلت، الآية 11.
(4)
سورة النازعات، الآية 30.
(5)
التحرير والتنوير، ج 14، ص 281.
عنهم: إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ ظانين ظنا فاسدا أن محمدا صلى الله عليه وسلم أتى بهذا القرآن من عند نفسه بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ، فالقرآن يفسر بعضه بعضا، ويؤول بعضه بعضا، وهم يجهلون اختلاف المقامات والأحوال من لين وترغيب وشدة وترهيب وعموم وخصوص، ويعتقد هؤلاء المشركون أن ذلك تناقضا، هيأ لهم ذلك جهلهم وتعلقهم بضلالهم، أو يتعمدون المكابرة أمام الحقائق ويخلطون بينها دون اعتبار لوجوه الخطاب واختلاف المرامى، وبعد أن يرد ابن عاشور هذه المطاعن يبين المقصود من" بَدَّلْنا" فى الآية الكريمة السابقة، حيث ذكر أن المعنى هو التعويض ببدل أى عوض، ولا يعنى ذلك إبطال المعوض" بالفتح" بل هو قائم وقد يكون مما نسخ خطه وبقى حكمه، أو ما نسخ حكمه وبقى خطه تبعا لمقتضيات الخطاب (1).
ومن أمثلة ما ذكره فى رفع حكم آية وبقاء تلاوتها فى قوله تعالى:
أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (2).
(1) راجع البرهان للزركشى، ج 2، ص 15.
(2)
سورة المجادلة، الآية 13.
(3)
التحرير والتنوير، ج 28، ص 46.
ويقول هبة الله بن سلامة عن سورة المجادلة: «نزلت بالمدينة بإجماعهم وفيها آيات منسوخة، وهى إحدى الفضائل عن على بن أبى طالب كرم الله وجهه، لأنه روى عنه أنه قال: فى كتاب الله آية-
وفى تفسير قوله تعالى: كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (سورة الأنعام، الآية 141).
ذكر ابن عاشور: «وإنما أوجب الله الحق فى الثمار والحب يوم الحصاد؛ لأن الحصاد إنما يراد للادخار، وإنما يدخر المرء ما يريده للقوت، فالادخار هو فطنة الغنى الموجبة لإعطاء الزكاة، والحصاد مبدأ تلك المظنة، فالذى ليست له إلا شجرة أو شجرتان، فإنما يأكل ثمرها مخضورا قبل أن ييبس، فلذلك رخصت الشريعة لصاحب الثمرة أن يأكل من الثمر إذا أثمر، ولم توجب عليه إعطاء حق الفقراء إلا عند الحصاد، ثم إن حصاد الثمار، وهو جذاذها، فهو قطعها لادخارها، وأما حصاد الزرع فهو قطع السنبل من جذور الزرع ثم يفرك الحب الذى فى السنبل ليدخر، فاعتبر ذلك الفرك بقية للحصاد، ويظهر من هذا أن الحق إنما وجب فيما يحصد من المذكورات مثل الزبيب والتمر والزرع والزيتون، من زيته أو من حبه بخلاف الرمان والفواكه.
- ما عمل بها أحد قبلى ولا بعدى إلى يوم القيامة، فقيل: ما هى؟ فقال: إن رسول الله (ص) لما كثر عليه المسائل فخاف أن تفرض على أمته، فعلم الله ذلك فأنزل الله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فأمسكوا عن رسول الله (ص) قال على رضى الله عنه: ولم أملك إذ ذاك إلا دينارا فصرفته بعشرة دراهم، فكنت كلما أردت أسأله مسألة تصدقت بدرهم حتى لم يبق معى غير درهم واحد فتصدقت به، وسألته، فنسخت الآية، وناسخها قوله تعالى: أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا الآية» الناسخ والمنسوخ، ص 89، 90.
وانظر المصفى بأكف أهل الرسوخ، ابن الجوزى، ص 55.
وانظر معرفة الناسخ والمنسوخ، محمد بن حزم، ص 372، من هامش تنوير المقباس فى تفسير ابن عباس، الفيروزآبادى، مطبعة الحلبى- القاهرة.
وعلى القول المختار: فهذه الآية غير منسوخة، ولكنها مخصصة ومبينة بآيات أخرى وبما يبينه النبى- صلى الله عليه وسلم فلا يتعلق بإطلاقها، وعن السدى أنها نسخت
بآية الزكاة، يعنى خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً (1) وقد كان المتقدمون يسمون التخصيص نسخا» (2).
وعلى هذا النحو اعتبر ابن عاشور قوله تعالى كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ
…
الآية غير منسوخة، إنما هى مخصصة ومبيّنة بآيات أخرى وبما قام ببيانه صلى الله عليه وسلم، ومن ثم فإن ما روى عن السدى فى كون هذه الآية منسوخة يرجع إلى أن المتقدمين كانوا يسمون التخصيص نسخا.
وفى قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (سورة البقرة الآية 62).
ذكر ابن عاشور:
«ومعنى من آمن بالله، الإيمان الكامل، وهو الإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم بقرينة المقام وقرينة قوله وَعَمِلَ صالِحاً إذ شرط قبول الأعمال الإيمان الشرعى، لقوله تعالى ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وقد عدّ عدم الإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم بمنزلة عدم الإيمان بالله لأن مكابرة
(1) سورة التوبة، الآية 103.
(2)
التحرير والتنوير، ج 8، ص 122. ولم يذكرها هبة الله بن سلامة فى الآيات المنسوخة من سورة الأنعام .. انظر كتابه، ص 44 - 46.
المعجزات القائمة مقام تصديق الله تعالى للرسول المتحدى بها يؤول إلى تكذيب الله تعالى فى ذلك التصديق، فذلك المكابر غير المؤمن بالله الإيمان الحق، وبهذا يعلم أن لا وجه الدعوى كون هذه الآية منسوخة بقوله تعالى:
وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ (1) إذ لا استقامة فى دعوى نسخ الخبر إلا أن يقال إن الله أخبر به عن مؤمنى أهل الكتاب والصابئين الذين آمنوا بما جاءت به رسل الله دون تحريف ولا تبديل ولا عصيان وماتوا على ذلك قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، فيكون معنى الآية كمعنى قوله صلى الله عليه وسلم فيما ذكر من يؤتى أجره مرتين «ورجل من أهل الكتاب آمن برسوله ثم آمن بى فله أجران» .
وأما القائلون بأنها منسوخة، فأحسب أن تأويلها عندهم أن الله أمهلهم فى أول تلقى دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى أن ينظروا فلما عاندوا نسخها بقوله وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ لئلا يفضى قولهم إلى دعوى نسخ الخبر» (2).
وقد ذكر هبة الله بن سلامة عن هذه الآية (البقرة: 62): «والناس فيها قائلان، فقالت طائفة منهم مجاهد والضحاك وابن مزاحم هى محكمة ويقرءونها بالمحذوف المقدر، فيكون التقدير على قولهما: إن الذين آمنوا ومن آمن من الذين هادوا والنصارى والصابئين، وقال الأكثرون: هى منسوخة وناسخها عندهم: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً الآية» (3).
(1) سورة آل عمران: الآية 85.
(2)
التحرير والتنوير، ج 1، ص 539.
(3)
الناسخ والمنسوخ، ص 11.
وابن عاشور على أن هذه الآية غير منسوخة كما جاءت الروايات عن مجاهد والضحاك وابن مزاحم حيث لا يقع النسخ فيما أخبر به القرآن، ويقدم ابن عاشور استثناء لوقوع مثل هذا النسخ وهو أن يكون المؤمنون من أهل الكتاب والصابئون قد آمنوا بما جاءت به الرسل دون تحريف، أو تبديل وماتوا قبل البعثة المحمدية، ويكون معنى الآية كحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن يؤتى أجره مرتين، أما عن القائلين بنسخها ففيما ذكره ابن عاشور من تأويلها عندهم يمنع وقوع نسخ الخبر، وتلك محاولة للتوفيق بين الفريقين عمادها عدم قبول الأقوال إلا بعد التحليل والتعليل.
وفى قوله تعالى: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ (سورة البقرة: الآية 115).
ذكر ابن عاشور:
وذكر ابن سلامة أن هذه الآية محكمة والمنسوخ منها قوله تعالى فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ (2).
(1) التحرير والتنوير، ج 1، ص 683.
(2)
الناسخ والمنسوخ، ص 12.